خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
التربية الروحية
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
مفهوم تزكية النفس
فإن الجانب الثاني من التربية هو التربية الروحية، والمقصود بها: تطوير الروح وتنميتها وتزكيتها، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه, وعلى خسران من أهملها، فقال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:1-10].
والتزكية إما أن تكون مشتقة من الزكاء أو من الزكاة، والزكاة: الزيادة, والزكاء: الطهارة، والطهارة هنا مقدمة على الزيادة؛ لأنها من درء المفاسد، والزيادة من جلب المنافع، ودرء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وهذا التطهير النفسي هو الذي يسمى بالتخلية؛ أي: إزالة الأخلاق والأوصاف الذميمة عن النفس، والزيادة هي التي تسمى بالتحلية؛ وهي زيادة الأوصاف والأخلاق الحميدة التي تحتاج النفوس إلى اكتسابها.
النفس بين كونها مفطورة على الاستقامة أو على الشر
والنفوس في الأصل مفطورة على السلامة والاستقامة كما يرى جمهور أهل العلم، لكن ذهب الإمام الغزالي رحمه الله إلى أن الأصل في النفوس أنها مفطورة على أمراض القلوب، فيقول: لو ترك الصبي دون تربية ولا تدريب ولا تأديب لكان أسوأ ما يكون خلقاً. ويستدل على ذلك بالحيوان البهيمي وبالدواب قبل أن تروض على الاستقامة؛ فإنها تكون دائماً شرودة يصعب التعامل معها، فيقول: كذلك النفس البشرية هي بمثابة الدابة إذا أهملت كانت شروداً تشمئز إذا أحست بلجام أو خطام، وإذا دربت وربيت استقامة وأطاعت, وإذا أحست بالجد انقادت واستقامت له، وتكون مطيعة للأوامر مستعدة للعمل، متأهبة للازدياد من الخير، لكن لا يتم ذلك إلا بالمجاهدة.
فهذا دليل الغزالي على أن الأصل في النفوس الشر، وأن ذلك يعالج بالتزكية والتنمية، واستدل الغزالي كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المنقى المختار من ولد آدم - شق صدره مرتين، وغسل بماء زمزم, وأزيلت منه المضغة السوداء التي هي موضع أمراض القلوب، فيقول الغزالي: لو كان أحد ينجو من هذه الأمراض بخلقته لنجا منها سيد الوجود والخلائق صلى الله عليه وسلم.
وأما الجمهور فاستدلوا على أن الأصل السلامة بقول الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا ويولد كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، فهل ترى فيها من جدعاء، أو فهل ترى فيها من جدع)، وهذا يقتضي أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي السلامة، ثم بعد ذلك الشياطين هي التي تجتالهم، وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى يقول: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)، فالأصل أن الإنسان بفطرته سليم من هذه الأمراض، لكنه محفوف بأعدائه، وهؤلاء الأعداء يجوسون حول القلب؛ يبحثون عن ثغرة يدخلون منها.
فإن الجانب الثاني من التربية هو التربية الروحية، والمقصود بها: تطوير الروح وتنميتها وتزكيتها، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه, وعلى خسران من أهملها، فقال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:1-10].
والتزكية إما أن تكون مشتقة من الزكاء أو من الزكاة، والزكاة: الزيادة, والزكاء: الطهارة، والطهارة هنا مقدمة على الزيادة؛ لأنها من درء المفاسد، والزيادة من جلب المنافع، ودرء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وهذا التطهير النفسي هو الذي يسمى بالتخلية؛ أي: إزالة الأخلاق والأوصاف الذميمة عن النفس، والزيادة هي التي تسمى بالتحلية؛ وهي زيادة الأوصاف والأخلاق الحميدة التي تحتاج النفوس إلى اكتسابها.
والنفوس في الأصل مفطورة على السلامة والاستقامة كما يرى جمهور أهل العلم، لكن ذهب الإمام الغزالي رحمه الله إلى أن الأصل في النفوس أنها مفطورة على أمراض القلوب، فيقول: لو ترك الصبي دون تربية ولا تدريب ولا تأديب لكان أسوأ ما يكون خلقاً. ويستدل على ذلك بالحيوان البهيمي وبالدواب قبل أن تروض على الاستقامة؛ فإنها تكون دائماً شرودة يصعب التعامل معها، فيقول: كذلك النفس البشرية هي بمثابة الدابة إذا أهملت كانت شروداً تشمئز إذا أحست بلجام أو خطام، وإذا دربت وربيت استقامة وأطاعت, وإذا أحست بالجد انقادت واستقامت له، وتكون مطيعة للأوامر مستعدة للعمل، متأهبة للازدياد من الخير، لكن لا يتم ذلك إلا بالمجاهدة.
