الدعاء المستجاب


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى بعد أن أرشد للقيام في هذه الآيات، وبين فضل هذا الموسم، وما أعد فيه للعابدين، تفضل جل جلاله بإخبار عباده باستجابته للدعاء، وبيان كرمه الذي لا يمكن أن يغيض، وبيان أن كل من سأله لا يمكن أن يخيب، فقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، وقد افتتح هذه الجملة بهذا الشرط الذي هو: إذا سألك عبادي عني، ومعنى ذلك: أن هذا من الممكن أن يسأل عنه؛ لأن (إذا) إنما هي لشرط المجزوم به، بخلاف (إن) فهي لشرط المشكوك فيه، وهذا الفرق بين الكلمتين في اللغة، فتقول: إن جاءك فلان فأكرمه، ومعنى هذا أنك تشك في مجيئه، فهو قد لا يأتي أصلاً، لكن إذا قلت: إذا جاءك فلان فأعطه كذا، فمعناه أنك سترسله إلي، وأنك جازم بذلك؛ ولذلك يقول أحد العلماء:

سلم على شيخ النحاة وقل له هذا سؤال من يجبه يعظم

أنا إن شككت وجدتموني جازماً وإذا جزمت فإنني لم أجزم

فأجابه بقوله:

هذا سؤال غامض في كلمتي شرط وإن وإذا مراد تكلم

إن إن نطقت بها فإنك جازم..

أي: تجزم الفعل المضارع.

إن إن نطقت بها فإنك جازم وإذا إذا تأتي بها لم تجزم

لأن (إذا) لا تجزم إلا في الشعر دون النثر.

إن إن نطقت بها فإنك جازم وإذا إذا تأتي بها لم تجزم

فإذا لما جزم الفتى بوقوعه بخلاف إن فافهم أخي وفهم

ومعنى هذا أن الله علم أن العباد سيسألون عنه، وهذا السؤال ليس سؤال نكارة ولا جهالة، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون الله سبحانه وتعالى, ويؤمنون به ويصدقونه، ويستسلمون لأحكامه، ولكن المقصود بذلك السؤال لزيادة الإيمان والاطمئنان، وهو السؤال المشروع؛ فالله سبحانه وتعالى لا يصح في حقه قياس، ويصح في حقه قياس، ولا يصح في حقه سؤال، ويصح في حقه سؤال.

أقسام القياس في حق الله تعالى

أما القياس الذي لا يصح فهو قياس النظير، فإنه تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فلا يمكن أن يقاس على نظير؛ لأنه لا نظير له ولا ند له.

والقياس الذي يصح في حقه: هو قياس الأولى. وذلك مثل قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29] فقد ضرب هذا المثل، ولا شك أنه هو من باب أولى، إذا كان الرجل فيه شركاء متشاكسون من الرجال، سيكون في تردد وعنت، وإذا كان سلماً لرجل فسيكون صاغياً خالياً من ذلك؛ فمن باب أولى أن الإنسان الذي له شركاء من دون الله يكون متردداً في كل ضلالة، والإنسان الذي يعبد الله وحده، ويوحده ولا يشرك به شيئاً، يكون حراً متخلصاً من كل ذلك. فهذا إذاً قياس الأولى، لا قياس النظير.

ومثل ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74]، فهذا كله من قياس الأولى، لا من قياس النظير.

السؤال في حق الله تعالى

وكذلك السؤال الذي لا يجوز في حق الله: هو سؤال التجاهل، كسؤال فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ))[الشعراء:23]؟ فهذا لا يجوز في حق الله؛ لأن المؤمن آمن به وصدق؛ فلا يمكن أن يتجاهله، وإنما يكون ذلك من حال المشركين، وقد أنكر الله ذلك عليهم، فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان:60].

أما السؤال الذي يجوز في حق الله، فهو: السؤال عن أسمائه وصفاته؛ فما جهله الإنسان منها يجوز أن يسأل عنه ليتعلمه، وكذلك السؤال الذي يقتضي رسوخ الإيمان بها، وثباته بالقلب، كسؤال إبراهيم، فإنه قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، ومثل ذلك سؤال موسى في قوله: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، فهذا سؤال يجوز؛ لأنه لم يسأل عن ذات الله، وإنما سأل عن صفة من صفاته، وهي صفة الرؤية، وهي جائزة في الآخرة، وواقعة لأهل الإيمان، و موسى ظن أنها كذلك تجوز له في الدنيا، فلذلك سألها؛ ولذلك فإن النفي الذي نفيت به هذه الصفة في الدنيا ليس على سبيل التأبيد والاستمرار؛ لأن الله علقها بأمر جائز وهو: استمرار الجبل مكانه؛ لأنه قال: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، فلو كان هذا الأمر مستحيلاً، وهو رؤيته في الدنيا، لما علقه على أمر جائز وهو: استقرار الجبل مكانه.

ولذلك اختلف الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، فقد ذهب ابن عباس وعدد من الصحابة إلى أنه رآه بعيني بصره، وذهبت عائشة رضي الله عنها إلى إنكار ذلك، وقالت: (من أخبرك أن محمداً رأى ربه ليلة المعراج، فقد أعظم على الله الفرية)، وقالت لـأبي سلمة حين قال لها: (أرأى النبي صلى الله عليه وسلم الله تعالى جهرة ليلة المعراج؟ قالت: لقد قف شعري مما قلت).

وفي صحيح البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أرأيت ربك ليلة المعراج؟ فقال: نور أنى أراه )، وهذا دليل على جواز هذه الرؤية؛ لأنها ..... علم جوازها في حق النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: هل رآه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نور أنى أراه )، وهذا الجواب ليس فيه جزم بالإثبات، ولا بالنفي، ولذلك في رواية أخرى أنه قال: ( رأيت نوراً )؛ فقوله: (رأيت نوراً)، إثبات للرؤية ونفي للإحاطة، وهذا الذي هو مذهب جمهور السلف، أن الرؤية حصلت، ولكن الإحاطة لم تحصل، فالإحاطة مستحيلة، قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103].

حتى في رؤية الآخرة، فأهل الجنة يرون ربهم يوم القيامة، لا يضامون في رؤيته؛ لكن لا يمكن أن تحيط به أبصارهم، فهو الكبير الذي لا يحيط به مكان، ولا تحيط به رؤية، لكنهم يرون وجه الله الكريم جل جلاله، وهكذا رؤية النبي صلى الله عليه وسلم هي رؤية لنور الله، ولا تقتضي إحاطة بما رأى؛ فلذلك قال: ( نور أنى أراه )، وفي الرواية الأخرى: ( رأيت نوراً ). ثم إن المقصود بهذه الرؤية هو: كشف الحجاب؛ لأنه سبحانه وتعالى موجود، وكل موجود في الأصل تصح رؤيته.

الله موجود وما به امترى وكل موجود يصح أن يرى

فلذلك المقصود هو كشف الحجاب، والله تعالى قد احتجب بسبعين حجاباً، حجاب نور، وحجاب نار، وحجاب نور وحجاب نار، (لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه)؛ ولذلك إن المقصود كشف بعض هذه الأحجبة، فإذا كشف حجاب النار بدا حجاب النور، وإذا كشف حجاب النور بدا حجاب النار، لكن حجاب النار محرق، لما وصل إليه بصره من خلقه؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رأيت نوراً )؛ فدل هذا على أن الحجاب المكشوف عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حجاب النار، وأنه رأى حجاب النور.

