بين السياسة والأدب:
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
إنجلترا في مرآة حافظ
للشيخ محمد رجب البيومي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ونعود ثانية إلى حافظ، فنذكر انه استقبل السير غورست خليفة اللورد كرومر بقصيدة حافلة، نطق فيها بآلام الشعب وآماله وعاوده السخط على العميد الراحل، فسلقه بلسان حاد قاتل، ثم انتقل به الحديث إلى عدو اللغة العربية (دنلوب) وما ارتكبته في دار المعارف من حماقة ونزق، فقال.
رمى دارة المعارف بالرزايا ... وجاء بكل جبار عنيد يدل بحوله ويتيه تيها ...
ويعبث بالنهى عبث الوليد فبدد شملها وأدال منها ...
وصاح سبيلك أن تبيدي فليت كرومرا قد دام فينا ...
يطوق بالسلاسل كل جيد لننزع هذه الأكفان عنا ...
ونبعث في العوالم من جديد وقد كان شاعر النيل صادقاً حين عبر في هذه القصيدة عما يضمره المصريون للمحتلين من غضب وغيظ.
وكيف نغرت في النفوس جراح دامية لا تكاد تندمل حتى يهيجها الشر مرة أخرى فتنفث ما بها من قيح وصديد، اسمعه إذ يقول: جراح في النفوس نغرن نغرا ...
وكن قد اندملن على صديد إذا ما هاجهن أسى جديد ...
هتكن سرائر القلب الجليد فتح غضاضة التاميز عنا ...
كفانا سائغ النيل السعيد أرى أحداثكم ملكوا علينا ...
بمصر موارد العيش الرغيد أكل موظف منكم قدير ...
على التشريع في ظل العميد إذ يقونا الرجاء فقد ظمئنا ...
بعهد المصلحين إلى الورود وإذا كان اللورد السابق قد ارتكب جرائمه في وضح النهار فإن السير غورست قد تقنع بالمكر والخديعة فأظهر كثيراً من البشر والابتسام، بينما أخذ ينفث سمومه القاتلة في دام الظلام ففرق بين العنصرين الوطنين، وأعاد النعرة الطائفية جذعة، ثم اتفق مع أولياء الأمر على محاربة المخلصين من أشياع الحزب الوطني وما لبث المصريون أن عرفوا نيته الخبيثة، فقام حافظ يندد بهذه الملاينة الماكرة، وصاح في ذكرى مصطفى كامل يقول: وللسياسة فينا كل آونة ...
لون جديد ورأي ليس يحترم بينا ترى جمرها تخشى ملامسه ...
إذا به عند لمس المصطلى فحم تصغي لأصواتنا طوراً لتخدعنا ...
وتارة يزدهيها الكبر والصمم فمن ملاينة أستارها خدع ...
إلى مصالبة أستارها وهم إذا سكتنا تناجوا تلك عادتهم ...
وإن نطقنا تنادوا: فتنة عمم ماذا يريدون لا قرت عيونهم ...
إن الكنانة لا يطوى لها علم قالوا لقد ظلموا بالحق أنفسهم ...
والله يعلم أن الظالمين هم وأنت ترى شاعر النيل في أبياته المتقدمة غير قاس في هجومه وله العذر في ذلك، فقد كان قانون المطبوعات قد بعث من مرقده إبان ذلك، فقيد حرية الرأي والكتابة، وعملت وزارة بطرس غالي باشا - بإيعاز من غورست - على محاربة الكرام الكاتبين والشعراء النابهين من أبناء الوطن المخلصين، ولم تفلح الضجة الكبيرة التي قام بها الشعب في وجه هذا المشروع الخطير، فأضطر حافظ إلى الملاينة قليلاً بعد أن أصبح القانون ضربة لازب، وبعد أن حاربه في جد وصرامة فقال. كانت تواسينا على آلامنا ...
صحف إذا نزل البلاء وأطبقا فإذا دعوت الدمع فاستعصى بكت ...
عنا أسى حتى تفض وتشرقا كانت لنا يوم الشدائد أسهماً ...
نرمي بها وسوابقاً عند اللقا مالي أنوح على الصحافة جازعاً ...
ماذا ألم بها وماذا أحدقا قصوا حواشيها وظنوا أنهم ...
أمنوا صواعقها فكانت أحذقا كانت صماماً للنفوس إذا غلت ...
فيها الهموم وأوشكت أن تزهقا كم نفست عن صدر حر واجد ...
لولا الصمام من الأسى لتمزقا وفي النهاية قد لجأ حافظ إلى الصراحة التامة في موقفه بعد أن عيل صبره، فحذر المصريين من بسمات خورست وندد بوعوده الكاذبة، وأرتاب في ملاينة هذا الثعلب الماكر فهو يقول في شأنه. فكم ضحك العميد على لحانا ...
وغر سراتنا منه ابتسام فلا تتقوا بوعد القوم يوماً ...
فإن سحاب سادتهم جهام وخافوهم إذا لانوا فإني ...
أرى السواس ليس لهم ذمام فما سادوا بمعجزة علينا ...
ولكن في صفوفهم انضمام وقد أراد الله لمصر بعض الخير فمات السير خورست واستراح الشعب من حبائله الصائدة، ولكن حافظاً لم ينتظر في دنيا الحرية كثيراً بعده حتى يواصل حملاته العادلة، بل انتقل إلى العمل في دار الكتب المصرية، وللوظيفة قيود تكبل بها الألسنة الصارخة لا سيما إذا كان صاحبها ذا ضرورة إلى ما تدره عليه من أجر، فألجم الشاعر فاه عن السياسة، وحطم قيثارته الشادية، وتلك خسارة فادحة غرمها حافظ أكبر غرم، كما قابلها عشاق أدبه الرفيع بهم زائد وأسف وجيع. وقد يقول قائل: لماذا أمسك حافظ عن النظم السياسي كموظف في الحكومة؟ مع إن زملاءه الموظفين من الشعراء النابهين كعبد الحليم المصري، وأحمد نسيم، ومحمد الهراوي، وعبد المطلب قد واصلوا العزف على أوتارهم السياسية، دون أن يقف في طريقهم واقف؟! وأنا أقول عن الرقابة كانت موجهة إليه أكثر من غيره لما يغرفه أولوا الأمر من تأثيره القوي في الجمهور، وإلا فهل كان من المعقول أن تندلع الثورة المصرية، وينفى الزعماء، ويعتقل الشباب، وتنشق الكلمة وتختلف الأحزاب؛ وشاعر النيل ساكت عن ذلك كله بإرادته ومشيئته! كلا ثم كلا! بل إنه نظم قصائد حية، ونشرها غفلاً من إمضائه كما وزعت بعض المنشورات السياسية تحمل قلائده اللامعة، وجميع ما قاله في هذه الآونة لم ينشر على الناس عامة إلا بعد استقرار الحالة في مصر، وقد أشار إلى ذلك ديوانه في مفتتح بعض القصائد، كما أنه كان ينتهز الظروف التي تحميه من العقاب فينفض ما في وعائه، واقرأ قصيدته التي قالها في تهنئة سعد زغلول بنجاته سنة 1924 فستجده يقول. لا تقرب التاميز وأحذر ماءه ...
مهما بدا لك أنه معسول الكيد ممزوج بأصفى مائه ...
والختل فيه مذوب مصقول كم وارد يا سعد قبلك ماءه ...
قد عاد منه وفي الفؤاد غليل القوم قد ملكوا عنان زمانهم ...
ولهم روايات به وفصول ولهم أحاييل إذا ألقوا بها ...
قنصوا النهى فأسيرهم مخبول ولكل لفظ في المعاجم عندهم ...
معنى يقال بأنه معقول نصلت سياستهم وحال صباغها ...
ولكل كاذبة الخضاب نصول جمعوا عقاقير الدواء وركبوا ...
ما ركبوه وعندك التحليل وهذه نفثة حارة ترى لها نظائر عديدة في مرائيه الخالدة لزعماء النهضة المصرية، وهي - على كل - قد أفصحت عن لواعجه الكظيمة، وإن لم تكن الغرض الأول الذي قصد إليه الشاعر، وإنما مهد لها فاحسن التمهيد. هكذا وقد مكث حافظ في منصبه الحكومي عشرين عاماً خسر فيها الشعر السياسي كثيراً من دوره، ثم أحيل إلى المعاش قبل وفاته بأربعة أشهر فقط، وما كاد يستنشق نسيم الحرية حتى نظم في هذه الأيام المعدودة قصائد عامرة من قوله البليغ، ندد فيها بأساليب الدخلاء، وصنائعهم من المصريين، وقد بلغت إحدى قصائده مائتي بيت!! ولو مد الله في أجله لبل الصدى ونقع الغليل على أنه - رحمه الله - لم يتعمل مطلقاً في شعره الأخير، بل كان ينظمه في سرعة تشبه الارتجال، كقوله في مخاطبة المندوب السامي. ألم تر في الطريق إلى كياد ...
تصيد البط بؤس العالمينا ألم تلمح دموع الناس تجري ...
من البلوى ألم تسمع أنينا ألم تخبر بني التاميز عنا ...
وقد بعثوك مندوباً أمينا بأنا قد لمسنا الغدر لمسا ...
وأصبح ظننا فيكم يقينا كشفنا عن نواياكم فلستم ...
وإن برح الخفاء محايدينا ضربتم حول قادتنا نطاقاً ...
من النيران يعيي الدارعينا على رغم المروءة قد ظفرتم ...
ولكن بالأسور مصفدينا ولعل القارئ قد نظر من وراء هذه الأبيات الحزينة روح قائلها اليائس، ولا جرم فهي زفرة حارة صعدت من صدر ضيق يشعر أنه في عهده الأخير. ولا نختم هذه البحث دون أن نشير إلى الأبيات التي مدح بها حافظ أخلاق الإنجليز أثناء قيام الحرب العالمية الأولى فقد خدع رحمه الله - وكان طيب القلب - بما كانوا يصفون به أنفسهم من دفاع عن الحرية، وتضحية في سبيل المبادئ الإنسانية، فقال يخاطب السلطان حسين كامل. ووال القوم انهموا كرام ...
ميامين النقيبة أين حلوا وليس كقومهم في الغرب قوم ...
من الخلاق قد نهلوا وعلوا فما درهم حبال الود وأنهض ...
بنا فقيادنا للخير سهل وما لبث الشاعر أن أدرك خطأه الواضح.
حيث صدق دعايتهم الجوفاء، فانبرى يشهد بأخلاقهم مستغفراً عن ذنبه السالف وآخر ما قاله في ذلك. لا تذكروا الأخلاق بعد حيادكم ...
فمصابكم ومصابنا سيان جاربتمو أخلاقكم لتحاربوا ...
أخلاقنا فتألم الشعبان ثم استسلم رحمه الله إلى نومه الطويل (وبعد) فقد كان الأولون من المؤرخين، يذكرون الحادث السياسي مشفوعاً بما قاله الشعراء فيه، وقد رأينا كثيراً ممن أرخوا فترة الاحتلال الداجية قد تنكبوا عن هذا الطريق، فلم يسجلوا ما ذاع به الشعراء في هذه المحنة القاسية، على ما فيه من ترويح للباحث، وإمتاع لروحه الملول، ولك أن تقدر سرور القارئ حين يرى بجانب تاريخ كرومر نفثة حارة لشاعر قومي كمحمد حافظ إبراهيم. (الكفر الجديد)