آداب الضيافة [1، 2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فالحديث في هذه الليلة في هذه المجموعة من سلسلة الآداب الشرعية الثانية سيكون عن: (إكرام الضيف) وهو من الآداب العظيمة التي حفلت بها هذه الشريعة المباركة، وأكدت ما كان موجوداًعند العرب من المعروف في هذا الأمر.

أما ضاف القوم وتضيفهم أي: نزل عليهم ضيفاً وأضافوه وضيفوه أي: أنزلوه، والضيف معروف.. وجمعه أضياف وضِيفان، والاسم هو الضيافة ويقال: أضفته إضافة إذا نجى إليك من خوف فأجرته، واستضافني فأضفته استجارني فأجرته، وتضيفني فضيفته إذا طلب القِرى، فإذا طلب الإنسان أن ينزل ضيفاً فيقال: تضيف، والذي يقبل هذا يقال: ضيفه، هكذا في المصباح المنير.

والضيافة من آداب الإسلام وشرائعه وأحكامه وهو من سنن المرسلين، وأول من ضيف الضيف إبراهيم عليه السلام، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] فوصفهم بأنهم أكرموا.

وقصته عليه السلام لما قدم لهم عجلاً حنيذاً نزلاً وضيافةً معروفة.

وجاء في بعض الإسرائيليات قصة فيها عبرة: كان إبراهيم عليه السلام لا يأكل وحده، فإذا حضر طعامه أرسل يطلب من يأكل معه، فلقي يوماً رجلاً فلما جلس معه على الطعام قال له إبراهيم: سم الله، قال له الرجل: لا أدري ما الله!! قال له: اخرج عن طعامي، فلما خرج الرجل نزل إليه جبريل فقال له: يقول الله عز وجل: إنه يرزقه على كفره مدى عمره، وأنت بخلت عليه بلقمة، فخرج إبراهيم مسرعاً فرده فقال: ارجع، فقال: لا أرجع، تخرجني ثم تردني لغير معنى، فأخبره بالأمر فقال: هذا رب كريم آمنت، ثم دخل عند إبراهيم وسمى الله وأكل بعدما آمن، وستأتي قصة إبراهيم الخليل عليه السلام والعبر التي فيها والآداب المنطوية عليها بالنسبة للضيافة في قصته مع الملائكة.

وأما لوطٌ عليه السلام فإنه كان يكرم الضيوف أيضاً، كيف لا وهو قد تعلم من إبراهيم عليه السلام، ولما جاءه ضيوفه وجاء قومه يهرعون إليه لعمل الفاحشة فدافعوه الباب حتى كادوا يغلبونه وهو يخاطبهم هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ [هود:78] وأخبر عز وجل أنهم راودوه عن ضيفه فطمس أعينهم ولم يرجمهم فقط ولكن طمس أعينهم ثم رجمهم، وهذا دليل على أهمية وخطورة إيذاء الضيف.

وهذه عجوز السوء امرأته التي كانت تدل الفجار على ضيفه قال الله تعالى فيها: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [الأعراف:83]، وقال: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ [هود:81] لماذا؟ لأنها كانت تدل قومها على الضيفان وهذه خيانة لزوجها؛ فعذب الله عجوز السوء القوادة -كما قال العلماء- بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث.

وقد جاء في معرض الذم ذكر القوم الذين نزل عليهم الخضر وموسى عليهما السلام فأبوا أن يضيفوهما.

وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد كان أعظم الناس في إكرام الضيف على الإطلاق، وقد وصفته خديجة بمثل ذلك من أيام الجاهلية، فلما دخل عليها فزعاً مما لقي في الغار بعد نزول سورة اقرأ وقال: (زملوني) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـخديجة : (أي خديجة مالي لقد خشيت على نفسي؟ -فأخبرها الخبر- فقالت خديجة : كلا. أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف) والحديث في صحيح البخاري.

منزلة الضيف عند أهل الجاهلية

كان لأهل الجاهلية شأن عظيم في إكرام الضيف والذم فيمن لم يكرمه، فجاء الله بهذا الدين الذي رفع شأن هذا الأدب العظيم وهو إكرام الضيف؛ فأقر ما كان عليه أهل الجاهلية من المعروف في هذا وزاد عليه، وأبطل ما كان معروفاً عندهم في هذه الخصلة وغيرها كما كانوا يفعلون من بعث الرجل بأمته إلى ضيفه.

وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم قصة عندما ذهبوا مع أبي سعيد رضي الله عنه، وسافروا ونزلوا على حيٍ من أحياء العرب المشركين، فاستضافوهم فأبو أن يضيفوهم حتى لدغ أحدهم فرقاه أبو سعيد رضي الله عنه على قطيع من الغنم.

وكان قيس بن عاصم الصحابي رضي الله عنه سيد قومه وكان جواداً حليماً، أخذ الأحنف بن قيس الحلم عنه.

تزوج قيس امرأة فأحضرت له طعاماً فقال لها: أين أكيلي؟ فلم تدر ما يقول لها! فأنشأ يقول:

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له      أكيلاً فإني لست آكله وحدي

أخاً طارقاً أو جار بيتٍ فإنني      أخاف ملامات الأحاديث من بعدي

وإني لعبد الضيف من غير ذلة      وما في إلا ذاك من شيمة العبد

فسمعه جارٌ له وكان بخيلاً فقال:

لبيني وبين المرء قيس بن عاصم      بما قال بون في الفعال بعيد

وإنا لنجفو الضيف من غير قلة      مخافة أن يغرى بنا فيعود

وقد أوصى قيس بن خفاف بن عمر بن حنظلة جبيلاً ابنه بقصيدة فيها آداب ومصالح يقول له فيها:

أجبيل إن أباك كارم يومه           فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل

أوصيك إيصاء امرئ لك ناصحٍ      ظن بغيه الدهر غير معقل

الله تتقه وأوف بنذره      وإذا حلفت ممارياً فتحلل

والضيف تكرمه فإن مبيته      حقٌ ولا تك لعنة للنزل

واعلم بأن الضيف مخبر أهله      بمبيت ليلته وإن لم يسأل

أحاديث في إكرام الضيف

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه) رواه البخاري ومسلم .

ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (جائزته يومٌ وليلة) أي: يكرمه ويتحفه ويحفظه يوماً، وثلاثة أيام ضيافة، وقال الخطابي معناه: أنه يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث فيقدم له ما كان بحضرته، الاجتهاد في اليوم الأول هو الجائزة، والثاني والثالث ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاث فصدقة ومعروف ليس بواجب عليه، وإذا فعل فهو تطوع منه إن شاء فعل وإن شاء ترك.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه) معناه: لا يحل للضيف أن يقيم عند المضيف بعد الثلاث من غير استدعاء إلا إذا أصر وألح عليه وطالبه بذلك، لئلا يقع المضيف في الإثم ولئلا يقع في الحرج.

وعن أبي كريمة المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه -أي: الضيف- فهو عليه دين إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أضاف قوماً فأصبح الضيف محروماً فإن نصره حقٌ على كل مسلم -أن تؤخذ له الضيافة- حتى يأخذ بقراء ليلة من زرعه وماله) رواه أبو داود بإسنادٍ حسن كما قال النووي في المجموع شرح المهذب .

وعن عقبة بن عامر قال: (قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقومٍ فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فأخرجوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له) خذوا منهم، رواه مسلم في صحيحه.

كان لأهل الجاهلية شأن عظيم في إكرام الضيف والذم فيمن لم يكرمه، فجاء الله بهذا الدين الذي رفع شأن هذا الأدب العظيم وهو إكرام الضيف؛ فأقر ما كان عليه أهل الجاهلية من المعروف في هذا وزاد عليه، وأبطل ما كان معروفاً عندهم في هذه الخصلة وغيرها كما كانوا يفعلون من بعث الرجل بأمته إلى ضيفه.

وقد حصل للصحابة رضوان الله عليهم قصة عندما ذهبوا مع أبي سعيد رضي الله عنه، وسافروا ونزلوا على حيٍ من أحياء العرب المشركين، فاستضافوهم فأبو أن يضيفوهم حتى لدغ أحدهم فرقاه أبو سعيد رضي الله عنه على قطيع من الغنم.