وفي صحيح مسلم في هذا الحديث السابق: ( إن الله قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور )، وفي رواية: ( حجابه النار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، و(سبحات وجهه): أنواره وأضواؤه؛ فإنها لو أراد الله أن تصل إلى شيء من الكائنات لأحرقتهم جميعاً ولم يبق لها أثر؛ لجلال الله وعظمته وكبريائه؛ ولذلك صار الجبل دكاً لجلاله حين تجلى له.

أما القياس الذي لا يصح فهو قياس النظير، فإنه تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فلا يمكن أن يقاس على نظير؛ لأنه لا نظير له ولا ند له.

والقياس الذي يصح في حقه: هو قياس الأولى. وذلك مثل قوله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29] فقد ضرب هذا المثل، ولا شك أنه هو من باب أولى، إذا كان الرجل فيه شركاء متشاكسون من الرجال، سيكون في تردد وعنت، وإذا كان سلماً لرجل فسيكون صاغياً خالياً من ذلك؛ فمن باب أولى أن الإنسان الذي له شركاء من دون الله يكون متردداً في كل ضلالة، والإنسان الذي يعبد الله وحده، ويوحده ولا يشرك به شيئاً، يكون حراً متخلصاً من كل ذلك. فهذا إذاً قياس الأولى، لا قياس النظير.

ومثل ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74]، فهذا كله من قياس الأولى، لا من قياس النظير.

وكذلك السؤال الذي لا يجوز في حق الله: هو سؤال التجاهل، كسؤال فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ))[الشعراء:23]؟ فهذا لا يجوز في حق الله؛ لأن المؤمن آمن به وصدق؛ فلا يمكن أن يتجاهله، وإنما يكون ذلك من حال المشركين، وقد أنكر الله ذلك عليهم، فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان:60].

أما السؤال الذي يجوز في حق الله، فهو: السؤال عن أسمائه وصفاته؛ فما جهله الإنسان منها يجوز أن يسأل عنه ليتعلمه، وكذلك السؤال الذي يقتضي رسوخ الإيمان بها، وثباته بالقلب، كسؤال إبراهيم، فإنه قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، ومثل ذلك سؤال موسى في قوله: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، فهذا سؤال يجوز؛ لأنه لم يسأل عن ذات الله، وإنما سأل عن صفة من صفاته، وهي صفة الرؤية، وهي جائزة في الآخرة، وواقعة لأهل الإيمان، و موسى ظن أنها كذلك تجوز له في الدنيا، فلذلك سألها؛ ولذلك فإن النفي الذي نفيت به هذه الصفة في الدنيا ليس على سبيل التأبيد والاستمرار؛ لأن الله علقها بأمر جائز وهو: استمرار الجبل مكانه؛ لأنه قال: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، فلو كان هذا الأمر مستحيلاً، وهو رؤيته في الدنيا، لما علقه على أمر جائز وهو: استقرار الجبل مكانه.

ولذلك اختلف الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، فقد ذهب ابن عباس وعدد من الصحابة إلى أنه رآه بعيني بصره، وذهبت عائشة رضي الله عنها إلى إنكار ذلك، وقالت: (من أخبرك أن محمداً رأى ربه ليلة المعراج، فقد أعظم على الله الفرية)، وقالت لـأبي سلمة حين قال لها: (أرأى النبي صلى الله عليه وسلم الله تعالى جهرة ليلة المعراج؟ قالت: لقد قف شعري مما قلت).

وفي صحيح البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أرأيت ربك ليلة المعراج؟ فقال: نور أنى أراه )، وهذا دليل على جواز هذه الرؤية؛ لأنها ..... علم جوازها في حق النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: هل رآه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( نور أنى أراه )، وهذا الجواب ليس فيه جزم بالإثبات، ولا بالنفي، ولذلك في رواية أخرى أنه قال: ( رأيت نوراً )؛ فقوله: (رأيت نوراً)، إثبات للرؤية ونفي للإحاطة، وهذا الذي هو مذهب جمهور السلف، أن الرؤية حصلت، ولكن الإحاطة لم تحصل، فالإحاطة مستحيلة، قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103].

حتى في رؤية الآخرة، فأهل الجنة يرون ربهم يوم القيامة، لا يضامون في رؤيته؛ لكن لا يمكن أن تحيط به أبصارهم، فهو الكبير الذي لا يحيط به مكان، ولا تحيط به رؤية، لكنهم يرون وجه الله الكريم جل جلاله، وهكذا رؤية النبي صلى الله عليه وسلم هي رؤية لنور الله، ولا تقتضي إحاطة بما رأى؛ فلذلك قال: ( نور أنى أراه )، وفي الرواية الأخرى: ( رأيت نوراً ). ثم إن المقصود بهذه الرؤية هو: كشف الحجاب؛ لأنه سبحانه وتعالى موجود، وكل موجود في الأصل تصح رؤيته.

الله موجود وما به امترى وكل موجود يصح أن يرى

فلذلك المقصود هو كشف الحجاب، والله تعالى قد احتجب بسبعين حجاباً، حجاب نور، وحجاب نار، وحجاب نور وحجاب نار، (لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه)؛ ولذلك إن المقصود كشف بعض هذه الأحجبة، فإذا كشف حجاب النار بدا حجاب النور، وإذا كشف حجاب النور بدا حجاب النار، لكن حجاب النار محرق، لما وصل إليه بصره من خلقه؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رأيت نوراً )؛ فدل هذا على أن الحجاب المكشوف عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حجاب النار، وأنه رأى حجاب النور.

وفي صحيح مسلم في هذا الحديث السابق: ( إن الله قيوم لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل، حجابه النور )، وفي رواية: ( حجابه النار، لو كشف الحجاب عن وجهه لحظة لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه بصره من خلقه )، و(سبحات وجهه): أنواره وأضواؤه؛ فإنها لو أراد الله أن تصل إلى شيء من الكائنات لأحرقتهم جميعاً ولم يبق لها أثر؛ لجلال الله وعظمته وكبريائه؛ ولذلك صار الجبل دكاً لجلاله حين تجلى له.

وحين سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]).

فهو جل جلاله اتصف بصفة العلو، وهي مقتضية للرفعة، وقد جاء فيها في ثماني عشرة آية إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، فهو فوق عرشه، بائن من خلقه، وهذه الصفة تقتضي ارتفاعاً، وكذلك ثبتت له صفة القرب والعلم والإحاطة والمعية، وهي تقتضي قرباً؛ فلذلك استشكل الصحابة الأمرين؛ لأنهم في الأصل إنما يقيسون الصفات على مقتضى العقول، فما يفهمونه من مقتضى العقل يسألون على أساسه لزيادة الإيضاح، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى يمكن أن يتصف بهذه الصفات، ولا يقع في ذلك تناقض؛ لأن العقل لا يمكن أن يكون حكماً على صفات الله، فلا يمكن أن نعتمد عليه في الإثبات ولا في النفي، فما أثبته الله لنفسه من الصفات فهو ثابت له، وما نفاه عن نفسه من الصفات فهو منفي عنه، والعقل لا يستطيع التحكم في ذلك؛ لأن العقل جارحة من جوارحنا، وجوارحنا محصورة يسيرة، فكل جارحة لها حدود إلى أعلى، وحدود إلى أسفل، فجارحة البصر هي العين، وأقرب شيء إلى عينك جفنك، وهذا الجفن فيه ألوان وعروق بيضاء وحمراء وأنت لا تراها، ولا تبصر شيئاً منها؛ لأنها أقرب من مدى البصر، ولها حدود كذلك إلى أقصى، فإذا وقفت في مكان مستو، فإن لبصرك حدوداً لا يتعداها، فدل هذا على أن جوارحك لها حدود إلى أدنى، وحدود إلى أعلى.

ومثل ذلك السمع، فسمعك له حدود إلى أدنى، فإنك لا تسمع ضخ الدم في عروقك، وله صوت كبير، ودقات القلب لا تسمعها، ولها صوت كبير، إنما يسمعها الإنسان بالمكثف إذا وضع السماعة في أذنيه وجعلها على مقابل القلب أعلى الصدر من الأمام أو من الخلف، فإنه يسمع دقات القلب، ولكن لا يستشعر ذلك، ومثل هذا نبض الدم في العروق، إذا أمسك العروق من مكان فيه مجتمع للأوردة والشرايين، فإنه حينئذ سيحس بالنبض والحركة، وكل حركة يلازمها صوت؛ فما من حركة في العالم إلا ولها صوت، إلا أن ذلك الصوت قد يكون خفياً، وقد يكون واضحاً، فالأذن لا تسمع هذه الأصوات لقربها منها، وكذلك لها مدى في البعد، فمن الأصوات ما هو أكبر من طاقة الأذن، فلا تتحمله، كالموجات المضمنة المحيطة بنا، فهي كبيرة جداً ونحن لا نسمع أصواتها.

ومن ذلك قوة الصاعقة تبلغ بحيث لا تسمعها الأذن؛ لأنها أقوى من طاقتها، فمن وقعت الصاعقة على بيت هو فيه، فإنه لا يسمع لها صوتاً، وهذا مجرب معروف.

وكذلك العقل جارحة من جوارحنا له حدود إلى أدنى، وهي مبادئ العقول، وله حدود إلى أعلى، وهي مواقف العقول، فمبادئ العقول ذكر المناطقة منها خمساً وهي: المشاهدات، والأوليات، والحدسيات، والمشهورات، والمجربات، فهذه خمسة أمور هي مبادئ العقل منها ينطلق، فالعقل الآن لا يسأل: ما الفرق بين الفوق والتحت؟ ولا يسأل: لماذا كانت السماء فوقاً والأرض تحتاً؟ ولا يسأل عن المكاييل والمعايير، ولماذا كانت الساعة ستين دقيقة؟ وكانت الدقيقة ستين ثانية؟ ولم تكن مائة دقيقة، ولم تكن الدقيقة مائة ثانية، العقل لا يسأل عن هذا؛ لأنه بدايته، فمنه انطلق فوجد هذه المسلمات، وجد الناس يقيسون الوزن بالكيلو، ويقيسون الكيل- مثلاً - باللتر في السائلات، فاستسلم العقل لذلك، ومنه بدأ، فإذاً هذه مبادئ العقول.

وأما نهاياتها: فهي التي يذكرها المناطقة والمتكلمون، ويجمعونها في قولهم: عجل وقتب، فالعين: للعرو من النقيضين، أي: الخلو منهما، والجيم: لجمع النقيضين، واللام: للزوم الدور، أو التسلسل، والواو: لوقوع عدد لا نهاية له، والقاف: لقلب الحقيقة، والتاء: لتعدد الفاعل، وتحصيل الحاصل، وترجيح بلا مرجح، والباء: لبطلان الحصر، فهذه تسعة هي مواقف العقول، إليها ينتهي عقل كل مفكر، وبهذا يعلم أن العقل لا يمكن أن يكون حكماً في ذات الله, ولا في صفاته؛ لأن له حدوداً، وذات الله وصفاته ليس لها حدود، فالمحدود لا يمكن أن يحوي ما ليس محدوداً، فلذلك يبقى العقل محصوراً دون الوصول إلى حقائق الأمور الأخروية، فالآن لا يمكن أن تتصور الصراط، وهو أدق من الشعر، وأحد من السيف، وسيجري الناس عليه جميعاً، يزدحمون عند أصله ثم يمرون عليه من أولهم إلى آخرهم، من آدم إلى نهايتهم في طرفة عين يمرون على الصراط جميعاً، منهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاود الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، وعليه كلاليب كشوك السعدان، وهكذا يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، هذه أمور لا يمكن أن يدركها العقل، لكنه يعلم أن الله الذي خلقه غير عاجز عن إمشائهم عليه، كما قال المقطري :

والرب لا يعجزه إمشاؤهم عليه إذ لم يعييه إنشاؤهم

فهو الذي أنشأهم من العدم، فلا يعييه إمشاؤهم على الصراط؛ ولذلك فإن العقل- أيضاً - لا يتصور أن هؤلاء الخلائق الذين تملأ قبورهم بطن الأرض، وتملأ أجسامهم ظهر الأرض، وقد جعلها الله كفاتاً أحياء وأمواتاً، سيجتمعون جميعاً في الساهرة التي هي أرض بيضاء كالكرسفة، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر، يجتمع فيها الأولون والآخرون، من لدن آدم إلى نهايتهم؛ فالعقل لا يتصور هذا؛ لأنه يتصور هذه الأجسام على هيئتها وحقيقتها، وإذا رجع إلى الخلاف بين العقل والحس، سيجد أن الحس مشكك، وأن العقل متواطئ؛ فالراكب تراه من بعيد فترى شكله صغيراً كالطائرة عندما تراها في الهواء، تراها جسماً صغيراً جداً، لا يمكن أن يكون على قدر إنسان واحد، وقد تكون إيرباص فيها خمسمائة وأربعون راكباً- مثلاً - لكنك تراها لبعدها صغيرة، وهذا دليل على أن العين لا تأتي بالحقيقة، فما هو الحجم الطبيعي ليدك؟ إذا نظرت إليها بعيداً صغرت، وإذا اقتربت ازداد كبرها، حتى تحتجب عن عينك، فهذا دليل على أن الحس مشكك، وأن الإدراك به ليس مجزوماً به.

ومن عرف هذا هانت عليه الأمور، واستسلم لأمر الله، واستسلم لصفات الله وآياته، ولم يتعب نفسه للتفكير في أمور لا يبلغها عقله؛ لأنه لا يمكن أن يتعب نفسه الآن في حمل هذا المسجد؛ لأنه عاجز عن حمله، وهو مستسلم لذلك؛ لكن يستطيع أن يحمل هذا الجهاز؛ لأنه قادر عليه، فكذلك العقل يستطيع معالجة الأمور التي هي في طوقه، وهي بمثابة حمل هذا الجهاز بالنسبة لقوة اليد، ولا يستطيع التفكير فيما هو عاجز عنه كحمل السموات والأرض، فهو عاجز عن ذلك مستسلم تمام الاستسلام للعجز عنه، فينقاد عند الاستسلام، وهذا هو المطلوب في الإيمان، فالمطلوب في إيمان كل إنسان منا أن تكون قناعته به، كقناعته بعجزه عن حمل السموات والأرض، فهو مستسلم لذلك، لم تراوده يوماً نفسه أنه سيحمل هذا المسجد، فضلاً عن أن يحمل السموات والأرض، هذا الاستسلام الكامل هو المطلوب في الإيمان.

ولذلك فالصحابة سألوه فقالوا: (أقريب ربنا فنناجيه)، فالقريب من شأنه أن يناجى؛ لأن كل إنسان قد يكتم حوائجه عن الآخرين، ولا يريد أن يطلع عليها، ومن طبيعة الإنسان أنه مجبول على الحزن، والحزن يقتضي الكتمان، فالكتمان من صفات العقول، وهو داخل في الحذر الذي أمر الله به؛ فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وقال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة:92]، وقال تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]، وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5]، وقال أيضاً: وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف:67]، وقال تعالى حكاية عن أصحاب الكهف: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:19-20] وقد قال الله تعالى للوط عليه السلام: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هود:81]، وقال لموسى عليه السلام: أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء:52].

