فما استكانوا لربهم وما يتضرعون


الحلقة مفرغة

إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك وخليلك وحبيبك ونبيك ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:

أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأشكر لكم جميعاً حسن حفاوتكم، وكرم عنايتكم، ولطف استقبالكم، وإن كان هذا ليس بغريبٍ منكم، فهو مما لا أستحقه، وأسأل الله عز وجل: أن يغفر لي ما لا تعلمون، وأن يستر علي وعليكم وعلى سائر إخواننا المؤمنين، ونسأل الله عز وجل ألا يفجع بنا عباده الصالحين، وأن يجعلنا في الدنيا والآخرة من المغفورين، المستورين، وكما قال الصديق رضي الله عنه: [[اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون]]

أحبتي الكرام: هناك قاعدة وسنه إلهية، ثابتة مستقرة، جاءت نصوص الكتاب والسنة في تثبيتها وبيانها وهي: أن كل عمل لابد له من جزاء، في الدنيا وفي الآخرة، قال الله عز وجل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] وقال: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا [يونس:27] وقال: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123].

وكذلك الحال بالنسبة للأعمال الصالحة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] وليس الجزاء في الآخرة فحسب، بل الجزاء من جنس العمل في الدنيا والآخرة، ولذلك من عمل الصالحات أحياه الله تعالى حياة طيبة، كما وعد الله في كتابه فقال: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].

هذا في الدنيا، ومن عمل السيئات فكذلك يجازيه الله بها في العاجل، كما قال عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124].

أما في الآخرة فالأمر أظهر من أن يذكر، وحسبك أن الجنة والنار هما دار القرار:

الموتُ بابٌ وكل الناس داخله     فليت شعري بعد الموت ما الدارُ

الدارُ جنة عدنٍ إن عَمِلْتَ بما     يرضي الإله وإن فرطت فالنارُ

هما مصيرانِ ما للمرءِ غَيرُهما     فانظر لِنفسكَ ماذا أنتَ تختارُ

هناك عقوبات إلهيةٌ دنيوية كثيرة، يعاقب الله تعالى بها خلقه على ذنوبهم، وعلى معاصيهم، وهي أنواع:

النوع الأول: منها عقوبات تتعلق بدين الإنسان: فيعاقب الإنسان على المعصية بعقوبات دينية، مثل قسوة القلب، فربما وقع الإنسان في المعاصي حتى يقسو قلبه، فلا يميزُ معروفاً من منكر، ولا حقاً من باطل، ولا خيراً من شر، ولا هُدىً من ضلال، كما قال الله عز وجل: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] يعني: غلب وغطى عليها ما كانوا يعملون من الأعمال السيئة، حتى كانوا لا يميزون بين الحق والباطل، وكما قال عز وجل: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8].

وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ [النمل:4].

وجاء في بعض الآثار: أن رجلاً من بني إسرائيل قال: يا رب، كم أعصيك ولا تعاقبني، فقيل له: يا عبدي، كم أعاقبك ولا تشعر.

فهذه ميزة العقوبات الدينية، أن الإنسان في كثير من الأحوال قد لا يشعر بأثرها؛ لأنه لا يزال قلبه تغلب عليه المعاصي والذنوب، حتى لا يميز بين صحوة القلب وموته، وبين نوره وظلمته، وبين صحته ومرضه، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلبٍ أشربها -أي: تقبل الفتنة ورضي بها وتشربها وأحبها- نكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتةٌ بيضاء؛ حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة} فإذا جاءت ذلك القلب الموعظة زلت عن اليمين وعن الشمال، لكن لا يقع فيه شيء؛ لأنه كأس مقلوب، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، فهذه هي العقوبات الدينية.

النوع الثاني: فهي العقوبات الدنيوية.

عقوبات لا دخل للمخلوق بها

والعقوبات الدنيوية قد تكون عقوبات من عند الله تعالى، يعني: قضاءً وقدراً لا دخل للمخلوق ولا حيلة له فيها، وذلك: كالقحط، والجدب، والجفاف، والفقر، والزلزال، والبركان، والفيضان، والطوفان، والخسف، ومثله الكسوف في الشمس والقمر، وكذلك الموت: موت القريب أو الحبيب أو ما أشبه ذلك.

فهذه عقوبات إلـهية، مثلها مثل الصواعق، مثل الأشياء التي تنـزل من السماء، ولا حيلة للخلق فيها بأي حال من الأحوال، فهذه من عند الله تعالى.

عقوبات بأيدي بعض المخلوقين

وأما النوع الثاني من العقوبات الدنيوية: فقد تكون بأيدي بعض الخلق، وبأيدي بعض الناس، كما قال الله عز وجل: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا [التوبة:52] يعني: قل يا محمد للكفار: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52] إما النصر أو الشهادة: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ [التوبة:52] والعذاب من عنده تعالى قد يكون خسفاً، وقد يكون زلزالاً، وقد يكون بركاناً، وقد يكون فيضاناً، وقد يكون قحطاً، وجدباً، وجفافاً: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52].

إذاً هذا نوع ثانٍ من العذاب، بأيدينا، يعني: بسيوف المؤمنين، وبسهامهم، وبرماحهم، وبقذائفهم، وبجهادهم، فيبتلي الله تعالى الكفار بالمؤمنين يعذبهم بهم، حيث ينتصر المؤمنون على الكافرين فيسومونهم ويقتلونهم ويأخذون أموالهم وما في أيديهم، ويستبيحون نساءهم، يعني: عن طريق السبي بسنته المعروفة، المهم أن هذا عذاب من عند الله تعالى، ولكنه بأيدي المؤمنين، كما قال الله عز وجل في آية أخرى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14].

إذاً: العقوبات التي تُصب على الكافرين بجهاد المؤمنين هي من عند الله عز وجل، ومثله العقوبات التي تصب على المؤمنين بأيدي الكافرين هي عقوبات من عند الله تعالى، فقد يسلط الله الكافر على الظالم أو الفاسق أو الفاجر يسومه سوء العذاب، كما سلط فرعون على بني إسرائيل: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49].

فهذه عقوبة من عند الله عز وجل، أجراها على يد بعض خلقه، قد يجريها على يد المؤمن عقاباً للكافر، وقد يجريها على يد الكافر عقاباً للمؤمن إذا عصى أو فرط أو قصر.

ولا شك أن تسلط الأعداء على الأمم الإسلامية في هذا الزمان بأخذهم خيرات بلادهم، ونهبهم لها، وتسلطهم عليها، وخنقهم للأمة الإسلامية، واعتدائهم على أموالها وبلادها وأعراضها ودمائها وأنفسها، وكون كثير من بلاد الإسلام أصبحت لقمة سائغة في أيدي أعداء الدين، يفعلون بها ما يشاءون فيتحكمون فيها، وفي اقتصادها يرسمونه كما يشاءون، ويفرضون فيه من الاقتصاد الكافر ما يشاءون، أو في سياستها فيوجهونها وفق ما يخدم أغراضهم ومآربهم، أو في خيراتها وبترولها ومعادنها ونفائس ما وضع الله تعالى فيها من خيرات، أو تسلطهم على أموال المسلمين، أو تسلطهم على أنفس المسلمين، حيث يقتلونهم قتل عاد وإرم، كما نسمع مما يقع للمسلمين في بلاد فلسطين أو في أفغانستان أو في إريتريا أو في الفلبين أو في غيرها من بلاد الشرق والغرب؛ حيث أصبح سيف الكفار مسلطاً على رقاب المسلمين في أكثر بقاع الأرض، لا شك أن هذا كله عقوبات من الله عز وجل لعباده، وخاصة الذين خالفوا أمره، لقد أصبحت أمم الكفر تتحكم في بلاد الإسلام، حتى في أخص خصائصها، وأصبح المسلم محتاجاً إلى الكافر في كل شيء -مع الأسف الشديد- فمركبه من عنده، وملبسه من عنده، ومأكله في كثير من الأحيان من عنده، ومشربه من عنده، وسائل التبريد أو التدفئة أو التسخين أو النطق أو الكلام أو...إلخ.