فهذا دليل الغزالي على أن الأصل في النفوس الشر، وأن ذلك يعالج بالتزكية والتنمية، واستدل الغزالي كذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المنقى المختار من ولد آدم - شق صدره مرتين، وغسل بماء زمزم, وأزيلت منه المضغة السوداء التي هي موضع أمراض القلوب، فيقول الغزالي: لو كان أحد ينجو من هذه الأمراض بخلقته لنجا منها سيد الوجود والخلائق صلى الله عليه وسلم.
وأما الجمهور فاستدلوا على أن الأصل السلامة بقول الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مولود إلا ويولد كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، فهل ترى فيها من جدعاء، أو فهل ترى فيها من جدع)، وهذا يقتضي أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي السلامة، ثم بعد ذلك الشياطين هي التي تجتالهم، وقد أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى يقول: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)، فالأصل أن الإنسان بفطرته سليم من هذه الأمراض، لكنه محفوف بأعدائه، وهؤلاء الأعداء يجوسون حول القلب؛ يبحثون عن ثغرة يدخلون منها.
والجبهات المفتوحة على النفس خمس:
جبهة الشيطان الرجيم
أولاً: الشيطان، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، وهذه الآية جمعت بين الأمر والخبر؛ فالخبر حقه التصديق، والأمر حقه التطبيق، وكثير من الناس يقتصر على التصديق الذي هو حق الخبر، دون أن يصلوا إلى التطبيق الذي هو حق الأمر، فيقول: إن الشيطان لكم عدو، ونعم هو عدو لنا، لكنه لا يعمل شيئاً في تطبيق قوله: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا[فاطر:6]، واتخاذه عدواً يقتضي أن يبذل الإنسان جهداً في عداوته، ولا يتم ذلك إلا إذا حاول نقص أعدائه؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: لو لم يكن في الدعوة إلى الله إلا معاداة إبليس لكفى.
فالدعوة إلى الله تحاول بها نقص جند إبليس، فإذا اهتدى على يدك إنسان واحد فقد أنقصت جند إبليس، فمن تعاديه وتعلن عليه حرباً وتعلم أنك لا تستطيع قتله ولا ضربه ولا يضره الشتم فهذا إنما تعاديه بنقص جنده وأتباعه، فلذلك إذا أنقصت جنده ولو بواحد فقد حققت عداوته فعلاً، وذلك الواحد ليكن أولاً نفسك التي بين جنبيك, فتبدأ بها ثم من تعول ومن تستطيع التأثير عليه بعد ذلك.
وهذه الجبهة -وهي جبهة الشيطان- من أخطر الجبهات المفتوحة على النفوس؛ لتنوع مواردها ومصادرها ولدخولها من كل الجوانب, كما قال الله تعالى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]، فما من جهة من جهات القلب إلا ويحاول إبليس أن يأتي منها، يجوس حول البيوت؛ ليجد ثغرة يدخل منها، ولهذا تنوعت مكائده وجنوده، واتخذ الحبائل والشراك لابن آدم، واستطاع بذلك التأثير عليه مطلقاً، حتى على المتقين الذين ليس له عليهم سلطان؛ فإنه يحاول على الأقل استدلالهم ولو لمرة واحدة، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:201-202]، فالذين اتقوا والذين ليس له عليهم سلطان ولا سبيل يحاول على الأقل استدلالهم للوقوع في معصية أياً كانت، وهو يعلم أنهم لن يستمروا، ولذلك قال الله تعالى في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ[آل عمران:155]، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: توبة الله سبحانه وتعالى تهدم على إبليس بنيانه، فلا يزال يحاول البناء، وتأتي التوبة فتمحق ما بنى.