وكان قيس بن عاصم الصحابي رضي الله عنه سيد قومه وكان جواداً حليماً، أخذ الأحنف بن قيس الحلم عنه.

تزوج قيس امرأة فأحضرت له طعاماً فقال لها: أين أكيلي؟ فلم تدر ما يقول لها! فأنشأ يقول:

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له      أكيلاً فإني لست آكله وحدي

أخاً طارقاً أو جار بيتٍ فإنني      أخاف ملامات الأحاديث من بعدي

وإني لعبد الضيف من غير ذلة      وما في إلا ذاك من شيمة العبد

فسمعه جارٌ له وكان بخيلاً فقال:

لبيني وبين المرء قيس بن عاصم      بما قال بون في الفعال بعيد

وإنا لنجفو الضيف من غير قلة      مخافة أن يغرى بنا فيعود

وقد أوصى قيس بن خفاف بن عمر بن حنظلة جبيلاً ابنه بقصيدة فيها آداب ومصالح يقول له فيها:

أجبيل إن أباك كارم يومه           فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل

أوصيك إيصاء امرئ لك ناصحٍ      ظن بغيه الدهر غير معقل

الله تتقه وأوف بنذره      وإذا حلفت ممارياً فتحلل

والضيف تكرمه فإن مبيته      حقٌ ولا تك لعنة للنزل

واعلم بأن الضيف مخبر أهله      بمبيت ليلته وإن لم يسأل

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه) رواه البخاري ومسلم .

ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (جائزته يومٌ وليلة) أي: يكرمه ويتحفه ويحفظه يوماً، وثلاثة أيام ضيافة، وقال الخطابي معناه: أنه يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث فيقدم له ما كان بحضرته، الاجتهاد في اليوم الأول هو الجائزة، والثاني والثالث ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاث فصدقة ومعروف ليس بواجب عليه، وإذا فعل فهو تطوع منه إن شاء فعل وإن شاء ترك.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثمه) معناه: لا يحل للضيف أن يقيم عند المضيف بعد الثلاث من غير استدعاء إلا إذا أصر وألح عليه وطالبه بذلك، لئلا يقع المضيف في الإثم ولئلا يقع في الحرج.

وعن أبي كريمة المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه -أي: الضيف- فهو عليه دين إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أضاف قوماً فأصبح الضيف محروماً فإن نصره حقٌ على كل مسلم -أن تؤخذ له الضيافة- حتى يأخذ بقراء ليلة من زرعه وماله) رواه أبو داود بإسنادٍ حسن كما قال النووي في المجموع شرح المهذب .

وعن عقبة بن عامر قال: (قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقومٍ فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فأخرجوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له) خذوا منهم، رواه مسلم في صحيحه.

وحكم الضيافة أنها سنة عند جمهور العلماء، فإذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلماً استحب له ضيافته ولا تجب وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة ومذهب الشافعي والجمهور.

وقال الليث بن سعد و أحمد بن حنبل : هي واجبةٌ يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن؛ لأن أهل القرى هم الذين يجتاز بهم المارون وكذلك البدو الذين يجتاز بهم المارون أصحاب الحاجة، أما أهل المدن فلا، قال الإمام أحمد : هي واجبة يوماً وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن واحتجوا بحديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه عليه جائزته) قال أحمد رحمه الله: والضيافة على كل المسلمين، كل من نزل عليه ضيفٌ كان عليه أن يضيفه، قيل: إن ضاف الرجل ضيفٌ كافرٌ؟ يعني: إذا طلب الضيافة هل يضيفه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلة الضيف حق واجبٌ على كل مسلم) وهذا الحديث بين، ولما أضاف المشرك النبي عليه الصلاة والسلام دل على أن المسلم والمشرك يضاف وأنا أراه كذلك.

والضيافة معناها: صدقة التطوع على المسلم والكافر، واليوم والليلة حق واجب.

فإذاً الإمام أحمد رحمه الله قال: الليلة الأولى واجبة.

وقال الجمهور: الضيافة مستحبة إلا إذا صار اضطراراً.

وقول: الواجب يوم وليلة والكمال ثلاثة أيام كما ورد عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، واليوم هذا داخل في الثلاثة، ومن امتنع من إضافته فللضيف بقدر إضافته، قال الإمام أحمد رحمه الله: له أن يطالبه بحقه الذي جعله له النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هذا حقي الليلة، فيجوز أن يأخذ منه ثمن الضيافة التي منعوها إياه، قال أحمد رحمه الله: ولا يأخذ شيئاً إلا بعلم أهله، وفي رواية: أن له أن يأخذ ما يكفيه بغير إذنهم، لو جاء الضيف فلم يضيفوه الليلة الواجبة في البادية أو في القرى يأخذ بغير إذنهم كما في رواية أخرى، واستدل بحديث: (فأخرجوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له).

وكذلك سئل أبو عبد الله أحمد رحمه الله عن الضيافة أي شيء تذهب فيها؟ قال: هي مؤكدة وكأنها على أهل الطرق والقرى الذين يمر بهم الناس أوكد، فأما مثلنا الآن فكأنه ليس مثل أولئك، هذه عبارة مهمة ذكرها ابن قدامة رحمه الله في المغني نقلاً عن الإمام أحمد رحمه الله، قال: وكأنها الوجوب على أهل الطرق والقرى الذين يمر بهم الناس أوكد -المارين في طرق السفر- وهذا قد ينطبق على أصحاب المحطات قال: فأما مثلنا الآن في بغداد -في البلد التي كان فيها الإمام أحمد رحمه الله- فكأنه ليس مثل أولئك.

وذكرنا أن الليث بن سعد ذهب إلى أن الضيافة واجبة واستدل بحديث: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) ولا شك أنها من مكارم الأخلاق وحسن المعاملة بين الخلق، واحتج الجمهور بقوله: ( فليكرم ) بأن الكرامة من خصائص الندب دون الوجوب كما ذكر ذلك ابن العربي رحمه الله في أحكام القرآن.

فهذا بالنسبة لأهل البدو ولأهل القرى والحضر.

إذاً: فهي واجبة على أهل القرى والبادية بخلاف أهل الحضر، وقد ذكر بعض الفقهاء في تعليل هذا -وهو سحنول المالكي رحمه الله-: الضيافة على أهل القرى وأما أهل الحضر فإن المسافر إذا قدم الحضر وجد منزلاً -وهو الفندق- وإنما أراد بذلك أنه يتأكد الندب إليه، ولا يتعين على أهل الحضر بعينه على أهل القرى لمعانٍ:

أحدها: أن ذلك يتكرر على أهل الحضر فلو التزم أهل الحضر؛ الضيافة لما خلوا منها، وأهل القرى يندر ذلك عندهم ويقل فلا تلحقهم بذلك مشقة.

والوجه الآخر: أن المسافر يجد في الحضر من المسكن والطعام وغير ذلك ما يحتاج إليه فلا تلحقه المشقة لعدم الضيافة، عنده فنادق وعنده مطاعم، أما في القرى الصغار فلا يجد ما يحتاج إليه من مطاعم أو مكان يبيت فيه لأنه غريب فهو كالمضطر إلى أن يضيفوه، وحكم القرى الكبار التي توجد فيها الفنادق والمطاعم للشراء ويكثر ترداد الناس عليها حكم الحضر والله أعلم وأحكم.

وهذا فيمن لا يعرفه الإنسان، وأما من يعرفه معرفة مودةٍ أو بينه وبينه قرابة، أو بينه وبينه معنى يقتضي المواصلة والمكارمة فحكمه في الحضر وغيره سواء، والله أعلم.

فأما بالنسبة لثبوت الحق فهل يأخذه بإذنه وبغير إذنه؟

تقدم القولان عن الإمام أحمد رحمه الله، ولكن هنا ملاحظة أشار لها ابن القيم في أعلام الموقعين وابن رجب في القواعد وهي: أن الحق إذا كان سبب ثبوته ظاهراً فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم هنداً وأفتى به الضيف إذا لم يقره من نزل عليه كما في سنن أبي داود قال: (فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه) وفي رواية: (نزل بقومٍ فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه) يعني: لو أتى بفاتورة فقال لهم: سددوا لأنكم لم تضيفوني وهو حق واجب.