أو أي وسيلة يحتاجها المسلم، فهي في الواقع من إنتاج مصانع الكفار، بل أصبح المسلم يحتاجهم حتى في الأمور التي لا شك أن حاجة الأمة فيها إلى عدوها هي نوع من المسخ، فمتى عُرف -مثلاً- أن العدو يدفع عن عدوه أو يحميه، أو يحمي سياسته أو اقتصاده، أو يدافع عن بلاده، فهذا ما لم يعهد منذ فجر التاريخ، ولا شك أن حاجة المسلمين في هذه البلاد، وفي كل البلاد إلى أعداء الإسلام، في مثل هذه الأمور، وفي كثير من الأمور لا شك أنه نوعُ من البلاء والعقوبات الإلهية التي صبها الله عز وجل علينا، حتى نتوب إليه تعالى، ونراجع ديننا.

ولا شك أن واقع الأمة الإسلامية اليوم أشبه ما يكون بواقع الأمة الإسلامية في أيام صلاح الدين حين كان يقول الشاعر:

أحل الكفر بالإسلام ضيماً     يطول به على الدين النحيبُ

فحقٌ ضائع وحمىً مباحٌ     وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيبُ

وكم من مسلمٍ أضحى سليباً     ومسلمةٍ لها حرمٌ سليبُ

وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً     على محرابه نصب الصليبُ

دم الخنـزير فيه لهم خلوقٌ     وتحريقُ المساجدِ فيه طِيبُ

أمورٌ لو تأملهنَّ طفلٌ     لطفَّل في عوارضه المشيبُ

أتسبى المسلمات بكل ثغرٍ     وعيش المسلمين إذاً يطيبُ

أما لله والإسلامِ حقُُ     يُدافعُ عنه شبَّانُُ وشِيبُ

فقل لذوي الكرامةِ حيثُ كانوا     أجيبوا الله ويحكم أجيبوا

إن التاريخ يُعيد نفسه، وبلاد الإسلام تتعرض لهجمات الأعداء وتسلطهم في كل جانب ومجال من مجالات الحياة يوماً بعد يوم، وما أخبار الأندلس حين تسلط عليها الأعداء من فرنسا وغيرها، فبدءوا يقصون ثوب الإسلام من الأندلس شيئاً فشيئاً؛ حتى طردوا المسلمين ونصَّروهم وجعلوا لهم محاكم التفتيش التي تمسخ المسلمين مسخاً، وتحرقهم إن أصروا على دينهم بالأفران، وتقتلهم شر قتلة، وما أخبار المسلمين في فلسطين أيضاً حين تسلط عليها اليهود ففتكوا بالمسلمين وقتلوهم، وأجروا الشوارع من دمائهم أنهارا -إلاَّ نموذجٌ لذلك، وكانت هي الأخرى نموذجاً لما حصل في الأندلس، كما قال القائل:-

خلت فلسطين من أبنائها النُجب     وأقفرت من بني أبنائها الشُهبِ

طارت على الشاطئ الخالي      حمائمهُ وأقلعت سُفن الإسلام والعربِ

يا أخت أندلسٍ صبراً وتضحيةً     وطول صبرٍ على الأرزاء والنوبِ

ذهبتِ في لجة الأيام ضائعةً     ضياع أندلسٍ من قبلُ في الحقبِ

وطوحت ببنيك الصيد نازلةٌ     بمثلها أُمَّةُ الإسلامِ لَمْ تُصَبِ

وما أخبار أفغانستان وهي أندلس هذا الوقت إلا نموذج لذلك، فهي البلاد المؤمنة التي لم تُدنِّسْ أرضها قدم كافر، حتى أنها هي الدولة الوحيدة مع هذه البلاد التي لم يقم فيها كنيسة للنصارى، ومع ذلك تجتاحها جحافل الروس وعملائهم من الأفغان الشيوعيين، ويقع للمسلمين فيها من نهب الأموال وتدمير الأرض وأخذ الخيرات، وهتك الأعراض، وقتل النساء والأطفال مالا يخفى على أحد في هذا الوقت، وما هزائمنا نحن المسلمين في عام (48، 67) من الميلاد إلاَّ نموذج ودليل وعبرة من عند الله عز وجل، يقول الله عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].

إذاً كما أن الله تعالى قد يسلط علينا القحط والجدب، أو أنواع المرض أو الفقر أو أي عقوبة إلهية، فقد يسلط الله علينا سيف العدو؛ حتى نعود إليه ونستكين إليه، ونتضرع، وننكسر بين يديه، يقول الله عز وجل: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء:59] ويقول سبحانه عن بعض المعرضين الضالين من عباده الغافلين: وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً [الإسراء:60].

والعقوبات الدنيوية قد تكون عقوبات من عند الله تعالى، يعني: قضاءً وقدراً لا دخل للمخلوق ولا حيلة له فيها، وذلك: كالقحط، والجدب، والجفاف، والفقر، والزلزال، والبركان، والفيضان، والطوفان، والخسف، ومثله الكسوف في الشمس والقمر، وكذلك الموت: موت القريب أو الحبيب أو ما أشبه ذلك.

فهذه عقوبات إلـهية، مثلها مثل الصواعق، مثل الأشياء التي تنـزل من السماء، ولا حيلة للخلق فيها بأي حال من الأحوال، فهذه من عند الله تعالى.

وأما النوع الثاني من العقوبات الدنيوية: فقد تكون بأيدي بعض الخلق، وبأيدي بعض الناس، كما قال الله عز وجل: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا [التوبة:52] يعني: قل يا محمد للكفار: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52] إما النصر أو الشهادة: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ [التوبة:52] والعذاب من عنده تعالى قد يكون خسفاً، وقد يكون زلزالاً، وقد يكون بركاناً، وقد يكون فيضاناً، وقد يكون قحطاً، وجدباً، وجفافاً: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52].

إذاً هذا نوع ثانٍ من العذاب، بأيدينا، يعني: بسيوف المؤمنين، وبسهامهم، وبرماحهم، وبقذائفهم، وبجهادهم، فيبتلي الله تعالى الكفار بالمؤمنين يعذبهم بهم، حيث ينتصر المؤمنون على الكافرين فيسومونهم ويقتلونهم ويأخذون أموالهم وما في أيديهم، ويستبيحون نساءهم، يعني: عن طريق السبي بسنته المعروفة، المهم أن هذا عذاب من عند الله تعالى، ولكنه بأيدي المؤمنين، كما قال الله عز وجل في آية أخرى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة:14].

إذاً: العقوبات التي تُصب على الكافرين بجهاد المؤمنين هي من عند الله عز وجل، ومثله العقوبات التي تصب على المؤمنين بأيدي الكافرين هي عقوبات من عند الله تعالى، فقد يسلط الله الكافر على الظالم أو الفاسق أو الفاجر يسومه سوء العذاب، كما سلط فرعون على بني إسرائيل: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49].

