سلسلة منهاج المسلم - (35)


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم، وها نحن في باب الآداب، ومع الفصل السادس، وهو في الأدب مع الخلق، عرفنا الأدب مع النفس، الأدب مع الله، الأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم، والآن الأدب مع الخلق، ونبدأ بالأبوين.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ولسائر المؤمنين ورحمنا أجمعين: [ الفصل السادس: في الأدب مع الخلق:

أولاً: الوالدان ] وهما الأب والأم والجد والجدة، إذ كلاهما والد.

إيمان المسلم بوجوب طاعة الوالدين والإحسان إليهما

[ يؤمن المسلم ] بحق وصدق، ذاك العبد الذي أسلم قلبه لله ووجهه [ بحق الوالدين عليه وواجب برهما وطاعتهما والإحسان إليهما ] نؤمن بهذا إيماناً [ لا لكونهما سبب وجوده فحسب، أو لكونهما قدما له من الجميل والمعروف ما وجب معه مكافأتهما بالمثل، بل لأن الله عز وجل أوجب طاعتهما، وكتب على الولد برهما والإحسان إليهما، حتى قرن ذلك بحقه الواجب له من عبادته وحده دون غيره.

أدلة وجوب طاعة الوالدين والإحسان إليهما من القرآن الكريم

[ فقال عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] ] (وقضى) بمعنى: ألزم وأمر وحكم أيضاً وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] هذا حقه تعالى، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]. [ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24] ] كلام من هذا؟ إنه كلام الله، الله أنزل هذا الكلام لنا؛ لنؤدي حقوق والدينا.

وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23] أيها السامع الكريم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وهذا معنى لا إله إلا الله، وقضى أيضاً وأمر وألزم بالوالدين إحساناً، وبيان هذا الإحسان، إِمَّا يَبْلُغَنَّ [الإسراء:23] إن يبلغ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [الإسراء:23].

أكثر الناس قد يموت أبوه وقد تموت أمه، ويبلغ مع واحد منهما فقط إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23] والمراد من الكبر البلوغ سن التكليف والرشد أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] وإذا كان أف ما تقولها فكيف إذن بالسب والشتم والضرب من يجيزه؟ أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] والانتهار معروف وهو رفع الصوت، افعلي، ائتيني بكذا وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23] أي: حسناً، ليس فيه معنى الإيذاء أبداً بحال من الأحوال، بل قول كريم يدخل الراحة في قلوبهم، والطمأنينة في نفوسهم، تنشرح له صدورهم قولك الكريم.

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24].. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [الإسراء:24] نحن لنا جناحان كالطائر جناح يمين وجناح شمال، إذاً: فلن لهما وانكسر أمامهما وانعطف، كأنك تخفض جناحك لهما وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24] أي: وادع لهما طول حياتك بهذه الجملة: رب اغفر لي ولوالدي و ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

اذكر هذه النعمة التي قدماها إليك وأنت رضيع وطفل وصبي!

[ وقال سبحانه وتعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14] ] ووصية الله من يغفلها أو يتركها يهلك، ليست وصية شيخ أو سلطان بل وصية الله [ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] ] من ساعة ما يعلق في رحمها وهي في آلام وأتعاب حتى تضعه، وبعد الوضع لا تسأل في إرضاعه وتربيته [ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] ] أربعة وعشرين شهراً وبعدما ينفصل من الرضاعة.

إذاً: الموصى به هو هذا: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]. وَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14] ما مضمون هذه الوصية؟ أَنِ اشْكُرْ لِي [لقمان:14]؛ لأني خالقك وربك وسيدك، وحياتك موقوفة علي، اشكر لي بطاعتي وذكري وامتثالي أمري واجتناب نهيي، وكذلك لوالديك. هل قدم الولدان من شيء؟ هل قدم الولدان للولد من شيء؟ إي نعم.

أولاً: هما سبب وجوده.

ثانياً: أمه حملته في بطنها تسعة أشهر، ثم وضعته فأرضعته لبنها الذي كان دماً أحمر فيها، تحول إلى لبن أبيض، كذا شهر وهي ترضعه وتحمله عامين وبعد ذلك الوالد ينفق وهي تربي إلى البلوغ.

أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] والناس يقولون: من لم يشكر الناس لا يشكر الله، فيجب أن يكون الشكر بالاعتراف بالنعمة والثناء على صاحبها بالخير.

إذاً: فمن أحسن إليك بمعروف اشكره له، لا تقابله بالانتكاسة والانعكاس، تذمه ولا تحمده، فكيف إذاً بربنا وقد وهبنا كل شيء؟ فكيف بوالدينا وقد وهبانا وجودنا أيضاً؟!

من خلال هذه الآيات الكريمة كل هذا يتقرر معنا [ يؤمن المسلم بحق الوالدين عليه وواجب برهما وطاعتهما والإحسان إليهما، لا لكونهما سبب وجوده فقط، أو لكونهما قدما له من الجميل والمعروف ما وجب معه مكافأتهما بالمثل -لا- بل لأن الله عز وجل أوجب طاعتهما، وكتب على الولد برهما والإحسان إليهما ].

أدلة وجوب طاعة الوالدين والإحسان إليهما من السنة النبوية

وهذه الآيات نضيف إليها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم:

قال: [ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله قائلاً: ( من أحق بحسن صحبتي يا رسول الله )؟! ] أي: الصحبة المحمودة الطيبة مع الطاعة والتكريم والإعزاز، رجل من أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم سأل، قال: ( من أحق بحسن صحبتي؟ ) من الذي أحسن إليه ما دمت معه؟ [ ( قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك )] فللأم ثلاثة حقوق، وللأب حق بعد ذلك.

ووجه ذلك واضح: الأب أفرغ منيه فقط، والأم حملته في بطنها تسعة أشهر، ثم أرضعته عامين، ثم ثم ثم.. والوالد أنفق عليه وكبره ونماه حتى كبر وبلغ. فحقوق الأم ثلاثة، أعظم من حقوق الأب لهذا الحديث الصحيح.

[ وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات)] جمع أم، والعقوق عدم الطاعة، إن الله حرم عليكم أيها المؤمنون والمؤمنات عقوق الأمهات [ ( ومنع وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ) ] هذا الحديث قانون التربية بكاملها.

أولاً: ( إن الله كره لكم )، إذا كره الله لنا شيئاً نحبه؟ نكفر إذن. إذا كره لنا شيء فيه خير؟ والله ما فيه خير، فلا يسعنا إلا أن نكرهه بكره الله تعالى له، ونبتعد عنه مهما كانت الظروف ما دام قد كرهه.

قال: [ ( إن الله حرم عقوق الأمهات ) ] عق أمه وأباه هذا سوء خلق وهو بغض كامل في الذات البشرية.

[ ( ووأد البنات ) ] دفنهن حيات قبل موتها، هذا في الجاهلية، والآن قد يكون في باب الإجهاض والإسقاط، إذا أجهض الرجل ولده في بطن أمه خوف المعاش من أين ينفق عليه فعل ما فعل أهل الجاهلية.. وأده، أهل الجاهلية لشدة الفقر وصعوبة الحياة إذا ولدت امرأته بنتاً يدفنها حيث ولدت؛ حتى لا تكمل وتعيش وتطالب بالعيش، أو حتى لا تتعرض للرجال ويذم هو ويلام [ ( وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال ) ] قيل وقال.. قال فلان، قيل كذا، هذه كرهه الرسول لنا، لا تقل إلا ما علمت أنه حق وقد قاله من قاله، أما قيل كذا وكذا فلا يجوز هذا أبداً، كره الله لنا هذا، قيل وقال، لابد من العلم اليقيني حتى تقول: قال فلان، أو أخبر فلان، أو فعل فلان [ ( وإضاعة المال ) ] بالإسراف فيه وعدم صيانته وإضاعته. هذه كرهها الله لنا ومنها: عقوق الأمهات.

[ وقال صلى الله عليه وسلم: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! ) ] أي: نبئنا [ ( قال: الإشراك بالله ) ] هذه أول خطوة [ ( وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس ) ] ليواصل بلاغه وبيانه [ ( وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قال أبو بكرة : قلت: ليته سكت ) ] أسفنا وتألمنا لإتعابه صلى الله عليه وسلم وهو يرددها. ألا أنبئكم؟ ألا أخبركم؟ بماذا؟ أن بعد الإشراك عقوق الوالدين في المرتبة الثانية، عقوق الوالدين بعد الشرك، وهذا ظاهر من قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] وبقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] حق الله أولاً؛ لأنه خلق والديك وخلقك، ثم حق الوالدين اللذين أنت خلقت بسببهما.

