سلسلة منهاج المسلم - (33)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الخميس من يوم الأربعاء، ندرس كتاب: (منهاج المسلم)، وقد درسنا العقيدة بجميع أركانها، وانتقلنا إلى الباب الثاني في الآداب، ودرسنا الأدب مع الله عز وجل، وها نحن مع الأدب مع النفس.

أولاً: التوبة

وقد درسنا منه: أن من الأدب مع النفس: أن نتوب إلى الله عز وجل، وأن نحمل نفوسنا ونقودها إلى أن تتخلى عن كل ذنب ومعصية.

من باب تأديبنا لنفوسنا: حملها على التوبة من صغائر الذنوب ومن كبائرها، فالتوبة فريضة الله على كل مؤمن ومؤمنة، وقد دلت الأحاديث والآيات القرآنية على وجوب التوبة على كل مؤمن ومؤمنة، فكل من زلت قدمه وقال كلمة سوء عليه أن يتوب إلى الله، فيستغفره ويندم على فعله، ويعزم على ألا يعود إلى ذلك الذنب.

فكل من زلت قدمه فارتكب محظوراً، أو ترك واجباً عليه أن يتوب على الفور، ولا يؤخر التوبة أبداً، فإنها لا تؤخر، والتوبة: هي ترك ذلك الإثم، والعزم على عدم العودة إليه مع الاستغفار والندم المتواصلين.

ثانياً: المراقبة

[ثانياً: المراقبة] مما تؤدب به النفس بعد التوبة: المراقبة، أي: كون العبد يراقب ربه فيما يقول وفيما يعتقد، بل وفيما يضمر في قلبه. فهيا بنا نصغي إلى هذه الآداب آداب المراقبة، والله نسأل أن ينفعنا بها، وأن نتحلى بها بين المؤمنين [وهي أن يأخذ المسلم نفسه بمراقبة الله تبارك وتعالى، ويلزمها إياها ] أي: المراقبة [ في كل لحظة من لحظات الحياة، حتى يتم لها اليقين بأن الله مطلع عليها عالم بأسرارها، رقيب على أعمالها، قائم عليها وعلى كل نفس بما كسبت؛ وبذلك تصبح ] أي: النفس [مستغرقة بملاحظة جلال الله وكماله، شاعرة بالأنس في ذكره، واجدة الراحة في طاعته، راغبة في جواره، مقبلة عليه، معرضة عما سواه ] هذه هي المراقبة. زرقنا الله وإياكم إياها.

أدلة وجوب مراقبة النفس لتزكيتها وتطهيرها

قال: [ وهذا معنى إسلام الوجه في قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125] ] هذا الذي ذكرنا من المراقبة هو مدلول قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125].

[ وقوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22]، وهو عين ما دعا إليه تعالى في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235] ] عز وجل! [ وقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ] لم يكون الله رقيباً ولا تكون أنفسنا لنا رقيبة؟! لم لا نراقب أنفسنا ونكون عليها مراقبين؟!

[ وقوله سبحانه وتعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61] ] هذه الآيات كلها موجبة للمراقبة، فيجب أن نراقب أنفسنا ولا نهملها [ وقوله صلى الله عليه وسلم -في حديث جبريل في بيان الإحسان- : ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ] سأله: ما هو الإحسان يا رسول الله؟! فأجاب صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه )، إن كنت تذكر أو تصلي أو تتلو كتاب الله، أو تعمل أي عمل صالح، أو تتجنب عملاً فاسداً؛ في هذه الحال اعلم أن الله ينظر إليك، وعليه فراقبه أيضاً ( فإن لم تكن تراه ) لضعفك (فهو يراك) لقوته.

حال السلف الصالح مع المراقبة للنفس

قال: [ وهو نفس ما درج عليه السابقون الأولون ] هذه المراقبة هي التي درج عليها السابقون الأولون [ من سلف هذه الأمة الصالح، إذ أخذوا به أنفسهم حتى تم لهم اليقين، وبلغوا درجة المقربين، وها هي ذي آثارهم تشهد لهم: أولاً: قيل للجنيد رحمه الله ] الجنيد من عُبَّاد هذه الأمة وصلحاء السلف الصالح [ بم يستعان على غض البصر؟ ] حتى نغض أبصارنا ولا ننظر إلى نساء المسلمين، بم يستعان؟ دلنا يا جنيد ! [ قال: بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور له ] اعلم أن نظر الناظر إليك- وهو الله- أسبق من نظرك إلى المنظور له، وحينئذٍ تغمض عينك، إذا علمت أن الله ينظر إليك غضضت طرفك.