فهذه عقوبة من عند الله عز وجل، أجراها على يد بعض خلقه، قد يجريها على يد المؤمن عقاباً للكافر، وقد يجريها على يد الكافر عقاباً للمؤمن إذا عصى أو فرط أو قصر.

ولا شك أن تسلط الأعداء على الأمم الإسلامية في هذا الزمان بأخذهم خيرات بلادهم، ونهبهم لها، وتسلطهم عليها، وخنقهم للأمة الإسلامية، واعتدائهم على أموالها وبلادها وأعراضها ودمائها وأنفسها، وكون كثير من بلاد الإسلام أصبحت لقمة سائغة في أيدي أعداء الدين، يفعلون بها ما يشاءون فيتحكمون فيها، وفي اقتصادها يرسمونه كما يشاءون، ويفرضون فيه من الاقتصاد الكافر ما يشاءون، أو في سياستها فيوجهونها وفق ما يخدم أغراضهم ومآربهم، أو في خيراتها وبترولها ومعادنها ونفائس ما وضع الله تعالى فيها من خيرات، أو تسلطهم على أموال المسلمين، أو تسلطهم على أنفس المسلمين، حيث يقتلونهم قتل عاد وإرم، كما نسمع مما يقع للمسلمين في بلاد فلسطين أو في أفغانستان أو في إريتريا أو في الفلبين أو في غيرها من بلاد الشرق والغرب؛ حيث أصبح سيف الكفار مسلطاً على رقاب المسلمين في أكثر بقاع الأرض، لا شك أن هذا كله عقوبات من الله عز وجل لعباده، وخاصة الذين خالفوا أمره، لقد أصبحت أمم الكفر تتحكم في بلاد الإسلام، حتى في أخص خصائصها، وأصبح المسلم محتاجاً إلى الكافر في كل شيء -مع الأسف الشديد- فمركبه من عنده، وملبسه من عنده، ومأكله في كثير من الأحيان من عنده، ومشربه من عنده، وسائل التبريد أو التدفئة أو التسخين أو النطق أو الكلام أو...إلخ.

أو أي وسيلة يحتاجها المسلم، فهي في الواقع من إنتاج مصانع الكفار، بل أصبح المسلم يحتاجهم حتى في الأمور التي لا شك أن حاجة الأمة فيها إلى عدوها هي نوع من المسخ، فمتى عُرف -مثلاً- أن العدو يدفع عن عدوه أو يحميه، أو يحمي سياسته أو اقتصاده، أو يدافع عن بلاده، فهذا ما لم يعهد منذ فجر التاريخ، ولا شك أن حاجة المسلمين في هذه البلاد، وفي كل البلاد إلى أعداء الإسلام، في مثل هذه الأمور، وفي كثير من الأمور لا شك أنه نوعُ من البلاء والعقوبات الإلهية التي صبها الله عز وجل علينا، حتى نتوب إليه تعالى، ونراجع ديننا.

ولا شك أن واقع الأمة الإسلامية اليوم أشبه ما يكون بواقع الأمة الإسلامية في أيام صلاح الدين حين كان يقول الشاعر:

أحل الكفر بالإسلام ضيماً     يطول به على الدين النحيبُ

فحقٌ ضائع وحمىً مباحٌ     وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيبُ

وكم من مسلمٍ أضحى سليباً     ومسلمةٍ لها حرمٌ سليبُ

وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً     على محرابه نصب الصليبُ

دم الخنـزير فيه لهم خلوقٌ     وتحريقُ المساجدِ فيه طِيبُ

أمورٌ لو تأملهنَّ طفلٌ     لطفَّل في عوارضه المشيبُ

أتسبى المسلمات بكل ثغرٍ     وعيش المسلمين إذاً يطيبُ

أما لله والإسلامِ حقُُ     يُدافعُ عنه شبَّانُُ وشِيبُ

فقل لذوي الكرامةِ حيثُ كانوا     أجيبوا الله ويحكم أجيبوا

إن التاريخ يُعيد نفسه، وبلاد الإسلام تتعرض لهجمات الأعداء وتسلطهم في كل جانب ومجال من مجالات الحياة يوماً بعد يوم، وما أخبار الأندلس حين تسلط عليها الأعداء من فرنسا وغيرها، فبدءوا يقصون ثوب الإسلام من الأندلس شيئاً فشيئاً؛ حتى طردوا المسلمين ونصَّروهم وجعلوا لهم محاكم التفتيش التي تمسخ المسلمين مسخاً، وتحرقهم إن أصروا على دينهم بالأفران، وتقتلهم شر قتلة، وما أخبار المسلمين في فلسطين أيضاً حين تسلط عليها اليهود ففتكوا بالمسلمين وقتلوهم، وأجروا الشوارع من دمائهم أنهارا -إلاَّ نموذجٌ لذلك، وكانت هي الأخرى نموذجاً لما حصل في الأندلس، كما قال القائل:-

خلت فلسطين من أبنائها النُجب     وأقفرت من بني أبنائها الشُهبِ

طارت على الشاطئ الخالي      حمائمهُ وأقلعت سُفن الإسلام والعربِ

يا أخت أندلسٍ صبراً وتضحيةً     وطول صبرٍ على الأرزاء والنوبِ

ذهبتِ في لجة الأيام ضائعةً     ضياع أندلسٍ من قبلُ في الحقبِ

وطوحت ببنيك الصيد نازلةٌ     بمثلها أُمَّةُ الإسلامِ لَمْ تُصَبِ

وما أخبار أفغانستان وهي أندلس هذا الوقت إلا نموذج لذلك، فهي البلاد المؤمنة التي لم تُدنِّسْ أرضها قدم كافر، حتى أنها هي الدولة الوحيدة مع هذه البلاد التي لم يقم فيها كنيسة للنصارى، ومع ذلك تجتاحها جحافل الروس وعملائهم من الأفغان الشيوعيين، ويقع للمسلمين فيها من نهب الأموال وتدمير الأرض وأخذ الخيرات، وهتك الأعراض، وقتل النساء والأطفال مالا يخفى على أحد في هذا الوقت، وما هزائمنا نحن المسلمين في عام (48، 67) من الميلاد إلاَّ نموذج ودليل وعبرة من عند الله عز وجل، يقول الله عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].

إذاً كما أن الله تعالى قد يسلط علينا القحط والجدب، أو أنواع المرض أو الفقر أو أي عقوبة إلهية، فقد يسلط الله علينا سيف العدو؛ حتى نعود إليه ونستكين إليه، ونتضرع، وننكسر بين يديه، يقول الله عز وجل: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء:59] ويقول سبحانه عن بعض المعرضين الضالين من عباده الغافلين: وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً [الإسراء:60].

أيها الإخوة الأكارم: الناس أمام عقوبات الله عز وجل، صنفان:

الصنف الأول: صنف المؤمنين الذين يعتبرون بهذه الأشياء ويتعظون، ممن إذا ذكروا تذكروا، سواء ذكروا بآيات الله الشرعية من القرآن والسنة والمواعظ، أم ذكروا بالآيات الكونية التي يصبها الله تعالى عليهم، من العقوبات السماوية أو العقوبات بأيدي بعض الكفار، فيكون في ذلك لهم نذيرٌ وعبرة، وهذا كان شأن المؤمنين من الرسل وأتباعهم مدار التاريخ.

الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر

مثلاً: في معركة بدر كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقود قلة قليلة لا تتجاوز الثلاثمائة أمام جحفل من جحافل الكفر، يزيد على الألف مدججين بألوان السلاح، ومع ذلك عرف الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه لن ينتصر على هذه الكثرة الكافرة لا بعدد ولا بعدة ولا بقوة ولا ببأسه، وإنما ينتصر عليهم بعون الله تبارك وتعالى.

ولهذا بنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فكان يدعو ويرفع يديه إلى السماء، ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم، اللهم أسألك وعدك ونصرك} حتى سقط رداؤه عن منكبه عليه الصلاة والسلام، من شدة دعائه وافتقاره وابتهاله إلى الله سبحانه وتعالى؛ حتى جاءه أبو بكر رضي الله عنه والتزمه من خلفه، وقال له: {يا رسول الله، كفاك مناشدة ربك فإن الله تعالى منجز لك ما وعد} فلما رأى أبو بكر ابتهال الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق لجوئه إلى الله عز وجل عرف أن النصر آت لا محالة!! ليس لأن عدونا كذا، ولا لأن قوتنا كذا، ولا لأن إمكانياتنا كذا، ولا لأن جغرافية البلد كذا، ولا لأي سبب إنما لأنه رأى الانكسار الذي عودنا الله عز وجل أنه لا يرد من فعله، وما هي إلا ساعات حتى أخذوهم -كما هو معروف-:

أتُطفئُ نُور الله نَفخة كافرٍ     تعالى      الذي بالكبرياءِ تفردا

إذا جلجلت (اللهُ أكبر) في الوغى      تخاذلت الأصوات عن ذلك النِِدا

هناك التقى الجمعان جمع يقوده     غرور أبي جهل كهرٍ تأسدا

وجمعٌ عليه من هداه مهابة      وحاديه بالآيات بالصبر قد حدا

وشمَّر خيرُ الخلقِ عن ساعد الفدا     وهزَّ على رأس الطغاة المهندا

وجبريلُ في الأُفق القريبِ مُكبرٌ     لِيلقي الونى والرعب في أنفُسِ العِدا

وسرعان ما فرَّت قُريشُُ بِجمعها     جريحةَ كبرٍ قد طغا وتبددا

ينوء بها ثُقل الغرامِ وهَمُّهُ     وتجرحها أسرى تُريدُ لها الفِدا

وأنفُ أبي جهلٍ تمرغ في الثرى     وداسته أقدام الحفاةٍ بما اعتدى

ركب عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال له أبو جهل: [[لمن الدائرة اليوم؟ قال: يا عدو الله! لله ولرسوله وللمؤمنين، قال: لقد ارتقيت مُرتقى صعباً يا رويعي الغنم]].

وأنف أبي جهل تمرغ في الثرى     وداسته أقدامُ الحفاةِ بِما اعتدى

ومن خاصم الرحمن خابت جُهودُهُ      وضاعت مساعيه وأتعابُه سُدى

وفي معركة أحد هُزم المسلمون ولم ينتصروا، هُزموا وكانت فعلاً هزيمة منكرة لم يكن المسلمون يتوقعونها بأي حال، قال الله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165].

يعني: يوم بدر .

قلتم أنَّى هذا؟! فتعجب المسلمون كيف حصل هذا؟! ظنوا أنهم ما داموا مسلمين، ومادام قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لا يهزمون أبداً، فقالوا: أنَّى هذا؟! كيف حصل؟!

فقال الله عز وجل: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

نرجع إلى القاعدة: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] فالله تعالى قادر على أن ينصر المسلمين دون قتال، ودون سيوف، ودون جهاد، ودون بلاء، لكنه عز وجل أجرى سنته فيهم أنه ينصر من ينصره، ينصر من يستحق النصر، ينصر: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].

ولذلك ظل المسلمون على مدار التاريخ: إن ألمت بهم ملمة أو تكالب عليهم عدو عرفوا أنهم لن ينتصروا على هذا العدو بعدد ولا بعدة، إنما بصدق اللجوء إلى الله عز وجل، وإن نـزلت بهم هزيمة، وجروا أذيال الخيبة في معركة من المعارك، عرفوا أنهم إنما أُتُوا من قِبَل أنفسهم، ولعلي أذكر لكم مثالين في ذلك:

حال صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الصليبيين

أولهما: مَثَلُ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، كما يذكر ذلك عنه ابن شداد، وهو عالم كان من أصحاب صلاح الدين، فيذكر ابن شداد: أن الإفرنج لما نـزلوا بيت المقدس قريباً منه، وتواصلت الأخبار إلى صلاح الدين بأنهم قد عزموا على الصعود إلى القدس، ومحاصرته، وركبوا القنابل عليه، واشتدت مخافة المسلمين من ذلك بسبب شدة بأس العدو وتسلطهم وقلة المسلمين، فاضطر الأمراء إلى الاجتماع، وتشاور الناس فيما بينهم ماذا يصنعون؟

يقول ابن شداد: ضاق صدر صلاح الدين واكتأب وحزن لذلك، وتقسم فكره، قال: فكنت جالساً معه طوال الليل، وهو يقسم الناس أقساماً، ويضع على كل قسم أحد الرجال ممن يختاره ويثق به، وكان الزمان شتاءً، وليس معنا ثالث إلا الله عز وجل، فلما بقي على الفجر قريباً من ساعة، قلت له: لعلك ترتاح، يقول: خشيتُ عليه أن يتعكر مزاجه؛ لأنه كان يتأثر، وكان فيه تعب في جسمه، فقلت لـصلاح الدين لعلك ترتاح ساعة، يقول: فقال لي صلاح الدين: لعله جاءك النوم اذهب فارتاح أنت، يقول: فخرجت من عنده إلى بيتي، فما وصلت إلى بيتي، وأخذت بعض شأني إلاَّ وقد أذَّن لصلاة الفجر، قال: فتوضأت ثم أتيته، وكان يصلي الفجر معه، فلما أقبلتُ على صلاح الدين، إذا هو يمر الماء على يديه -يتوضأ- قال لي: والله ما جاءني النوم أصلاً -ما نمت أصلاً حتى احتاج إلى وضوء- من صلاة العشاء وهو سهران في مصالح المسلمين، وفي هذا البأس الذي نـزل به، قلتُ له: علمت أنك لم تنم، قال: كيف عرفت ذلك؟ قلت له: ما بقي للنوم وقت، وأعلمُ أنك في مثل هذا الظرف لا تنام، يقول: فلما صلينا الفجر قلتُ له: قد وقع لي خاطر -خطر في بالي خاطر- وأرى أنه حق إن شاء الله، قال: وما هو؟ قال: قلت له: نَكِلُ أمر الدفاع عن بيت المقدس إلى الله عز وجل، بالإخلاد إليه، والتوكل عليه، وصدق اللجوء والإنابة إليه، والخروج من المعاصي دقيقها وجليلها.

قال: كيف أصنع؟ قال: أرى -واليوم يوم الجمعة- أنك تغتسل ثم تخرج إلى المسجد مبكراً، وتخرج صدقات كثيرة إلى الفقراء، والمحتاجين سراً، وعلي يدي من تثق بهم من الناس، تجعلهم يتصدقون على الخلق بأموالك، وتخرج من جميع المظالم، ثم تصلي ركعتين لله سبحانه وتعالى تصدق فيها، وتنكسر بين يديه، فإذا سجدت تطلب من الله تعالى بقلب منقطع إليه: أن يغيث المسلمين، وينصرهم على عدوهم، يقول: ففعل ذلك كله، ثم صلى ركعتين، وكُنت إلى جواره، قال: فسمعته يقول وهو في سجوده: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية إلا منك، وعجزنا عن دفاع عدونا إلا بك، فإنا نستغيث بك، ونستنصرك ونعتصم بك، يقول: فابتهل إلى الله عز وجل، وبدأت الدموع تنحدر من عينيه فلما رفع رأسه من سجوده، إذا دموعه تتقاطر من لحيته.

يقول: فعلمت أننا منصورون ولابد، فلما كان في مساءِ ذلك اليوم، الذي هو يوم الجمعة جاءتنا رسالة أو رقعة من الإفرنج، فيها أن الإفرنج متخبطون، وقد ركبوا بعسكرهم إلى الصحراء -خرجوا إلى الصحراء- ووقفوا إلى قائمة الظهيرة -إلى وقت الزوال- وأنه صار بينهم اختلاف في ذلك، يقول: فلما كان يوم السبت جاءنا خبر بمثل هذا، فلما كان يوم الأحد وصل جاسوس فأخبرنا أن الإفرنج قد اختلفوا، وأن الفرنسيين منهم، وكانوا قد تحالفوا من الغربيين وغيرهم من أعداء الإسلام من النصارى، فأخبرهم الرسول -الجاسوس- الذي جاء إليهم، أن الفرنسيين يقولون: لابد من مهاجمة القدس، ومحاصرتها.

وأما من يسمون بالإنكشارية فإنهم يرون أنه لا يخاطر بدين النصرانية، يقولون: جنود عيسى لا نخاطر بهم، ولا يمكن أن نلقي بهم، سبحان الله! ما أشبه الليلة بالبارحة، الآن يوجد من أمم الكفر والنصارى، من يستميت في القتال، لأنه يريد أن يقضي على الأمة المحمدية، ويوجد من جنود الكفر واليهود والنصارى وغيرهم، من يرون أن قطرة دمٍ من كافر أغلى من المسلمين أولهم وآخرهم، فهكذا كان الأمر، فحصل بينهم خلاف أدى إلى أنهم ينسحبون من هذا الموقع، ويتركون بيت المقدس في أيدي المسلمين، وهكذا انتصر صلاح الدين دون أن يخوض معركة، لأنه أسند أمره إلى الله عز وجل.

حال أهل جزيرة كريت

المثل الآخر: هي قصة -أيضاً معروفة في التاريخ- وقعت في جزيرة يقال لها: جزيرة كريت، والمسلمون يسمونها جزيرة إقريطش، وكانت هذه الجزيرة، جزيرة صغيرة في البحر المتوسط، وكان فيها مدينة يخرج منها دائماً الغزو للروم، وهذه المدينة الصغيرة كثيراً ما تخرج منها جحافل وجيوش لغزو الروم، فغضب ملك الروم أشد الغضب من هذه المدينة، وحلف أن يدخلها ويدمرها على أهلها، وغزاها بجيش كثيف، ملأ السهل والجبل وملأ البحر، وحاصر هذه المدينة حصاراً طويلاً، ولم يكن لهذه المدينة بد من الاستسلام، وكانت أشبه بإنسان صغير، أمسك عدوه بخناقه، وخنقه بثوبه، بحيث إنه ينتظر الموت في أي لحظة، وظهرت بوادر المجاعة في هذه المدينة، حيث لم يكن في ذلك العصر وسائل للاتصالات الهاتفية، أو غيرها بحيث يعلم المسلمون بالأمر، فبقيت هذه المدينة بمعزل لا يعلم المسلمون من أمرها شيئاً، وبعد ذلك تشاور أهل المدينة، واتفق أمرهم على أن يستسلموا؛ لأنه ليس أمامهم مفر من الاستسلام، فليس بيدهم قوة ولا حماية كافية، ولا استطاعوا أن يخبروا المسلمين بخبرهم فبقوا قلة قليلة، يحيط بهم جيش كثيف مدجج من الروم.

فكان هناك شيخ كبير السن، معتزل في أحد مساجد المدينة، فلما علم بالخبر دعا رءوس القوم، وقال لهم: ما الذي عزمتم عليه؟ قالوا: عزمنا على الاستسلام، قال: هل بقي لكم قوة تدافعون بها، أو حيلة تحتالون بها؟ قالوا: لا، لم يبق لنا شيء، قال: فاستمعوا إلىَّ إذاً: اخرجوا جميعاً إلى ساحة القرية، وأخرجوا رجالكم، ونساءكم، وأطفالكم، وبهائمكم، ودوابكم، ولا يبقى في القرية مريضٌ ولا صحيحٌ ولا كبيرٌ ولا شيخٌ ولا طفل إلا خرج، ثم افصلوا الأب عن ابنه، والأم عن ولدها، والقريب عن قريبه، ففعلوا ذلك كله، فبدأ الصياح والنحيب، الطفل يحن إلى أمة، والأم تبكي على طفلها، والقريب يبكي على قريبه، ثم أمرهم أن يبتهلوا إلى الله عز وجل، فابتهلوا إلى الله تعالى، وعلا نحيبهم، وصياحهم، وتضرعهم، إلى الله عز وجل.

فقال: هل بقي بقلوبكم شيء غير الله تعالى، واللجوء إليه والانكسار، قالوا: لا والله ما بقي في قلوبنا شيء، كلُُ الحيل الدنيوية قد فشلت، ولم يبق إلاَّ الاعتصام بالله تعالى.

قال: فافتحوا إذاً أبواب المدينة، واخرجوا إلى عدوكم مرة واحدة، عجوا إلى الله عجة واحدة، وقولوا: يا الله.. ففعلوا، وفتحوا أبواب المدينة، وخرجوا دفعةً واحدة، فلما رآهم العدو، قذف الله في قلوبهم الرعب ففزعوا وخافوا، وظنوا أن المسلمين قد أعدوا لهم خطه شديدة، فهرب العدو لا يلوي على شيء، وما التفت أحد منهم حتى وقع في البحر، ثم انصرفوا مهزومين، دون أن يمسوا المسلمين بسوء.

فأهل هذه الجزيرة لم ينتصروا بعدد ولا عدة ولا بقوه ولا بإمكانيات ولا بماديات ولا بأسلحة متطورة، ولا بتقنية، ولا بتقدم وتصنيع، ولا بكثرة جيوشهم؛ إنما انتصروا حين انقطعت قلوبهم إلى الله تعالى، لأن المسلم يعلم أن النصر من عند الله تعالى، وأن الله تعالى بيده مقاليد السماوات والأرض: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفتح:4].

فالله تعالى لو شاء أن يأمر السماء أن تمطر لأمطرت على أعدائنا ناراً تحرقهم، ولو شاء أن يأمر الأرض لزلزلت من تحت أقدام عدونا، ولو شاء عز وجل لسلط عليهم الريح، ولو شاء لسلط عليهم البراكين، ولو شاء لسلط عليهم طوفاناً من عنده: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

لكن كل هذه الوسائل يدخرها الله عز وجل لعباده الصادقين، الذين علم الله من قلوبهم الانقطاع إليه، وصدق اللجوء والرغبة فيما عنده.

مثلاً: في معركة بدر كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقود قلة قليلة لا تتجاوز الثلاثمائة أمام جحفل من جحافل الكفر، يزيد على الألف مدججين بألوان السلاح، ومع ذلك عرف الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه لن ينتصر على هذه الكثرة الكافرة لا بعدد ولا بعدة ولا بقوة ولا ببأسه، وإنما ينتصر عليهم بعون الله تبارك وتعالى.

ولهذا بنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فكان يدعو ويرفع يديه إلى السماء، ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم، اللهم أسألك وعدك ونصرك} حتى سقط رداؤه عن منكبه عليه الصلاة والسلام، من شدة دعائه وافتقاره وابتهاله إلى الله سبحانه وتعالى؛ حتى جاءه أبو بكر رضي الله عنه والتزمه من خلفه، وقال له: {يا رسول الله، كفاك مناشدة ربك فإن الله تعالى منجز لك ما وعد} فلما رأى أبو بكر ابتهال الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق لجوئه إلى الله عز وجل عرف أن النصر آت لا محالة!! ليس لأن عدونا كذا، ولا لأن قوتنا كذا، ولا لأن إمكانياتنا كذا، ولا لأن جغرافية البلد كذا، ولا لأي سبب إنما لأنه رأى الانكسار الذي عودنا الله عز وجل أنه لا يرد من فعله، وما هي إلا ساعات حتى أخذوهم -كما هو معروف-:

أتُطفئُ نُور الله نَفخة كافرٍ     تعالى      الذي بالكبرياءِ تفردا

إذا جلجلت (اللهُ أكبر) في الوغى      تخاذلت الأصوات عن ذلك النِِدا

هناك التقى الجمعان جمع يقوده     غرور أبي جهل كهرٍ تأسدا

وجمعٌ عليه من هداه مهابة      وحاديه بالآيات بالصبر قد حدا

وشمَّر خيرُ الخلقِ عن ساعد الفدا     وهزَّ على رأس الطغاة المهندا

وجبريلُ في الأُفق القريبِ مُكبرٌ     لِيلقي الونى والرعب في أنفُسِ العِدا

وسرعان ما فرَّت قُريشُُ بِجمعها     جريحةَ كبرٍ قد طغا وتبددا

ينوء بها ثُقل الغرامِ وهَمُّهُ     وتجرحها أسرى تُريدُ لها الفِدا

وأنفُ أبي جهلٍ تمرغ في الثرى     وداسته أقدام الحفاةٍ بما اعتدى

ركب عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال له أبو جهل: [[لمن الدائرة اليوم؟ قال: يا عدو الله! لله ولرسوله وللمؤمنين، قال: لقد ارتقيت مُرتقى صعباً يا رويعي الغنم]].

وأنف أبي جهل تمرغ في الثرى     وداسته أقدامُ الحفاةِ بِما اعتدى

ومن خاصم الرحمن خابت جُهودُهُ      وضاعت مساعيه وأتعابُه سُدى

وفي معركة أحد هُزم المسلمون ولم ينتصروا، هُزموا وكانت فعلاً هزيمة منكرة لم يكن المسلمون يتوقعونها بأي حال، قال الله تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165].

يعني: يوم بدر .

قلتم أنَّى هذا؟! فتعجب المسلمون كيف حصل هذا؟! ظنوا أنهم ما داموا مسلمين، ومادام قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لا يهزمون أبداً، فقالوا: أنَّى هذا؟! كيف حصل؟!

فقال الله عز وجل: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

نرجع إلى القاعدة: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] فالله تعالى قادر على أن ينصر المسلمين دون قتال، ودون سيوف، ودون جهاد، ودون بلاء، لكنه عز وجل أجرى سنته فيهم أنه ينصر من ينصره، ينصر من يستحق النصر، ينصر: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].

ولذلك ظل المسلمون على مدار التاريخ: إن ألمت بهم ملمة أو تكالب عليهم عدو عرفوا أنهم لن ينتصروا على هذا العدو بعدد ولا بعدة، إنما بصدق اللجوء إلى الله عز وجل، وإن نـزلت بهم هزيمة، وجروا أذيال الخيبة في معركة من المعارك، عرفوا أنهم إنما أُتُوا من قِبَل أنفسهم، ولعلي أذكر لكم مثالين في ذلك:

أولهما: مَثَلُ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، كما يذكر ذلك عنه ابن شداد، وهو عالم كان من أصحاب صلاح الدين، فيذكر ابن شداد: أن الإفرنج لما نـزلوا بيت المقدس قريباً منه، وتواصلت الأخبار إلى صلاح الدين بأنهم قد عزموا على الصعود إلى القدس، ومحاصرته، وركبوا القنابل عليه، واشتدت مخافة المسلمين من ذلك بسبب شدة بأس العدو وتسلطهم وقلة المسلمين، فاضطر الأمراء إلى الاجتماع، وتشاور الناس فيما بينهم ماذا يصنعون؟

يقول ابن شداد: ضاق صدر صلاح الدين واكتأب وحزن لذلك، وتقسم فكره، قال: فكنت جالساً معه طوال الليل، وهو يقسم الناس أقساماً، ويضع على كل قسم أحد الرجال ممن يختاره ويثق به، وكان الزمان شتاءً، وليس معنا ثالث إلا الله عز وجل، فلما بقي على الفجر قريباً من ساعة، قلت له: لعلك ترتاح، يقول: خشيتُ عليه أن يتعكر مزاجه؛ لأنه كان يتأثر، وكان فيه تعب في جسمه، فقلت لـصلاح الدين لعلك ترتاح ساعة، يقول: فقال لي صلاح الدين: لعله جاءك النوم اذهب فارتاح أنت، يقول: فخرجت من عنده إلى بيتي، فما وصلت إلى بيتي، وأخذت بعض شأني إلاَّ وقد أذَّن لصلاة الفجر، قال: فتوضأت ثم أتيته، وكان يصلي الفجر معه، فلما أقبلتُ على صلاح الدين، إذا هو يمر الماء على يديه -يتوضأ- قال لي: والله ما جاءني النوم أصلاً -ما نمت أصلاً حتى احتاج إلى وضوء- من صلاة العشاء وهو سهران في مصالح المسلمين، وفي هذا البأس الذي نـزل به، قلتُ له: علمت أنك لم تنم، قال: كيف عرفت ذلك؟ قلت له: ما بقي للنوم وقت، وأعلمُ أنك في مثل هذا الظرف لا تنام، يقول: فلما صلينا الفجر قلتُ له: قد وقع لي خاطر -خطر في بالي خاطر- وأرى أنه حق إن شاء الله، قال: وما هو؟ قال: قلت له: نَكِلُ أمر الدفاع عن بيت المقدس إلى الله عز وجل، بالإخلاد إليه، والتوكل عليه، وصدق اللجوء والإنابة إليه، والخروج من المعاصي دقيقها وجليلها.

قال: كيف أصنع؟ قال: أرى -واليوم يوم الجمعة- أنك تغتسل ثم تخرج إلى المسجد مبكراً، وتخرج صدقات كثيرة إلى الفقراء، والمحتاجين سراً، وعلي يدي من تثق بهم من الناس، تجعلهم يتصدقون على الخلق بأموالك، وتخرج من جميع المظالم، ثم تصلي ركعتين لله سبحانه وتعالى تصدق فيها، وتنكسر بين يديه، فإذا سجدت تطلب من الله تعالى بقلب منقطع إليه: أن يغيث المسلمين، وينصرهم على عدوهم، يقول: ففعل ذلك كله، ثم صلى ركعتين، وكُنت إلى جواره، قال: فسمعته يقول وهو في سجوده: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية إلا منك، وعجزنا عن دفاع عدونا إلا بك، فإنا نستغيث بك، ونستنصرك ونعتصم بك، يقول: فابتهل إلى الله عز وجل، وبدأت الدموع تنحدر من عينيه فلما رفع رأسه من سجوده، إذا دموعه تتقاطر من لحيته.

يقول: فعلمت أننا منصورون ولابد، فلما كان في مساءِ ذلك اليوم، الذي هو يوم الجمعة جاءتنا رسالة أو رقعة من الإفرنج، فيها أن الإفرنج متخبطون، وقد ركبوا بعسكرهم إلى الصحراء -خرجوا إلى الصحراء- ووقفوا إلى قائمة الظهيرة -إلى وقت الزوال- وأنه صار بينهم اختلاف في ذلك، يقول: فلما كان يوم السبت جاءنا خبر بمثل هذا، فلما كان يوم الأحد وصل جاسوس فأخبرنا أن الإفرنج قد اختلفوا، وأن الفرنسيين منهم، وكانوا قد تحالفوا من الغربيين وغيرهم من أعداء الإسلام من النصارى، فأخبرهم الرسول -الجاسوس- الذي جاء إليهم، أن الفرنسيين يقولون: لابد من مهاجمة القدس، ومحاصرتها.

وأما من يسمون بالإنكشارية فإنهم يرون أنه لا يخاطر بدين النصرانية، يقولون: جنود عيسى لا نخاطر بهم، ولا يمكن أن نلقي بهم، سبحان الله! ما أشبه الليلة بالبارحة، الآن يوجد من أمم الكفر والنصارى، من يستميت في القتال، لأنه يريد أن يقضي على الأمة المحمدية، ويوجد من جنود الكفر واليهود والنصارى وغيرهم، من يرون أن قطرة دمٍ من كافر أغلى من المسلمين أولهم وآخرهم، فهكذا كان الأمر، فحصل بينهم خلاف أدى إلى أنهم ينسحبون من هذا الموقع، ويتركون بيت المقدس في أيدي المسلمين، وهكذا انتصر صلاح الدين دون أن يخوض معركة، لأنه أسند أمره إلى الله عز وجل.

المثل الآخر: هي قصة -أيضاً معروفة في التاريخ- وقعت في جزيرة يقال لها: جزيرة كريت، والمسلمون يسمونها جزيرة إقريطش، وكانت هذه الجزيرة، جزيرة صغيرة في البحر المتوسط، وكان فيها مدينة يخرج منها دائماً الغزو للروم، وهذه المدينة الصغيرة كثيراً ما تخرج منها جحافل وجيوش لغزو الروم، فغضب ملك الروم أشد الغضب من هذه المدينة، وحلف أن يدخلها ويدمرها على أهلها، وغزاها بجيش كثيف، ملأ السهل والجبل وملأ البحر، وحاصر هذه المدينة حصاراً طويلاً، ولم يكن لهذه المدينة بد من الاستسلام، وكانت أشبه بإنسان صغير، أمسك عدوه بخناقه، وخنقه بثوبه، بحيث إنه ينتظر الموت في أي لحظة، وظهرت بوادر المجاعة في هذه المدينة، حيث لم يكن في ذلك العصر وسائل للاتصالات الهاتفية، أو غيرها بحيث يعلم المسلمون بالأمر، فبقيت هذه المدينة بمعزل لا يعلم المسلمون من أمرها شيئاً، وبعد ذلك تشاور أهل المدينة، واتفق أمرهم على أن يستسلموا؛ لأنه ليس أمامهم مفر من الاستسلام، فليس بيدهم قوة ولا حماية كافية، ولا استطاعوا أن يخبروا المسلمين بخبرهم فبقوا قلة قليلة، يحيط بهم جيش كثيف مدجج من الروم.

فكان هناك شيخ كبير السن، معتزل في أحد مساجد المدينة، فلما علم بالخبر دعا رءوس القوم، وقال لهم: ما الذي عزمتم عليه؟ قالوا: عزمنا على الاستسلام، قال: هل بقي لكم قوة تدافعون بها، أو حيلة تحتالون بها؟ قالوا: لا، لم يبق لنا شيء، قال: فاستمعوا إلىَّ إذاً: اخرجوا جميعاً إلى ساحة القرية، وأخرجوا رجالكم، ونساءكم، وأطفالكم، وبهائمكم، ودوابكم، ولا يبقى في القرية مريضٌ ولا صحيحٌ ولا كبيرٌ ولا شيخٌ ولا طفل إلا خرج، ثم افصلوا الأب عن ابنه، والأم عن ولدها، والقريب عن قريبه، ففعلوا ذلك كله، فبدأ الصياح والنحيب، الطفل يحن إلى أمة، والأم تبكي على طفلها، والقريب يبكي على قريبه، ثم أمرهم أن يبتهلوا إلى الله عز وجل، فابتهلوا إلى الله تعالى، وعلا نحيبهم، وصياحهم، وتضرعهم، إلى الله عز وجل.

فقال: هل بقي بقلوبكم شيء غير الله تعالى، واللجوء إليه والانكسار، قالوا: لا والله ما بقي في قلوبنا شيء، كلُُ الحيل الدنيوية قد فشلت، ولم يبق إلاَّ الاعتصام بالله تعالى.

قال: فافتحوا إذاً أبواب المدينة، واخرجوا إلى عدوكم مرة واحدة، عجوا إلى الله عجة واحدة، وقولوا: يا الله.. ففعلوا، وفتحوا أبواب المدينة، وخرجوا دفعةً واحدة، فلما رآهم العدو، قذف الله في قلوبهم الرعب ففزعوا وخافوا، وظنوا أن المسلمين قد أعدوا لهم خطه شديدة، فهرب العدو لا يلوي على شيء، وما التفت أحد منهم حتى وقع في البحر، ثم انصرفوا مهزومين، دون أن يمسوا المسلمين بسوء.

فأهل هذه الجزيرة لم ينتصروا بعدد ولا عدة ولا بقوه ولا بإمكانيات ولا بماديات ولا بأسلحة متطورة، ولا بتقنية، ولا بتقدم وتصنيع، ولا بكثرة جيوشهم؛ إنما انتصروا حين انقطعت قلوبهم إلى الله تعالى، لأن المسلم يعلم أن النصر من عند الله تعالى، وأن الله تعالى بيده مقاليد السماوات والأرض: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفتح:4].

فالله تعالى لو شاء أن يأمر السماء أن تمطر لأمطرت على أعدائنا ناراً تحرقهم، ولو شاء أن يأمر الأرض لزلزلت من تحت أقدام عدونا، ولو شاء عز وجل لسلط عليهم الريح، ولو شاء لسلط عليهم البراكين، ولو شاء لسلط عليهم طوفاناً من عنده: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

لكن كل هذه الوسائل يدخرها الله عز وجل لعباده الصادقين، الذين علم الله من قلوبهم الانقطاع إليه، وصدق اللجوء والرغبة فيما عنده.

أيها الإخوة... هذه نماذج مما سُلط على المسلمين من كيد عدوهم فانتصروا عليهم بقوة الله تعالى، لا بقوتهم هم، وأما الأشياء التي سُلط على المسلمين فيها نكبات ومصائب إلهية، فحدث ولا حرج:

زلزلة الأرض

مثال: زلزلت الأرض في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه -زلزلت المدينة- فماذا صنع عمر؟ ضربها برجله، وقال لها: [[اسكني بإذن الله تعالى، ثم قال للناس لمن حوله: والله ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه -أي: لابد أنكم فعلتم شيئاً، زلزلت منه الأرض- والله لئن زلزلت مرةً أخرى، لا أساكنكم في هذه الأرض أبداً، ولأخرجنَّ من بين أظهركم]] يقول: إذا حصل الزلزال مرةً أخرى، سوف أخرج وأترككم، وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وسنده صحيح.

وكذلك حال ابن مسعود رضي الله عنه، عندما رجفت الكوفة في عهده، فقال لأهل الكوفة: [[إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه]] والأثر رواه الطبري في تفسيره.

أي: إن الله عز وجل يطلب منكم أن تتوبوا، وأن تُنيبوا، وأن تُقلعوا، وأن تعودوا إلى الله عز وجل، فأروا الله عز وجل من أنفسكم صدقاً في التوبة.

الكسوف والخسوف

ولذلك تجد أن الله عز وجل شرع لنا صلاة الكسوف، وصلاة الخسوف، وصلاه الاستسقاء، لماذا؟ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، حين صلى فقال: {إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله تعالى بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته} وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء:59].

ولذلك لما كسفت الشمس خرج الرسول صلى الله عليه وسلم فزعاً يجُرُ إزاره، يخشى أن تكون الساعة، فصلى وبكى عليه الصلاة والسلام، وقرأ القرآن وتقدم وهو يصلي، ثم تأخر، وتكعكع، وقال عليه الصلاة والسلام: {عُرضت عليَّ الجنة والنار في عرض هذه الجدار} حتى أنه من طول صلاته صلى الله عليه وسلم، كان يُصيب بعض من يصلون وراءه الغشيان، يعني: يثقل عليهم، وقد يقعد أحدهم على الأرض، وقد يُصاب بشيءٍ من الغشيان، بسبب طول القيام.

لأنه عليه الصلاة والسلام كان صاحب قلبٍ حي، وكان صاحب قلب يقظ، فهكذا أمر الله عز وجل عباده بهذه الصلوات، بل عند العلماء صلاة يسمونها صلاة الآيات، تفعل إذا كان هناك زلزلة مثلاً، أو كان هناك فيضان، أو كان هناك آية غير الكسوف والخسوف، وهذه الصلاة ثبتت عن ابن عباس رضي الله عنه، كما ذكر ذلك البيهقي، وثبتت عن عائشة، وجاءت عن ابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم: أن المسلمين يصلون صلاة الآيات، إذا حصل آية من الآيات الكونية غير الخسوف، وغير الكسوف، كالزلزلة -مثلاً- أو البركان، أو الفيضان أو ما شابه ذلك.

إذاً: فقد صلى الرسول عليه الصلاة والسلام لما حصل الخسوف، والكسوف.

قحط المطر

ولما قحط المطر وأجدبت الأرض وجاءه رجل -كما هو معروف في الصحيح في حديث أنس- فقال: {يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع الرسول عليه الصلاة والسلام يديه إلى السماء، وهو على المنبر، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال: فوالله ما نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على المنبر، إلاَّ والمطر يتقاطر من لحيته عليه الصلاة والسلام}.

هكذا استسقى عليه الصلاة والسلام، ومدحه عمه أبو طالب، فقال:

أبيض يستسقى الغمام بوجهه     ثمال اليتامى عِصمةٌُ للأراملِ

يعوذ به الـهُلَّاك من آل هاشمٍ     فهم عنده في خيرة وفواضلِ

ومن بعده لما قحط المطر، وأجدبت الأرض، جاء الناس إلى عمر يشكون إليه، فقال عمر: [[اللهم إنا كُنا نستشفع إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسلُ إليكَ بِعَمِّ نبيك صلى الله عليه وسلم -بـالعباس- قم يا عباس فادع، فقام العباس فدعا، وقال: اللهم إنه ما نـزل بلاءٌُ إلا بذنبٍ ولا رُفع إلاَّ بتوبة، واستغفر الله عز وجل، فما انتهى من دعائه، حتى نـزل المطر، وأغاث الله المسلمين]].

هكذا ظل المسلمون في كل زمان، إذا نـزلت بهم نازلة، استسقوا الله عز وجل فأغاثهم وأسقاهم، ولعل من طريق ما يروى ويساق في هذا، ما نُقل عن المنذر بن سعيد، وهو من علماء الأندلس الكبار، في عهد بني أمية.

فقد قحط الناس في بعض السنين، آخر مدة عبد الرحمن الناصر، فأمر الحاكم، المنذر بأن يخرجَ إلى الصحراء ويستسقي، ويطلب من الله عز وجل أن ينـزل للناس المطر، وصام الرجل أياماً، وتأهب واجتمع الناس في مصلى يقال له: مصلى الربض خارج المدينة، اجتمعوا فتأخر عليهم العالم المنذر بن سعيد، ولم يخرج إليهم، والأمير ينظر من الشرفة -يطل عليهم من قصره- ينظر حال الناس، ثم خرج هذا العالم متخشعاً، متضرعاً، متواضعاً، وقام ليخطب على المنبر، فلما رأى حال الناس، وما هم فيه من الضعف والحاجة بكى وأجهش، وغلبته تلك الحال ونشج وانتحب، ثم بدأ يخطب، فقال: سلامٌ عليكم، ثم بعد ذلك غلبه ما يجد، فلم يستطع أن يكمل، ولم يكن هذا من عادته، بل كان خطيباً لا يُشق له غبار، لكنه من شدة حاله، لما قال سلامُُ عليكم، لم يستطع إن يكملها، ثم استأنف بعد ذلك، وهو شبه حسير، فنظر إلى الناس، وقال: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54] ثم قال: استغفروا ربكم، ثم توبوا إليه، وتقربوا بالأعمال الصالحة، فضج الناس وهو يتكلم بكلام متقطع من شدة البكاء، فضج الناس بالبكاء، وجأروا بالدعاء، فلم ينفض القوم، حتى نـزل على الناسِ غيثٌ عظيم.

واستسقى مرة من المرات، فجعل يهتف بالخلق: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر:15-16] فهيج الناس على البكاء ونـزل المطر.

ومره ثالثة: جاءه رسول الأمير يقول له: الأمير يأمرك بأن تخرج للاستسقاء، فقال: ماذا صنع الأمير، قبل أن أخرج لابد أن أعرف ماذا صنع؟ هل غير المنكرات؟ هل أبطل المفاسد؟ هل أزال المكوس والضرائب التي أثقلت كواهل الناس؟ هل انتهى عن المعاصي؟ هل حكم بين الناس بكتاب الله وسنة رسوله؟ هل أزال المظالم؟ هل ولى على الناس العدول الأخيار الأكفاء؟ وهكذا… انطلق يتساءل، ماذا صنع الأمير؟ فقط يأمرنا بأن نستسقي كل يوم أو كل أسبوع!! لا أذهب حتى أعرف ماذا صنع؟ فقال له: إنني ما رأيت الأمير منكسراً أشد منه هذا اليوم! يقول الرسول -رسول الأمير-: إنه قد خرج من المظالم، وتصدق بمالٍ كثير، ولبس أخشن الثياب، وأبعدها عن الترف والزينة، وأنه قد سجد في التراب، وعلا نحيبه، وارتفع صوته، وهو يخاطب الله عز وجل، ويقول:

يا رب هذا أنا، ناصيتي بيدك، أتراك تعذب الرعية بذنبي، وأنا لا أفوتك يا رب! فلما سمع المنذر بن سعيد هذا الكلام، قال للخادم الذي معه: احمل الممطرة -الممطرة بمعنى: الشمسية الآن التي تقي من المطر- إذا خشع جبار الأرض، رحم جبار السماء.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع