أرشيف المقالات

وَهْمُ الاستقلال

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
خلال القرون الخمسة الأخيرة وبُعَيد سقوط غرناطة شهد العالم تحولات إستراتيجية؛ إذ خرجت أوروبا من قوقعتها وانطلقت في حملة مسعورة للسيطرة على مقدَّرات العالم ومحاولة الوصول للشرق بصورة مباشرة، وغُلف مشروع الاستعمار هذا بشعارين رئيسيين: الأول صليبي عسكري، والآخر تجاري.
وكان عنوان الاكتشافات الجغرافية مبرِّراً للسيطرة والاحتلال، ولم يكن الوصول إلى العالم الجديد إلا أثراً من آثار محاولة الوصول إلى الهند، وجرى تنافس أوروبي شرس للسيطرة على موارد العالم الجديد واستخدامها في الهيمنة على العالم القديم.
ولسائل أن يسأل: ماذا جرى لشمال إفريقيا في تلك الفترة؟ وكيف تطورت الأحداث في المنطقة إذا علمنا أن سقوط غرناطة وعملية طرد المسلمين من الأندلس التي استمرت مئة سنة صاحَبَها اجتياح إسباني وبرتغالي لسواحل شمال إفريقيا من مدينتي سبتة ومليلة في المغرب مروراً بسواحل الجزائر وتونس إلى طرابلس الغرب حيث تحولت المنطقة إلى بؤرة صراع شرس بين القوى الأوروبية الصاعدة والقوى المحلية التي سارعت إلى الاستنجاد بالدولة العثمانية التي تمكنت من تحرير سواحل ليبيا وتونس والجزائر التي دخلت كلُّها تحت سيادة الدولة.
أما المغرب فقد تحالف مع العثمانيين وتم إيقاف التمدد الصليبي ولم يبقَ إلا مدينتا سبتة ومليلة.
ومع ضعف إسبانيا والبرتغال استقرت الأوضاع في المنطقة وتمَّت إدارة المنطقة عن طريق حكومات محلية يديرها البايات كـ (باي الجزائر وباي تونس) تَدين بالولاء للدولة العثمانية وتخضع لها فعلياً أو اسمياً.
ولكن مع قيام الثورة الفرنسية ومشروع نابليون للسيطرة على أوروبا والعالم، دخلت مصر وشمال إفريقيا في بؤرة الصراع العالمي من جديد، ومن الجدير بالذكر أن القرن التاسع عشر - مع تنامي قوة أوروبا بسبب الثورة الصناعية - شهد عودة مشروع السيطرة على شمال إفريقيا وتم إدخال تونس والجزائر تحت الاحتلال الفرنسي بطريقتين مختلفتين:
ففي تونس - ومثلها مصر - أُغرق البلدان بالديون ونشرتْ ثقافة الإسراف بالمظاهر الكاذبة، ومع الانهيار الاقتصادي المفتعل تم فرض الوصاية الاقتصادية بدعوى حفظ حقوق الدائنين، ومع الوقت توسعت الوصاية لتشمل السياسة وانتهت باحتلال عسكري تدريجي، وكانت كلُّ ضائقة تمر بها الدولة العثمانية فرصةً لتقوية نفوذ المحتلين.
أما الجزائر فقد استغلت حكومتها المحلية مدَّة الحصار الأوروبي على فرنسا أيام نابليون لتقوية العلاقات الاقتصادية، وكانت الديون الفرنسية المستحقة للجزائر عاملاً في افتعال خلاف بين باي الجزائر والسفير الفرنسي ومن ثَمَّ قيام فرنسا بغزو الجزائر عسكرياً، وجرى ذلك بالتزامن مع إشعال حرب البلقان الأولى التي شملت المنطقة من صربيا إلى اليونان، وتم بضربة واحدة سلخ صربيا واليونان واحتلال الجزائر، ودخلت الجزائر وتونس في مرحلة مظلمة من الاحتلال ومحاولة الفَرْنَسة ومسخ الهوية.