فما يبنيه إبليس من السور الذي يريد به حيازة النفس والقلب، ويريد به تفلت زمام الإنسان، إذا اجتمع ووصل البنيان غايته جاءت مغفرة الله وتوبته فهدمت كل ما بناه إبليس ورجع من البداية، لكنه لا ييأس من الإنسان إلا عند موته فقط، إلا الذين يأسه الله منهم, وحال بينه وبين التأثير عليهم بالكلية؛ وهم المعصومون فقط، ولهذا روى صالح ابن الإمام أحمد أن أباه كان في وقت موته يقول: لا بعد! لا بعد! قال: فدنوت منه فقلت: يا أبي! أسمعك تقول: لا بعد! فماذا تعني؟ فقال: إن عدو الله يقول لي: فتني يا أحمد. فأقول: لا بعد حتى أموت. فلم يغتر بذلك عندما سمعه يقول: فتني يا أحمد. فهو يحاول الثناء عليه ليدخله العجب فيغتر في آخر لحظة من لحظات حياته.
ولهذا قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[سبأ:20]، فظنه هو يمينه التي أقسمها بعزة الله بإغوائهم: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وذلك الظن الذي أقسم عليه في هذه اليمين المؤكدة تحقق في أكثر البرية.
جبهة النفس الأمارة بالسوء
الجبهة الثانية هي: جبهة النفس الأمارة بالسوء، وهي أقرب شيء للإنسان، وهي كالطفل إذا أهمل ولم يدرب ولم يربَّ فإنه يتربى على سوء خلق، وإضاعة الوقت والمال، وكان وبالاً على والديه وحسرة وندامة، وإذا ربي واعتني به استطاع أن يتجاوز تلك الأمور المهلكة، كما قال البوصيري:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فالأولاد إذا لم يعتنَ بتربيتهم في صباهم وصغرهم فسينشئون على أسوأ ما يكون من الخلق والتدبير والسفه، وإذا فطموا عما تهواه النفوس من الصبا؛ فعودوه على الجد والتشمير وعلى الرجولة والعمل فسينشئون على أفضل الخلق، فلذلك لابد أن يدرك الإنسان أن نفسه التي هي أقرب شيء إليه تحتاج إلى مجاهدة، فكما يجاهد الإنسان عدوه فكذلك لابد أن يجعل نفسه في قفص الاتهام؛ لأن أصل النفوس التطفيف؛ فصفة النفس لدى النفس التطفيف، والتطفيف معناه: محاولة الإنسان أن يأخذ كل حقوقه، وألا يدع منها شيئاً، وأن يحاول أيضاً ألا يؤدي إلى الآخرين حقوقهم كاملة، وأن يخترم منها ما استطاع.
وإذا نظرنا إلى أنفسنا فكل واحد منا سيجد نفسه مائلة إلى أن تأخذ كل حقوقها, وألا تتجاوز عن أي شيء منها، وتحاول كذلك ترك بعض حقوق الآخرين، والله تعالى يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6]، فقد قال الإمام مالك رحمه الله: يقال: لكل شيء وفاء وتطفيف. فكل شيء أياً كان فيه وفاء وتطفيف.
وقد قال عمر رضي الله عنه لرجل جاء متأخراً وهو واقف على المنبر يخطب، فقال له: ما هذا التأخر؟ فقال: ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت وأتيت. فقال: والوضوء أيضاً! فالرجل أخذ كل حقه، وتأخر إلى آخر لحظة بعد أن استمع النداء، وأيضاً توضأ ولم يفعل ما هو أفضل؛ وهو الغسل، فقال: لقد طففت. فأردت أن تأخذ لنفسك كل حقوقها.
وهذه النفوس التي يوجد فيها هذا التطفيف إذا لم تعالج من ذلك فسينبني عليه من المفاسد ما الله به عليم؛ لأن ما تعود عليه الإنسان بأي وجه من الوجوه، وبالأخص إذا تقدمت به السن، وكلما تقدمت السن بالإنسان كلما تعود على أمور تدخل في كيانه وشخصيته فيكون مبنياً عليها لا يمكنه أن يخرج منها.
ولذلك فإن صالح بن عبد القدوس -وكان من رؤساء الزنادقة في أيام المهدي العباسي وهو أحد الشعراء- جاء إلى المهدي في وقت قتله للزنادقة, فأشهده إلى أنه تائب من الزندقة، وراجع منها، وخارج عن كل ما فيه من الفساد، فقبل المهدي عذره عندما كان شيخاً كبيراً وقد جاء تائباً، فاستنشده بعض شعره, فأنشده قصيدته التي منها:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
فقال: حكم الشيخ على نفسه يا حرسيُّ, افعل له رأسه بين يديه، فقطع رأسه وجعله له بين يديه؛ لأنه حكم على نفسه فقال:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
لذلك يصعب على الإنسان إذا كبر على شيء وتعود عليه أن يتركه بأي وجه من الوجوه، ولهذا فأتباع الرسل في أغلبهم هدايتهم قبل أن تتكون شخصياتهم، وقبل أن يأخذوا مواقعهم في المجتمع, وقد قال تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [يونس:83]، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60].