قال: وإن كان سبب الحق خفياً لم يجز له ذلك كما أفتى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) هكذا في أعلام الموقعين.

فإذاً لو أن شخصاً نزل عليهم فقالوا: ليس لك شيء، اتركه واجلس إلى يوم القيامة، مع أن حقه واضح للناس الغادين والرائحين، فلو أخذه بغير إذنهم وعدا على غنمٍ لهم أو على شيء فأخذه بالإكراه فحقه واضح يعني: لو أخذ لا يتهم عند الناس.

كذلك المرأة التي زوجها بخيل فإن نفقتها واجبة عليه، فإذا لم ينفق عليها فلها أن تأخذ منه -وهذا حق- ولو بغير إذنه، لكن لو كان سبب الحق خفياً -مثلاً- أحد الأشخاص اختلس منك مالاً ثم استأمنك على ماله فلا يجوز أن تختلس منه خفيةً مادام الحق ليس ثابتاً ظاهراً فلا يجوز الاختلاس، وبهذا يجاب على من سأل من العمال والموظفين، قائلٌ: إن صاحب العمل قد أكل شيئاً من حقي وأنا محاسب ويمكن أن آخذ حقي الذي أخذه مني خلسة دون أن يعلم أحد، فإذا لم يكن حقه ظاهراً مثبتاً يعلم فلا يجوز له أن يأخذ خلسة، وهذا معنى حديث: ( ولا تخن من خانك ) رواه الترمذي وهو حديث حسن.

ومن أهمية هذا الأمر -إكرام الضيف- ما ذكره المفسرون كـمجاهد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] قال: [إنما نزلت في الضيافة] إذا نزل رجلٌ على رجلٍ ضيفاً فلم يقم به جاز له إذا خرج عنه أن يذكر ذلك، يقول: ما ضيفني ولا أعطاني ولا أكرمني لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] قالوا: نزلت في الشخص الذي ينزل ضيفاً فلا يعطى ولا يقرى ولا يكرم، فإذا جهر بالسوء عليهم بما منعوه من حقه جاز له ذلك؛ لأنه ظلم.

وذكر العلماء في أسباب تحريم اتخاذ الكلاب قالوا: إنها تروع الضيف وابن السبيل كما ذكره العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام فلذلك من اتخذها نقص من أجره كل يوم قيراط، لكن كان بعض أهل الجاهلية يمتدحون أنفسهم أو يتباهون بأن كلابهم لا تنبح على الضيوف، وأنهم علموها ذلك فصارت لا تنبح على الضيفان.

فهذا المعنى المذكور في منع اتخاذ الكلاب لأهمية مسألة إكرام الضيوف.

وكذلك قيل: بمشروعية الاستدانة لإكرام الضيف، فذكر السرخسي رحمه الله من الحنفية: إن ما استدانه لقرى الضيف لو استدان شخص مالاً ليقري ضيفه، فهو كما استدانه لنفقته ومصلحة نفسه حتى قالوا: يعطى من سهم الغارمين، لأن هذا حق لا بد أن يقوم به، استدان فصار غارماً فيعطى من حق الغارمين، لكن من هذا الذي يضيف بحق، لأن هناك من يظلمون أنفسهم فيضيفون بغير حق، يذبحون الذبائح فيرهقون أنفسهم ثم يطوفون على الناس ويقولون: أعطونا نحن نذبح ذبائح.

ومن أهمية إكرام الضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في اتخاذ فراشٍ خاصٍ له، ولم يعد فراشاً زائداً في البيت من أجل الضيف ولم يعد هذا ترفاً، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (فراشٌ للرجل وفراشٌ لامرأته وفراش للضيف وفراش للشيطان) حديث صحيح.

وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام رهن شيئاً عند يهوديٍ من أجل طعام ضيفٍ، ولكن ضعف الخبر بعض أهل العلم كـابن حزم رحمه الله في المحلى .

ومن أهمية إكرام الضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرشد عمر إلى اتخاذ الوقف جعل عمر من مصارف الوقف إكرام الضيف، وذلك في الأرض التي أصابها عمر بـخيبر قال عليه الصلاة والسلام مرشداً وناصحاً: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ) حبس الأصل: هو الوقف وتسبيل الثمرة وأي منفعة تنفق في الخير والأصل محبوس قال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث فتصدق بها في الفقراء -نص عمر على ذلك وكتبه وجعله عند حفصة وهي قائمة على وقفه- فتصدق بها في الفقراء والقربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف) وقد روى ذلك البخاري رحمه الله وعبد الرزاق وغيره من أهل العلم وهو حديث مشهور.

ومن إكرام الضيف نبدأ بإكرام الضيف بما جاء عن إبراهيم الخليل عليه السلام.. ثم ما جاء في السنة وفي قصص الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في كلام العلماء في كتب الأدب.

قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:24-27] ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله يقول:

أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، وهذا من إكرام الله تعالى للملائكة على قول، والقول الثاني: إكرام إبراهيم لضيوفه ولا تنافي بين القولين كلاهما صحيح، فإذاً وصف الله ضيوف إبراهيم بأنهم مكرمين لأن إبراهيم أكرمهم وهم مكرمون.

ثانياً: قال تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الذاريات:25] فلم يذكر استئذانهم ففي هذا دليل على أنه عليه السلام كان معروفاً بإكرام الضيفان، فمنزله مطروق وبابه مفتوح ولا يحتاج إلى استئذان أحد فيدخلون مباشرة، بل إن استئذان الداخل هو دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم، فقد تقدم معنا في أدب الاستئذان أن الإنسان إذا فتح بابه للضيوف فدعاهم إلى وليمة أن فتح الباب هو إذن، فلا يحتاجون إلى طرق ولا استئذان مادام فتح الباب الخارجي وفتح المجلس معناها هذا هو الإذن، وكان إبراهيم عليه السلام بابه مفتوح دائماً وعنده مكان خاص للضيوف يدخلون إليه مباشرة من غير استئذان إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ [الحجر:52].

ثالثاً: قوله: (سلامٌ) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ [الذاريات:25] والسلام بالرفع أكمل، لماذا؟

لأن قولهم (سلاماً) هي جملة فعلية.. أسلم سلاماً. و(سلامٌ) جملة اسمية (سلامٌ) مبتدأ، ومعنى الدوام والثبوت والاستقرار في الجملة الاسمية أكثر من الجملة الفعلية؛ لأن الجملة الاسمية دالة على الثبات وعدم التجدد، والجملة الفعلية تدل على أن الشيء يذهب ويجيء، يزول ويرجع، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم فإن قوله سلامٌ أي: عليكم، دالٌ على الثبوت.

رابعاً: أنه حدث المبتدأ من قوله: (قومٌ منكرون) فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم عن مواجهتهم بذلك ولم يقل: إني أنكرتكم، لم يقل: أنتم قومٌ منكرون قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:25] وهذا الحذف ألطف في الكلام.

خامساً: أنه بني الفعل من مفعول فقال: (منكرون) ولم يقل: إني أنكركم من أنتم؟ ومنكر صيغة المبني للمفعول حذف فاعله؛ لأنه كره أن يقول: أنا أنكركم.. أنا لا أعرفكم فقال: أنتم غير معروفين. فهناك فرق في أن يقول لهم مواجهة: إني لا أعرفكم، أنت لست بمعروف، هذا مبني والمبني للمفعول لا يعرف .. لكن أنت غير معروف، كره أن يقول لهم ذلك فهذا أبعد عن التنفير والمواجهة بالخشونة.

سادساً: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بالنزل وهي الكرامة، والروغان هو: الذهاب باختفاء، بحيث لا يشعر به الضيف وهذا من كرم رب المنزل -المضيف- أن يذهب باختفاء حتى لا يشق على الضيف ويستحي فلا يشعر الضيف إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فحفظ مشاعر الضيف من إكرامه، وعدم إحراجه أيضاً من إكرامه.

سابعاً: أن إبراهيم ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، وذلك معناه أنه كان بيته مستعداً للإكرام ولم يذهب إلى السوق ليشتري أو يذهب إلى الجيران ليستعير أو يذهب ويقترض وإنما كل شيء جاهز عنده في البيت، يعني مجهز البيت لخدمة الضيوف فهذا ما حصل، ثم مجيئه بسرعة فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ [الذاريات:26] ما قال: ثم جاء، لأن ثم تقتضي التراخي، والفاء للتعقيب، مباشرة فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ [الذاريات:26] وهذا يدل على أنه يوجد استعداد دائم.. ما عنده خبر أن هؤلاء سيأتون، دخلوا عليه وفاجئوه ومع ذلك كان مستعداً؛ لأن الإنسان إذا كان مستعداً لعمل الخير فأول ما تأتيه الفرصة يكون جاهزاً، أما الذي ليس بمستعد والمسألة ليست في باله وهو غير متهيئ لها، فإذا فوجئ بها تفوت الفرصة عليه.

أهل الجهاد في بدر خرجوا مباشرة مستعدين للجهاد، لكنها فاتت على من؟ على الذي كان يحتاج إلى استعداد، فطوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخرج على أول صيحة، وهذا هو المستعد دائماً.

فإذاً: الاستعداد لعمل الخير يكسب الإنسان فرصاً عظيمة، كمن يأتي لصلاة الجمعة مستعد دائماً للصدقات -مثلاً- في هذا اليوم الفضيل، بخلاف من تأتيه فرصة عظيمة ثم يبحث فلا يجد ويذهب ليقترض أو يذهب إلى البيت ويرجع وقد ذهبت الفرصة، فالمسألة هي قضية زيادة في الإيمان، مستوى الإيمان المرتفع بالاستعداد الدائم للخيرات، إبراهيم عليه السلام كان مستعداً باستمرار لعمل الخير فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] من الذي جاء؟ هو وليس الخادم ولا السائق ولا صاحب المطعم، هو الذي جاء بالعجل بنفسه، وهذا أبلغ في الإكرام، أن يأتي الإنسان بالضيافة لضيفه بنفسه ولو كان عنده خدم، ولم يقل: فأمر لهم بعجلٍ سمين بل هو الذي ذهب وهذا أبلغ في إكرام الضيف.

ثامناً: أنه جاء بعجلٍ كامل ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه، فلم يأت بفخذ ولا بكتف ولا بظهر بل بعجل كامل، والعجل: البقر الصغير لحمه من أطيب اللحوم، وليس بقراً غليظاً.

تاسعاً: أنه سمين وليس بهزيل، ومعلوم أن ذلك من أفخر أمواله، يذبح العجل الصغير وهذا إكرام متناهي؛ لأن العجل الصغير عادة يتخذ للاعتناء والتربية ولكن آثر به ضيفانه وجاءهم بهذا الصغير ذا اللحم الطري لأجل إكرامهم.

عاشراً: أنه قربه بنفسه ولم يقل للخدم قربوه أنتم أو قرب المائدة يا غلام، وإنما قربه هو ولم يأمر خادمه بذلك.

الحادي عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة أن تجلس الضيف ثم تأتي له بالطعام إليه وتحمله إلى حضرته ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك أن يقترب إليه، طبعاً الآن في البيوت هذا قد يكون شبه متعسر؛ لأن الألوان كثيرة فسيأتي بهذا وبهذا ويضعونه ويجهزونه ثم يقول للضيوف: ادخلوا، لا حرج في ذلك وهو من الإكرام على أية حال وليس ضد الإكرام، لكن إذا جيء به وسيق به إليهم أفضل وأحسن.. افرض أن عندك ما لا يشق نقله فجئت به على عربة إليهم أو على طاولة تدرج بها إليهم، هذا أولى من أن تضعه وتقول: تعالوا أو انزلوا عندك.

الثاني عشر: أنه قال: ألا تأكلون؟! فاستخدم أسلوب العرض وهذا تلطف، وهو أحسن من أن يقول: كلوا مدوا أيديكم؟ مالكم لا تمدوا أيديكم؟ نحن أتينا به لمن؟ قال: ألا تأكلون؟

الثالث عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون ولم يكن ضيوفه يحتاجون إلى إذن؛ لأن مجرد تقديم الطعام للضيف هو إذن بأكله؛ وأنت قدمته لأي شيء؟ يتفرجوا عليه؟ فبمجرد التقديم أبحت لهم الأكل فإذاً لو قلت: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه) فيقول قائل: لم يأذن فيقال: إن مجرد التقديم عرفاً هو إذن بالأكل فحلال عليهم، طيب فلماذا قال إبراهيم: ألا تأكلون؟ لأنه لاحظ أنهم لا يأكلون، وفي الأصل قدمه إليهم تقديماً كاملاً مع الإذن ولا يحتاجون إلى كلمة تفضل، لكن لما رأى أنهم لا يأكلون قال: ألا تأكلون؟ ولهذا أوجس منهم خيفة وأحسها.

الرابع عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل من طعامه وخاف منهم لم يظهر لهم ذلك الخوف، أوجس منهم خيفة وأخفاه لكن الملائكة علمهم الله قالوا: لا تخف وبشروه بالغلام، فجمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، قال ابن القيم رحمه الله: وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً فصلى الله على إبراهيم.

ومن الآداب فتح الباب للضيف قبل وصوله قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:73] فأبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدمٌ فتحها بدليل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ [ص:50] مفتحة قبل وصولهم، وذلك لأن تقديم فتح الباب في الضيافة على وصول الضيف هو إكرام له، وتأخير باب العذاب على أهل جهنم من باب المفاجأة حتى يؤخذوا بأشد الأخذ وهو من زيادة العذاب، فلذلك إذا جاءوها فتحت أبوابها.

من إكرام الضيف: إيثاره، وقد جاء في صحيح البخاري في القصة العظيمة التي عجب الله من أصحابها وضحك إليهم، وإذا ضحك الله إلى عبدٍ فلا عذاب عليه، وذلك دليل رضاه عز وجل عنه، هذه القصة التي أخفيت في الليل فنشرها الله في الصباح، وأنزل الوحي بها على نبيه عليه الصلاة والسلام، أن الله في السماوات عجب وضحك إلى هذين الصحابيين الجليلين الرجل وزوجته.

والقصة عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جائع يريد من يضيفه، فبعث إلى نسائه عليه الصلاة والسلام فقلن: ما معنا إلا الماء -وهذا بيت أعظم قائد في الأمة ما عنده إلا ماء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا؟ فقال رجلٌ من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، قال: هيئي طعامك وأصلحي سراجكِ ونومي صبيانكِ إذا أرادوا عشاء -إذا طلبوا الأكل نوميهم- فهيئت طعامها وأصلحت سراجها يعني: -أشعلت الفتيلة- ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها -كأنها حركة تمثيلية- فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان).

وليس من الأدب أنك تغلق النور على الضيف وإن كان بعض الناس عندهم عادات في الضيافة منها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح، فبعضهم يغلق النور على الضيف يقول: حتى لا يستحي، وبعضهم لا يحضر مع الضيف نهائياً، وبعضهم .. وبعضهم لذلك ابن القيم قال: تخلف وتكلف في أشياء ما أنزل الله بها من سلطان.

فبطبيعة الحال لا بد من السراج من أجل أن يرى الضيف، يدخل على بيتٍ منير لكن في الوقت نفسه ستكون هناك تمثيلية أخرى بعد قليل يريانه أنهما يأكلان وهما لا يأكلان حتى لا يشعر هو بالحرج أنهما لا يأكلان، فلذلك قامت كأنها تصلحه فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان بالصوت ووضع اليد في الإناء ورفعها وهي ما فيها شيء -كما أن جماعة من الفقراء حضرهم طعام فأطفئ السراج وجعلوا يأكلون فلما طلع النهار وجد الطعام بحاله.

كل واحد يريد أن يؤثر- قال: فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح الضيف وصاحب البيت غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ضحك الله الليلة -أو عجب- من فعالكما فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9])رواه البخاري .

فهذا الموقف العظيم إكرام الضيف وإيثاره بطعام صاحب البيت وزوجته والأطفال هذا موقف ذكر في السماء فضحك الرب فرضي عنهما، وأنزلت آية في القرآن بسبب إكرام الضيف، نزلت آية وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] أي: جوع وحاجة.

قال العلماء: إن طعام الأولاد مقدم على طعام الضيف شرعاً، ولكن إذا كان بهم جوعٌ خفيف لا يضرهم جاز تقديم الضيف كما حصل في هذه الآية، وتغلب إكرام الضيف على المشاعر الجياشة للأب والأم لأجل الفقير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا قال: (ألا رجلٌ يضيف هذا الليل يرحمه الله؟) هذه كلمة كافية -دعاء يرحمه الله- في أن يأخذ الضيف ويقدمه على نفسه وزوجته وأولاده، فكان موقفاً عظيماً ذكر في السماء ونزل إلى الأرض وأخبر به أهل الأرض، وكان فيه إخلاص واضح جداً في إطفاء السراج؛ ما أشعر الضيف بأي شيء وأكل ولم يشعر بأن هناك أمر عَكِر أو حرج، ولذلك أهل الإخلاص إذا أخفوا أعمالهم فالله يكشفها ليكونوا قدوة وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].

ومن إكرامه كذلك: أن الإنسان ولو كان صائماً فإنه لا ينسى الطعام لأجل الضيوف، فعن أبي أمامة قال: قلت: (يا رسول الله! مرني بعمل أدخل به الجنة؟ فقال عليك بالصوم فإنه لا مثل له) يعني في الأجر لا مثل له، قال الراوي: [فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً -ليس هناك طبخ، صيام دائماً- إلا إذا نزل به ضيفٌ فيرى الدخان نهاراً] رواه عبد الرزاق في المصنف ، بل إن الإنسان لا بأس أن يفطر من أجل الضيف إذا كان صائماً صوماً مستحباً إذا كان يشق على الضيف أن يبقى صاحب البيت صائماً، وفي ذلك أحاديث.

وقال عطاء : سألت سلمان بن موسى أكان يفطر الرجل لضيفه؟ قال: نعم. وكان الحسن يرخص للرجل الصائم إذا نزل به الضيف أن يفطر ويقضي يوماً مكانه، قال: إنه رحمه الله إذا دخل في صوم تطوع استحب له الإتمام لقوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] ولكن إذا شق على ضيفه صومه فيستحب أن يفطر فيأكل معه لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن لزورك عليك حقاً) يعني: لزوارك، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) أما حديث: (من نزل على قومٍ فلا يصومن تطوعاً إلا بإذنهم) فرواه الترمذي وقال: حديث منكر، أما إذا لم يشق على ضيفه صومه التطوع فالأفضل بقاءه على الصيام، فإذاً هذا هو التفصيل، لو أن أحدهم قال: أنا صائم وجاءني ضيف ماذا أفعل؟

نقول: إذا كان لا يشق على الضيف أن تبقى صائماً ولا يشعر بالحرج أنه يجلس يأكل وأنت لا تأكل كبعض إخوانك المقربين الذين عندهم مثل هذا الشيء عادي لو ما أكلت وهم أكلوا لا بأس، فإذاً البقاء على الصيام أفضل، وإن كان هناك مشقة عليهم يروك لا تأكل معهم، أو يراك الضيف لا تأكل معه، فعند ذلك الأفضل أن تفطر لأجل الضيف، وتقضي يوماً مكانه لتحصل الأجرين معاً.

بل نص العلماء على جواز الأكل فوق الحاجة من أجل الضيف، مع أن الأكل فوق الحاجة مكروه، وورد عن بعض الصحابة أن ولده لما أصابه من التخمة مرض قال: لو مات ما صليت عليه لأنه اعتبره مثل القاتل لنفسه الذي يأكل حتى يتفجر فيموت، فما حكم الأكل فوق الحاجة؟

قالوا: مكروه أما إذا وصل لدرجة الهلكة فهذا حرام وانتحار؛ لكن الأكل فوق الحاجة مكروه إلا إذا عرض له غرضٌ صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذٍ لا بأس بذلك ذكروا مثالين:

أن يزداد الأكل استعداداً لصيام غد طويل حار.

والمثال الثاني: لأجل الضيف قال: بأن يأتيه ضيفٌ فيأكل الضيف ويستمر الضيف في الأكل وصاحب البيت شبع فيزداد في الأكل من أجل ألا يحرج الضيف؛ لأنه إذا توقف صاحب البيت فربما توقف الضيف وقد يكون الضيف بحاجة الطعام أو فيه جوع، أو أن بدنه أو جسده أعظم أو أكبر وذاك نحيل لا يحتاج إلى طعامٍ كبير فيجوز له أن يزيد عن الشبع لأجل إكرام ضيفه لئلا يخجل.

وكذلك من الآداب إباحة الشريعة السمر مع الضيف بعد العشاء رغم كرهها للكلام بعد العشاء، كما في حديث النهي عن النوم قبل العشاء والكلام بعده -بعد العشاء- إلا لمصليٍ أو مسافر أو مع ضيفه يسامره، ليس سمراً على البلوت والأفلام والكلام القذر والغيبة لأجل الترويح عن الضيف من عناء السفر والإكرام والمباسطة.. المباسطة جزء كبير من الإكرام سيأتي مزيد عن الكلام عن ضيافة المشرك والتفصيل فيها.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعـد:

فقد تقدم الكلام في المرة الماضية عن هذا الأدب الإسلامي الكبير وهو: (إكرام الضيف)، وذكرنا مقدمة عن الضيافة وإكرام الضيف، وبعض الآداب المتعلقة بالمضيف تجاه ضيفه، ونتابع إن شاء الله في هذه الليلة الحديث عن هذا الموضوع وهو: (آداب المضيف) ثم نتبعها بآداب الضيف.

تحدثنا عن سمر المضيف مع ضيفه بعد العشاء مع أن الشريعة قد كرهت الحديث بعد العشاء، لكن حيث إن ذلك من الحاجة فإنه لا بأس بأن يسمر المضيف مع ضيفه لأجله ولا بأس كذلك بتنويع الطعام للضيف كما دل عليه حديث أبو الهيثم بن التيهان وسوف يأتي وفيه: فأمر لهم بشعيرٍ يعمل وقام فذبح شاةً، واستعذب لهم ماءً، وهذا كله يدل على المبالغة في تطييب المضيف الطعام وإتحاف الضيف به بأفضل ما يجب، ولا بأس بجمع الإدام في النادر لضيفٍ أو وليمة أو ما أشبه ذلك، وإنما يكره التنويع الكثير في الأطعمة من باب الورع حتى لا يخرج إلى حد السرف، وكذلك لا يؤدي إلى إنفاق الأثمان الكثيرة في هذا، وأقبح ما يكون عند نزول الحاجة بالناس وضيق معاشهم والضرورة الحاجة للمواساة، ثم يأتي بعض الناس وينوعون الطعام تنويعاً عجيباً؛ لكن إذا حضر ضيف فلا بأس من تنويع الطعام لأجل الضيف، وينبغي إذا حضر من دعي وأحضر الطعام ألا ينتظر من غاب، وينبغي له أن يحضر من الطعام ما أمكنه من غير إجحاف بأهله.

والضيف له حكم آخر غير حكم أهل البيت، إذ أن أهل البيت يمكنهم أن يأكلوا الألوان في عدة أيام، بخلاف الضيوف فقد لا يقيمون، ولأنه قد تكون شهوة بعض الضيوف في لون آخر؛ فإذا كان التنوع في الألوان لأجل الإكرام حتى إذا لم يعجبه نوعٌ أعجبه نوعٌ آخر فلا بأس بذلك، ولما فيه من إدخال السرور على الضيوف والأجر عظيم في إدخال السرور على المسلمين.

وقد كان بعض السلف إذا جاءه الأضياف يقدم لهم في وقتٍ واحد ما يقوم بنفقته شهرٌ ونحوه، فيقال له في ذلك: فيقول: قد ورد أن بقية الضيف لا حساب على المرء فيها، فكان لا يأكل إلا فضلة الضيوف؛ لأجل ذلك: يكثر الطعام للضيوف ثم يأتي هو بعده ويقول: هذا حسابه أقل من أن أطبخ أنا لنفسي؛ لأن فضلة الضيف طيبة فآكله بعده.

وينبغي أن يروح عليه بالخدمة ولا يفعل ذلك قائماً لأنه زي الأعاجم، وقد تقدم النهي عن القيام على رأس الشخص، ولا بأس أن يأكل مع ضيوفه خلافاً لمن لا يفعل ذلك من بعض الناس العامة الذين عندهم عادات تمنع من الأكل مع الضيوف؛ لأن الأكل مع الضيف في الحقيقة فيه مؤانسة له، أي: يستأنس إذا أكلت معه، وأكرمته، وقدمت له أطايب الطعام ونحو ذلك، فإن أكل معه فيستحب له أن يخدمه بنفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى أمر أصحاب النجاشي بنفسه الكريمة، فقيل له: ألا نكفيك؟ فقال: (خدموا أصحابي فأريد أن أكافئهم) هذا إذا صح الحديث، ذكره ابن الحاج رحمه الله في المدخل ، ومن ذلك أن يتولى بنفسه صب الماء على يد الضيف حين غسل يديه.

ويجوز للإنسان إذا حضر معه جماعة كثر أن يدخلهم فوجاً فوجاً إذا كان مجلس الطعام لا يتسع، وقد ورد إدخال الناس عشرة عشرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان يأكل مع إنسان ضرير أعلمه بما بين يديه حتى لا يفوته الطعام الطيب.

وكذلك فإنه لا يحرج الضيوف بإبقائهم دون أن يأذن لهم بالطعام، بل يسارع إلى دعوتهم إلى الطعام بأسلوبٍ لطيف.

وكذلك فإن الإنسان يقدم للضيف ما يعلم أن الضيف يحبه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الدباء.

ويستحب للمضيف إيناس الضيف بالحديث الطيب والقصص التي تليق بالحال؛ لأن من تمام الإكرام طلاقة الوجه وطيب الحديث عند الخروج والدخول؛ ليحصل له الانبساط، ولا يكثر السكوت عند الضيف، ولا يغيب عنه، ولا ينهر خادمه بحضرته، ولا يجلسه مع من يتأذى بجلوسه أو لا يليق به أن يجلس معه، وأن يأذن له بالخروج إذا استأذنه، وأن يخرج معه إلى باب الدار تتميماً لإكرامه، وأن يأخذ بركاب ضيفه إذا أراد الركوب، فقد ورد حديث عند ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من السنة أن يخرج الرجل مع ضيفه إلى باب الدار) لكن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إن من السنة إذا دعوت أحداً إلى منزلك أن تخرج معه حتى يخرج] ذكره ابن عبد البر ، وهذا الذي يعرف بتشييع الضيف، قال في المصباح المنير في فصل الشين مع الياء: شيعت الضيف: خرجت معه عند رحيله إكراماً له وهو التوديع، فيندب للإنسان أن يشيع ضيوفه ويخرج معهم إلى باب الدار وإلى السيارة ويفتح له الباب ليركب، أو يأخذ بزمام الراحلة إذا كان عنده راحلة ويودعه هذا من تمام الضيافة.

وروى أبو بكر بن أبي الدنيا قال: قال أبو عبيد القاسم بن سلام : زرت أحمد بن حنبل فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه فقلت: يا أبا عبد الله ! أليس يقال: صاحب البيت والمجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم. يقعد ويُقعد من يريد -مادام هو صاحب البيت يقعد في صدر المجلس من يريد وهو أحق بها، لكن إذا رغب في جلوس ضيفه فيه فلا حرج- قلت في نفسي: خذ أبا عبيد هذه واحدة -إليك فائدة- ثم قلت: يا أبا عبد الله ! لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنةٍ إلا مرة أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد يعني: يحدث نفسه بالفوائد التي جناها من زيارته لـأحمد رحمهما الله.. فلما أردت القيام قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله ! لا داعي للقيام وتمشي، قال: قال الشعبي من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار وتأخذ بركابه، قال: قلت يا أبا عبد الله ! من عن الشعبي قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي، قلت يا أبا عبيد ! هذه ثالثة.. فإذاً تشييعه والخروج مع من تمام الضيافة.

وقد أمسك عبد الله بن عباس بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنهما فقال: [أتمسك بي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنا هكذا نصنع بالعلماء] وينبغي الاهتمام بإكرام أضياف الإسلام أكثر من الضيوف الشخصيين.. الضيوف الذين جاءوا من أجل الدين مثل أهل الصفة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما حضره لبن قال لـأبي هريرة : (اذهب إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحدٍ إذا أتته صدقةٌ بعثها إليهم ولم يتناول منها شيء). رواه البخاري ، فهؤلاء أضياف الإسلام.. فإذاً: من جاء لحق الدين فهذا أكرم من يستحق الإكرام.

وقد جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم إكرام طلبة العلم من الضيوف إذا جاءوهم فقال مالك بن خزين : [كنت جالساً مع أبي هريرة بأرضه بالعقيل فأتاه قومٌ من أهل المدينة على دواب فنزلوا عنده، قال أبو هريرة -يقول للشخص عنده- اذهب إلى أمي فقل: إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئاً قال: فوضعت له ثلاثة أقراص في صحفة وشيئاً من زيتٍ وملح ثم وضعتها على رأسي وحملتها إليهم، فلما وضعتها بين أيديهم كبر أبو هريرة لما رأى الطعام وقال: الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين -الماء والتمر- فلم يصب القوم من الطعام شيئاً فلما انصرفوا قال: يا بن أخي! أحسن إلى غنمك وامسح الرغام عنها...] الحديث.

وهذا يحتمل أنهم قصدوه للتعلم والأخذ عنه وإحضار أبو هريرة للطعام المتيسر عنده من باب إكرام الزائر والضيف وتقديم ما حضر إليه، ولذلك قدم إليهم ثلاثة أقراص وزيتاً وملحاً، وكبر أي: على معنى الذكر لله والشكر له على ما نقله من حال المجاعة التي كان يخر فيها بين البيت والمنبر ما به شيءٌ إلا الجوع إلى هذه الحال من الخصب والكثرة حتى وجد عنده خبزٌ وإدام دون استعداد ولا تأهب، عنده خبز في البيت عد ذلك نعمةً عظيمة كبر الله عليها.

هل يستضيف الإنسان الضيف الكافر؟

جاء في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضافه ضيفٌ كافر -يعني: نزل عليه- فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم أخرى فشربه، ثم أخرى فشربه حتى شرب حلاب سبع شياه، ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاةٍ فحلبت فشرب حلابها ثم أمر له بأخرى فلم يستتمها -ما استطاع أن يتم الثانية- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن يشرب في معي واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء) معناها: لا بركة في طعام الكافر.. وأما إذا أسلم أو آمن يبارك الله في طعامه فيكفيه من الطعام ما لا يكفي الكافر ببركة الإسلام.

فإذاً: الحديث هذا يؤخذ منه جواز تضييف الكافر، قيل إنه: جمامة بن أساد ، وقيل: جحاد الغفاري ، وقيل غير ذلك، لكن نلاحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام أضاف الكافر قيل: رجاء إسلامه، أو إذا كان يخشى عليه الضياع إذا كان ممن له حق مثل الكفار المعاهدين يعني: الكفار الذين لهم حقوق غير الكفار الذين قد يكونون أقارب.

إذاً: هناك اعتبارات، فالنبي عليه الصلاة والسلام أضاف الكفار إكراماً لهم لعلهم يتأثرون من باب الدعوة أو كفار معاهدين لهم حقوق، كفار أقارب.. أما أن يدعو الإنسان كافراً إلى بيته فيأتيه بنساءٍ عاريات أو يأتيه بنجسٍ أو بشركٍ وكفرٍ، وقد سأل بعضهم عن حكم تمكين الضيف الكافر من تأديت شعائر دينه في بيت المسلم الذي أضافه فسألت عن هذا الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين فقال: لا يمكنه من ذلك يعني: لا يجوز له بأن يرضى أن يعمل شعائر الكفر في بيته.

وإذا أضاف المسلم كافراً هل يآكله، أم يقدم له الطعام فقط ولا يجلس معه للأكل؟

يقول الإمام مالك رحمه الله: ترك مآكلة النصراني في إناء واحد أحب إلي ولا أراه حراماً ولا نصادق نصرانياً.

لا أراه حراماً لكن الأحب إلي أني لا آكل معه في صحن واحد، فنهى عن مآكلته لما في ذلك من معنى المصادقة.. وأما تضييفه فيمكن أن يكون للاستئلاف ورجاء الإسلام يكون فيه أجر.. ووجود الطعام ببعض الأشكال العصرية أو مثلاً هذه البوفيهات وهذا الطعام الذي يوضع ثم يسكب منه الناس يحل مشكلة الأكل معه في صحنٍ واحد.

فالخلاصة إذاً: إذا رجي إسلامه بتأليف قلبه فلا مانع من إضافته، أما إذا كان يخشى منه بأن يأتي معه بمنكرات أو يعمل أشياء محرمة في بيتك فلا تضيفه.

ومما ذكر في صحيح مسلم عنوان: باب استحباب وضع النوى خارج التمر، واستحباب دعاء الضيف لأهل الطعام، وطلب الدعاء من الضيف الصالح وإجابته لذلك.

لقد ضيف الصحابة رضوان الله عليهم ضيوفاً ولهم في ذلك قصص، فلنعرج على بعض القصص التي ذكرها أهل العلم بالحديث أو المحدثون في كتبهم.

قصة أبي بكر مع ضيوفه

من أشهر قصص إضافة الضيوف التي حدثت على عهد الصحابة منها: قصة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق : أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة) وفي البخاري : (من كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامسٍ أو بسادس

وإن أبا بكر جاء بثلاثة فانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وإن أبا بكر تعشى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء بعدما ذهب من الليل ما شاء الله فقالت امرأته: ما أحبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم؟ قالت: أبو حتى تجيء أنت، قد عرضوا عليهم الطعام فغلبوهم يعني: الضيوف ورفضوا الضيافة إلا إذا جاء الصديق.

يقول ولد أبي بكر الصديق : فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا غنثر ! فجدع وسب وقال: كلوا لا هنيئاً وقال: والله لا أطعمه أبداً، قال الضيوف: وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا نرى من أسفلها أكثر منها -قال: شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك- فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر ثم قال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ قالت: لا. وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني: اليمين.

وفي رواية: يقول عبد الرحمن بن أبي بكر : نزل علينا أضياف وكان أبي يتحدث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال: يا عبد الرحمن ! افرغ من أضيافك، فلما أمسيت جئنا بقرى فأبوا قالوا: حتى يجيء أبو منزلنا فيطعم معنا، فقلت: إنه رجلٌ حديد وإنكم إن لم تفعلوا -إذا ما أكلتم الآن- خفت أن يصيبني منه أذى، قال: فأبوا، فلما جاء قال: فرغتم من أضيافكم؟ قالوا: لا والله ما فرغنا قال: أولم آمر عبد الرحمن -أوصيه بالضيوف- قال عبد الرحمن: وتنحيت عنه فاختبأت، فقال أبو بكر: يا غنثر! أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا أجبت قال: فجئت فقلت: والله مالي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم قد أتيتهم بقراهم -بكرامتهم وضيافتهم- فأبوا أن يطعموا حتى تجيء، فقال: ما لكم ألا تقبلوا عنا قراكم؟ فقال أبو بكر: والله لا أطعمه الليلة فقالوا: والله لا نطعمه حتى تطعمه، قال: فما رأيت الشر كالليلة قط، ويلكم مالكم ألا تقبلوا عنا قراكم؟ ثم قال أبو بكر رجع إلى نفسه: إنما الأولى من الشيطان -حلفنا وهذا الحلف من الشيطان ما حلفنا على بر ولا على خير حلفنا ما نأكل ما هو بر ولا خير هذه من الشيطان- ثم قال: هلم قراكم فجيء بالطعام فسمى فأكل وأكلوا فلما أصبح رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بروا وحنثت قال: (بل أنت أبرهم وأخيرهم) رواه مسلم .

في هذا الحديث جواز الاشتغال عن الضيف بمصلحة المسلمين مثل ما فعل الصديق ، إذا كان هناك من يقوم بإكرامهم مثل ولده.

وفيه أن الضيف لا يمتنع مما يريد المضيف مما يتعلق بإكرامه ولا يعترض عليه؛ لأن المضيف قد يكون له غرض في أن يتقدم الضيوف للطعام فلا يشق عليه بالرفض، وفيه السمر مع الضيف والأهل.

وفيه قول الضيف لصاحبه: لا آكل حتى تأكل، وإنما امتنع أضياف الصديق عن الأكل؛ لأنه قد يفرغ الأكل ويأتي أبو بكر وليس له عشاء فقالوا: ننتظر وإنما اختبأ عبد الرحمن خوف الخصام، وغنثر معناها: الثقيل وقيل: الجاهل وقيل: السفيه وقيل: اللئيم وقيل: ذباب أزرق، والسب هو: الشتم.

وفيه الاختباء خوف الأذى، وأنه لا أذى بمثل هذا من الوالد يعني: إذا الوالد قسا على ولده بمثل هذا لا يعتبر جريمة، وفيه عدم المؤاخذة عما يحدث حال الغيظ.

وقوله: أبي رجلٌ حديد: يعني: قوي يغضب.

وقد ترجم البخاري رحمه الله: باب السمر مع الضيف والأهل.

وكذلك فإن أبا بكر ظن أن عبد الرحمن فرط في حق الأضياف ولذلك عنفه وقال عليه كلاماً غليظاً ومن الانفعال قال: لا هنيئاً، ولكن الصديق رغم مكانته وفضله رجَّاع إلى الحق وقال: هذه من الشيطان وأكل.. وما أخره عن ضيوفه إلا أنه كان مع النبي عليه الصلاة والسلام ولا شك أنه كان في أمر مهم، ولذلك أكرم الصديق بكرامات الأولياء حتى إنه يقول: كلما رفعوا لقمة ربا مكانها أكثر منها، ربا يعني: زاد من أسفلها في الموضع الذي أخذت منه، فلما نظروا إلى الجفنة فإذا هي أكثر مما كانت عليه.

قال: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني يعني: مما أقر الله به عينها من هذه الكرامة لزوجها، وهذه البركة عظيمة وما هو بعجيب قول أسيد رضي الله عنه: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر فـأبو بكر رجلٌ مبارك جعل الله له هذه الكرامة وهي كرامة من كراماته الكثيرة.. وأكرمه وأزال عنه الحرج فعاد مسروراً وانفك الشيطان مدحوراً، وأكرم أضيافه، وزاد الطعام، وعنده سبيل كفارة اليمين لأجل قسمه.

ثم حملت هذه الجفنة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان هناك جيشٌ فأكلوا من تلك الجفنة التي أرسل بها أبو بكر إلى النبي عليه الصلاة والسلام لتتم البركة ويعظم أجر الصديق ، وكفت الجيش كله.

وفي رواية عند أحمد والترمذي والنسائي قال: أتي النبي عليه الصلاة والسلام بقصعة فيها ثريد فأكل وأكل القوم فما زالوا يتداولونها إلى قريبٍ من الظهر يأكل قومٌ ثم يقومون ويجيء قومٌ فيتعاقبونه فقال رجل: هل كانت تمد بطعام؟ فقال الراوي له: أما من الأرض فلا، إلا إن كانت تمد من السماء.

قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري : قال بعض شيوخنا: يحتمل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها في بيت أبي بكر ما وقع والله أعلم.

ففي هذا الحديث تصرف المرأة فيما تقدم للضيف، والإطعام إلى غير إذن خاص من الرجل لأنها قدمت لهم الطعام.

وفيه جواز الغلظة على الولد على وجه التأديب والتمرين على أعمال الخير.

وفيه أيضاً: كرامات أولياء الله الصالحين وما يقع من لطف الله تعالى بهم، وكيف أن خاطر أبي بكر الصديق كان مشوشاً وخاطر ولده وأهله وأضيافه، ثم إن الله أعطاه هذه النعمة العظيمة التي قرت به عينه هو وزوجته وولده وأضيافه، وبقي البقية التي أرسلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وانقلب الكدر صفاءً والحزن سروراً ولله الحمد والمنة.

قصة أبي الهيثم بن التيهان

ومن الصحابة أيضاً الذين حصل لهم مشهد عظيم في الضيافة: أبو الهيثم بن التيهان ، وذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فإذا هو بـأبي بكر وعمر فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله! قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما).

هؤلاء أعظم ثلاثة في الأمة؛ خرجوا من بيوتهم وما أخرجهم إلا الجوع، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم والخليفة الأول والثاني من بعده أخرجهم الجوع من البيت قال: قوموا، فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأتهم المرأة قالت: مرحباً وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني.. فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بسر وتمر ورطب حتى ينتقي الضيف ما يشاء فقال: كلوا من هذه حتى يسكن الجوع، ريثما تذبح الذبيحة وتطبخ، وهذا من حسن الضيافة أن يسكن جوع الضيف بشيء إذا كان الطعام سيتأخر، وأخذ المدية فقال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب) لا تذبح ذات در ترضع أولادها وتنتفعون من حليبها ولبنها.. فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر وعمر: (والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) رواه مسلم رحمه الله.

ومن القصص العظيمة ضيوف أبي طلحة رضي الله تعالى عنه والتي تقدمت لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا رجلٌ من يضيفه هذه الليلة رحمه الله) فأخذه إلى بيته وقدم له طعام زوجته وقوت الصبية.

ويؤخذ من الحديث أن من آداب الضيافة التلطف في إكرام الضيف على أحسن الوجوه وعدم إحراجه.

من أشهر قصص إضافة الضيوف التي حدثت على عهد الصحابة منها: قصة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق : أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة) وفي البخاري : (من كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامسٍ أو بسادس

وإن أبا بكر جاء بثلاثة فانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وإن أبا بكر تعشى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء بعدما ذهب من الليل ما شاء الله فقالت امرأته: ما أحبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم؟ قالت: أبو حتى تجيء أنت، قد عرضوا عليهم الطعام فغلبوهم يعني: الضيوف ورفضوا الضيافة إلا إذا جاء الصديق.

يقول ولد أبي بكر الصديق : فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا غنثر ! فجدع وسب وقال: كلوا لا هنيئاً وقال: والله لا أطعمه أبداً، قال الضيوف: وايم الله ما كنا نأخذ من لقمة إلا نرى من أسفلها أكثر منها -قال: شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك- فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر ثم قال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ قالت: لا. وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني: اليمين.

وفي رواية: يقول عبد الرحمن بن أبي بكر : نزل علينا أضياف وكان أبي يتحدث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فقال: يا عبد الرحمن ! افرغ من أضيافك، فلما أمسيت جئنا بقرى فأبوا قالوا: حتى يجيء أبو منزلنا فيطعم معنا، فقلت: إنه رجلٌ حديد وإنكم إن لم تفعلوا -إذا ما أكلتم الآن- خفت أن يصيبني منه أذى، قال: فأبوا، فلما جاء قال: فرغتم من أضيافكم؟ قالوا: لا والله ما فرغنا قال: أولم آمر عبد الرحمن -أوصيه بالضيوف- قال عبد الرحمن: وتنحيت عنه فاختبأت، فقال أبو بكر: يا غنثر! أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا أجبت قال: فجئت فقلت: والله مالي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم قد أتيتهم بقراهم -بكرامتهم وضيافتهم- فأبوا أن يطعموا حتى تجيء، فقال: ما لكم ألا تقبلوا عنا قراكم؟ فقال أبو بكر: والله لا أطعمه الليلة فقالوا: والله لا نطعمه حتى تطعمه، قال: فما رأيت الشر كالليلة قط، ويلكم مالكم ألا تقبلوا عنا قراكم؟ ثم قال أبو بكر رجع إلى نفسه: إنما الأولى من الشيطان -حلفنا وهذا الحلف من الشيطان ما حلفنا على بر ولا على خير حلفنا ما نأكل ما هو بر ولا خير هذه من الشيطان- ثم قال: هلم قراكم فجيء بالطعام فسمى فأكل وأكلوا فلما أصبح رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! بروا وحنثت قال: (بل أنت أبرهم وأخيرهم) رواه مسلم .

في هذا الحديث جواز الاشتغال عن الضيف بمصلحة المسلمين مثل ما فعل الصديق ، إذا كان هناك من يقوم بإكرامهم مثل ولده.

وفيه أن الضيف لا يمتنع مما يريد المضيف مما يتعلق بإكرامه ولا يعترض عليه؛ لأن المضيف قد يكون له غرض في أن يتقدم الضيوف للطعام فلا يشق عليه بالرفض، وفيه السمر مع الضيف والأهل.

وفيه قول الضيف لصاحبه: لا آكل حتى تأكل، وإنما امتنع أضياف الصديق عن الأكل؛ لأنه قد يفرغ الأكل ويأتي أبو بكر وليس له عشاء فقالوا: ننتظر وإنما اختبأ عبد الرحمن خوف الخصام، وغنثر معناها: الثقيل وقيل: الجاهل وقيل: السفيه وقيل: اللئيم وقيل: ذباب أزرق، والسب هو: الشتم.

وفيه الاختباء خوف الأذى، وأنه لا أذى بمثل هذا من الوالد يعني: إذا الوالد قسا على ولده بمثل هذا لا يعتبر جريمة، وفيه عدم المؤاخذة عما يحدث حال الغيظ.

وقوله: أبي رجلٌ حديد: يعني: قوي يغضب.

وقد ترجم البخاري رحمه الله: باب السمر مع الضيف والأهل.

وكذلك فإن أبا بكر ظن أن عبد الرحمن فرط في حق الأضياف ولذلك عنفه وقال عليه كلاماً غليظاً ومن الانفعال قال: لا هنيئاً، ولكن الصديق رغم مكانته وفضله رجَّاع إلى الحق وقال: هذه من الشيطان وأكل.. وما أخره عن ضيوفه إلا أنه كان مع النبي عليه الصلاة والسلام ولا شك أنه كان في أمر مهم، ولذلك أكرم الصديق بكرامات الأولياء حتى إنه يقول: كلما رفعوا لقمة ربا مكانها أكثر منها، ربا يعني: زاد من أسفلها في الموضع الذي أخذت منه، فلما نظروا إلى الجفنة فإذا هي أكثر مما كانت عليه.

قال: يا أخت بني فراس! ما هذا؟ قالت: لا وقرة عيني يعني: مما أقر الله به عينها من هذه الكرامة لزوجها، وهذه البركة عظيمة وما هو بعجيب قول أسيد رضي الله عنه: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر فـأبو بكر رجلٌ مبارك جعل الله له هذه الكرامة وهي كرامة من كراماته الكثيرة.. وأكرمه وأزال عنه الحرج فعاد مسروراً وانفك الشيطان مدحوراً، وأكرم أضيافه، وزاد الطعام، وعنده سبيل كفارة اليمين لأجل قسمه.

ثم حملت هذه الجفنة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان هناك جيشٌ فأكلوا من تلك الجفنة التي أرسل بها أبو بكر إلى النبي عليه الصلاة والسلام لتتم البركة ويعظم أجر الصديق ، وكفت الجيش كله.

وفي رواية عند أحمد والترمذي والنسائي قال: أتي النبي عليه الصلاة والسلام بقصعة فيها ثريد فأكل وأكل القوم فما زالوا يتداولونها إلى قريبٍ من الظهر يأكل قومٌ ثم يقومون ويجيء قومٌ فيتعاقبونه فقال رجل: هل كانت تمد بطعام؟ فقال الراوي له: أما من الأرض فلا، إلا إن كانت تمد من السماء.

قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري : قال بعض شيوخنا: يحتمل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها في بيت أبي بكر ما وقع والله أعلم.

ففي هذا الحديث تصرف المرأة فيما تقدم للضيف، والإطعام إلى غير إذن خاص من الرجل لأنها قدمت لهم الطعام.

وفيه جواز الغلظة على الولد على وجه التأديب والتمرين على أعمال الخير.

وفيه أيضاً: كرامات أولياء الله الصالحين وما يقع من لطف الله تعالى بهم، وكيف أن خاطر أبي بكر الصديق كان مشوشاً وخاطر ولده وأهله وأضيافه، ثم إن الله أعطاه هذه النعمة العظيمة التي قرت به عينه هو وزوجته وولده وأضيافه، وبقي البقية التي أرسلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وانقلب الكدر صفاءً والحزن سروراً ولله الحمد والمنة.