وفي الحرب العالمية الأولى تم سوق شعوب المنطقة للمحرقة الأوروبية، وحتى نعلم عِظَم المأساة لنتخيل عدد من قُتِل من الجزائريين والسنغاليين تحت العلم الفرنسي إذا علمنا أن بلداً صغيراً كتونس خسر ثمانين ألفاً من شبابه لدعم المجهود الحربي الفرنسي، وبعد الحرب وسقوط الدولة العثمانية ابتدعت الدول المستعمِرة نظام الوصاية (وهو تكييفٌ قانوني لاحتلال البلدان وإعادة تشكيلها)؛ وهو ما يعني التحكم الأجنبي مع وجود مظاهر سيادة محلية كاذبة ووهمية: فمثلاً في تونس بقي الباي والحكومة والأحزاب ولكنها كلها سُلطتُها محدودة، والمهم أن البلد يتم ربطه اقتصادياً وثقافياً بفرنسا مع محاربة هوية البلد وثوابته الوطنية بصورة تدريجية، وكانت فترة ما بين الحربين فترة قاتمة على القوى الوطنية؛ فقد خرجت فرنسا من الحرب منتصرة ظاهرياً فهي تملك أقوى جيش بريٍّ على مستوى العالم ولكن قدَّر الله أن تقومَ الحرب العالمية الثانية ويحتلَّ الألمانُ فرنسا، وهو ما مثَّل إذلالاً للكبرياء الفرنسي وبداية تقزُّم فرنسا؛ فبعد الحرب وصعود الاتحاد السوفييتي وأمريكا إلى المقدمة وهزيمة فرنسا المدوية في فيتنام عام 1954م تنامت حركات التحرر في الجزائر وتونس التي جمعت بين الحَراك السياسي والعمل الثوري العسكري، وهنا بدأت فرنسا تعمل على تقليل الخسائر ومحاولة إمساك خيوط اللعبة وكانت أول لعبة هي طرح مشروع الاستقلال الداخلي.
وحتى نعرف نظرة الفرنسيين لشعوب المنطقة سنعرض كلمة رئيس وزراء فرنسا أمام محمد الأمين باي تونس يعلن فيها نيَّة فرنسا منح تونس استقلالها الداخلي قائلاً: «إن درجة التطور التي بلغها الشعب التونسي والتي يحق لنا أن نبتهج بها، لا سيَّما وقد ساهمنا كثيراً في ذلك، وكذلك قيمة نخبته اللافتة للنظر، تبرر قيام ذلك الشعب بإدارة شؤونه بنفسه.
وبناء على ذلك فإننا مستعدون لإحالة الممارسة الداخلية للسيادة إلى شخصيات ومؤسسات تونسية»
.
مع ملاحظة أن المتكلم يساريٌّ؛ فماذا لو كان يمينيّاً؟  
سارع بورقيبة زعيم الحزب الحر الدستوري بتأييد المفاوضات بين فرنسا وتونس من أجل الاستقلال الداخلي طالباً من المقاومين المسلحين الذين كانوا يسمَّون آنذاك بـ (الفلاقة) بالنزول من الجبال، وتسليم أسلحتهم.
أما الزعيم صالح بن يوسف الموجود آنذاك بسويسرا والذي كان أميناً عامّاً للحزب الحر الدستوري، فقد عبَّر عن معارضته التامة لاتفاقيات الاستقلال الداخلي متهماً بورقيبة بـ «الخيانة الوطنية»، وحاثّاً المقاومين على مواصلة الكفاح المسلح من أجل الحصول على الاستقلال التام ليس بالنسبة لتونس فحسب؛ وإنما لجميع البلدان المغاربية.
ومع ذلك وُقِّعت الاتفاقيات في شهر أيار/ مايو عام 1955م، وعاد بورقيبة إلى تونس وتم تصويره بطلاً.