وفي سؤال هرقل لـأبي سفيان، قال: أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال: هم أتباع الرسل.
وهذه من أخطر الجبهات لقربها، فلابد إذا وسوست للإنسان نفسه وكان رشيداً أن يتهم نصيحتها, وإذا رآها مائلة إلى أمر ما فيجب أن يخاف ذلك الأمر ويزنه أولاً بميزان الشرع، ثم إذا وجده مباحاً في ميزان الشرع وزنه أيضاً بميزان المصلحة، حتى يعرف هل هو من المصلحة له أم لا؛ لأن ميزان الشرع إذا كان الأمر واجباً فهذا قد حسم الشرع المصلحة إلى جهته، وإذا كان مسنوناً أو مندوباً فكذلك، لكن إذا كان مباحاً فلابد من ميزان ثان وهو ميزان المصلحة؛ لأن المباحات معناها: أن المصلحة فيها راجعة إلى اختلاف أحوال الناس واختلاف طبائعهم وحالاتهم، فلذلك المباح المحض لابد أن يوزن أولاً بميزان الشرع ثم بميزان المصلحة ثانياً.
جبهة الأهل والأموال والأولاد
الجبهة الثالثة: جبهة الأهل والأموال والأولاد، وهذه الجبهة مهمتها الشغل، فالجبهتان الأوليتان المتقدمتان مهمتهما الدفع في هجوم شرس، أما جبهة الأهل والأموال والأولاد ففي أغلب الأحيان لا تهاجم الإنسان، ولا تدعوه للوقوع في معصية الله، ولا تدعوه للوقوع في النار، لكنها تشغله عن المقامات العلية، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون:9], وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:14-15]، وقال تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا[الفتح:11].
إذاً: هذه الجبهة مهمتها أن تشغل الإنسان، فلذلك كم من إنسان يشغله عن قيام الليل وجود أهله معه، أو يشغله عن الجهاد في سبيل الله وجود الأولاد، أو يشغله عن الدعوة إلى الله وجود مال، أو نحو ذلك، إلا من ساسها على وفق الشرع؛ فدبرها حتى تكون عوناً له على الطاعات، وقد يوفر الله ذلك فيجعل ما يمنحه عبده المؤمن عوناً له على طاعته، فإذا رزق زوجة كانت عوناً على طاعة الله، وإذا رزق ولداً كان عوناً على طاعة الله، وإذا رزق مالاً كان عوناً على طاعة الله، وهكذا، فهذا من اختيار الله وألطافه العجيبة التي ييسرها لمن يشاء نسأله أن يجعلنا كذلك.
جبهة إخوان السوء
الجبهة الرابعة: إخوان الســــوء الذين يشغلون الإنسان عن طاعة الله، ويحاولون بعد ذلك استدراجه إلى معصيته، وهذه جبهة مشتركة بين الأمرين: بين التثبيط, والهجوم، فبدايتها التثبيط, فإن وجدت وجهاً للهجوم هجمت، فإذا وجدت ضعفاً هجمت في وقت الضعف، والإنسان على دين من يخالل، وفي الحديث: (المرء على دين خليله)، فكل ما شئت فمثله تعمل، واصحب من شئت فإنك على دينه.
ولهذا كان أهل الجاهلية يعرفون الإنسان الجاد لصحبته، فمن صحب الأخيار دل ذلك على طيب عنصره، ومن صحب الأشرار دل ذلك على خبثه، فالمرء مع قرينه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي أتاه فرأى ما هو فيه وأصحابه؛ فأعجبه ذلك ولم يطقه، فقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال: ( أنت مع من أحببت)، فالرجل مع من أحب، حتى وإن كان دونه قاصراً عنه إذا أحب ما هو فيه وتعلق به فيوصله الله إليه؛ لأن نية المؤمن أبلغ من عمله؛ قال الحكيم:
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
وكما قال طرفة بن العبد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
والله سبحانه وتعالى بين عداوة هذا النوع من الأخلاء في الدنيا والآخرة، فقال: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:27-29].
