أولاً: هذا الأثر أورده ابن نعيم في الحلية، وابن الجوزي في مناقب عمر بن عبد العزيز، وفيه الأمر بالتمسك بالسنة وإتباع طريق السابقين الأولين، وفيه النهي عن الخوض في الدين بغير علم، هذا الذي يريد المصنف رحمه الله تعالى في ذكر هذا الأثر أنه موافق لما عليه عبد الله بن مسعود (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) ، كذلك قاله عمر وكذلك قاله أبو عمرو الأوزاعي، فالقرون المفضلة أمروا بالإتباع ونهوا عن الابتداع وبينوا أن الدين كامل لا يحتاج إلى آراء الرجال، نعم قال: (قف حيث وقف القوم) . (قف) هذا أمرٌ، والأصل فيه أنه محمولٌ على الشرع، بمعنى أن الأمر هنا ليس من عنده، وإنما هو أمرٌ بما أمر به الشارع، كما إذا قال العالم لو سئل ما حكم صلاة كذا؟ قال: مستحب، يجب عليك فعل كذا. حينئذٍ نقول: هذا إخبارٌ عن حكم شرعي مستنده الدليل الشرعي، كذلك قوله هنا: (قف) . هذا أمرٌ ومستنده الدليل الشرعي، فليس هو من رأيه أو من اجتهاده، بل هو أمرٌ متفقٌ عليه، (قف حيث وقف القوم) (حيث) تقييد (حيث وقف القوم) (القوم) المراد به هنا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم، يعني: من كبار التابعين، (قف حيث وقف القوم) ، يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمعنى أنك لا تزد على ما قالوه، إن فعلوا فعلاً فلا تزد عليه، إن قالوا قولاً فلا تزد عليه، (قف حيث وقف القوم فإنهم) هذا تعليل للحكم السابق، (عن علم وقفوا) ، فكما أن الكلام يكون علمًا كذلك السكوت يكون علمًا، أليس كذلك؟ العلم ليس كله كلام، أليس كذلك؟ العلم ليس كله كلام إنما السكوت يكون علمًا، والكلام يكون علمًا، فإن تكلموا فهو علم فخذ به، وإن سكتوا فهو علمٌ فخذ به، هذا مراد عمر بن عبد العزيز بهذه المقولة، (فإنهم) ، أي: القوم السابقين، (عن علم وقفوا) ، فكما أن الكلام علم كذلك السكوت علمٌ، (وببصر نافذ كَفُّوا) بصرٍ المراد به البصيرة قوة الإدراك، (نافذ كَفُّوا) ، (نافذ) يقال: طريق نافذٌ سالك عام، وأمر نافذٌ مطاع (كفوا) كف عن الأمر كفًا انصرف وامتنع، إذًا امتناعهم عن الخوض في ما خاض فيه المتأخرون في التأويل والمحدثات والبدع نقول: (عن علم وقفوا) . يعني: كفوا وامتنعوا عن الخوض في هذه المسائل ببصيرةٍ نافذة، بمعنى أنهم بلغوا من العلم بأن الكلام في مثل هذه المسائل ليس من القربة في شيء، وليس من العلم في شيء، كونه يتكلم في كيفية صفات الرب جل وعلا نقول بـ: امتنعوا عن الكلام لبصيرتهم النافذة التي بلغة المبلغ القوي والمنتهى العالي في كون هذا هو الشرع الذي يجب الوقوف عليه، فقف حيث وقفوا، (ولهم على كشفها كانوا أقوى) (ولهم) في بعض النسخ: وهم، وهو أولى ويمكن حمله على قوله: (ولهم) . تجعل اللام هذه موطئة للقسم، كأنه قال: والله لهم. يعني: هم القوم (على كشفها) وتفسيرها وإيضاحها (كانوا أقوى) منكم، لأنهم أكمل علمًا وأصدق قولاً وأعظم إخلاصًا وأعلم بلسان العرب، كون النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت ليس المراد أنه ضعيف أنه لم يفهم ما فهمتموه أنتم أيها المتأخرون وكذلك الصحابة حينئذٍ هم أقوى على كشفها لو كان في كشفها خير، ولذلك قال: (وبالفضل لو كان فيها أحرى) .