سلسلة منهاج المسلم - (15)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب منهاج المسلم، وها نحن مع كتاب العقيدة، فهيا بنا نستذكر ما سبق أن علمناه؛ لنعلم أن العقيدة الإسلامية الصحيحة الثابتة بالكتاب - أي: القرآن- والسنة - أي: أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم- بمثابة الروح، صاحبها حي، يعي ويسمع، يعطي ويأخذ، يذهب ويجيء؛ لأنه كامل الحياة، وفاقدها ميت، لا يسمع نداءً ولا يجيب، لا يأمر بخير ولا ينهى عن شر؛ لأنه ميت.

والدليل على موته المعنوي هذا: أننا لا نكلفه بصيام ولا صلاة، لا بجهاد ولا رباط، وهو يعيش بيننا، ويسمع نداء حي على الصلاة فلا يحضر، فليس من حقنا أن نلزمه بالحضور إلى المسجد وهو كافر؛ لأنه ميت، ويوم أن تنفخ فيه روح الإيمان حينئذ مره فإنه يفعل، وانهه فإنه يترك، وناده يجب نداءك، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80].

ثانياً: وهو واقع العالم الإسلامي من قرون: من ضعفت عقيدته ولم تصف في نفسه ولم يعرف أصولها ولم يتمكن منها حكمه حكم المريض، فالمريض يقدر أحياناً أن يقوم وأحياناً لا يقوم، ويستطيع مرة أن يتكلم وأخرى يعجز؛ وذلك لضعفه، وليس هو بميت، بل هو حي، ولكنه ضعيف، فلهذا يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يصحح عقيدته فلو عرضها على القرآن لوافق عليها، ولو عرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم - أي: على سنته- لصدق عليها، وقال: عقيدتك صحيحة، ومن يأبى هذا يبقى كالمريض، يفعل خيراً ويترك آخر، ينته عن شر ويفعل آخر؛ وذلك لضعفه ولمرضه وقلة صحته. وافتح عينيك وانظر في العالم الإسلامي، فأهل الفساد والشر والظلم والفسق والفجور بيننا والله لضعف عقيدتنا، والله لمن ضعف العقيدة، فنحن ما كملنا فيها، وإلا لم نتخبط ونقع في هذه الذنوب والآثام.

وهنا نقول: إن العقيدة الإسلامية مبناها -أي: ما تنبني عليه وتقوم- ستة أركان، إذا سقط ركن سقطت كلها. ستة أركان جاءت مبينة في القرآن، وجاءت مبينة في السنة على لسان الحبيب صلى الله عليه وسلم.

أما في القرآن: فقد قال تعالى في سورة البقرة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]. فهذه خمسة أركان، والسادس جاء في سورة القمر، إذ قال تعالى -وقوله الحق-: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].

فأركان العقيدة الإسلامية ستة، وهي: الإيمان بالله، الإيمان بالملائكة، الإيمان بالكتب، الإيمان بالرسل، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالقدر خيره وشره، أي: ما قضاه الله وقدره من خير وشر. ودرسنا الأركان الأربعة.

وها نحن مع الركن الخامس، ألا وهو الإيمان بيوم القيامة، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالحساب والجزاء، وكلها ألفاظ تدل على معنى واحد.

وقد بينا الإيمان باليوم الآخر، وانتقلنا إلى الأدلة النقلية، فاستعرضنا ما جاء في القرآن الكريم من آياته المبينة المقررة لعقيدة اليوم الآخر والبعث والجزاء في أكثر من عشر أو عشرين آية، وانتهينا إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخباره عنها، فهيا نصغي إلى إخبار الرسول بيوم القيامة، وما يجري وما يتم فيه.

إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن اليوم الآخر

قال: [ ثانياً: إخباره صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تقوم الساعة)] نهاية هذه الحياة وبداية الأولى هي الساعة الأولى [(حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه)] يا ليتني كنت مكانه وأستريح؛ لما يعاني من آلام وأتعاب، وكلها تعود إلى الخبث والظلم والشر والفساد. هذا دليل قاطع، هذا حديث رسول الله يدل على البعث الآخر.

