سلسلة منهاج المسلم - (31)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! فإننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ليلة الخميس من يوم الأربعاء ندرس كتاب منهاج المسلم، وها نحن في باب الآداب، وعرفنا الأدب مع الله ومع كلام الله، والآن: [ الفصل الرابع: الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يشعر المسلم ] المسلم بحق [ في قرارة نفسه بوجوب الأدب الكامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ] المسلم الحق يشعر في قرارة نفسه بوجوب الأدب عليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وذلك للأسباب التالية:]

السبب الأول: إيجاب الله للأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم على كل مؤمن ومؤمنة

[ أولاً: أن الله تعالى قد أوجب له الأدب عليه الصلاة والسلام على كل مؤمن ومؤمنة ] أوجب الله لرسوله الأدب على كل مؤمن ومؤمنة [ وذلك بصريح كلامه عز وجل، إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] ] لا تقدم رأيك ولا قولك ولا عنصرك ولا علمك ولا مكانك بين يدي الله ورسوله، أولاً قال الله ثم قال رسوله، وبعد ذلك قل إن كان لك القول، أما أن تقدم قولك أنت أو رأيك على قول الرسول ورأيه فلا، وهذا النهي يقتضي التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1].

[ وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] ] من سوء الأدب أن ترفع صوتك فوق مستوى صوت النبي صلى الله عليه وسلم، لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر يسار الرسول كأنما يضع فمه في أذنه، ثم يقول له: كذا وكذا [ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2] ] أنتم فيما بينكم شأنكم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذا المنزلة العالية والمرتبة السامية؛ يجب أن تكون أصواتكم دون صوته منخفضة، وطبق هذا أولئك الأصحاب وفعلوه [ وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات:3] ] أي: يخفضونها [ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3] ] هنيئاً لهم! الآن علم نفسك كأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين يديك وأنت في مسجده، فلا ترفع صوتك في مستوى يكون فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم [ وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] ] يأتي من عند الباب: يا محمد! فهؤلاء بدو ما عرفوه؛ لذلك أدبهم الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [الحجرات:4-5] اجلس عند الباب وانتظر، حتى إذا خرج قل: كذا وكذا.

كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من أدبه: إذا جاء ليسأل أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً يجلس على العتبة وينتظر حتى يخرج، لا يقرع عليه الباب ليسأله، وتأتي الريح بالغبار فترميه على وجهه وهو جالس عند الباب، لا يستطيع أن يقرع الباب على أبي بكر وعمر ويقول: أريد كذا وكذا. أخذوا هذا من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:4-5]. وقال جل جلاله: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] ] لما تناديه لا تناده: يا محمد! أو يا أحمد! كما تنادي يا عمر! ويا علي! لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]، ولكن قولوا: يا رسول الله! يا نبي الله! والآن لا ينبغي أن تقول: يا محمد، بل قل: يا رسول الله! [ وقال أيضاً: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62] ] إذا كان تجمعهم حلقة في درس أو موعظة أو كذا فلا يتسلل ويخرج، بل لا بد أن يطلب الإذن، وإذا كان الأمر ذا شأن وخطر كالجهاد وما إلى ذلك فإن المنافقين كانوا يتسللون؛ فنزلت هذه الآية: وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ [النور:62] يجمعهم لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62] لا يذهبوا حتى يستأذنوه، يطلبوا الإذن منه، فإن أذن لهم وإلا بقوا، ما قاموا ولا خرجوا ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور:62]، والعكس ما آمنوا.

فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62] من شئت تأذن له فأذن، ومن لم تشأ لا تأذن؛ لما يترتب عليه من المفسدة أو المصلحة. هذه آداب النبي صلى الله عليه وسلم يقررها الله عز وجل.

[ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12] ] وما معنى المناجاة؟ تكلمتم معه سراً وفي خفاء [ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12] ] إذا أردت أن تتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدك فتصدق بريال أو عشرة وادخل لتتكلم، وهذه فاز بها علي بن أبي طالب ، فإنه لما نزلت هذه الآية أحجموا وما استطاعوا أن يتصدقوا ليتكلموا، فكان علي تقدم بصدقته وتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنسخها الله عز وجل [ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12] ] ونسخها الله عز وجل؛ وذلك لأنه لولا هذه لكان كل واحد يقول: أنا أتكلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل واحد يريد أن يخلو بالرسول حتى ينظر إلى وجهه فضلاً عن أن يتكلم معه، فكيف يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟! إنه بشر لا يستطيع أن يقابل كل واحد ويخلو به أربعاً وعشرين ساعة، إذ إن الوقت لا يتسع، فلما أقبلوا ذلك الإقبال أدبهم الله، فرضها بالصدقة أولاً فأحجموا وتأخروا، ولما علم صدقهم نسخها، وعلمهم ألا يتزاحموا على باب الرسول صلى الله عليه وسلم، وألا يطلبوه وكل واحد يناديه على حدة تأدباً معه صلى الله عليه وسلم.

السبب الثاني: أن الله تعالى قد فرض على المؤمنين طاعته وأوجب محبته

[ ثانياً: أن الله تعالى قد فرض على المؤمنين طاعته، وأوجب محبته، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [محمد:33] ] طاعته واجبة - فرض- على كل مؤمن ومؤمنة، فإذا أمرك أو نهاك فيجب أن تذعن وأن تستسلم [ وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63] ] هذه عامة إلى يوم القيامة، والمقصود بالأمر: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ] فالذين يتعمدون معاكسة الرسول ومخالفة أمره قد يقعون في الشرك -والعياذ بالله- والردة، وقد يصيبهم العذاب الأليم، وتأملوا هذه الآية الكريمة: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] فسرها الإمام أحمد بالشرك والعياذ بالله، وذلك أن يطبع على قلبه وينكر الإسلام ويموت كافراً. فهل عرف إخواننا هذا؟ لو عرفوه ما عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحدوه وحاربوه [ وقال سبحانه وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ] ومن قال: لا، كفر. ما أعطاك الرسول صلى الله عليه وسلم خذه، أي: ما أذن فيه وأباحه وجوزه لك فخذه، وما نهى عنه فلا تطلبه، فإذا نهى عن هذا القول فلا نقوله، نهى عن هذا الزي فلا نتزي به، نهى عن هذه الكلمة فلا نقولها، وهكذا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] [ وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] ] من أراد أن يظفر بحب الله تعالى له فليتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحببه الله، هذه آيات نزلت في وفد نجران، ووفد نجران من النصارى المسيحيين، جاء ستون فارساً على خيولهم، واستضافهم الرسول صلى الله عليه وسلم ووزعهم على أهل المدينة، وقد جاءوا يجادلون أو يحاجون، فمن جملة ما قالوا: نحن ما عبدنا عيسى إلا حباً في الله عز وجل، فعيسى عبده فأحببناه من أجله؛ ولأننا نريد أن يحبنا الله عز وجل عبدنا عيسى وأمه؛ فأنزل الله هذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ [آل عمران:31] فتريدون أن يحبكم فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فقصرهم على مشيهم وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فهم كفار مبغوضون لله، ومن ثَمَّ دلت هذه الآية إلى يوم الدين: أن من أراد أن يحبه الله ليس أن يقوم الليل ويصوم النهار فقط، بل يتبع رسول الله فيحبه الله، يتبعه في زيه، في أكله، في شربه، في لباسه، في معاملاته، في عباداته، في ذكره، في دعائه، يتعلم ذلك ويمشي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يلبث أن يحبه الله تعالى، ويصبح من محبوبي الله وأحبائه [ ومن وجبت طاعته وحرمت مخالفته لزم التأدب معه في جميع الأحوال ].

السبب الثالث: أن الله عز وجل قد حكّمه فجعله إماماً وحاكماً

[ ثالثاً: أن الله عز وجل قد حكمه، فجعله إماماً وحاكماً ] والإمام الحاكم يطاع ولا يعصى، بل يتأدب معه ولا يساء إليه [ قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105] ] حكمه الله سبحانه وتعالى فهو حاكم وإمام، ومن المعروف عادة أن الإمام يحترم ويبجل ويطاع، والحاكم كذلك [ وقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] ] فحكمه أيضاً [ وقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] ] هذه تزعزع قلوب المؤمنين اليوم، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء:65] حق الإيمان ويصبحون مؤمنين؛ حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وقع بينهم من الخلاف. هل وقع هذا اليوم؟ هل يحكمون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! بل يحكمون بريطانيا والأمم المتحدة، يتنازع العرب فيما بينهم والمسلمون ولا يحكمون رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي: سنته ودينه- وإنما يحكمون الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهذا والله عار وشنار، وإن دل على شيء فإنه يدل على أنهم راغبون عن نبيهم وعن سنته ودينه وشرعه.

الله يحلف فيقول: فَلا وَرَبِّكَ [النساء:65] فهذا قسم لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] من خلاف ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65] قال: الأرض لفلان؛ اشرح صدرك أنت واطمئن، قال: كذا لفلان فهو كذلك، فلا تكن متألماً غضبان لست راضياً بحكم الله ورسوله.

قال: [ والتأدب مع الإمام ومع الحاكم تفرضه الشرائع، وتقرره العقول، ويحكم به المنطق السليم ] فما دام إماماً وحاكماً فيجب التأدب معه، فكل إمام لنا يقودنا أو حاكم يحكمنا يجب أن نتأدب معه، فلا نقول كلمة سوء عنه ولا معه، ولا نكفرهم ونهزأ بهم ونسخر منهم، وإلا هبطنا!

السبب الرابع: أن الله تعالى قد فرض محبته على لسانه صلى الله عليه وسلم

[ رابعاً: أن الله تعالى قد فرض محبته على لسانه، فقال صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده ) ] من هو الذي نفس محمد بيده؟ إنه الله [ ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) ] والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدنا حتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، إذا علمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب كذا فأحببه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب كذا فأحببه بحبه، هذا معنى كونه أحب إليك من نفسك ومالك وولدك والناس أجمعين.

السبب الخامس: ما اختصه به ربه تعالى من جمال الخَلْق والخُلُق وكمالهما

[ خامساً: ما اختصه به ربه تعالى من جمال الخلق والخلق، وما حباه به من كمال النفس والذات، فهو أجمل مخلوق وأكمله على الإطلاق، ومن كان هذا حاله كيف لا يجب التأدب معه. هذه بعض موجبات الأدب معه صلى الله عليه وسلم وغيرها كثير ].

[ أولاً: أن الله تعالى قد أوجب له الأدب عليه الصلاة والسلام على كل مؤمن ومؤمنة ] أوجب الله لرسوله الأدب على كل مؤمن ومؤمنة [ وذلك بصريح كلامه عز وجل، إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1] ] لا تقدم رأيك ولا قولك ولا عنصرك ولا علمك ولا مكانك بين يدي الله ورسوله، أولاً قال الله ثم قال رسوله، وبعد ذلك قل إن كان لك القول، أما أن تقدم قولك أنت أو رأيك على قول الرسول ورأيه فلا، وهذا النهي يقتضي التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1].

[ وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] ] من سوء الأدب أن ترفع صوتك فوق مستوى صوت النبي صلى الله عليه وسلم، لما نزلت هذه الآية كان أبو بكر يسار الرسول كأنما يضع فمه في أذنه، ثم يقول له: كذا وكذا [ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات:2] ] أنتم فيما بينكم شأنكم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذا المنزلة العالية والمرتبة السامية؛ يجب أن تكون أصواتكم دون صوته منخفضة، وطبق هذا أولئك الأصحاب وفعلوه [ وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات:3] ] أي: يخفضونها [ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3] ] هنيئاً لهم! الآن علم نفسك كأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين يديك وأنت في مسجده، فلا ترفع صوتك في مستوى يكون فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم [ وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] ] يأتي من عند الباب: يا محمد! فهؤلاء بدو ما عرفوه؛ لذلك أدبهم الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [الحجرات:4-5] اجلس عند الباب وانتظر، حتى إذا خرج قل: كذا وكذا.

كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من أدبه: إذا جاء ليسأل أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً يجلس على العتبة وينتظر حتى يخرج، لا يقرع عليه الباب ليسأله، وتأتي الريح بالغبار فترميه على وجهه وهو جالس عند الباب، لا يستطيع أن يقرع الباب على أبي بكر وعمر ويقول: أريد كذا وكذا. أخذوا هذا من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:4-5]. وقال جل جلاله: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63] ] لما تناديه لا تناده: يا محمد! أو يا أحمد! كما تنادي يا عمر! ويا علي! لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]، ولكن قولوا: يا رسول الله! يا نبي الله! والآن لا ينبغي أن تقول: يا محمد، بل قل: يا رسول الله! [ وقال أيضاً: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62] ] إذا كان تجمعهم حلقة في درس أو موعظة أو كذا فلا يتسلل ويخرج، بل لا بد أن يطلب الإذن، وإذا كان الأمر ذا شأن وخطر كالجهاد وما إلى ذلك فإن المنافقين كانوا يتسللون؛ فنزلت هذه الآية: وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ [النور:62] يجمعهم لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ [النور:62] لا يذهبوا حتى يستأذنوه، يطلبوا الإذن منه، فإن أذن لهم وإلا بقوا، ما قاموا ولا خرجوا ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النور:62]، والعكس ما آمنوا.

فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [النور:62] من شئت تأذن له فأذن، ومن لم تشأ لا تأذن؛ لما يترتب عليه من المفسدة أو المصلحة. هذه آداب النبي صلى الله عليه وسلم يقررها الله عز وجل.

[ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة:12] ] وما معنى المناجاة؟ تكلمتم معه سراً وفي خفاء [ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12] ] إذا أردت أن تتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدك فتصدق بريال أو عشرة وادخل لتتكلم، وهذه فاز بها علي بن أبي طالب ، فإنه لما نزلت هذه الآية أحجموا وما استطاعوا أن يتصدقوا ليتكلموا، فكان علي تقدم بصدقته وتكلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنسخها الله عز وجل [ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12] ] ونسخها الله عز وجل؛ وذلك لأنه لولا هذه لكان كل واحد يقول: أنا أتكلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل واحد يريد أن يخلو بالرسول حتى ينظر إلى وجهه فضلاً عن أن يتكلم معه، فكيف يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟! إنه بشر لا يستطيع أن يقابل كل واحد ويخلو به أربعاً وعشرين ساعة، إذ إن الوقت لا يتسع، فلما أقبلوا ذلك الإقبال أدبهم الله، فرضها بالصدقة أولاً فأحجموا وتأخروا، ولما علم صدقهم نسخها، وعلمهم ألا يتزاحموا على باب الرسول صلى الله عليه وسلم، وألا يطلبوه وكل واحد يناديه على حدة تأدباً معه صلى الله عليه وسلم.

[ ثانياً: أن الله تعالى قد فرض على المؤمنين طاعته، وأوجب محبته، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [محمد:33] ] طاعته واجبة - فرض- على كل مؤمن ومؤمنة، فإذا أمرك أو نهاك فيجب أن تذعن وأن تستسلم [ وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63] ] هذه عامة إلى يوم القيامة، والمقصود بالأمر: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ] فالذين يتعمدون معاكسة الرسول ومخالفة أمره قد يقعون في الشرك -والعياذ بالله- والردة، وقد يصيبهم العذاب الأليم، وتأملوا هذه الآية الكريمة: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] فسرها الإمام أحمد بالشرك والعياذ بالله، وذلك أن يطبع على قلبه وينكر الإسلام ويموت كافراً. فهل عرف إخواننا هذا؟ لو عرفوه ما عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحدوه وحاربوه [ وقال سبحانه وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ] ومن قال: لا، كفر. ما أعطاك الرسول صلى الله عليه وسلم خذه، أي: ما أذن فيه وأباحه وجوزه لك فخذه، وما نهى عنه فلا تطلبه، فإذا نهى عن هذا القول فلا نقوله، نهى عن هذا الزي فلا نتزي به، نهى عن هذه الكلمة فلا نقولها، وهكذا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] [ وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] ] من أراد أن يظفر بحب الله تعالى له فليتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحببه الله، هذه آيات نزلت في وفد نجران، ووفد نجران من النصارى المسيحيين، جاء ستون فارساً على خيولهم، واستضافهم الرسول صلى الله عليه وسلم ووزعهم على أهل المدينة، وقد جاءوا يجادلون أو يحاجون، فمن جملة ما قالوا: نحن ما عبدنا عيسى إلا حباً في الله عز وجل، فعيسى عبده فأحببناه من أجله؛ ولأننا نريد أن يحبنا الله عز وجل عبدنا عيسى وأمه؛ فأنزل الله هذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ [آل عمران:31] فتريدون أن يحبكم فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فقصرهم على مشيهم وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فهم كفار مبغوضون لله، ومن ثَمَّ دلت هذه الآية إلى يوم الدين: أن من أراد أن يحبه الله ليس أن يقوم الليل ويصوم النهار فقط، بل يتبع رسول الله فيحبه الله، يتبعه في زيه، في أكله، في شربه، في لباسه، في معاملاته، في عباداته، في ذكره، في دعائه، يتعلم ذلك ويمشي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يلبث أن يحبه الله تعالى، ويصبح من محبوبي الله وأحبائه [ ومن وجبت طاعته وحرمت مخالفته لزم التأدب معه في جميع الأحوال ].




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة منهاج المسلم - (51) 4154 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (95) 4080 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (63) 3866 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (139) 3861 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (66) 3833 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (158) 3821 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (84) 3745 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (144) 3643 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (71) 3628 استماع
سلسلة منهاج المسلم - (101) 3606 استماع