فدل هذا على أن الحزم منه الكتمان، وعدم إظهار الإنسان لما من شأنه الإخفاء والإبطان؛ فلذلك كان الأصل في الدعاء أن يسر به صاحبه؛ ولذلك فأدعية الصلاة يسر بها الإنسان؛ لأنها حوائجه يسر بها إلى الله، وقد لا يريد اطلاع غيره عليها لئلا يحسده على بعضها، أو لئلا يطلع على بعض عيوبه التي يريد علاجها وسدها، أو لئلا يطلع على بعض ذنوبه التي يريد غفرانها وسترها.

فهذه الأمور من خاصيات الإنسان التي يكتمها على غيره؛ فلذلك كان الأصل في الدعاء جميعاً الإسرار، ولم يخرج من هذا القبيل إلا أمران:

الأمر الأول: لفظ (آمين) بعد الفاتحة، وهو محل خلاف بين أهل العلم، فمن أهل العلم من رأى الإسرار به، ومنهم من رأى الجهر، وقد ثبت الأمران عن الصحابة؛ فأهل المدينة كانوا يسرون، وأهل مكة كانوا يجهرون بالتأمين، وسبب ذلك أن لفظ (آمين) من خصائص هذه الأمة العظيمة؛ ولذلك قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على آمين )؛ فاليهود يحسدون المسلمين على أن الله وفقهم لهذا اللفظ العظيم، فكان ميزة للمسلمين، والملائكة يقولونه في السماء عندما يقول الإمام: ولا الضالين، (فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له)؛ فلذلك شرع الجهر به.

والأمر الثاني: هو القنوت، سواء كان في الصبح، أو في النوافل، في أية صلاة من الصلوات، أو كان في قنوت الوتر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقنوت ويسمع الناس؛ ولذلك رووه عنه، وكذلك كان عمر يجهر بقنوت الفجر فيرفع يديه فوق رأسه، ويقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونترك من يكفرك -وفي رواية: ونترك من يفجرك- اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، كان يفعل هكذا، ولم يكن ليفعله إلا على أساس توقيف؛ فلذلك كان جهره به استثناء من هذه القاعدة.

أما الدعاء في السجود، وفي الجلوس وغير ذلك، ففي شأنه الإسرار مطلقاً، وذلك للقرب، فإن الله سبحانه وتعالى هو السميع البصير، لا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، لا يستطيع الإنسان أن يسأل مسألة حتى يلهمه الله إياها، فعقله أصلاً لا يستطيع أن يحدد حاجته، ولا أن يحدد أولوياته، مالم يرفده الله بذلك ويلهمه هذه الإرادة، وهذه الإرادة هي استطاعة متجددة، فكلما وفق الله إنساناً للدعاء ألهمه حاجته، وقال له: سل الله كذا، فيلقي ذلك في روعه فيسأله؛ ولهذا قال الغزالي رحمه الله: العقل وحي من الداخل، والوحي عقل من الخارج؛ لأن كليهما إلهام من الله سبحانه وتعالى، وتنوير منه للعباد، وتفضل منه، فالوحي من الخارج؛ ولذلك كان معصوماً، فهو من كلام الله، أو مما أوحى إلى رسله عليهم الصلاة والسلام، والعقل وحي من الداخل؛ لأنه إلهام كما قال الله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68]، فهو إلهام يلهمه الله من يشاء من عباده؛ ولذلك يتفاوت الناس فيه تفاوتاً عظيماً، وما من أحد إلا وهو راض عن الله في عقله، وأقلهم عقلاً أرضاهم به، فأقل الناس عقلاً يظن أنه أكمل الناس عقلاً؛ فلذلك قالوا: (أقريب ربنا فنناجيه-هذا الأصل- أم بعيد فنناديه)؟ فمن كان بعيداً لا يتصور منه سماع المناجاة؛ بل لا بد أن يرفع له الصوت، وبالأخص إذا كان في حال الاستغاثة، فالإنسان الذي يغرق في البحر يضطر لرفع الصوت حتى لو كان المستغاث قريباً منه؛ لأنه حينئذٍ مضطر لا يحس بأي طاقة يستطيع بها الدفع عن نفسه.

ولذلك فإن كل من يشكو من اضطرار غالباً يرفع صوته، إما بالعويل، وإما بالنداء، وإما بالاستغاثة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لهم حينئذ أن الله سبحانه وتعالى أقرب إلى أحدهم من عنق راحلته، فقال: ( أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تسألون أصم ولا غائباً، إنه سميع بصير ).

ولذلك قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186]، وهنا زكاهم الله تعالى بإضافتهم إلى نفسه، فالإضافة تقتضي تشريفاً، وهو هنا لم يقل: وإذا سألك العباد، أو إذا سألك الناس، فقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186]، وأشرف وصف يوصف به العبد: عبوديته لله، كما أن أبلغ الثناء في وصف الرب جل جلاله ربوبيته لله.

ولذلك أثنى الله على نفسه في افتتاح القرآن بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وأثنى على محمد صلى الله عليه وسلم في مقام التشريف بعبوديته لله، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، فلم يقل برسوله، ولا بنبيه؛ بل قال: بعبده، وهذه العبودية هي العبودية الخاصة، لأن العبودية أربعة أقسام: عبودية ملك، وهذا يشمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فهم جميعاً مملوكون لله، فالعبد بمعنى المملوك وهذا شامل لكل الخلائق؛ للمؤمن منهم والكافر، والبر والفاجر، وهم جميعاً مملوكون لله يتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه.

الإطلاق الثاني للعبودية هو: عبودية الخلق، فالخلق- أيضاً - جميعاً عباد لله، فهو الذي صورهم في ما شاء من الصور، فقال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8]، وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [الكهف:51]؛ فالله تعالى هو الذي خلقهم جميعاً، فنسبتهم إليه في الخلق نسبة السواء.

الإطلاق الثالث: عبد النعمة، أي: الإنعام، وهذا لا شك أن الناس متفاوتون فيه؛ فالنعمة مختصة بأهل الإيمان، فهم عباد النعمة بالنسبة لله تعالى، خلقهم وأنعم عليهم، أما الكفار فهم عباد الخلق، وعباد الملك؛ لكنهم ليسوا عباد النعمة، فالله تعالى لم ينعم عليهم، إذ لو أنعم عليهم لهداهم للإسلام، فالذي آتاهم رزقاً لا نعمة، وهذا الفرق بين الرزق والنعمة، فالنعمة إنما تكون موافقة للشرع، والرزق يشمل ما كان موافقاً للشرع، وما كان مخالفاً له؛ فما يناله الكفار من خير الله وفضله إنما هو رزق لا نعمة؛ لأن نعمته مختصة بأهل الإيمان، فهم أهل نعمته؛ ولذلك يدخلهم في دار نعمته وهي الجنة، فهي دار النعمة.

ولذلك فهذا الإطلاق يختص بأهل الإيمان دون سواهم، لكنه يشمل الصالحين منهم والطالحين، فكل مؤمن هو عبد نعمة بالنسبة لله، يستحق الله عليها الشكر.

لكن الإطلاق الرابع هو أخص الإطلاقات، وهو: عبد الخدمة، أي: عبد العبادة المخصوصة، وهذا مختص بأهل الإيمان والتقوى، فكثير من أهل الإيمان ليسوا من العباد.