[ وفي قوله: (إن الساعة لا تكون) ] أي: لا توجد [ (حتى تكون عشر آيات)] الساعة.. يوم القيامة.. اليوم الآخر لا يكون حتى توجد قبله عشر آيات نشاهدها. ما هذه الآيات؟ [ ( خسف بالمشرق ) ] والخسف معروف، فالأرض تنهار وتسقط أسفل بكل ما فيها، المساحة التي أراد الله أن تخسف [ ( وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب ) ] هذه الجزيرة، فلهذا إذا رأينا بلداً في الجزيرة انغمس أهله في الذنوب والآثام نتوقع أن يكون الخسف هناك [ ( والدخان ) ] يعلو الكون ويغطيه [ ( والدجال ) ] المسيح الدجال [ ( ودابة الأرض ) ] تلك التي تخرج من صدع من جبل الصفا، والآن لا يوجد صدع، بل هو شارع وطريق واسع يأتيه المارة هيئ لها بتدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه [ (ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها )] ودائماً ألفت النظر إلى أن الشمس في فلك، ولما تعجز عن إكمال دورتها تنعكس وترجع من الغرب؛ لضعف الفلك [(ونار تخرج من قعر عدن)] أي: من وسطها [ ( ترحل الناس )] وتقودهم إلى أرض القدس .. أرض المحشر [ ( ونزول عيسى ابن مريم ) ] من الملكوت الأعلى إلى الأرض، وينزل على منارة مسجد دمشق.

هذه العشر الآيات لا تقوم الساعة حتى تمر بكاملها، لا تقوم الساعة حتى يشاهد العالم هذه الآيات العشر، فإذا انتهت قامت القيامة.

[ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ) ] وقد جاء في الحديث ( لا أدري أيوماً أو شهراً أو عاماً ).[ ( فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود - رضي الله عنه- فيطلبه فيهلكه ) ] أي: عيسى يهلك الدجال [ ( ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة) ] أبداً [ (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام)] شمالية [ (فلا يبقى على ظهر الأرض من في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته )] فالصالحون يموتون في يوم واحد كلهم [ ( حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه )] أي: تلك الريح أو ذاك النسيم الشمالي [ ( فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع -والعياذ بالله- لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: بماذا تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم ) ] وهم في ذلك الوقت رزقهم واسع، وعيشهم كذلك [ ( ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ) ] يميل هكذا برأسه وهكذا [ ( وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ) ] أي: يطينه بالطين؛ ليجمع فيه الماء [ ( قال: فيصعق ويصعق الناس كلهم ) ] هذه النفخة الأولى [ ( ثم ينزل مطراً كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ) ] ينزل ماء من السماء رقيقاً كالطل، ينبت منه أجسام الناس [ ( ثم ينفخ فيه أخرى ) ] نفخة البعث [ ( فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: أيها الناس! هلم إلى ربكم، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]. ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) ] لا ينجو من الألف إلا واحد، بشر واحد، وهذا في وقت انتشار الإسلام وسيادته كالآن، ونسبة المسلمين أكثر نسبة إلى الكافرين، فكيف بقرون عديدة وأجيال كلها كافرة؟ [ ( فذلك يوم يجعل الولدان شيباً، وذلك يوم يكشف عن ساق ) ] الحديث رواه مسلم ، ولا تفكروا أننا نروي أحاديث غير صحيحة.

قال: [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)] كما تقدم الأطهار الأصفياء تأتي تلك الريح أو ذلك النسيم فيقبض أرواحهم، فيبقى شرار الخلق، هذه أحاديث رسول الله تقرر معنى البعث الآخر [ وفي قوله (ما بين النفختين أربعون)] ما بين نفخة الفناء ونفخة القيامة. قال أبو هريرة : (لا أدري أربعون سنة أو يوماً أو كذا) أخبر الرسول بأنها أربعون [(ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل)]، أي: الثوم والبصل والخردل، ينزل ماء من السماء والأرض قد استوت وأصبحت كالصحفة ويدخل في الأرض ويوافق ذلكم العظيم الصغير عجب الذنب، فننبت كما ينبت البقل والثوم والبصل. قال: [(وليس من الإنسان شيء إلا يبلى)] يفنى [(إلا عظماً واحداً، وهو عجب الذنب)] الذنب هو الذيل؛ لأنه في آخر ظهر الإنسان، وهو عجب الذنب [(ومنه يركب الخلق يوم القيامة)] سبحان الله العظيم! عظيم في آخر خرزات الظهر، قد لا يرى إلا بالمجهر، منه ينبت كما ينبت الخردل واللفت، هذه أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل خبر يقرر معنى الحياة الثانية والدار الآخرة واليوم الآخر [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس: ( أيها الناس! إنكم محشورون إلى ربكم حفاة عراة غرلاً ) ] ومعنى غرلاً: غير مختونين، وقلفة الذكر تكون كما كانت عندما ولدت [ ( ألا وإن أول الخلق يكسى إبراهيم عليه السلام ) ] أول من يكسى حلة في ذلك الموقف وكل الخليقة عراة إبراهيم؛ وذلكم لما ابتلاه الله به، فقد ابتلاه وصبر، وما صبر صبره أحد، ونستعرض لكم نبذة من ذلك:

أولاً: قام يدعو إلى لا إله إلا الله وحده في الأرض وفي الدولة العظمى في ذلك الوقت دولة البابليين، ويدعو إلى أن كل هذه الآلهة باطلة، ولا إله إلا الله، ويحكم عليه بالإعدام بشر نوع من الإعدام، فأججوا ناراً، ومكثوا أربعين يوماً وهم يجمعون الحطب، وكانت المرأة تنذر لآلهتها حزمة الحطب، والفويسقة لعنة الله عليها تنفخ في الحطب؛ لتشتعل النار، والوزغ هي الفويسقة، فلهذا قال الرسول: (اقتلوها). وكان لأم المؤمنين عائشة في حجرتها عود من جريد النخل، كلما تراها تقتلها، ثم لما أرادوا أن يدخلوه النار لم يكن هناك من يستطيع أن يصل إليها إلا المنجنيق فقط، فصنعوا منجنيقاً، ووضعوه فيه ورموه فيها؛ إذ لاشتعال النار لم يقدر أحد أن يصل إليها، فصنعوا منجنيقاً كمناجيق العرب ورموه فيها، وهو في طريقه إليها عرض له جبريل قائلاً: ( هل لك يا إبراهيم! حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل ). فصدر أمر الله التام على الفور: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. ولولا قوله: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لمات من شدة البرد، ولاستحالت إلى ثلج أقوى مما تتصور، لكن قوله: وَسَلامًا [الأنبياء:69] جعله يخرج منها وجبينه يتصفد عرقاً.

ثانياً: لما حكموا بإعدامه ونجاه الله عزم على الهجرة، فخرج من تلك البلاد متجهاً غرباً إلى أرض الشام، ومعه زوجه سارة وابن أخيه لوط بن هاران عليه السلام، وخرج من تلك البلاد، ومن عجيب ما ابتلاه الله به لما دخل الأرض المصرية ومعه زوجته سارة - أما لوط فتخلف بعدهم بأرض القدس في فلسطين- فرأى بعض العملاء المذنبين تلك الفتاة الحسناء ورفعوا قضية إلى سلطان البلاد، وقالوا: إن هنا فتاة لا تصلح إلا لك، فهي امرأة حسناء جميلة ما رأينا نظيرها، وهذه لا تصلح إلا لسيادتك، فقال: ائتوني بها، فماذا يصنع إبراهيم؟ فمن ابتلي بمثل هذا نسأل الله العافية؟ ما كان منه إلا أن قال لـسارة : يا سارة ! اعلمي أنه لا يوجد في الأرض من يعبد الله إلا أنا وأنت، فإذا سألك عني فقولي: أخي، ولا تقولي: زوجي؛ لأنها إذا قالت: زوجي يقول: اقتلوه؛ حتى يتزوجها، وإذا قالت: أخي فلا بأس، واقتيدت إلى ذلك السلطان. وأراه الله عجائب قدرته، وخلاصتها: إذا وضع يده عليها شل الشلل الفوري - تيبس يده- ثلاث مرات، ويقول: اسألي ربك لي، وفي الرابعة قال: اخرجوا عني هذه وصنعوها - بلغتنا- فأعطاها هاجر تخدمها، وأعطاها ما شاء الله أن يعطيها. وهذه بلية عظيمة لـإبراهيم؛ حتى يكسى هذه الحلل.

وأعظم من ذلك أن يفرض الله عليه أن يبني له بيتاً في جبال فاران حيث لا إنس ولا جان ولا طير ولا حيوان في صحراء بين جبال، فقال له: ابن لنا بيتاً يا إبراهيم! فبناه، ولهذا قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، أي: بأوامر فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ [البقرة:124] إذاً إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] ففاز بها إبراهيم، فلهذا أول من يكسى في عرصات القيامة إبراهيم، قل هذا وتحدث به ولا تخف. هذه أخبار الغيب التي يخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: [ ( ألا وإن أول الخلق يكسى إبراهيم عليه السلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب! أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ). وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ) ] ووالله أننا سنسأل عن هذه الأسئلة، وكل واحد يفكر في نفسه، ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ). أربع خصال [ ( عن عمره فيما أفناه ) ] فيما أفنيت هذا العمر القصير أو الطويل؟ قل: في خدمة ربي [ ( وعن علمه ما عمل به ) ] يا من علمت ماذا عملت بعلمك؟ [ ( وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ) ] سؤال المال مرتين، من أين اكتسبته؟ وكيف أنفقته؟ [ ( وعن جسده فيما أبلاه ) ] وأفناه. ( لا تزول قدما عبد )، وهو واقف، قبل أن يرفع رجله ويتخطى الأرض. ( حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسده فيما أبلاه ). أفي طاعة الله أم في معاصيه؟ ويتم الجزاء بحسب الواقع [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( حوضي مسيرة شهر؟ ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ أبداً ) ] هذا هو حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم، والذين يشربون منه أتباعه، المؤمنون به، المطيعون له ولربه تعالى، وأناس يدفعون دفعاً عنه. من يشرب من هذا الحوض في عرصات القيامة؟ لأن الوقفة طولها خمسين ألف سنة، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]. ومن لعطش الناس الواقفين؟ والله إن العرق ليلجم بعضهم إلجاماً.