ومعروف شهادة الزور وقول الزور عند كل المؤمنين، أن يقول كاذباً ليأخذ حق فلان أو ينتقص إلى حق فلان ( ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها -يقولها- حتى قال أبو بكرة رضي الله عنه: قلت: ليته سكت ) [ وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يجزي ولد ولداً ) ] على ما قدم من الإحسان إليه [ ( إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه ) ] مهما بذلت لوالدك ما وفيته وما جازيته على ما قدم، إلا في حال واحدة: أن يكون والدك مملوكاً فتشتريه وتعتقه، حينئذٍ عتقته، أوجدت حياة له كما أوجد حياة لك؛ لأن المملوك ميت، ما يملك شيئاً، فإذا أنت أنفقت المال واشتريته كنت استبدلته بنفسك، كما وهبك وهبته.

كلام من هذا؟ إنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجزي ولد ولداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه ) [ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ ] أراد أن يتملق إلى الله ويتقرب، يبحث عن العمل الذي يحبه الله ليفعله. سأل: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: [ ( بر الوالدين ) ] بر الوالدين بطاعتهما والإحسان إليهما. إذاً: عرفنا الليلة أحب الأعمال إلى الله وهو بر الوالدين [ ( قلت: ثم أي؟ ) ] ثم أي عمل آخر أحب إلى الله؟ [ ( قال: الجهاد في سبيل الله ) ] فبر الوالدين مقدم على الجهاد، وكلاهما من أحب الأعمال إلى الله، لكن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله، إذ الجهاد في سبيل الله لابد فيه من إذن والديك ورضاهما أيضاً، وإلا فما صح جهادك [ ( وجاء رجل إليه عليه الصلاة والسلام يستأذنه في الجهاد. فقال: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد ) ] أي: في برهما والإحسان إليهما [ ( وجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله! هل بقي علي شيء من بر أبوي بعد موتهما أبرهما به؟ ) ] معقول هذا الكلام؟ الرجل يقول: يا رسول الله! هل بقي علي شيء من بر والدي بعد موتهما أبرهما به أو ما بقي شيء؟ يسأل [ ( قال -صلى الله عليه وسلم-: نعم ) ] بقي عليك شيء [ ( نعم. خصال أربع -وفي لفظ: خمس- الصلاة عليهما ) ] بعد موتهما [ ( والاستغفار لهما ) ] طول حياتك [ ( وإنفاذ عهدهما ) ] إذا عهدا ولم يفعلا وماتا أنفذ أنت ذلك ونفذه [ ( وإكرام صديقهما ) ] صديق والدك تكرمه أنت؛ لأنه كان صديقاً لوالدك.

ولطيفة ابن عمر تقدمت لنا، كان قادماً من الحج فنزل منزلاً، فجاء راع فإذا به يعطيه عمامته وحماره. فتعجب نافع مولى ابن عمر كيف تعطي لبدوي عمامتك وأنت تحتاج إليها، وتعطيه حمارك الذي تتروح عليه؟! مرة على البعير ومرة على الحمار، فضحك وقال: إن هذا كان والده صديقاً لـعمر .

هذا عبد الله بن عمر بن الخطاب في طريقه من الحج إلى المدينة نزل منزلاً وإذا بأعرابي يأتيه، فجأة يعطيه عمامة يشد بها رأسه في الليل، ويعطيه حماراً كان يتروح عليه إذا تعب من الركوب على الإبل، فعجب مولاه وخادمه نافع ، كيف يا ابن عمر تفعل هذا؟ قال: إن أبوه كان صديقاً لـعمر .

إذاً جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله: هل بقي علي شيء من بر أبوي بعد موتهما أبرهما به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ( نعم خصال أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما ) ] هذا الذي بقي علينا من برهما بعد موتهما.

خمس خصال:

الأول: الصلاة عليهما.

الثانية: الاستغفار لهما.

الثالثة: إنفاذ عهدهما.

الرابعة: إكرام صديقهما.

الخامسة: صلة الرحم التي لا رحم لنا إلا من قبلهما. فهذا الذي بقي علينا من برهما بعد موتهما.

[ وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن من أبر البر: أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب ) ]. أي: بعد أن يموت. من أبر البر وأعلاه وأفضله أن يصل الرجل المؤمن أهل ود أبيه بعد أن يولي أبوه ويموت، وأمه كذلك.