فإذاً لا يشملهم هذا الإطلاق الأخير، وإن شملتهم الإطلاقات الثلاثة الأول، فهم عباد مخلوقون لله، وهم عباد مملوكون لله، وهم عباد أنعم الله عليهم، فعبودية النعمة حاصلة فيهم، لكن يبقى الإطلاق الأخير، وهو: عبادة الخدمة الخاصة، فهذه مختصة بمن كان من العباد الذين يؤثرون طاعة الله على هواهم، وقليل ما هم، فهم الشاكرون من عباد الله، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، جعلني الله وإياكم منهم.

وقد زكاهم الله هنا بقوله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186]، وهذا السؤال عن الله سبحانه وتعالى المقصود به ما بعده، أي: عن قربه وبعده؛ فلذلك قال: (فإني قريب)، فهذا هو الجواب، والجواب لا بد أن يكون على طبق السؤال، والسؤال محدود؛ لأن أصل السؤال لم يرد، وإنما قال: إذا سألك عبادي عني، فأصل السؤال: قريب أنا أم بعيد؟ والجواب: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، والفاء هنا عاطفة للجواب على الشرط السابق، إذا سألك عبادي عني، فالشرط مهيئ ومؤهل لمجيء الفاء بعده، كما تقول: أما بعد إني قريب، هذا القرب الذي اتصف الله سبحانه وتعالى به صفة كمال في حقه؛ لأنه مقتض للعلم والإحاطة، وهو قرب بالصفة لا بالذات، فهو بذاته هو العلي، إذ هو بائن من خلقه مستو على عرشه، أما من ناحية الصفة، فعلمه محيط بجميع الخلائق، ما تخطر خطرة في قلب إنسان، ولا يفكر تفكيراً، ولا ينظر نظراً، ولا ينام ولا يستيقظ، ولا يضخ الدم في عروقه إلا بعلم الله وتدبيره وأمره.

فلذلك أثنى على نفسه بتمام العلم في قوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، فهذا العلم محيط لاصطفاء فيه؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من عموم إلا وتحته خصوص، إلا قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75]، فمثلاً إذا أخذت أي عموم آخر؛ مثلاً: (الله خالق كل شيء)، هذا عموم، لكنه قطعاً لا يدخل فيه ذات الله، ولا صفاته، ولا كلامه، فهذا غير مخلوق؛ فالله تعالى غير مخلوق، وكلامه غير مخلوق، وصفاته غير مخلوقة. فإذاً هذا خصوص تحت هذا العموم.

لكن إذا قلت: (إن الله بكل شيء عليم)، هذا عموم يشمل ذات الله وصفاته، وكلامه، وأفعاله وخلائقه، فالله عليم بذاته، وبصفاته، وبكلامه، وبخلائقه جميعاً، فهذا العموم ما تحته خصوص، هو العليم المحيط بكل شيء، بما وجد وما لم يوجد، وبما هو موجود، وبما يعدم مما هو موجود، كل ذلك يحيط به علم الله، فما يسقط من شعر رأسك، وما يتحات من بشرتك، وما يموت من خلاياك، كل ذلك معلوم عند الله قبل أن يكون، وبعد أن يكون، ويعلم مكانه ومستقره، وسيعيده إلى جسمك، قال تعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4].

فالله تعالى يعلم ما تأخذ الأرض، وما تأكل الأرض من أجسامنا؛ ولذلك يعيده، فالعلم أصل للقدرة؛ ولهذا قال الله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فالقدرة إذا لم يكن معها العلم لم تكن صفة كمال، كقوة البهائم، فهذه ليست صفة كمال، أما القدرة التي معها العلم المحيط فهي صفة الكمال، كقدرة الله تعالى، فمعها العلم المحيط بجميع الأشياء، والقدرة المحيطة كذلك، فكان ذلك وصف كمال؛ فلهذا قال: (فإني قريب).

هذا القرب منه العلم كما ذكرنا، لكن يترتب عليه بعض الصفات الأخرى، فمن هذه الصفات:

الإجابة -إجابة الدعاء- ومنها: اللطف، وهو في الخفيات، ومنها الرأفة، وهي تنزيل الرحمة بالخلائق، فكل ذلك مما يترتب على هذا القرب الذي اتصف به الله جل جلاله؛ فلذلك رتب على قوله: (فإني قريب)، قوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].

أجيب دعوة الداع، وهذه الإجابة تشمل ثلاثة مقامات:

المقام الأول: توجيه الداع ليسأله، فأنتم ترون كثيراً من الناس يعيشون يوماً كاملاً، ويمر بهم ساعات الإجابة التي تفتح فيها أبواب الله، وتتنزل فيها رحماته، وهم لا يسألون الله شيئاً، وترون كثيراً من الناس يستيقظون في الثلث الأخير من الليل أو ينامون، وهو وقت ينزل فيه الرب جل جلاله إلى سماء الدنيا، فلا يزال يقول: (ألا من يسألني فأعطيه، ألا من يستغفرني فأغفر له)، فهو سبحانه جل جلاله حينئذٍ يفتح أبوابه للسائلين، لكن كثيراً من الناس محجوب عن المسألة، لا يسألون الله، وهؤلاء هم أهل النفاق، فإنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً، والسؤال هو أبلغ ذكر الله؛ لأنه هو أبلغ العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الدعاء هو العبادة )، وترون آخرين يوفقهم الله للدعاء، حتى لو كان أحدهم في أشد المرض، وأشد الألم؛ فإنك تسمعه يلهج بذكر الله ودعائه، وإذا استيقظ من نومه بدأ بدعاء الله، وإذا أراد أكلاً أو شرباً، أو غير ذلك بدأ بدعاء الله؛ فهؤلاء ألهمهم الله ذكره وأعانهم عليه، فهم يدعونه؛ فلذلك لم ينسهم ولم ينسهم نفسه، فمن أنساه الله نفسه، فقد نسيه الله تعالى، ومعنى نسيانه: أنه جعله في المنسيين، أي: المحجوبين، نسأل الله السلامة والعافية؛ فلذلك كان هذا إرشاداً أولاً لقصد الدعاء وتوجه القلب إليه.

المقام الثاني: الصدق فيه، فكثير من الناس- أيضاً - يلهجون بالدعاء بألسنتهم لكن قلوبهم غير حاضرة لها؛ ولذلك يقول السهراوردي رحمه الله: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير، فالإنسان يأخذ سبحته، فيقول: أستغفر الله، أستغفر الله، وهو لا ينوي معنى الاستغفار، ولا يقصد ما يقول، فهو يشهد الله على أمر هو كاذب فيه، فهذا غلط كبير جداً، أن يكون الإنسان يسأل الله، وهو غافل القلب، فالله تعالى لا يستجيب لمن كان غافلاً لاهياً، لا يقبل عليه؛ بل هو حينئذٍ معرض عن الله؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه! ).

ولذلك فإن لدي اقتراحاً عملياً في ما يتعلق بأدعية الصلاة، قد جربت فيه نفعاً، وهو أن على الإنسان عند كل ركن أن يتأهب في داخله، ويحدد حاجته التي سيسأل الله بهذا الركن، فإن كان يحفظ ذكراً وارداً عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الركن تهيأ له وأتى به، وهو يعرف معناه، ويريد مبتغاه، وإن كان لا يعرف ذكراً مخصوصاً فيه، جاءه وله حاجة، فكل سجدة- مثلاً - من صلاتك تخصصها لبعض حوائجك، تجعل سجدة للنبي صلى الله عليه وسلم لا تدعو فيها إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن له حقاً في صلاتنا، وهذا الحق لو جعلت له كل دعائك، فإنك ستكفى ما أهمك، وما لا تهتم له؛ ولذلك فإن الأنصاري سأله فقال: (كم أجعل لك من صلاتي؟) فالمقصود كم أجعل لك من دعائي في الصلاة، وهو لا شك يستحق أن نجعل له كل سجودنا، إذا كان الإنسان منذ ولد إلى أن مات، لم يدع في سجوده إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يستحق عليه ذلك.

فلذلك لا بد أن نكثر من الدعاء له، وأن نشركه في ذلك، والإنسان الذي يقتصر فقط على الصلاة عليه في التشهد في الصلاة، قد انتقص شيئاً من حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا بد -يا إخواني- أن نخصص على الأقل سجدة من كل صلاة، ندعو فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يستحق علينا ذلك، نسأل الله له المقام المحمود، والدرجة الرفيعة، ونسأل الله له في آل بيته، وفي أصحابه، وفي أمته، فكل ذلك من حقه.

كذلك حق الوالدين، فقد أمر الله بالدعاء لهما، فإذا خصص الإنسان لهما سجدة من الصلاة، فلم يهمل هذا الدعاء: وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وهما أولى الناس بحسن صحبة الإنسان، تولياه صغيراً، وتوليا أقذاره وأخطاره وأضراره، وصبرا على بكائه، وعلى مشاقه في صغره وصباه؛ فلذلك يستحقان عليه أن يدعو لهما، وأن يكافئهما، وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما شاباً يحمل أمه في الطواف؛ يطوف بها يحملها على ظهره، وهو يقول لها: هل كافأتك؟ فقال ابن عمر : لا ولا زقية واحدة، أي: لم تكافئها ولا زقية واحدة، والزقية هي: رفع الصوت عند الطلق، أي: عند وضع الجنين، فرفع الصوت بالصراخ، هو الذي يسمى زقية، ولذلك في قراءة ابن مسعود : إن هي إلا زقية واحدة، أي: بدل إن هي إلا صيحة واحدة، فالزقية هي الصيحة؛ فلذلك قال ابن عمر : لا، ولا زقية واحدة، فلم تكافئ أمك، ولا زقية واحدة من آلامها، فقد حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، وكنت في بطنها وهناً على وهن، فضعفها أصلاً- ضعف النساء موجود - وبعده وهن الحمل، وهو ضعف جديد، وكنت لا تتنفس إلا من خلال تنفسها، ولا تتغذى إلا من خلال غذائها، ولا يذهب شيء مما فيك من الأقذار من البول وغيره، إلا في دمها، مدة تسعة أشهر، وهي تتحمل كل ذلك، أقذارك تجري في دمها، وأوساخك تذهب في دمها، وتغذيتك من الحبل السري هي من غذائها، ثم بعد ذلك ترضعك حولين كاملين، لا تتغذى إلا من ثديها، أو ما تلقمك إياه، لا تستطيع أن تأخذ شيئاً بيدك، ولا أن تهيئ شيئاً لنفسك.

وكذلك أبوك الذي قام بطلبك، وتكونت منه، وحملك في ظهره، ثم أداك إلى بطن أمك، وأشرف على تربيتك بعد ذلك، وقام عليك؛ فهذان شخصان حقهما لا يمكن أن يعدل بحقوق من تخالطه من الناس؛ ولذلك فمن المؤسف جداً أن نرى اليوم كثيراً من الشباب وهم يفرطون في حق الآباء والأمهات، يستطيع أحدهم أن يمكث أسبوعاً لم يزر والديه، ولكنه لا يصبر عن أحبته من أصدقائه، أو زوجته، أو غير ذلك؛ فهذا من المؤسف جداً، فكل أولئك الذين يخالطهم ما أحسن إليه أحد منهم كما أحسن إليه والداه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن أولى الناس بحسن صحابته، قال: ( أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك، ثم أدناك أدناك ).

فلذلك لا بد -يا إخواني- من بر الوالدين سواء كانا حيين أو ميتين، وهذا البر منه الدعاء لهما، وتخصيص سجدة من الدعاء، يدعو فيها الإنسان لوالديه، فإذا سجد تلك السجدة لم ينشغل بالأدعية التي يحفظها دون أن ينوي معناها، وهذا المحظور الذي نخافه، أن كثيراً من الناس يكرر دعاء دائماً في السجود، وهو لا ينويه، ولا يفهمه، كثير من الناس كلما سجد يقول: اللهم إني ظلمت نفسي وعملت سوءً فاغفر لي، ويقول ذلك في السجدة الموالية، والتي تليها, وهو غافل لاه لا ينوي ما يقول، وهذا ليس دعاء، فالدعاء لا بد فيه من الصدق، بمعنى أن يكون الإنسان صادقاً مع الله.

فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يحدد حوائجه، وأن يسألها بصدق، ثم بعد ذلك يسأل من خيري الدنيا والآخرة، ويفعل لكل سجدة ما يناسبها من ذلك؛ فالسجدة الأخيرة من الصلاة- مثلاً - من المناسب أن يجتهد فيها الإنسان لنفسه بحسن الخاتمة؛ لأنها ختام صلاته؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء بعد التشهد، أنه أرشد إلى أن يكون آخر ما يدعو به الإنسان هو قوله: (اللهم اغفر لنا ما قدمنا، وما أخرنا، وما أسررنا، وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير)، يختم الإنسان دعاءه بعد التشهد بهذا الدعاء؛ لأنه مؤذن بحسن الخاتمة، ومغفرة الذنوب، وهذا ما نحتاج إليه، وهو المناسب لهذا المقام؛ فلذلك المقام الثاني من مقامات الدعاء هو: الصدق فيه، وهذا- يا إخواني - يفوت على كثير من الناس، ونحن محتاجون للتنبه له.

المقام الثالث: هو إجابة الله له؛ فالدعاء إذا قاله صاحبه فكان صادقاً فيه بعد توفيق الله له إليه، اتجه إلى الله تعالى فارتفع، وإذا كان كاذباً فيه، فإنه لا يرفع، يخرج من في صاحبه، ثم يعود لا يتعداه، وهذا الدعاء الذي لا يرفع قد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يرفع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك اللهم من هؤلاء الأربع )؛ فالقلب الذي لا يخشع، والعين التي لا تدمع، والعلم الذي لا ينفع، والدعاء الذي لا يرفع، أو لا يسمع، هذه أربع تعوذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].

والعمل الصالح منه الدعاء، فيرتفع إلى الله تعالى؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الدعاء يصطرع في السماء مع البلاء، ولا يرد القدر إلا الدعاء )، فهو يرتفع فيصطرع، أي: يتصارع في السماء مع البلاء الذي كان منزلاً ليصيب الإنسان، فإذا دعا خرج دعاؤه فاستقبل ذلك البلاء فاصطرع معه، والمقصود بذلك أن الدعاء بقدر الله، وأن البلاء من قدر الله، والله يرد قدره بقدره، كما أن العلاج من قدر الله، والمرض من قدر الله، والله يشفي المرض بالعلاج؛ فكذلك الدعاء يصطرع مع البلاء في السماء، مثل اصطراع الدواء مع المرض في البدن، وكل ذلك من قدر الله جل جلاله، لا يمكن أن يرد قدره بشيء، لكن القدر بعضه يرد بعضاً، وهذا في صفات الله، فمن تمام صفات الله وكمالها أن بعضها يزاحم بعضاً، وهذا ما لا يتصوره كثير من الناس، ولذلك في الحديث القدسي الصحيح: ( وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه )، فهذا كلام الله سبحانه وتعالى الذي رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: ( وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت، وأكره مساءته ولا بد له منه )، فهذا تزاحم الإرادتين، إرادة الموت التي أرادها الله للخلائق جميعاً، فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]؛ فهذه إرادة ماضية شاملة للجميع.

ثم من إرادة الله: إكرام عبده المؤمن الذي يحبه، فيحب الله له رضاه، ويكره مساءته فيرضيه، وهذا الرضا يقتضي أن الله يكره مساءة ذلك العبد، فيكره أن يدخل عليه ما يسوءه، فإذا كان العبد يساء بالموت، ويكرهه فهذا مجال تجاذب الإرادتين، فيمدد الله له في عمره تارة، ويبارك له فيه تارة، ويعوضه خيراً منه تارة مما ينتظره في البرزخ، أو ما ينتظره في الآخرة، فيكون ذلك من تزاحم الإرادتين، ( وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، ويكره مساءته، ولا بد له منه).

وكذلك هنا القدر، كما قال: ( لا يرد القدر إلا الدعاء )، فالدعاء من القدر فلذلك يرده، إذا كتب على فلان- مثلاً - أنه سيصاب بداء كذا، أو سيجاح ماله، أو سيأتيه لص فيسرق ماله، أو يعتدى عليه بأي اعتداء من الاعتداء، فسأل هو الله، فهذا دعاء يحول دون البلاء فيرده عنه في السماء فلا يصل إليه، ولا يصل إليه ضرر منه، ومن تمام البلاغة النبوية أنه قال: ( يصطرع في السماء مع البلاء، فتارة يغلب البلاء، وتارة يغلب الدعاء )، وكلاهما من قدر الله، فقد يغلب البلاء الدعاء في بعض الأحيان، أي: يتنزل البلاء، لكن يكتب للدعاء أجر، ويدخر حسنة للإنسان، إذا فاته أن يرد ذلك البلاء؛ فلذلك قال: (يصطرع)، والاصطراع مثل الكفئين المتقابلين في القوة، إذا تنافسا في القوة فإنهما يصطرعان، فتارة يغلب هذا، وتارة يغلب هذا؛ ولذلك قال: ( يصطرع في السماء مع البلاء ).

من هنا قال: (أجيب دعوة الداع)، وهنا قال: (دعوة)، والدعوة في الأصل: النداء، وهو: طلب الإقبال، وطلب الإقبال لما كان مناسباً لتعليق الحوائج- لأن المدبر عنك لا تعلق به حاجة؛ فالمقبل عليه هو الذي تعلق به حوائجك -سمي طلب الحوائج دعاء، وإلا فإن الأصل في الدعاء النداء مطلقاً، قال تعالى: إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171]، والنداء هو: طلب الإقبال.

فإذاً الدعوة هنا لا يقصد بها مجرد طلب الإقبال، بل طلب الإقبال، ومعه تعليق الحاجة أيضاً، بيان الحاجة التي تريدها. وهذا الدعاء أفرد هنا فقال: (دعوة)، وهي مرة؛ لأن التاء إذا لحق بالمصدر دلت على الوحدة فيه، إن لم تكن في مصدره الأصلي تاء، فبعض المصادر تكون فيها التاء أصلاً، كرحمة، وحلية، وضربة، ونفخة، في الأصل، لكن إذا لم تكن التاء في المصدر فإنها تدل فيه على الوحدة، كما هنا، فقال: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186]، لكن المرة هنا -وهي الدعوة- أضيفت إلى المعرفة، والمفرد النكرة إذا أضيف إلى المعرفة يعم. ومن ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ [الأحزاب:50]، هل المقصود هو عم واحد؟ لا؛ بل المقصود نساء قريش جميعاً؛ ولهذا جمع فقال: (وبنات عماتك)، وكذلك خالك -أيضاً- (وخالاتك)، انظروا إلى الفرق بينها، فالخال والعم إذا أضيفا إلى الضمير عما، فاقتضى ذلك عموماً، وهذا أصل النكرة عندما تضاف إلى المعرفة، ومنه قول الشاعر:

بهاجي أبو الحسرى فأما عوامها فبيض وأما جلدها فصليب

الحسرى هي: البهائم التي تموت من الجوع في الصيف، وشدة اللأواء، فهذه ليس لها جلد واحد؛ بل جلودها كثيرة، كل بهيمة منها لها جلد؛ فلذلك قال: فأما عوامها فبيض، وأما جلدها فصليب، المقصود: أما جلودها؛ لأن المفرد هنا أضيف إلى الضمير فعم.

قال تعالى: (أجيب دعوة الداع)، هذا لا يقتضي دعوة واحدة؛ بل يقتضي كل دعائه، وهو عموم، ولكن هذا العموم مقيد، فقد جاء تقييده بعدد من القيود عن النبي صلى الله عليه وسلم.

عدم الدعاء بإثم أو قطيعة رحم

القيد الأول منها: ألا يدعو الإنسان بإثم ولا قطيعة رحم، فمن دعا بإثم أو قطيعة رحم، فإن الله لا يستجيب له؛ لأنه عاص بدعائه، كيف يسأل الله الإقبال عليه، ثم يدعوه بأمر حرمه الله عليه، هذا سوء أدب مع الله، وصاحبه ليس من أهل الإجابة، وفي الحديث: ( يستجاب لأحدكم مالم يدع بإثم ولا قطيعة رحم )، فإذا سأل الله أن ييسر له صفقة دنيوية أو أن ييسر له شرب الخمر، أو أن ييسر له قتل معصوم الدم؛ فهذا حرام، ولا يستجيبه الله، وكذلك إذا دعا بقطيعة رحم، كما إذا دعا على ولده، أو قريبه؛ فهذا في الأصل قطيعة رحم، فإنه لا يستجاب إلا بلاء له، فتستجاب دعوة الوالد على ولده بلاء له وتقريعاً له، لكن الأصل نفيه عن ذلك وحرمته عليه لما فيه من قطيعة رحم، إلا إذا كان الولد مستحقاً لذلك بأن كان عاقاً بأبويه، فمن كان عاقاً بوالديه، فدعاؤهما عليه مستجاب، نسأل الله السلامة والعافية، وقد رأى عمر رضي الله عنه رجلاً من الأعراب ملوي اليمين، أي: يده اليمنى ملوية، فسأله فقال: ما الذي أصابك؟ فقال: دعوة أبي، فقال: وما ذاك؟ فقال: كنت امرأً عاقاً بأبي، فلما كبر في السن سألني يوماً لبناً، فضربته بعصا ولويت يده، فقال:

وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه

فأخرجني منها لقىً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه

فاستجاب الله دعاءه فيبست يده ملوية، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا مشاهد، وهو من الأمور العجيبة المتسلسلة، فإذا كان الإنسان براً بوالديه، فلا بد أن يبره أولاده وأهل بيته، وإذا كان عاقاً بأبويه، فلا بد أن يسلط الله عليه من أولاده وزوجاته من يكون عاقاً له، وهذا مستمر لا يمكن أن ينخرم، وقد جاء في الحديث: ( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم )، أمران متلازمان، إذا كان الإنسان عفاً عن النظر إلى نساء غيره، فإن الله سيرزقه عفة أهله، وإذا كان غير عف فلا بد أن يكون في أهله من ليس كذلك، نسأل الله السلامة والعافية، فهذا من الجزاء الدنيوي العاجل.