هذا الحوض حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم مسيرة شهر، من هنا إلى الرياض طوله، والعرض لا تسأل، ويصفه صلى الله عليه وسلم بأنه رآه في الجنة ليلة الإسراء والمعراج، فيقول: ( ماؤه أبيض من اللبن ). ما في بياض أكثر من اللبن، ( وريحه أطيب من المسك، وكيزانه عدد نجوم السماء ). كنجوم السماء في صفائها وكثرتها. ( من شرب منه لا يظمأ أبداً ). اللهم اجعلنا من الشاربين منه [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها لما ذكرت النار بكت ] وهيا نحاول أن نكشف الستار عنا، من منا إذا ذكر النار أو ذكرت له يبكي؟ لا أحد إلا من رحم الله. عائشة أم المؤمنين ابنة الصديق إذا ذكرت النار بكت. فقال لها الحبيب صلى الله عليه وسلم: [ ( وما يبكيك. قالت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ ) ] هل تذكرون أزواجكم يا رسول الله! وأقاربكم؟ [ ( فقال: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً ) ] في ثلاثة مواطن لا يذكر أحد أحداً أبداً، لا أب ابنه، ولا أخ أخيه، ولا نبي تابعه، في ثلاثة مواطن [ ( فلا يذكر أحد أحداً، عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل ) ] هذا الموطن الأول [ ( وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله أم وراء ظهره ) ] وثالثاً: [ ( عند الصراط فإذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوزه ) ] هذه المواطن الثلاثة لا نبي يذكر أتباعه، ولا أب ولا قريب ولا بعيد.

عائشة بكت لما ذكرت النار، فسألها الرسول: لم بكيت؟ قالت: ذكرت النار، ثم قالت له: ( فهل تذكرون أهليكم يا رسول الله؟! قال: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً ).

الموطن الأول: هو عند الميزان.

الثاني: عند تطاير الصحف.

ثالثاً: عند العبور على الجسر على الصراط.

قال: [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( لكل نبي دعوة ) ] أي: مستجابة. كل نبي أعطاه الله جائزة، وهي دعوة مستجابة، يطلب ما يشاء، هذه هي الجوائز الإلهية، لكن خاصة بالأنبياء، كل نبي عنده دعوة مستجابة يطلب ما يشاء، دعوة مستجابة.

قال: [ ( قد دعاها لأمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ) ] فصلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل عليه وسلم تسليماً. جزاه الله عنا خيراً [ وفي قوله: صلى الله عليه وسلم: ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) ] ( أنا سيد ولد آدم )، أي: أبناء آدم [ ( وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر ) ] قال لنا: لا أقول: أنا أفخر عليكم، لا، هذا هو الواقع. ( وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر ). فتنشق عنه في هذه الحجرة ويخرج منها. هذه الأحاديث كلها تقرر مبدأ اليوم الآخر [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سأل الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة ) ] اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة. ( من سأل الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة ). أفلا تقبل دعوة الجنة؟ [ ( ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار ) ] وعندنا حديث صحيح بعد صلاة المغرب وبعد صلاة الصبح نقول: اللهم أجرني من النار سبع مرات، ورد لازم. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.

والآن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة في هذا، فهي تقرر مبدأ اليوم الآخر والحياة الثانية ويوم القيامة بالتفصيل، فلا ينكر البعث الآخر إلا ميت.

إيمان الملايين من الأنبياء والمرسلين والحكماء والعلماء والصالحين من عباد الله باليوم الآخر

قال: [ إيمان الملايين من الأنبياء والمرسلين والحكماء والعلماء والصالحين من عباد الله باليوم الآخر، وبكل ما ورد فيه، وتصديقهم الجازم به ] وهذا دليل قوي، ولنضرب مثلاً: إذا أتى شخص من اليابان وقال: أنا من اليابان، فنقول: نعم من اليابان، ونسمع بطوكيو وما رأيناها، ونؤمن أنها موجودة وما رأيناها، ولا رآها آباءنا ولا أمهاتنا ولا إخواننا، وإنما لانتشار الخبر. وهذا الإيمان قد قبله وقال به وآمن به الملايين من الخلق، فكيف تنكره أنت؟ وبأي عقل؟ وكيف تقول: لا بعث ولا جزاء. هذا تابع للأدلة النقلية. نقل الناس الإيمان بالبعث جيلاً عن جيل.

قال: [ ثانياً: إخباره صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تقوم الساعة)] نهاية هذه الحياة وبداية الأولى هي الساعة الأولى [(حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه)] يا ليتني كنت مكانه وأستريح؛ لما يعاني من آلام وأتعاب، وكلها تعود إلى الخبث والظلم والشر والفساد. هذا دليل قاطع، هذا حديث رسول الله يدل على البعث الآخر.

[ وفي قوله: (إن الساعة لا تكون) ] أي: لا توجد [ (حتى تكون عشر آيات)] الساعة.. يوم القيامة.. اليوم الآخر لا يكون حتى توجد قبله عشر آيات نشاهدها. ما هذه الآيات؟ [ ( خسف بالمشرق ) ] والخسف معروف، فالأرض تنهار وتسقط أسفل بكل ما فيها، المساحة التي أراد الله أن تخسف [ ( وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب ) ] هذه الجزيرة، فلهذا إذا رأينا بلداً في الجزيرة انغمس أهله في الذنوب والآثام نتوقع أن يكون الخسف هناك [ ( والدخان ) ] يعلو الكون ويغطيه [ ( والدجال ) ] المسيح الدجال [ ( ودابة الأرض ) ] تلك التي تخرج من صدع من جبل الصفا، والآن لا يوجد صدع، بل هو شارع وطريق واسع يأتيه المارة هيئ لها بتدبير ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه [ (ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها )] ودائماً ألفت النظر إلى أن الشمس في فلك، ولما تعجز عن إكمال دورتها تنعكس وترجع من الغرب؛ لضعف الفلك [(ونار تخرج من قعر عدن)] أي: من وسطها [ ( ترحل الناس )] وتقودهم إلى أرض القدس .. أرض المحشر [ ( ونزول عيسى ابن مريم ) ] من الملكوت الأعلى إلى الأرض، وينزل على منارة مسجد دمشق.

هذه العشر الآيات لا تقوم الساعة حتى تمر بكاملها، لا تقوم الساعة حتى يشاهد العالم هذه الآيات العشر، فإذا انتهت قامت القيامة.

[ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ) ] وقد جاء في الحديث ( لا أدري أيوماً أو شهراً أو عاماً ).[ ( فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود - رضي الله عنه- فيطلبه فيهلكه ) ] أي: عيسى يهلك الدجال [ ( ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة) ] أبداً [ (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام)] شمالية [ (فلا يبقى على ظهر الأرض من في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته )] فالصالحون يموتون في يوم واحد كلهم [ ( حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه )] أي: تلك الريح أو ذاك النسيم الشمالي [ ( فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع -والعياذ بالله- لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: بماذا تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم ) ] وهم في ذلك الوقت رزقهم واسع، وعيشهم كذلك [ ( ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ) ] يميل هكذا برأسه وهكذا [ ( وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ) ] أي: يطينه بالطين؛ ليجمع فيه الماء [ ( قال: فيصعق ويصعق الناس كلهم ) ] هذه النفخة الأولى [ ( ثم ينزل مطراً كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ) ] ينزل ماء من السماء رقيقاً كالطل، ينبت منه أجسام الناس [ ( ثم ينفخ فيه أخرى ) ] نفخة البعث [ ( فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: أيها الناس! هلم إلى ربكم، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]. ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) ] لا ينجو من الألف إلا واحد، بشر واحد، وهذا في وقت انتشار الإسلام وسيادته كالآن، ونسبة المسلمين أكثر نسبة إلى الكافرين، فكيف بقرون عديدة وأجيال كلها كافرة؟ [ ( فذلك يوم يجعل الولدان شيباً، وذلك يوم يكشف عن ساق ) ] الحديث رواه مسلم ، ولا تفكروا أننا نروي أحاديث غير صحيحة.

قال: [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)] كما تقدم الأطهار الأصفياء تأتي تلك الريح أو ذلك النسيم فيقبض أرواحهم، فيبقى شرار الخلق، هذه أحاديث رسول الله تقرر معنى البعث الآخر [ وفي قوله (ما بين النفختين أربعون)] ما بين نفخة الفناء ونفخة القيامة. قال أبو هريرة : (لا أدري أربعون سنة أو يوماً أو كذا) أخبر الرسول بأنها أربعون [(ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل)]، أي: الثوم والبصل والخردل، ينزل ماء من السماء والأرض قد استوت وأصبحت كالصحفة ويدخل في الأرض ويوافق ذلكم العظيم الصغير عجب الذنب، فننبت كما ينبت البقل والثوم والبصل. قال: [(وليس من الإنسان شيء إلا يبلى)] يفنى [(إلا عظماً واحداً، وهو عجب الذنب)] الذنب هو الذيل؛ لأنه في آخر ظهر الإنسان، وهو عجب الذنب [(ومنه يركب الخلق يوم القيامة)] سبحان الله العظيم! عظيم في آخر خرزات الظهر، قد لا يرى إلا بالمجهر، منه ينبت كما ينبت الخردل واللفت، هذه أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل خبر يقرر معنى الحياة الثانية والدار الآخرة واليوم الآخر [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس: ( أيها الناس! إنكم محشورون إلى ربكم حفاة عراة غرلاً ) ] ومعنى غرلاً: غير مختونين، وقلفة الذكر تكون كما كانت عندما ولدت [ ( ألا وإن أول الخلق يكسى إبراهيم عليه السلام ) ] أول من يكسى حلة في ذلك الموقف وكل الخليقة عراة إبراهيم؛ وذلكم لما ابتلاه الله به، فقد ابتلاه وصبر، وما صبر صبره أحد، ونستعرض لكم نبذة من ذلك:

