آداب الجوار


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعــد:

سنتحدث في هذه المجموعة الثانية من الآداب عن "أدب الجوار".

والجِوار بكسر الجيم مصدر جاور، يقال: جاور جواراً ومجاورة، ومن معاني الجوار المساكنة والملاصقة، وأيضاً تطلق على الاعتكاف في المسجد والمجاورة في الحرمين، ويطلق الجوار أيضاً على العهد والأمان، ومن الجوار الجار، ويطلق على معان، منها: المجاور في المسكن، والشريك في العقار أو التجارة، والزوج أو الزوجة، والضرة يطلق عليها جارة، كما جاء في حديث: (لا يغرنكِ إن كانت جارتك أوضع).

وكذلك يطلق على الحليف والناصر، وقال الشافعي رحمه الله: كل من قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جار، وبناءً على ذلك فإن المجاور على مقاعد الدراسة في فصل المدرسة وصفوف الجامعة يعتبر جاراً، ويدخل في حقوق الجوار.

وقال الراغب رحمه الله: الجار من يقرب مسكنه منك، وهو من الأسماء المتضايفة، فإن الجار لا يكون جاراً لغيره إلا وذلك الغير جار له، كالأخ والصديق.

والمعنى الاصطلاحي للجوار هو: الملاصقة في السكن أو نحوه، وعندما أقول: ونحوه، يدخل فيها الدكاكين والمحلات والمكاتب والشركات والمؤسسات، فصاحب المكتب جار لصاحب المكتب الذي بجانبه وهكذا.

حد الجار والجوار

وحد الجار كما ذهب الشافعية والحنابلة أربعون داراً من كل جانب، من الأمام والخلف واليمين والشمال، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا) وبعضهم ضيق فقال: الجار هو الملاصق من جميع الجهات، أو المقابل له، بينهما شارع ضيق، فلا يفصل بينهما نهر متسع أو سوق كبير ونحو ذلك، وبعضهم عرفه بأنه: ما يجمعهما مسجد أو مسجدان متقاربان، وبعضهم قال: إن العرف هو الذي يضبط قضية الجوار، وحملوا حديث الأربعين على التكرمة والاحترام، ككف الأذى ودفع الضرر، والبشر في الوجه والإهداء، وإلى غير ذلك.

ولاشك أن الملاصق أولى الناس بأن يطلق عليه اسم الجار، ويقال حتى للساكن معك في المدينة: جاوره فيها، كما قال الله تعالى: ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً [الأحزاب:60] ولما استعظم حق الجار عقلاً وشرعاً عبر عن كل من يعظم حقه بالجار، كما قال تعالى: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [النساء:36] وقد تُصور من الجار معنى القرب، فقيل لمن يقرب من غيره: جاره وجاوره وتجاور معه.

ثم إن جمع جار جيران، والاسم هو الجوار، ويقال للمشارك في العقار والمقاسم: جار أيضاً.

وأما بالنسبة لحقه فإن حقه عظيم جداً، وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].

وإذا أردنا أن نضبط الجار بالعدد؛ فإن أقرب التعريفات التي مرت معنا والتي يسندها الدليل: أربعون جاراً من كل جانب من الجوانب.

أنواع الجار

وفي الآية التي قرأناها قبل قليل: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36] ما هو الفرق بين هذا وهذا؟

أما صاحب القربى فالقربى معروفة، وأما بالنسبة للجار الجُنُب، أي: البعيد الذي لا قرابة له، فلما ذكر جار القربى ذكر النوع الآخر من الجيران وهو الجار الذي ليس له قرابة.

والجيران عموماً ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد.

فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فهو الجار صاحب القربى، فله حق القرابة وحق الجوار وحق الإسلام.

وأما الجار الذي له حقان، فجارك المسلم غير القريب، فله حقان حق الإسلام وحق الجوار.

وإذا كان لك جار كافر فله حق واحد وهو حق الجوار.

وبعض من فسر الآية أدخل في قوله تعالى: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36] كل من جاورك في صناعة أو دراسة أو سفر، فالذي يجلس بجوارك في مقعد الطائرة -مثلاً- أو السيارة يعتبر جاراً، والمرأة جار للرجل الزوج، والزوج جار؛ لأجل الاشتراك الحاصل والقرب الشديد الذي يكون بينهما.

وحد الجار كما ذهب الشافعية والحنابلة أربعون داراً من كل جانب، من الأمام والخلف واليمين والشمال، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق الجار أربعون داراً هكذا وهكذا وهكذا) وبعضهم ضيق فقال: الجار هو الملاصق من جميع الجهات، أو المقابل له، بينهما شارع ضيق، فلا يفصل بينهما نهر متسع أو سوق كبير ونحو ذلك، وبعضهم عرفه بأنه: ما يجمعهما مسجد أو مسجدان متقاربان، وبعضهم قال: إن العرف هو الذي يضبط قضية الجوار، وحملوا حديث الأربعين على التكرمة والاحترام، ككف الأذى ودفع الضرر، والبشر في الوجه والإهداء، وإلى غير ذلك.