[ يؤمن المسلم ] بحق وصدق، ذاك العبد الذي أسلم قلبه لله ووجهه [ بحق الوالدين عليه وواجب برهما وطاعتهما والإحسان إليهما ] نؤمن بهذا إيماناً [ لا لكونهما سبب وجوده فحسب، أو لكونهما قدما له من الجميل والمعروف ما وجب معه مكافأتهما بالمثل، بل لأن الله عز وجل أوجب طاعتهما، وكتب على الولد برهما والإحسان إليهما، حتى قرن ذلك بحقه الواجب له من عبادته وحده دون غيره.

[ فقال عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23] ] (وقضى) بمعنى: ألزم وأمر وحكم أيضاً وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] هذا حقه تعالى، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]. [ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23-24] ] كلام من هذا؟ إنه كلام الله، الله أنزل هذا الكلام لنا؛ لنؤدي حقوق والدينا.

وَقَضَى رَبُّكَ [الإسراء:23] أيها السامع الكريم أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] وهذا معنى لا إله إلا الله، وقضى أيضاً وأمر وألزم بالوالدين إحساناً، وبيان هذا الإحسان، إِمَّا يَبْلُغَنَّ [الإسراء:23] إن يبلغ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [الإسراء:23].

أكثر الناس قد يموت أبوه وقد تموت أمه، ويبلغ مع واحد منهما فقط إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23] والمراد من الكبر البلوغ سن التكليف والرشد أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] وإذا كان أف ما تقولها فكيف إذن بالسب والشتم والضرب من يجيزه؟ أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] والانتهار معروف وهو رفع الصوت، افعلي، ائتيني بكذا وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23] أي: حسناً، ليس فيه معنى الإيذاء أبداً بحال من الأحوال، بل قول كريم يدخل الراحة في قلوبهم، والطمأنينة في نفوسهم، تنشرح له صدورهم قولك الكريم.

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24].. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [الإسراء:24] نحن لنا جناحان كالطائر جناح يمين وجناح شمال، إذاً: فلن لهما وانكسر أمامهما وانعطف، كأنك تخفض جناحك لهما وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24] أي: وادع لهما طول حياتك بهذه الجملة: رب اغفر لي ولوالدي و ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

اذكر هذه النعمة التي قدماها إليك وأنت رضيع وطفل وصبي!

[ وقال سبحانه وتعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14] ] ووصية الله من يغفلها أو يتركها يهلك، ليست وصية شيخ أو سلطان بل وصية الله [ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] ] من ساعة ما يعلق في رحمها وهي في آلام وأتعاب حتى تضعه، وبعد الوضع لا تسأل في إرضاعه وتربيته [ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] ] أربعة وعشرين شهراً وبعدما ينفصل من الرضاعة.

إذاً: الموصى به هو هذا: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]. وَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14] ما مضمون هذه الوصية؟ أَنِ اشْكُرْ لِي [لقمان:14]؛ لأني خالقك وربك وسيدك، وحياتك موقوفة علي، اشكر لي بطاعتي وذكري وامتثالي أمري واجتناب نهيي، وكذلك لوالديك. هل قدم الولدان من شيء؟ هل قدم الولدان للولد من شيء؟ إي نعم.

أولاً: هما سبب وجوده.

ثانياً: أمه حملته في بطنها تسعة أشهر، ثم وضعته فأرضعته لبنها الذي كان دماً أحمر فيها، تحول إلى لبن أبيض، كذا شهر وهي ترضعه وتحمله عامين وبعد ذلك الوالد ينفق وهي تربي إلى البلوغ.

أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] والناس يقولون: من لم يشكر الناس لا يشكر الله، فيجب أن يكون الشكر بالاعتراف بالنعمة والثناء على صاحبها بالخير.

إذاً: فمن أحسن إليك بمعروف اشكره له، لا تقابله بالانتكاسة والانعكاس، تذمه ولا تحمده، فكيف إذاً بربنا وقد وهبنا كل شيء؟ فكيف بوالدينا وقد وهبانا وجودنا أيضاً؟!

من خلال هذه الآيات الكريمة كل هذا يتقرر معنا [ يؤمن المسلم بحق الوالدين عليه وواجب برهما وطاعتهما والإحسان إليهما، لا لكونهما سبب وجوده فقط، أو لكونهما قدما له من الجميل والمعروف ما وجب معه مكافأتهما بالمثل -لا- بل لأن الله عز وجل أوجب طاعتهما، وكتب على الولد برهما والإحسان إليهما ].