أولاً: قام يدعو إلى لا إله إلا الله وحده في الأرض وفي الدولة العظمى في ذلك الوقت دولة البابليين، ويدعو إلى أن كل هذه الآلهة باطلة، ولا إله إلا الله، ويحكم عليه بالإعدام بشر نوع من الإعدام، فأججوا ناراً، ومكثوا أربعين يوماً وهم يجمعون الحطب، وكانت المرأة تنذر لآلهتها حزمة الحطب، والفويسقة لعنة الله عليها تنفخ في الحطب؛ لتشتعل النار، والوزغ هي الفويسقة، فلهذا قال الرسول: (اقتلوها). وكان لأم المؤمنين عائشة في حجرتها عود من جريد النخل، كلما تراها تقتلها، ثم لما أرادوا أن يدخلوه النار لم يكن هناك من يستطيع أن يصل إليها إلا المنجنيق فقط، فصنعوا منجنيقاً، ووضعوه فيه ورموه فيها؛ إذ لاشتعال النار لم يقدر أحد أن يصل إليها، فصنعوا منجنيقاً كمناجيق العرب ورموه فيها، وهو في طريقه إليها عرض له جبريل قائلاً: ( هل لك يا إبراهيم! حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل ). فصدر أمر الله التام على الفور: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. ولولا قوله: وَسَلامًا [الأنبياء:69] لمات من شدة البرد، ولاستحالت إلى ثلج أقوى مما تتصور، لكن قوله: وَسَلامًا [الأنبياء:69] جعله يخرج منها وجبينه يتصفد عرقاً.

ثانياً: لما حكموا بإعدامه ونجاه الله عزم على الهجرة، فخرج من تلك البلاد متجهاً غرباً إلى أرض الشام، ومعه زوجه سارة وابن أخيه لوط بن هاران عليه السلام، وخرج من تلك البلاد، ومن عجيب ما ابتلاه الله به لما دخل الأرض المصرية ومعه زوجته سارة - أما لوط فتخلف بعدهم بأرض القدس في فلسطين- فرأى بعض العملاء المذنبين تلك الفتاة الحسناء ورفعوا قضية إلى سلطان البلاد، وقالوا: إن هنا فتاة لا تصلح إلا لك، فهي امرأة حسناء جميلة ما رأينا نظيرها، وهذه لا تصلح إلا لسيادتك، فقال: ائتوني بها، فماذا يصنع إبراهيم؟ فمن ابتلي بمثل هذا نسأل الله العافية؟ ما كان منه إلا أن قال لـسارة : يا سارة ! اعلمي أنه لا يوجد في الأرض من يعبد الله إلا أنا وأنت، فإذا سألك عني فقولي: أخي، ولا تقولي: زوجي؛ لأنها إذا قالت: زوجي يقول: اقتلوه؛ حتى يتزوجها، وإذا قالت: أخي فلا بأس، واقتيدت إلى ذلك السلطان. وأراه الله عجائب قدرته، وخلاصتها: إذا وضع يده عليها شل الشلل الفوري - تيبس يده- ثلاث مرات، ويقول: اسألي ربك لي، وفي الرابعة قال: اخرجوا عني هذه وصنعوها - بلغتنا- فأعطاها هاجر تخدمها، وأعطاها ما شاء الله أن يعطيها. وهذه بلية عظيمة لـإبراهيم؛ حتى يكسى هذه الحلل.

وأعظم من ذلك أن يفرض الله عليه أن يبني له بيتاً في جبال فاران حيث لا إنس ولا جان ولا طير ولا حيوان في صحراء بين جبال، فقال له: ابن لنا بيتاً يا إبراهيم! فبناه، ولهذا قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، أي: بأوامر فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ [البقرة:124] إذاً إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] ففاز بها إبراهيم، فلهذا أول من يكسى في عرصات القيامة إبراهيم، قل هذا وتحدث به ولا تخف. هذه أخبار الغيب التي يخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: [ ( ألا وإن أول الخلق يكسى إبراهيم عليه السلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب! أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ). وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ) ] ووالله أننا سنسأل عن هذه الأسئلة، وكل واحد يفكر في نفسه، ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ). أربع خصال [ ( عن عمره فيما أفناه ) ] فيما أفنيت هذا العمر القصير أو الطويل؟ قل: في خدمة ربي [ ( وعن علمه ما عمل به ) ] يا من علمت ماذا عملت بعلمك؟ [ ( وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ) ] سؤال المال مرتين، من أين اكتسبته؟ وكيف أنفقته؟ [ ( وعن جسده فيما أبلاه ) ] وأفناه. ( لا تزول قدما عبد )، وهو واقف، قبل أن يرفع رجله ويتخطى الأرض. ( حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسده فيما أبلاه ). أفي طاعة الله أم في معاصيه؟ ويتم الجزاء بحسب الواقع [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( حوضي مسيرة شهر؟ ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ أبداً ) ] هذا هو حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم، والذين يشربون منه أتباعه، المؤمنون به، المطيعون له ولربه تعالى، وأناس يدفعون دفعاً عنه. من يشرب من هذا الحوض في عرصات القيامة؟ لأن الوقفة طولها خمسين ألف سنة، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]. ومن لعطش الناس الواقفين؟ والله إن العرق ليلجم بعضهم إلجاماً.

هذا الحوض حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم مسيرة شهر، من هنا إلى الرياض طوله، والعرض لا تسأل، ويصفه صلى الله عليه وسلم بأنه رآه في الجنة ليلة الإسراء والمعراج، فيقول: ( ماؤه أبيض من اللبن ). ما في بياض أكثر من اللبن، ( وريحه أطيب من المسك، وكيزانه عدد نجوم السماء ). كنجوم السماء في صفائها وكثرتها. ( من شرب منه لا يظمأ أبداً ). اللهم اجعلنا من الشاربين منه [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها لما ذكرت النار بكت ] وهيا نحاول أن نكشف الستار عنا، من منا إذا ذكر النار أو ذكرت له يبكي؟ لا أحد إلا من رحم الله. عائشة أم المؤمنين ابنة الصديق إذا ذكرت النار بكت. فقال لها الحبيب صلى الله عليه وسلم: [ ( وما يبكيك. قالت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ ) ] هل تذكرون أزواجكم يا رسول الله! وأقاربكم؟ [ ( فقال: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً ) ] في ثلاثة مواطن لا يذكر أحد أحداً أبداً، لا أب ابنه، ولا أخ أخيه، ولا نبي تابعه، في ثلاثة مواطن [ ( فلا يذكر أحد أحداً، عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل ) ] هذا الموطن الأول [ ( وعند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله أم وراء ظهره ) ] وثالثاً: [ ( عند الصراط فإذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوزه ) ] هذه المواطن الثلاثة لا نبي يذكر أتباعه، ولا أب ولا قريب ولا بعيد.

عائشة بكت لما ذكرت النار، فسألها الرسول: لم بكيت؟ قالت: ذكرت النار، ثم قالت له: ( فهل تذكرون أهليكم يا رسول الله؟! قال: أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً ).

الموطن الأول: هو عند الميزان.

الثاني: عند تطاير الصحف.

ثالثاً: عند العبور على الجسر على الصراط.

قال: [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( لكل نبي دعوة ) ] أي: مستجابة. كل نبي أعطاه الله جائزة، وهي دعوة مستجابة، يطلب ما يشاء، هذه هي الجوائز الإلهية، لكن خاصة بالأنبياء، كل نبي عنده دعوة مستجابة يطلب ما يشاء، دعوة مستجابة.

قال: [ ( قد دعاها لأمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ) ] فصلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل عليه وسلم تسليماً. جزاه الله عنا خيراً [ وفي قوله: صلى الله عليه وسلم: ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) ] ( أنا سيد ولد آدم )، أي: أبناء آدم [ ( وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر ) ] قال لنا: لا أقول: أنا أفخر عليكم، لا، هذا هو الواقع. ( وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر ). فتنشق عنه في هذه الحجرة ويخرج منها. هذه الأحاديث كلها تقرر مبدأ اليوم الآخر [ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سأل الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة ) ] اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة. ( من سأل الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة ). أفلا تقبل دعوة الجنة؟ [ ( ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار ) ] وعندنا حديث صحيح بعد صلاة المغرب وبعد صلاة الصبح نقول: اللهم أجرني من النار سبع مرات، ورد لازم. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.

والآن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة في هذا، فهي تقرر مبدأ اليوم الآخر والحياة الثانية ويوم القيامة بالتفصيل، فلا ينكر البعث الآخر إلا ميت.

قال: [ إيمان الملايين من الأنبياء والمرسلين والحكماء والعلماء والصالحين من عباد الله باليوم الآخر، وبكل ما ورد فيه، وتصديقهم الجازم به ] وهذا دليل قوي، ولنضرب مثلاً: إذا أتى شخص من اليابان وقال: أنا من اليابان، فنقول: نعم من اليابان، ونسمع بطوكيو وما رأيناها، ونؤمن أنها موجودة وما رأيناها، ولا رآها آباءنا ولا أمهاتنا ولا إخواننا، وإنما لانتشار الخبر. وهذا الإيمان قد قبله وقال به وآمن به الملايين من الخلق، فكيف تنكره أنت؟ وبأي عقل؟ وكيف تقول: لا بعث ولا جزاء. هذا تابع للأدلة النقلية. نقل الناس الإيمان بالبعث جيلاً عن جيل.

[ الأدلة العقلية ].

الإعادة أهون من البداية, وقدرة الله على ذلك

[ أولاً: صلاح قدرة الله لإعادة الخلائق بعد فنائهم؛ إذ إعادتهم ليست بأصعب من خلقهم وإيجادهم على غير مثال سابق ] فالذي أوجد الخليقة على غير مثال سابق، ثم أفناهم لا يعجز أن يعيد مثلهم، فالإعادة أسهل، فقد أوجدهم على غير مثال سابق أبداً، ثم بعد المرور من القرون أفناهم، فلا تقل: يعجز أن يعيدهم، بل الإعادة أسهل، وإن كان الله لا يعجزه شيء. هذا دليل عقلي، يقرر معنى الإيمان بيوم القيامة.

العقل لا ينفي البعث والجزاء

[ ثانياً: ليس هناك ما ينفيه العقل من شأن البعث والجزاء ] فليس هناك ما ينفيه العقل من البعث والجزاء؛ [ إذ العقل لا ينفي إلا ما كان من قبيل المستحيل كاجتماع الضدين ] فاجتماع الضدين العقل لا يقبله، كالقصر والطول، والظلمة والنور، والجوع والعطش، فهما ضدان لا يجتمعان، والعقل لا يقول باجتماعهما، والإعادة الثانية لا تضاد الحياة الأولى [ إذ العقل لا ينفي إلا ما كان من قبيل المستحيل كاجتماع الضدين أو التقاء النقيضين، والبعث والجزاء ليسا من ذلك في شيء ] لا في التناقض ولا في التضاد.

حكمة الله في مخلوقاته

[ ثالثاً: حكمته تعالى الظاهرة في تصرفاته في مخلوقاته والبارزة في كل مظهر ومجال من مجالات الحياة ومظاهرها تحيل عدم وجود البعث ] الآخر، تجعله مستحيلاً[ للخلق بعد موتهم وانتهاء أجل الحياة الأولى، وجزائهم على أعمالهم من خير وشر ].

وجود النعيم والشقاء في الدنيا

[ رابعاً: وجود الحياة الدنيا وما فيها من نعيم وشقاء شاهد على وجود حياة أخرى في عالم آخر يوجد فيه من العدل والخير والكمال والسعادة والشقاء ما هو أعظم وأفضل بكثير مما هو هنا، بحيث إن هذه الحياة وما فيها من سعادة وشقاء لا تمثل من تلك الحياة ] الآخرة [ إلا ما تمثل صورة قصر من القصور الضخمة، أو حديقة واسعة من الحدائق على قطعة ورق ] قطعة الورق كهذه إذا رسمت عليها حديقة بكاملها فالحديقة لا نسبة لها إلى الورقة، أو قصر ضخم بكل ما فيه ترسمه في ورقة صغيرة، لا قيمة للقصر مع تلك الورقة، كذلك الدنيا بكل ما فيها من خير وشر نسبتها للآخرة كهذه الورقة، والله إنها مثلها. كل ما في هذه الدنيا كورقة رسمت عليها مدينة من المدن أو قصر من القصور.

معاشر المستمعين والمستمعات! نكتفي بهذا القدر، ونقرر أن البعث الآخر حق.

[ أولاً: صلاح قدرة الله لإعادة الخلائق بعد فنائهم؛ إذ إعادتهم ليست بأصعب من خلقهم وإيجادهم على غير مثال سابق ] فالذي أوجد الخليقة على غير مثال سابق، ثم أفناهم لا يعجز أن يعيد مثلهم، فالإعادة أسهل، فقد أوجدهم على غير مثال سابق أبداً، ثم بعد المرور من القرون أفناهم، فلا تقل: يعجز أن يعيدهم، بل الإعادة أسهل، وإن كان الله لا يعجزه شيء. هذا دليل عقلي، يقرر معنى الإيمان بيوم القيامة.