فهرس الكتاب
الصفحة 285 من 328

وَقَدِ اخْتُلِفَ في حَقِيقَة النَّفْسِ مَا هي؟ وَهَلْ هي جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ؟ أَوْ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِه؟ أَوْ جِسْمٌ مُسَاكِنٌ له مُودَعٌ فيه؟ أَوْ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ؟ وَهَلْ هي الرُّوحُ أَوْ غَيْرُهَا؟ وَهَلِ الْأَمَّارَة، وَاللَّوَّامَة، وَالْمُطْمَئِنَّة نَفْسٌ وَاحِدَة، أَمْ هي ثَلَاثَة أَنْفُسٍ؟ وَهَلْ تَمُوتُ الرُّوحُ، أَوِ الْمَوْتُ لِلْبَدَنِ وَحْدَه؟ وهذه المسألة تَحْتَمِلُ مُجَلَّدًا، وَلَكِنْ أُشِيرُ إلى الْكَلَامِ عَلَيْهَا مُخْتَصَرًا، إِنْ شَاءَ الله تعالى:

فَقِيلَ: الرُّوحُ قَدِيمَة، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الرُّسُلُ على أَنَّهَا مُحْدَثَة مَخْلُوقَة مَصْنُوعَة مَرْبُوبَة مُدَبَّرَة. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَة مِنْ دِينِهِمْ، أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ، وَمَضَى على هَذَا الصَّحَابَة وَالتَّابِعُونَ، حتى نَبَغَتْ نَابِغَة مِمَّنْ قَصُرَ فَهْمُه في الْكِتَابِ والسنة، فَزَعَمَ أَنَّهَا قَدِيمَة، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا مِنْ أَمْرِ الله، وَأَمْرُه غَيْرُ مَخْلُوقٍ! وَبِأَنَّ الله أَضَافَهَا إليه بقوله: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، وَبِقَوْلِه: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، كَمَا أَضَافَ إليه عِلْمَه وَقُدْرَتَه وَسَمْعَه وَبَصَرَه وَيَدَه. وَتَوَقَّفَ آخَرُونَ.

وَاتَّفَقَ أَهْلُ السنة وَالْجَمَاعَة أَنَّهَا مَخْلُوقَة. وَمِمَّنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ على ذَلِكَ: مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي، وَابْنُ قُتَيْبَة وَغَيْرُهُمَا.

وَمِنَ الْأَدِلَّة على أَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَة، قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، فَهَذَا عَامٌّ لَا تَخْصِيصَ فيه بِوَجْه مَا، وَلَا يَدْخُلُ في ذَلِكَ صِفَاتُ الله تعالى، فَإِنَّهَا دَاخِلَة في مسمى اسْمِه. فالله تعالى هُوَ الْإِلَه الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَعِلْمُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه وَسَمْعُه وَبَصَرُه وَجَمِيعُ صِفَاتِه دَاخِلٌ في مسمى اسْمِه فَهُوَ سبحانه بِذَاتِه وَصِفَاتِه الْخَالِقُ، وَمَا سِوَاه مَخْلُوقٌ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَت هي الله، وَلَا صِفَة مِنْ صِفَاتِه، وَإِنَّمَا هي مِنْ مَصْنُوعَاتِه. وَمِنْهَا قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) وقوله تعالى لِزَكَرِيَّا: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) وَالْإِنْسَانُ اسْمٌ لِرُوحِه وَجَسَدِه، وَالْخِطَابُ لِزَكَرِيَّا، لِرُوحِه وَبَدَنِه، وَالرُّوحُ تُوصَفُ بِالْوَفَاة وَالْقَبْضِ وَالْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدَثِ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بقوله: (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْأَمْرِ الطَّلَبَ، بَلِ الْمُرَادُ به الْمَأْمُورُ، وَالْمَصْدَرُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ به اسْمُ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِضَافَتِهَا إليه بقوله: (مِنْ رُوحِي) فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُضَافَ إلى الله تعالى مِنَ نَوْعَانِ:

صِفَاتٌ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَة وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فهذه إِضَافَة صِفَة إلى الْمَوْصُوفِ بِهَا، فَعِلْمُه وَكَلَامُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه صِفَاتٌ له، وَكَذَا وَجْهُه وَيَدُه سبحانه.

حجم الخط:
شارك الصفحة
فيسبوك واتساب تويتر تليجرام انستجرام