[ ثانياً: قال سفيان الثوري ] من سلف هذه الأمة [ عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية ] سفيان الثوري يقدم نصيحة لأبنائه وإخوانه، يقول: (عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية) وهو الله عز وجل. هل تخفى على الله خافية، ولو دسسناها في التراب، أو في أعماق الأرض، أو في بطون الجبال؟! ما تخفى عليه خافية. كيف تخفى عليه وهو خالقها؟! [ وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء ] عليك يا عبد الله! بالرجاء والطمع فيمن يملك الوفاء ويقدر عليه [ وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة ] وعليك الحذر ممن يملك أن يعاقب، أما الذي لا يملك أن يعاقب فلا يحذر، فـسفيان الثوري يوصي وينصح ويعلم ويقول: عليك بمراقبة الله الذي لا تخفى عليه خافية، فراقب الله، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء وهو الله الذي لا يعجزه شيء، فإذا وعد أنجز ووفى، وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة، أما الذي لا يستطيع أن يعاقب فلا يُحذر، والذي يملك أن يعاقب هو الذي يجب أن يُحذر، والذي يملك أن يعاقب- إذا شاء- هو الله جل جلاله وعظم سلطانه.

[ وقال ابن المبارك لرجل ] هذا من سادات هذه الأمة وسلفها الصالح [ راقب الله يا فلان! فسأله الرجل عن المراقبة ]ما هي؟ لما قال له: يا فلان! راقب الله، قال الرجل: ما هي المراقبة يا ابن المبارك ؟! [ فقال له: كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل ] ومن كان مع الله لا يعصيه ولا يستطيع ذلك، ولا يقبل على معصيته، فمادام العبد ملازماً للمراقبة فإنه يصبح كأنه مع الله في كل حركاته؛ ومثله لا يقع في معصيته سبحانه وتعالى، فـابن المبارك يقول لرجل وهو يدعوه وينصحه ويعظه: يا فلان! راقب الله. فسأله الرجل عن المراقبة: ما هي؟ فقال له: كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل، والذي حاله هكذا لا يجرم ولا يفسق ولا يرتكب محظوراً، وإنما يفعل ذلك الغافل والناسي والمعرض، أما الذين هم مع الله فلا يعصونه.

[ رابعاً: قال عبد الله بن دينار : ] من سلف الأمة وهو تابعي [ خرجت مع عمر بن الخطاب إلى مكة، فعرسنا ببعض الطريق ] أي: نمنا آخر الليل ببعض الطريق [ فانحدر علينا راع من الجبل ] من رعاة الغنم انحدر عليهم من الجبل [ فقال له عمر : يا راعي! بعنا شاة من هذه الغنم. قال الراعي: إنه مملوك ] لا أملك أنا، إنما أنا مملوك [ فقال له عمر : قل لسيدك: أكلها الذئب ] فسيده لا يرى ذلك، وعمر يمتحنه ويختبره [ فقال العبد: أين الله؟ ] كيف أقول لسيدي: أكلها الذئب والذئب لم يأكلها؟! أين الله؟ أليس الله يراني؟! ماذا أقول؟! [ فبكى عمر ، وغدا على سيد الراعي ] ذهب إلى سيد الراعي [ فاشتراه منه وأعتقه ] اشترى العبد المملوك وأعتقه؛ لأنه وعظه بقوله: أين الله؟! كيف أقول لسيدي: أكلها الذئب؟! أليس الله معنا؟!

[ وحكي عن بعض الصالحين ] جعلنا الله وإياكم منهم أجمعين [ أنه مر بجماعة يترامون ] مر بجماعة من الناس يترامون بالسهام؛ للتدريب على الرماية [ وواحد جالس بعيداً والقوم يلعبون، فتقدم إليه وأراد أن يكلمه، فقال له: ذكر الله أشهى ] أطيب عندي وأحب إلي من أن تكلمني أنت [ قال: أنت وحدك؟ فقال: معي ربي وملكاي ] سأله: أنت وحدك هنا؟ فقال: معي ربي وملكاي عن يميني وشمالي [ قال له: من سبق من هؤلاء؟ ] أي: المترامون [ فقال: من غفر الله له ] من سبق من هؤلاء؟ من فاز من اللاعبين للكرة؟ الجواب: من غفر الله له، هو الذي فاز وليس صاحب الجائزة المادية الهابطة [ قال: أين الطريق؟ فقال: نحو السماء. وقام ومشى ] الطريق نحو السماء ذاك الطريق الصحيح. وهذه موعظة عجيبة! وهكذا كان المؤمنون!

قال: [ وحكي أن زليخا ] زليخا امرأة العزيز، وقد أصبحت بعد ذلك امرأة يوسف الصديق [ لما خلت بيوسف عليه السلام بحجرتها، قامت فغطت وجه صنم لها بثوب ] لما خلت بيوسف في الحجرة ليس معهما أحد؛ استحت من صنمها؛ فجاءت بقطعة قماش وغطت الصنم؛ حتى لا يراها؛ حياءً منه، مع أنها مشركة لكنها عملت هكذا [ فقال يوسف عليه السلام: ما لك؟ أتستحين من مراقبة جماد ولا أستحي من مراقبة الملك الجبار؟! ] فوعظها إذ كانت جاهلة [ وأنشد بعضهم ] أي: بعض الصالحين في المراقبة لله تعالى قوله:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ]

ألا وهو الله.

[ ولا تحــسبن الله يغفل سـاعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب

ألم تر أن اليوم أسرع ذاهــب وأن غـداً للناظرين قريب ] ثم يتم الجزاء بعد الحساب. هذه هي المراقبة، إذاً: مما نؤدب أنفسنا به: أولاً: التوبة. ثانياً: المراقبة. ثالثاً: المحاسبة.

ثالثاً: المحاسبة

[ ثالثاً: المحاسبة ] وهي أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب [ وهي أنه لما كان المسلم عاملاً في هذه الحياة ليل نهار على ما يسعده في الدار الآخرة، ويؤهله لكرامتها ورضوان الله فيها ] المحاسبة هي أنه لما كان المسلم عاملاً في هذه الحياة ليل نهار، وفينا من يعمل إما بالطاعة وإما بالمعصية دار عمل [ على ما يسعده في الدار الآخرة ويؤهله لكرامتها ورضوان الله فيها، وكانت الدنيا هي موسم عمله؛ كان عليه أن ينظر إلى الفرائض الواجبة عليه كنظر التاجر إلى رأس ماله، وينظر إلى النوافل نظر التاجر إلى الأرباح الزائدة على رأس المال، وينظر إلى المعاصي والذنوب كالخسارة في التجارة، ثم يخلو بنفسه ساعة من آخر كل يوم يحاسب نفسه فيها على عمل يومه، فإن كان نقصاً في الفرائض لامها ووبخها وقام إلى جبره في الحال ] جبر ذاك الكسر [ فإن كان مما يقضى قضاه، وإن كان مما لا يقضى جبره بالإكثار من النوافل، وإن رأى نقصاً في النوافل عوض النقص منها وجبره، وإن رأى خسارة بارتكاب المنهي استغفر وندم وأناب إلى الله، وعمل من الخير ما يراه مصلحاً لما أفسد، هذا هو المراد من المحاسبة للنفس، وهي إحدى طرق إصلاحها وتأديبها وتزكيتها وتطهيرها وأدلتها ما يلي.. ].

وقد درسنا منه: أن من الأدب مع النفس: أن نتوب إلى الله عز وجل، وأن نحمل نفوسنا ونقودها إلى أن تتخلى عن كل ذنب ومعصية.

من باب تأديبنا لنفوسنا: حملها على التوبة من صغائر الذنوب ومن كبائرها، فالتوبة فريضة الله على كل مؤمن ومؤمنة، وقد دلت الأحاديث والآيات القرآنية على وجوب التوبة على كل مؤمن ومؤمنة، فكل من زلت قدمه وقال كلمة سوء عليه أن يتوب إلى الله، فيستغفره ويندم على فعله، ويعزم على ألا يعود إلى ذلك الذنب.

فكل من زلت قدمه فارتكب محظوراً، أو ترك واجباً عليه أن يتوب على الفور، ولا يؤخر التوبة أبداً، فإنها لا تؤخر، والتوبة: هي ترك ذلك الإثم، والعزم على عدم العودة إليه مع الاستغفار والندم المتواصلين.