عدم الاعتداء في الدعاء

القيد الثاني: ألا يدعو الإنسان بالاعتداء في الدعاء، فالاعتداء في الدعاء هو: أن يسيء الإنسان الأدب مع الله، فيدعو بالمستحيل، كمن يسأل الله أن يجعله من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الآن، أو من يسأل الله أن يجعله من أهل بدر، أو من يسأل الله رؤية الله في الدنيا جهرة، كسؤال بني إسرائيل، أو من يسأل الله أن يجعله نبياً من الأنبياء الآن، هذا من المستحيلات، التي هي سوء أدب مع الله، واعتداء في الدعاء، ومن دعا بها لا يستجاب له قطعاً؛ لأنه عاص بدعائه.

ومثل ذلك الاعتداء في التفاصيل، فقد سمع عروة بن الزبير رضي الله عنهما ابناً له يقول: اللهم إني أسألك قصراً أبيض عن يمين من دخل الجنة، فقال: يا بني! لقد اعتديت في الدعاء، قل: اللهم إني أسألك الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فالتفصيلات كقول البعض: القصر الأبيض الذي من صفته كذا وكذا، هذه أمور لم ترد في الوحي، وإنما هي تصورات في ذهنك، أنت ستكون بها معتدياً في الدعاء، وهذا الاعتداء كثيراً ما يحصل، فكثير من الداعين يدعو بالشطط، فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أعرابياً يقول: ( اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم معنا أحداً؛ فقال: لقد حجرت واسعاً )، فرحمة الله واسعة، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، ويحصرها فقط عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وإذا اجتهد الإنسان في عموم الدعاء، فعموم الدعاء من مزيته أن الإنسان في بلاغته قاصر، لا يستطيع الوصول إلى كل حوائجه، فإذا عمم الدعاء فالله يعطيه ما عممه.

وأيضاً المزية الثانية في تعميم الدعاء: أنه ينجو به من الاعتداء في الدعاء؛ ولذلك ذكر أن أعرابياً سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل سجوداً طويلاً، كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل السجود والركوع، فيأتيه الأعراب وهم لم يتعودوا على هذه العبادة الجادة، فيطول على أحدهم السجود، فيتكلم في صلاته في بعض الأحيان، وفي بعض الأحيان يشكو من طول السجود، ومن طول الركوع، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح في الركوع الواحد خمسين تسبيحة، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يمازح ذلك الأعرابي؛ لئلا يجد في نفسه استثقالاً لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيهلك؛ لأن كل من استثقل شيئاً من شأن النبي صلى الله عليه وسلم عرضة للهلاك، قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فدعاه فمازحه، فقال: ( بماذا كنت تدعو في السجود؟ فقال: سألت الله الجنة، واستعذت به من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ بن جبل . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حولها ندندن )، ذكر أنه لا يعرف إلا الجنة والنار؛ فكان يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار، (أما إني لا أحسن دندنتك)، والدندنة: الكلام المتصل الطويل، ( لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ بن جبل ، فقال: حولها ندندن ) أي: الذي نسأله خلاصته وأعلاه: أن نسأل الله الجنة، وأن يجيرنا من النار.

أن يكون الداعي على غير معصية متحلياً بآداب الدعاء

القيد الثالث: أن يكون الداعي على غير معصية في وقت دعائه، وأن يتحلى بآداب الدعاء، ومنها: الثناء الذي يسبقه، ومنها كذلك: التماس وقت الإجابة، وأوقات الإجابة منها: أدبار الصلوات، فقد جاء الحث على الدعاء في أدبارها، وأدبار السجود، حض الله على الدعاء في مثل هذا الوقت، وكذلك حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا معاذ ! إني أحبك، فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: ( اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ).

فالدعاء في دبر الصلاة مجاب، وكذلك أوقات أخرى: مثل الثلث الأخير من الليل، وهو وقت النزول كما سبق، ومثل ذلك: الدعاء عند رؤية الكعبة، وفوق الصفا، وفوق المروة، والدعاء بعد رمي الجمرة الأولى، وبعد رمي الجمرة الوسطى، والدعاء بمزدلفة عندما يكمل الإنسان حجه في الصباح في يوم العيد، فقد قال الله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:200-202].

فقد جزم بإجابة دعائهم قطعاً، فقال: أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:202]، وكذلك الدعاء في وقت رقة القلب، فإذا شعر الإنسان بالموعظة- كحالكم الآن -عندما نتحدث عن سجود النبي صلى الله عليه وسلم، وركوعه، وحاله، وحال أصحابه، لا شك أن منسوب الإيمان يزيد في النفوس، فتحسون ببصيص النور في البصائر عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا النور الذي تحسون به يحصل به رقة، وهي مقتضية للإقبال على الله، فيدعو الإنسان في ذلك الوقت، ومثل ذلك: في إدبار الثناء على الله تعالى أياً كان هذا الثناء، وأعظمه ما جاء في الفاتحة؛ ولذلك قال السيوطي رحمه الله:

فالعبد إن يحمد من يحق له ثم يجيء بالسمة المبجلة

فكلها محرك الإقبال لمالك الأمور في المآل

فيوجب الإقبال والخطابا بغاية الخضوع والتطلابا

للعون في كل مهم يقصد وقس عليه كل ما قد يرد

فهذه إذاً بعض آداب الدعاء التي لا بد من معرفتها.

القيد الأول منها: ألا يدعو الإنسان بإثم ولا قطيعة رحم، فمن دعا بإثم أو قطيعة رحم، فإن الله لا يستجيب له؛ لأنه عاص بدعائه، كيف يسأل الله الإقبال عليه، ثم يدعوه بأمر حرمه الله عليه، هذا سوء أدب مع الله، وصاحبه ليس من أهل الإجابة، وفي الحديث: ( يستجاب لأحدكم مالم يدع بإثم ولا قطيعة رحم )، فإذا سأل الله أن ييسر له صفقة دنيوية أو أن ييسر له شرب الخمر، أو أن ييسر له قتل معصوم الدم؛ فهذا حرام، ولا يستجيبه الله، وكذلك إذا دعا بقطيعة رحم، كما إذا دعا على ولده، أو قريبه؛ فهذا في الأصل قطيعة رحم، فإنه لا يستجاب إلا بلاء له، فتستجاب دعوة الوالد على ولده بلاء له وتقريعاً له، لكن الأصل نفيه عن ذلك وحرمته عليه لما فيه من قطيعة رحم، إلا إذا كان الولد مستحقاً لذلك بأن كان عاقاً بأبويه، فمن كان عاقاً بوالديه، فدعاؤهما عليه مستجاب، نسأل الله السلامة والعافية، وقد رأى عمر رضي الله عنه رجلاً من الأعراب ملوي اليمين، أي: يده اليمنى ملوية، فسأله فقال: ما الذي أصابك؟ فقال: دعوة أبي، فقال: وما ذاك؟ فقال: كنت امرأً عاقاً بأبي، فلما كبر في السن سألني يوماً لبناً، فضربته بعصا ولويت يده، فقال:

وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه

فأخرجني منها لقىً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه

فاستجاب الله دعاءه فيبست يده ملوية، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا مشاهد، وهو من الأمور العجيبة المتسلسلة، فإذا كان الإنسان براً بوالديه، فلا بد أن يبره أولاده وأهل بيته، وإذا كان عاقاً بأبويه، فلا بد أن يسلط الله عليه من أولاده وزوجاته من يكون عاقاً له، وهذا مستمر لا يمكن أن ينخرم، وقد جاء في الحديث: ( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم )، أمران متلازمان، إذا كان الإنسان عفاً عن النظر إلى نساء غيره، فإن الله سيرزقه عفة أهله، وإذا كان غير عف فلا بد أن يكون في أهله من ليس كذلك، نسأل الله السلامة والعافية، فهذا من الجزاء الدنيوي العاجل.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع