آداب الكلام والمحادثة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الحمد لله الذي خلق الإنسان، علمه البيان، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وهو سيد البلغاء وإمام الفصحاء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة وسلاماً تامين إلى يوم الدين.

إخواني: إن موضوع هذه الليلة من الأهمية بمكان، وهو من المواضيع الجميلة التي هي من الأدب، والشريعة جاءت بالأدب، وهذا الدين قد جاء بالأدب، ولا شك أن مواضيع الأدب تزين المسلم، وتحثه على التخلق بالأخلاق الحميدة والفاضلة؛ لأن الإسلام يعتني بالمسلم من جميع الجوانب، ويريد الإسلام أن يميز المسلم بعقيدته وعبادته وأخلاقه وآدابه ومظهره.

وهذا الدين لا شك أنه أحسن الأديان وأفضلها وأعلاها، ولا شك أن هذه الشريعة هي خاتمة الشرائع، وأن ما جاء فيها هو أفضل ما جاء إلى أي أمة من الأمم من قبلنا.

وموضوع "أدب الكلام والمحادثة" أهميته في نقاط متعددة. فهو يحتاجه المسلم حتى إذا أراد أن يحادث ربه ويتكلم مع الله، وكذلك فهو يحتاجه في الكلام مع أهل العلم، ومع أصحابه وأصدقائه، ومع زوجته، وهو أدب يحتاج إليه في المجالس؛ لأن الناس اجتماعيون بطبعهم، وهم يختلطون ويتلاقون ويجتمعون ويتزاورون، فإذا عدم هذا الأدب -وهو أدب الكلام والمحادثة- صارت اللقاءات مضيعة للأوقات مجلبة للعداوة والشحناء والبغضاء، ليس فيها كبير فائدة، بل ربما انطوت على ضيق وهم وغم بسبب ترك أدب الكلام والمحادثة.

الأصل حفظ اللسان

وبادئ ذي بدء فإن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بحفظ اللسان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من إطلاق اللسان حتى قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة) وقال -أيضاً- في الحديث الصحيح صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) أي: يطلق الكلام على عواهنه، دون تبصر ولا انتباه، ولا تقويم للكلمة، ولا بحث ولا نظر، فقد يتكلم بالكلمة لا يتبين فيها، وقد يكون فيها اعتداء على ألوهية الله وربوبيته، أو اعتراض على قضائه وقدره ونحو ذلك، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب؛ ولذلك لما نصح النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً قال له: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا -وأشار إلى لسانه- قال: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! -وهذا ليس دعاءً عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو على أحد من أمته بدعوة لا يستحقها إلا جعلها الله له رحمة وثواباً يوم القيامة- ثكلتك أمك يا معاذ -وهذه من العبارات الدارجة عند العرب والتي لا يقصد النبي عليه الصلاة والسلام معناها الحرفي- وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلاَّ حصائد ألسنتهم) فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن من أعظم أسباب دخول النار حصائد الألسنة.

ولذلك جاء كلام السلف في حبس اللسان كثيراً، فمن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: [ما رأيت أحوج إلى طول سجن من اللسان] وقال الحسن: [ اعقل لسانك إلا عن حق تقيمه، أو باطل تدحضه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تذكرها ] ولذلك السلف -رحمهم الله- ألفوا في فضل الصمت تأليف، مثل ما فعل ابن أبي الدنيا -رحمه الله تعالى- وتكلم العلماء في مساوئ الإكثار من الكلام، والحث على التقليل منه، وأن الإنسان إذا عد كلامه ليوشكن أن يعرف ماذا يسود به من الصحائف -صحائف أعماله.

طيب الكلمة ولين الحديث

ومن الأشياء والضوابط الإسلامية في موضوع الكلام بالإضافة إلى التقليل منه ولزوم الصمت -لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت- طيب الكلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما وعظ الناس: يأتي العبد يوم القيامة فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة) فحث على الكلمة الطيبة، وأنها من أسباب دخول الجنة.

وكذلك لين الكلام، فإنه من الأخلاق الإسلامية، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام) فالشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: (ألان الكلام).

وبادئ ذي بدء فإن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بحفظ اللسان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من إطلاق اللسان حتى قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة) وقال -أيضاً- في الحديث الصحيح صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) أي: يطلق الكلام على عواهنه، دون تبصر ولا انتباه، ولا تقويم للكلمة، ولا بحث ولا نظر، فقد يتكلم بالكلمة لا يتبين فيها، وقد يكون فيها اعتداء على ألوهية الله وربوبيته، أو اعتراض على قضائه وقدره ونحو ذلك، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب؛ ولذلك لما نصح النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً قال له: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا -وأشار إلى لسانه- قال: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! -وهذا ليس دعاءً عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو على أحد من أمته بدعوة لا يستحقها إلا جعلها الله له رحمة وثواباً يوم القيامة- ثكلتك أمك يا معاذ -وهذه من العبارات الدارجة عند العرب والتي لا يقصد النبي عليه الصلاة والسلام معناها الحرفي- وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلاَّ حصائد ألسنتهم) فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن من أعظم أسباب دخول النار حصائد الألسنة.

ولذلك جاء كلام السلف في حبس اللسان كثيراً، فمن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه: [ما رأيت أحوج إلى طول سجن من اللسان] وقال الحسن: [ اعقل لسانك إلا عن حق تقيمه، أو باطل تدحضه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تذكرها ] ولذلك السلف -رحمهم الله- ألفوا في فضل الصمت تأليف، مثل ما فعل ابن أبي الدنيا -رحمه الله تعالى- وتكلم العلماء في مساوئ الإكثار من الكلام، والحث على التقليل منه، وأن الإنسان إذا عد كلامه ليوشكن أن يعرف ماذا يسود به من الصحائف -صحائف أعماله.

ومن الأشياء والضوابط الإسلامية في موضوع الكلام بالإضافة إلى التقليل منه ولزوم الصمت -لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت- طيب الكلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما وعظ الناس: يأتي العبد يوم القيامة فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة) فحث على الكلمة الطيبة، وأنها من أسباب دخول الجنة.

وكذلك لين الكلام، فإنه من الأخلاق الإسلامية، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام) فالشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: (ألان الكلام).

وأما بالنسبة لآداب الكلام والمحادثة فإنها كثيرة، فقد جاءت بها الشريعة مما يدل على أهمية هذا الموضوع، وعلى خطورته، وأنه معتنىً به في الشريعة غاية الاعتناء، ومكمل غاية التكميل.

خفض الصوت

فمن أدب الكلام والمحادثة: خفض الصوت، قال الله تعالى في وصية لقمان لابنه: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] فلا شك أن رفع الصوت مزعج للسامع، ومثير لأعصابه، وهو ينبئ عن قلة الأدب، إلا إذا دعت الحاجة إلى رفع الصوت كالخطيب الذي يخطب للناس؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خطب علا صوته واحمر وجهه؛ كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم.

كذلك إذا خاف ألا يسمع أحد تحذيراً مهماً أو علماً مهماً؛ فإنه يرفع صوته، كما رفع صوته صلى الله عليه وسلم لما تفرقوا وكانوا يتوضئون، وبعض الناس لم يهتم بغسل عقبيه، رفع صوته صلى الله عليه وسلم فقال: (ويل للأعقاب من النار) فيتبين أن رفع الصوت للحاجة مهم في بعض الأحيان ويكون مطلوباً، لكن غالباً في المحادثة مع الناس في المجالس كالأحاديث الفردية والثنائية والجماعية لا بد أن تكون بصوت منخفض.

البعد عن الثرثرة والتشدق

وكذلك ينبغي أن يكون المتكلم بعيداً عن الثرثرة والتشدق وتكلف الفصاحة، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن جابر : (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله! ما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -أيضاً-: (سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي) وقال -أيضاً- في الحديث الصحيح: (سيكون قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر من الأرض)، وجاء وصفهم -أيضاً- بهذه الصفة القبيحة في الحديث الصحيح الآخر: (إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها) الباقرة: أي: البقرة، ومعنى هذا أنه يتشدق بالكلام ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً، وهذا فيه تنبيه على التكلف والتنطع وتكلف الفصاحة، وهو نوع من التقعر، وهو أيضاً من الثرثرة، وكناية عن التباهي والاستطالة، فالألفاظ عند هذا الرجل في المرتبة الأولى والمعاني بعد ذلك، فهو لا يحسب حساب المعنى، وهو -أيضاً- يتكلف لك ويلوي لسانه لياً كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً، فإذاً لا بد من ترك التكلف وأخذ الأمور بالطبيعة والسجية مع انتقاء الكلمات وجودة المعنى.

الإنصات للمتكلم

ومن آداب الكلام: الإنصات، وخصوصاً عندما يكون الشخص الآخر يقرأ كلام الله، فقد قال الله عز وجل: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] ومن الأشياء والمواضع التي يتأكد الإنصات فيها إذا تكلم أهل العلم، وعلى رأسهم -لا شك- النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك الصحابة بأدبهم مع النبي عليه الصلاة والسلام في الإنصات لقوله؛ عظمت مكانة النبي عليه الصلاة والسلام في نفوس الكفرة؛ نتيجة التطبيق العملي للإنصات.

الإخلاص في الكلام

ومن آداب الكلام: أن الإنسان لا يتكلم إلا إذا كانت الكلمة يراد بها وجه الله؛ لأنه قد يتكلم إظهاراً لعلمه، أو معرفته أو فصاحته وبيانه، أو استئثاراً بالمجلس، أو ترفعاً عن الخلق، أو إيذاءً للآخرين، أو حباً للظهور وترأساً للمجلس.. هذه من بواعث الكلام، فينبغي أن يكون الباعث لله، لا يتكلم إلا بما يرضي الله؛ ولذلك الإنسان المسلم يترك الكلام إذا فكر أن في تركه إرضاءً لله، وأن الإخلاص ألا يتكلم، وإذا دعته نفسه للكلام لهوى فليصمت، وإذا دعته للصمت لهوى فليتكلم.

ولا يجوز له مع ذلك أن يسكت عن تعليم جاهل أو تنبيه غافل، أو أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، فهو لا يزال يمشي بين تلك الضوابط.

ومن الأدلة والأمثلة الجميلة على أن الإنسان قد يريد أن يتكلم أحياناً، لكنه إذا فكر وعرف أن مصلحة الكلام أقل وأن مفسدة الكلام أكبر فيترك الكلام، هذا الحديث الذي رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه : [لما تولى معاوية -رضي الله عنه وعن بقية الصحابة أجمعين- الأمر خطب فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة : فهلا أجبته؟ -يقصد عبد الله بن عمر الذي كان موجوداً في المكان- قال عبد الله : فحللت حبوتي -وكان ابن عمر محتبياً- وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام. -أي: أن ابن عمر يريد أن يقول: أحق بهذا منك من كان من المهاجرين والأنصار الذين قاتلوك أنت وأباك؛ لأن معاوية من متأخري الإسلام رضي الله عنهم أجمعين- فهمَّ ابن عمر أن يتكلم وأن يقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، قال ابن عمر : فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك -أي: يفهم مني غير ما أقصد، وربما يفهم أن له مطمعاً في الملك- قال ابن عمر -وهذا الشاهد-: فذكرت ما أعد الله في الجنان من أجر كظم الغيظ والسكوت عندما تقتضي المصلحة السكوت من الكلام، قال حبيب : حُفظت وعُصمت يا بن عمر]. فهذا دليل على أن الإنسان قد يريد أن يتكلم ويستفز لكن يسكت؛ لأن المصلحة في السكوت، أي: المصلحة الشرعية وهي مصلحة الدين واجتماع المسلمين.. ونحو ذلك.

مخاطبة الناس على قدر عقولهم

ومن آداب الكلام: أن الإنسان إذا كلم قوماً فإنه يبتغي درجة من الكلام تبلغها عقولهم ويفهمونها، ولا يخاطبهم بالصعب الذي لا يدركون معناه، ولا بغريب الكلام الذي لا يفهمونه، وحتى إذا انتقى أشياء من العلم ينتقي الأشياء الأساسية الواضحة السهلة التي تتقبل، ويترك الأشياء التي قد ينفر منها الناس لغرابتها عندهم، مع أنها قد تكون من الدين، لكن إذا أدى عرضها إلى تكذيب الله ورسوله، كما يفعل بعض العامة إذا عُرِض عليه شيء غريب جداً قالوا: هذا ليس حديثاً، ولا يمكن أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام كلاماً مثل هذا، فيؤدي به إلى تكذيب الله ورسوله؛ فعليه أن يجتنبها.

ولذلك قال علي -كما روى البخاري تعليقاً-: [حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟] وهذا شيء يهم الخطباء والدعاة إلى الله عز وجل.

الترسل والتؤدة في الكلام

ومن آداب الكلام: أن يترسل فيه ترسلاً، ويكون في أثناء أدائه على تؤدة وعلى تمهل ليفهم ويحفظ، فقد روى الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه) لو أن أحداً يعد عند النبي عليه الصلاة والسلام لاستطاع أن يعد الكلمات أو المفردات أو الحروف، ويطيق ذلك ويبلغه إلى آخر الحديث، والمراد بقولها رضي الله عنها: المبالغة في الترتيل والتفهيم، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرتل كلامه، وليس المقصود أن يلحنه..وإنما يتأنى فيه.

قال ابن شهاب : أخبرني عروة عن عائشة أنها قالت: (ألا يعجبك أبو فلان جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك وكنت أسبح -أتنفل- فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته -أي: هذا الراوي الذي يروي الأحاديث بسرعة بجانب حجرتي ليحدث الناس، لأن حجرة عائشة كانت بجانب المسجد- لرددت عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم) هذا في رواية البخاري -رحمه الله.

ومعنى قولها: "لرددت عليه" أي: لأنكرت عليه وبينت له أن الترتيل والترديد والتؤدة والتمهل في الحديث أولى من السرد والإسراع، ومعنى قول عائشة : (لم يكن يسرد الحديث كسردكم) أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض؛ لئلا يلتبس على المستمع، وفي رواية للإسماعيلي (إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلاً فهماً تفهمه القلوب) أي: شيئاً تفهمه القلوب.

وروى أبو داود -رحمه الله تعالى- عن عائشة قالت: (كان كلامه صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً -مفصولاً بين أجزائه وواضحاً- يفهمه كل من سمعه) وعند أبي داود -أيضاً- في الحديث الصحيح: (كان في كلامه صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل)، والترتيل: هو التأني والتمهل في تبيين الحروف والكلمات، وهو والترسيل بمعنى واحد.

إذاً كان في عرض كلامه عليه الصلاة والسلام ترتيل وترسل وتأني، لكنه ليس بطئاً شديداً ينفر السامع؛ لأن بعض الناس عندهم بطء شديد في الحديث؛ بحيث أن السامع ينفر من سماعه.

إعادة الكلام المهم وتكراره

ومن آداب الكلام: إعادة الكلام المهم الذي يصعب على بعض الجالسين فهمه من أول وهلة أو لأول مرة، وهذا معنى قول أنس -رضي الله عنه- في حديث البخاري : (كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه).

فإذاً الإعادة لغرض التفهيم، فإذا فهمت لا يحتاج إلى إعادة، وإنما الإعادة للتفهيم.

وكذلك فإن الإعادة أقصاها ثلاث مرات، وقد جاء في الشريعة في أشياء كثيرة أن الغاية ثلاث مرات، فالاستئذان ثلاثاً، والطلاق ثلاثاً، وهنا يعيدها ثلاثاً؛ لكي يبلغ بها الغاية.

وأما الإعادة الكثيرة أكثر من ثلاث قد تمل؛ ولذلك قالت جارية لـابن السماك : ما أحسن كلامك إلا أنك تردده، قال: أردده حتى يفهمه من لم يكن فهمه، قالت: فإلى أن يفهمه من لم يكن فهمه يمله من فهمه -أي: إذا كررت كثيراً حتى يفهم الذي لا يفهم يكون الذي فهم قد مل من الترديد- فالمسألة وسط لا إفراط ولا تفريط.

الإقبال على المتحدث بالوجه

وكذلك الإقبال على المتحدث بالوجه، وعند قيام المصلي في الصلاة فإنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، ولا يرفع رأسه إلى السماء؛ لأن الله قبالة وجه العبد في الصلاة، إذا قام المصلي يصلي ينصب الله وجهه لوجه عبده المصلي ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض الله عنه، وكذلك فإن الناس في حال الخطبة يلتفتون بوجوههم إلى الخطيب كما قال الصحابة في وصف حالهم مع النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا خطب التفتوا بوجوههم إليه).

وهذا أمر يغفل عنه كثير من الأئمة، كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا سوى الصفوف أقبل عليهم بوجهه فسوى الصفوف، وأمرهم بتسويتها، فيلتفت إليهم بوجهه، ولا يقول من مكانه: استووا واعتدلوا، وهو لا يعرف هل استووا واعتدلوا أم لا.

الإعراض عن الألفاظ البذيئة

وكذلك من آداب الكلام والحديث: الإعراض عن الفحش والألفاظ البذيئة، وهذا معروف، لكن كون البذاءة لا يتلفظ بها الإنسان هذا شيء مفروغ منه، فإن الله عز وجل يبغض الفاحش البذيء: (ما كان النبي عليه الصلاة والسلام فاحشاً ولا متفحشاً) لكن لو أن الإنسان سمع أثناء الكلام فحشاً؛ فإنه يعرض عنه ويشيح بوجهه؛ دلالة على إنكاره للكلمة السيئة أو الشيء الذي يخالف الحياء، فقد روى الإمام البخاري -رحمه الله- عن عائشة: (أن امرأة من الأنصار قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف أغتسل من المحيض؟ قال: خذي خرصة ممسكة -قطعة من القطن قد وضعت في المسك- فتوضئي ثلاثاً) ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استحيا، هل يقول: ضعي هذا في المكان كذا؟ فأعرض بوجهه، قالت عائشة: (فأخذتها فجبذتها فأخبرتها بما يريد النبي صلى الله عليه وسلم ) وهذا يدل على أن الإنسان إذا وصل في الكلام إلى حد فيه شيء يخالف الحياء، فإنه يعرض بوجهه، فهذه امرأة تسأل، ولا يناسب أن النبي عليه الصلاة والسلام يفصل لها أكثر من هذا، فتركه لـعائشة؛ لأن المرأة تتفاهم مع المرأة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، والله عز وجل كنى عن الجماع بالمسيس، قال: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6] انظر إلى الأدب، فالله عز وجل يعلمنا الأدب أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6] والملامسة هنا الجماع، وليس مجرد اللمس على الصحيح من أقوال العلماء أن الملامسة هنا غير اللمس، أو لامستم: أي: أتى الرجل أهله.

تقديم الأكبر والأفقه في الكلام

وكذلك من آداب الكلام: تقديم الأكبر، فإن الناس قد يجتمعون في مجلس أو يأتي وفد يريد الكلام، فالذي يتكلم هو الأكبر إذا كان عارفاً بأصول الكلام فقيهاً، فمن الأدب أن يبدأ الأكبر، وتوقير الكبير من أصول الأدب في الشريعة؛ ولذلك قال الإمام البخاري -رحمه الله- في كتاب الأدب : باب إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال. وهذا قد جاء النص عليه والأمر به والإنكار على من خالفه في الحديث الصحيح، وهو حديث عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود (أنهما أتيا خيبر فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل ، فجاء عبد الرحمن بن سهل -أخو القتيل- وحويصة ومحيصة ابنا مسعود ، إلى النبي عليه الصلاة والسلام فتكلموا في أمر صاحبهم القتيل، فبدأ عبد الرحمن وكان أصغر القوم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر الكبرى، كبر الكبرى. قال يحيى : أي: ليَلِ الكلام الأكبر) فالأكبر هو الذي يتولى الكلام ويبدأ به، فتكلموا في أمر صاحبهم، وفي رواية: (كبر كبر) قال: (فذهب عبد الرحمن يتكلم وكان هو أصغر القوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر، وهو أحدث القوم فسكت فتكلما).

وكذلك مما يتعلق بهذه النقطة -أيضاً- ترك الكلام للأفقه، فإنه قد تحدث مناسبة تدعو للكلام فيود أحد الناس أن يتكلم، كأن تحدث حادثة تحتاج إلى تعليق، أو تحصل حادثة في المجلس أو في المسجد فيترك التعليق عليها للأفقه؛ لأن كل إنسان يريد أن يعلق، مثلاً: حصلت حادثة ولا بد من تعليق، فيترك للأفقه، مع أن كل الموجودين تدعو حاجتهم -أحياناً- إلى الكلام؛ لأن الأفقه والأعلم عنده مما نور الله به بصيرته ما يستطيع أن يقنع به الناس، ويكون تعليقه أولى من تعليق غيره، وكلامه أحسن من كلام غيره، وإليك الدليل:

لما مات النبي عليه الصلاة والسلام اختلف الصحابة فيمن يتولى الأمر من بعده، فقال الأنصار: نحن أولى، نحن كتيبة الإسلام، ونحن عماد الجيش الذين نصرنا الله ورسوله، فيكون الأمير والخليفة منا، فأوشكوا أن يبايعوا سعد بن عبادة ، فهذه حادثة كبيرة؛ ولذلك قال عمر -رضي الله عنه- لما تكلم الأنصار وقام خطيبهم فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: [ أما بعد.. فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط -أي: أنتم الأقلية ونحن الأنصار الأكثرية- وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يختصوا بالأمر من دوننا -وهذا معناه أن الأنصار يريدون أن تكون الخلافة فيهم- قال عمر : فلما سكت خطيب الأنصار أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني -أي: كنت قد أعددت مقالة في نفسي رصينة في غاية البلاغة والأهمية- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر -أي: أريد أن ابتدئ قبل أبي بكر وأتكلم بها- وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك -تمهل- قال عمر: فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته -على البديهة- مثلها أو أفضل منها حتى سكت.

فكان من كلام أبي بكر: ما ذكرته فيكم من خير فأنتم له أهل -انظر إلى الحكمة في كلام أبي بكر !- ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها -أي: ما كرهت من كلام أبي بكر غير هذه الكلمة -ووالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ] فلما ترك الكلام لـأبي بكر أجاد أحسن من عمر ، مع أن عمر يريد أن يتكلم والوضع يدعو للكلام.

تقديم مقدمة للكلام

ومن الأمور المهمة في أدب الكلام والحديث والمناقشة: التقديم، فإذا أراد الإنسان أن يتكلم فيقدم بمقدمة تناسب الكلام؛ خصوصاً إذا أراد أن يتكلم بين يدي عالم، أو مفتي يحتاج إلى نوع من التقديم، ليس كالكلام مع الرفيق والصديق، فهذا له أدب آخر ومرتبة أعلى.

ومثل هذا ما ورد في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد (أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم. قال: تكلم -أي: أن هذا من الأدب حيث قدم مقدمة واستأذن- قال: إن ابني كان عسيفاً...) إلى آخر القصة، وفيها رجم المحصنة التي زنت، وجلد الزاني غير المحصن، وإلغاء كل حكم باطل مخالف لما في الكتاب والسنة.

عدم المقاطعة في الحديث

وكذلك من أدب الكلام والحديث: عدم مقاطعة حديث الناس، فإذا دخلت على أناس يتكلمون فلا تقطع حديثهم، فإن قطع الحديث مخالف للأدب، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: [حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم -أي: لا تأت تعظ القوم وتعلمهم وهم يتحدثون بحديث فتقول لهم: اسكتوا، أنصتوا، أو عندي كلام، وعندهم حديث يتحدثون به، ولكن أنصت- ثم قال ابن عباس -وهو يُعلم الوعاظ والدعاة-: فإذا أمروك فحدثهم] أي: إذا قالوا لك: حدثنا أو ذكرنا أو عظنا يا فلان، فحدثهم؛ لأنك إذا حدثتهم بناءً على طلبهم؛ فإن الحديث يكون أشهى لهم، وأكثر موقعاً في نفوسهم من أن تبادئهم أنت وتطلب الإنصات.

لكن الإنسان قد يحتاج إلى الإنصات في موضع يكون فيه أناس لا يذكرون الله؛ بل ربما يقعون في معاصٍ، فعند هذا يقوم أحدهم ويقول: يا أيها الإخوة! أنصتوا، عندنا فلان يريد أن يتكلم، أو نريد أن نسمع كلامه بدلاً من الكلام الفارغ، لكن الناس عندهم حديث مشترك قد اجتمعوا عليه، فلا تدخل عليهم فتقطع حديثهم، لكن انتظر، واجلس إليهم، وأنصت، فإذا طلبوا منك الحديث تحدث، فإن الإسلام آداب.

[وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك ] أي: لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب ولا يتكلفون في الدعاء، ولا يأتون بالسجع المكروه المتكلف، الذي يضيع الخشوع في الدعاء، واستنبط منه ابن حجر -رحمه الله-كراهية التحديث عند من لا يقبل عليك، والنهي عن قطع حديث غيره، وأنه لا ينبغي نشر العلم عند من لا يحرص عليه، وأن يحدث من يشتهي سماعه لأنه أجدر أن ينتفع به.

البدء بالسلام قبل الكلام

وكذلك من آداب الكلام: أنك إذا قدمت على أناس ابدأ بالسلام قبل الكلام، وهذا أدب منصوص عليه في الحديث الصحيح، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) حديث حسن، وقال صلى الله عليه وسلم: (السلام قبل السؤال، فمن بدأكم بالسؤال قبل السلام فلا تجيبوه) تأديباً وتعليماً، فإذا دخل رجل على مجلس وقال: أين فلان؟ من رأى فلاناً؟ فلا تجيبوه، بل علموه أن يسلم أولاً ثم يسأل.

وكذلك من الضوابط الشرعية في الحديث: أن الإنسان لا يجوز له أن يكذب، وهذا أمر مفروغ منه، ولكن هنا أمر يفعله بعض الناس: وهو الكذب لإضحاك القوم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له) أي: يكذب في الحديث من أجل الإضحاك أو التنكيت كما يقولون.

لا يتناجى اثنان دون الثالث

وكذلك من آداب الحديث: ألا يتناجى اثنان دون الثالث، وهذا معلوم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس؛ فإن ذلك يحزنه) فالعلة: حتى لا يحزن؛ لأنه قد يظن أنه دون مستوى الكلام، ومعناها احتقاره بطريقة غير مباشرة، أو أن يظن أنكما تتآمران عليه، فاختص الكلام بينكما وتركتماه، فكأنكما تدبران شيئاً ضده، ولأجل ذلك قال: (فإن ذلك يحزنه) فهذا التناجي -إذاً- من الشيطان إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10].

حسناً.. لو كان في المجلس عشرة فتناجى تسعة دون العاشر أفيكون هذا التناجي محرماً؟ نعم؛ لأنه أشد من تناجي الاثنان دون الثالث.

ولو أن هناك ثلاثة في المجلس فتكلم الأول والثاني بلغة لا يتقنها الثالث ولا يعرفها، كأن يكون الثالث لا يحسن الكلام بالإنجليزية، فتكلم الأول والثاني بالإنجليزية بصوت مرتفع فيعتبر هذا تناجياً؛ لأن المفسدة قد حصلت؛ لأنه يجهل اللسان الذي تتحدثان به.

ولو صار في المجلس أربعة فتكلم اثنان سراً بينهما، والثالث والرابع صامتين بعيداً عنهما فلا يعتبر هذا تناجياً؛ لأنه يمكن أن يأنس بصاحبه.

حفظ سر المتكلم

ومن آداب الحديث والكلام: أن تحفظ سر المتحدث إليك إذا طلب ذلك صراحة، أو صدرت منه إشارة تدل على أنه يريد أن تحفظ سره -طبعاً فيما لا يضر بالمسلمين- كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهي أمانة) ومعنى الالتفات هنا أنه يتأكد من عدم سماع أحد من الناس، فهو يتكلم ويلتفت وهذا معناه أنه سر، ولو لم يقل لك: احفظه ولا تخبر به أحداً، فالتفاته وتأكده من خلو المكان يدل على أنها أمانة، قال العلماء: فإفشاء السر خيانة، وهو حرام إذا كان فيه إضرار، ولؤم إن لم يكن فيه إضرار.

لكن إذا كان فيه ضرر على المسلمين فلا بد من إفشائه لأهل الحسبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لكي يغيروا المنكر، ولا يصلح أن يصير هذا سراً له حرمة؛ لأن فيه ضرراً على المسلمين.

عدم هجر المسلم بالكلام

وكذلك من آداب الحديث والكلام: أنه لا يجوز هجر المسلم بالكلام فوق ثلاثة أيام، فلا يجوز أن تقاطع أخاً مسلماً من أهل السنة فوق ثلاث؛ بحيث لا تكلمه مطلقاً، فحد الخصومة بين المسلمين ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك لا بد أن تجيبه وتكلمه وتتحدث معه.

فمن أدب الكلام والمحادثة: خفض الصوت، قال الله تعالى في وصية لقمان لابنه: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] فلا شك أن رفع الصوت مزعج للسامع، ومثير لأعصابه، وهو ينبئ عن قلة الأدب، إلا إذا دعت الحاجة إلى رفع الصوت كالخطيب الذي يخطب للناس؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا خطب علا صوته واحمر وجهه؛ كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم.

كذلك إذا خاف ألا يسمع أحد تحذيراً مهماً أو علماً مهماً؛ فإنه يرفع صوته، كما رفع صوته صلى الله عليه وسلم لما تفرقوا وكانوا يتوضئون، وبعض الناس لم يهتم بغسل عقبيه، رفع صوته صلى الله عليه وسلم فقال: (ويل للأعقاب من النار) فيتبين أن رفع الصوت للحاجة مهم في بعض الأحيان ويكون مطلوباً، لكن غالباً في المحادثة مع الناس في المجالس كالأحاديث الفردية والثنائية والجماعية لا بد أن تكون بصوت منخفض.

وكذلك ينبغي أن يكون المتكلم بعيداً عن الثرثرة والتشدق وتكلف الفصاحة، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن جابر : (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله! ما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -أيضاً-: (سيكون رجال من أمتي يأكلون ألوان الطعام، ويشربون ألوان الشراب، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام، فأولئك شرار أمتي) وقال -أيضاً- في الحديث الصحيح: (سيكون قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر من الأرض)، وجاء وصفهم -أيضاً- بهذه الصفة القبيحة في الحديث الصحيح الآخر: (إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها) الباقرة: أي: البقرة، ومعنى هذا أنه يتشدق بالكلام ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً، وهذا فيه تنبيه على التكلف والتنطع وتكلف الفصاحة، وهو نوع من التقعر، وهو أيضاً من الثرثرة، وكناية عن التباهي والاستطالة، فالألفاظ عند هذا الرجل في المرتبة الأولى والمعاني بعد ذلك، فهو لا يحسب حساب المعنى، وهو -أيضاً- يتكلف لك ويلوي لسانه لياً كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً، فإذاً لا بد من ترك التكلف وأخذ الأمور بالطبيعة والسجية مع انتقاء الكلمات وجودة المعنى.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
آداب قضاء الحاجة [1، 2] 2988 استماع
آداب في زيارة الإخوان 2888 استماع
آداب تلاوة القرآن الكريم [1، 2] 2445 استماع
آداب الجوار 2299 استماع
آداب الهدية 2295 استماع
آداب الحوار [1، 2] 2285 استماع
آداب المزاح 2283 استماع
السفر وآدابه [2] 2100 استماع
آداب الاستئذان 2024 استماع
آداب الطعام [1، 2] 1934 استماع