واستفاد بورقيبة من الاستقلال المفاجئ للمغرب الذي حصل في شهر آذار/ مارس عام 1956م ليعيد فتح المفاوضات التي نتج عنها في 20 آذار/ مارس عام 1956م استقلال تونس، وفي 25 تموز/ يوليو 1957م ألغيت الملكية بإجماع المجلس التأسيسي وانتُخب بورقيبة رئيساً للجمهورية وأعطى منذ الأشهر الأولى - وحتى قبل قيام الجمهورية - الأولوية للقيام بإجراءات جذرية في المجتمع التونسي؛ ففي شهر آب/ أغسطس 1956م أصدرت مجلة الأحوال الشخصية التي منعت تعدد الزوجات وأوكلت للمحاكم النظر في طلبات الطلاق ، بينما حُلَّت الأوقاف ووحِّد القضاء وَفْقَ القوانين الفرنسية، وفي عام 1958م ضُمَّ نظام التعليم الزيتوني الديني إلى التعليم العمومي الذي أصبح مجانياً وإلزامياً، وفي الشهر نفسه بعث الجيش الوطني، وقبل ذلك في شهر نيسان/ أبريل 1956م تمَّت تونسة الأمن.
وعلى المستوى السياسي تواصلت ملاحقة اليوسفيين وأقيمت لهم محاكمات أُصدرَت فيها عدة أحكام بالإعدام، وفي غرة حزيران/ يونيو 1959م أصدر أول دستور للجمهورية وانتخب بورقيبة في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه رئيساً لولاية من 5 سنوات بنسبة فاقت الـ 99%، وحصلت لوائح الحزب الحر الدستوري الجديد على كل مقاعد مجلس الأمة الذي أُحدِث مكان المجلس التأسيسي.
وفي عام 1961م تمَّت تصفية صالح بن يوسف وفي عام 1962م مُنع الصوم واقتُرح أن يقضي العامل الأيام التي أفطرها عندما يُحال إلى التقاعد أو في أوقاتٍ أخرى، كما حاول بورقيبة ثني التونسيين عن زيارة الأماكن المقدسة وأداء مناسك الحج في السعودية لما فيه من إهدارٍ لمقادير مالية من العملة الصعبة، ودعا إلى التبرك بمقامات الأولياء والصالحين كأبي زمعة البلوي وأبي لبابة الأنصاري بدلاً من الحج، وجاء ذلك في خطابٍ ألقاه في صفاقس يوم 29 نيسان/ أبريل عام 1964م.
وإذا علمنا أن القوات الفرنسية لم تنسحب من تونس إلا في عام 1963م فلن نستغرب التتابع السريع للقرارات التي أتاحت له التسلط السياسي والمبالغة في مصادمة ثوابت الناس، ولا شك أنه كان يبني تحت حماية فرنسا ما يمكن تسميته نظام الاحتلال الداخلي وعاشت تونس مرحلة حكم دكتاتوري متوحش، وبعد عشرين سنة انتهى عصر بورقيبة بانكشافه بثورة الخبز واستُبدل به بن علي وهو نسخة مطابقة من بورقيبة، ومع سقوطه ودخول البلد في مرحلة ديمقراطية ظاهرية عاد بورقيبة يطل من جديد ولكن بشخصٍ يتكلم العربية الفصحى إلا أن مواقفه الحقيقية تبرز عندما يتكلم الفرنسية فهو لا يرى أن فترة الوجود الفرنسي كانت احتلالاً! ومع إجراءاته الأخيرة نكتشف أن هناك محاولة فرنسية لإعادة العجلة إلى الوراء ولكن أمريكا تحاول التدخل، ومع أنها لم تحسم أمرها: هل ما حدث انقلاب أو تصحيح للمسار؛ فرئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي يتصل بالرئيس ويطلب منه تشكيل الحكومة وإعادة البرلمان في أسرع وقت ممكن؛ وهو ما يعني بالرمز السياسي: أنك أحسنتَ صنعاً ولكن لسنا متأكدين من نجاحك! وتأتي حادثة اعتقال الصحفيين الأمريكيين ومن ثَمَّ مقابلتهم للرئيس الذي أكد لهم باللغة العربية أنه ليس دكتاتوراً وقرأ عليهم مقاطع من الدستور الأمريكي باللغة الفرنسية، وعندما أراد الصحفيون طرح أسئلةٍ اعتذر الرئيس وودعهم متمنياً لهم طيب الإقامة وخرجوا من عنده ولعلهم كانوا يتسائلون كما نتسائل نحن: هل حقاً انسحبت فرنسا؟
 

شارك الخبر

المرئيات-١