وهذه الجبهة ليست مثل الجبهات السابقة، فالشيطان جبهته يمكن أن تسد بالاستعاذة بالله منه, وبمهاجمته بأن يحاول تحقيق عداوته بنقص جنده في المعترك، والجبهة الثانية التي هي النفس كذلك تحتاج إلى مجاهدة دائمة، والجبهة الثالثة: الأهل والأولاد والأموال لا يمكن أن يستغني الإنسان عنهم فيحتاج إلى بعض المدارات والسياسات والتدبير, أما هذه الجبهة الرابعة -وهي إخوان السوء- فما لها علاج إلا القطيعة والحسم، فآخر العلاج الكي، فيقطعها الإنسان ويحسم مكانها بالنار، فلابد أن يقطع الإنسان علاقته بقرناء السوء بالكلية، ولا شك أن كل إنسان يلاحظ في نفسه في وقت صحبته للصالحين تشـوفاً إلى الخير واستــــعداداً له، ويجد في نفسه كذلك شفافية وتنويراً في بصيرته، وكذلك في المقابل في صحبته لأهل الشر وركونه إليهم يجد في نفسه تثاقلاً في الطاعة، وعدم عناية بالأمر، وانطماساً في البصيرة، وظلمة في القلب، وسوء فهم للشرع، وكل ذلك من آثار هذه الصحبة.
جبهة مفاتن الدنيا وشهواتها
الجبهة الخامسة: هي مفاتن الدنيا وشهواتها، فهذه الدنيا دار غرور، لكننا فيها وقد أحاطت بنا من كل جانب، فلابد للذي يعيش فيها أن يدرك حقيقتها أولاً، وحقيقتها تجري على الألسنة دون أن تتردد في القلوب كثيراً، فكل إنسان منا إذا سئل عن الدنيا قال: لا تساوي شيئاً، ولا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن عنده جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، لكن مع ذلك إذا ردد وزن الدنيا في نفسه وجد نفسه مائلة إليها، ووجد قلبه مشغولاً بها، فهذا دليل على أن تقويمنا لها تقويم لساني لا جناني، فلابد أن يحاول الإنسان أن يكون ما ينطق به في مجال الدنيا قناعة راسخة لديه في نفسه أيضاً، ولا يتم ذلك إلا بالتعرف على أحوالها، والتعرف على أحوالها ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التعرف عليها من خلال نصوص من خلقها، وهو كلام الله تعالى عنها, مثل قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132], ومثل قوله: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24]، وكذلك في قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا[الكهف:45-46].
القسم الثاني من التعرف على أحوال الدنيا: النظر إليها بعين ثاقبة، وبعين تطلع على الحقائق، وتنظر إلى ما يعجبك منها سواء أكان شخصاً جميلاً وسيماً جسيماً، أو كان مبنى أنيقاً، أو كان دابة كأحسن ما تكون الدواب، أو كان مزرعة كأحسن ما تكون المزارع، وانظر إلى حـــــــاله الثاني فإنه لا يســــــتقر على حال، وكل ما في الدنيا عرض سيال، وبقاء الحال من المحال، فأحسن المباني في هذه المدينة في وقتنا هذا سيكون بعد مدة يسيرة أقبح مبنى فيها وأسمجه، والذي بناه وتكلف في بنائه إن عاش سيتكلف نظير ما بناه به في هدمه وإزالته، وأحسن ما فيها من الناس كذلك مصيره إلى الهرم والشيبة والضعف، وتغير الحال بكليته، ثم بعد ذلك إلى القبر وأكل الدود، وزوال العظام بالكلية، وأحب محبوب إليك في هذه الدنيا نهاية أمره أن تدفنه في التراب، وانظر إلى والدك أو والدتك أو أحب الناس إليك أن نهاية علاقتك به أن تدفنه في التراب في أقصى مكان عنك، فتتركه وتذهب، فإذا كان هذا أحب شيء إليك فكيف بما دونه! فلذلك لابد أن يدرك الإنسان بعين فاحصة مبصرة حال هذه الدنيا، فحينئذ إذا أدرك حقيقتها تماماً وردد ذلك في نفسه فلا يمكن أن يحرص عليها غاية الحرص، بل سيجعلها مطية الآخرة، وستكون في يده لا في قلبه.
فالزهد هو نفض يد القلب عن الدنيا, وإن كانت يد البدن مشغولة بها، فهو يتصرف بيد البدن، لكنه لا يشغل يد القلب بها، فإذا جمع فلن تكون الدنيا أكبر همه ولا مبلغ علمه، ويعلم أن ما يجمعه قد يجمعه فلا ينتفع به، وقد يجمعه لغيره، فيموت ويتركه لمن وراءه، كما قال محمد مولود رحمه الله:
عالج بمن في جمعها قد تعبوا
وكما قال ابن مالك رحمه الله:
أطعت الهوى فالقلب منك هواءُ قسا كصفي مذ بان عنه صفاء
ورمت جداً ما إن يدوم جداؤه وسيان فقرٌ في الثرى وثراءُ
أيا ابن البرا استحضر براء من الدنا فشبه العفا الملقى لديه عفاء
والعفا: العجل الميت.
كفى بالفنى قوتاً لنفس فناؤها قريب ويكفيها ثرى وثراء
ولو في الملأ رمت الملاء حللت في رجاه إذا ما صح منك رجاء
كأن الورى والموت نسي وراءهم ذوات الأبا قد حازهن أباء
وهذه الجبهة -جبهة الدنيا- ليست كالجبهة السابقة التي يمكنها أن تقاطع، أو أن يفر منها الإنسان ويحسم مكانها، فلابد للإنسان من التصرف في هذه الحياة وإعمال الأسباب فيها، لكن لابد أن يدرك قيمة ما هو مشتغل به، فإذا أدرك أن أبلغ شهوة لديه مآلها إلى الانقطاع بعد ثوان محصورة، وأن أحب طعام إليه بمجرد محاولته لأكله في أول الأمر سيغير حاله، ونظر إلى الإنسان إلى طبق مرتب غاية الترتيب، وفي أحسن ما يكون الطعام فكيف يأكله ويستعمله إلا إذا غير هيئته، وكان كأسمج ما تكون المناظر, ثم بعد ذلك إذا ابتلعه عاد إلى أقبح الأشياء وأخسها، وهكذا الدنيا كلها، ومن هنا لا يمكن أن تشغل الإنسان عن اللذة الدائمة المستمرة التي لا انقطاع فيها، فما يناله الإنسان في الجنة من الملذات لا تنقطع عنه، فاللذة الأولى التي تنال الإنسان عندما يناله من روح الجنة وريحانها تستمر معه ولو جاء بعدها مليارات اللذات, فلا تنقطع تلك اللذة الأولى، فمليارات اللذات لن تنقطع، كل لذة في مكانها، والتي بعدها في مكانها، والتي بعدها في مكانها لا تنقطع، وكذلك ملذات الجنة لا تمل، فملذات الدنيا لو دامت على الإنسان ولو مدة يسيرة فسيملها، بينما ملذات الجنة لا يمكن أن تمل بحال من الأحوال، بل لا يزال بها صاحبها إلا غراماً وتعلقاً، كلما نال نعمة من نعمها كلما ازداد تعلقاً بها، وكذلك فإن ملذات الجنة ليس مصيرها كمصير ملذات الدنيا إلى الانقطاع والتي وهي سبب العداوات والبغضاء، فملذات الجنة سبب لحسن العلاقة والتجاور بالخير، عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الصافات:44]، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا [الحجر:47].
وكذلك لا يمكن أن تعود إلى ما تعود إليه ملذات الدنيا أبداً، ولهذا لا يمكن أن يشتغل الإنسان العاقل الرشيد بملذات الدنيا الفانية المنقطعة عن الملذات الباقية المستمرة، بالإضافة إلى أن الإنسان لا يمكن أن ينال مناه في هذه الحياة الدنيا إلا بشيء من المذلة، فإذا طلب المال فلابد من المحاباة والمذلة لمن يعامله، ولابد أن يتقيد بالأنظمة، ولابد أن يؤدي الضرائب التي عليه، ولابد من مذلة، فلا يصل إلى شيء من متاع الدنيا إلا بمذلة لبعض أهلها، بينما نعيم الجنة أهله في غاية التكريم والتعظيم، لا يمكن ان تعروهم أية ذلة، يصرف الله المذلة إلى أهل النار فلا حظ لأهل الجنة فيها، كما قال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26-27].
فالمذلة التي تنال في هذه الدنيا بطلب الكسب أو بالوصول إلى أي هدف يتوسط الإنسان بوسائط، وكفى بالطمع مذلة، وما يطمع في إنسان آخر مثله لا يملك لنفسه حياة ولا موتاً ولا نشوراً كفى بهذا مذلة، أما الجنة فلا يمكن أن تعرو وجه من دخلها أية مذلة بوجه من الوجوه، بل هم في غاية التكريم، وكفى تكريماً لهم أن الجبار سبحانه وتعالى يتجلى لهم من فوقهم ويناديهم: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].