ولاشك أن الملاصق أولى الناس بأن يطلق عليه اسم الجار، ويقال حتى للساكن معك في المدينة: جاوره فيها، كما قال الله تعالى: ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً [الأحزاب:60] ولما استعظم حق الجار عقلاً وشرعاً عبر عن كل من يعظم حقه بالجار، كما قال تعالى: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [النساء:36] وقد تُصور من الجار معنى القرب، فقيل لمن يقرب من غيره: جاره وجاوره وتجاور معه.

ثم إن جمع جار جيران، والاسم هو الجوار، ويقال للمشارك في العقار والمقاسم: جار أيضاً.

وأما بالنسبة لحقه فإن حقه عظيم جداً، وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء:36].

وإذا أردنا أن نضبط الجار بالعدد؛ فإن أقرب التعريفات التي مرت معنا والتي يسندها الدليل: أربعون جاراً من كل جانب من الجوانب.

وفي الآية التي قرأناها قبل قليل: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36] ما هو الفرق بين هذا وهذا؟

أما صاحب القربى فالقربى معروفة، وأما بالنسبة للجار الجُنُب، أي: البعيد الذي لا قرابة له، فلما ذكر جار القربى ذكر النوع الآخر من الجيران وهو الجار الذي ليس له قرابة.

والجيران عموماً ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد.

فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فهو الجار صاحب القربى، فله حق القرابة وحق الجوار وحق الإسلام.

وأما الجار الذي له حقان، فجارك المسلم غير القريب، فله حقان حق الإسلام وحق الجوار.

وإذا كان لك جار كافر فله حق واحد وهو حق الجوار.

وبعض من فسر الآية أدخل في قوله تعالى: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36] كل من جاورك في صناعة أو دراسة أو سفر، فالذي يجلس بجوارك في مقعد الطائرة -مثلاً- أو السيارة يعتبر جاراً، والمرأة جار للرجل الزوج، والزوج جار؛ لأجل الاشتراك الحاصل والقرب الشديد الذي يكون بينهما.

وأما بالنسبة للأحاديث الواردة في الجار فإنها كثيرة جداً.

وصية جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم بالجار

من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه، ومعنى يوصيني به أي: بالاعتناء به والاحتفاء بشأنه، وأن تكون دائماً مهتماً بشأنه، وقوله: (حتى ظننت) أي: من شدة الإيصاء (أنه سيورثه) حتى يكون من أسباب الإرث الجوار، فأسباب الميراث ثلاثة:

أسباب ميراث الورى ثلاثه     كل يفيد ربه الوراثه

وهي نكاح وولاء ونسب      ما بعدهن للمواريث سبب

فكاد أن يكون أسباب الميراث في الورى أربعة: نكاح وولاء ونسب وجوار: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

وقد كان الجوار في بداية الإسلام من أسباب الميراث والتعاهد والتناصر، أي: الإخوة في الدين لها دخل بالميراث، ثم نسخت بآية المواريث للقربى: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75].

وصية الرسول لأبي ذر

قال عليه الصلاة والسلام موصياً أبا ذر : (يا أبا ذر ! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) رواه مسلم ، وهذه الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر رضي الله تعالى عنه في مسألة طبخ المرقة -أي: طبخ اللحم- والمرق قد يحوي لحماً وقد يحوي أشياء أخرى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا ذر رضي الله تعالى عنه أن يكثر المرق إذا طبخ شيئاً بإدام، أو بمرقة أن يكثر منها ويرسل إلى جاره.

وقوله: (فأكثر ماءها)، ليكثر الإدام، وهو ما يؤتدم به حتى يلين الخبز ويسيغه. (وتعاهد جيرانك)، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم وأكد عليه، أي: بالإحسان إليهم، وفعل البر معهم، بإشراكهم في الطعام الذي طبخته، وقد جاء عند ابن أبي شيبة هذا الحديث بلفظ: (إذا طبختم لحماً؛ فأكثروا المرق؛ فإنه أوسع وأبلغ للجيران) فهذا حث على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها، وقد يتأذى الجار بقتار قدر جار، وقتار القدر: ريح الطبخ، فقد يتأذى الجيران منه، فلا أقل من أن يعطوا مما شموا رائحته أو تأذوا منه، أو وصل إليهم دخانه مثلاً، وقد تتهيج عند صغارهم الشهوة إلى الطعام مما شموا من الجار، وتشتد الحسرة والألم عند الفقير الذي لا يجد مثلما عند جاره عندما يشتم رائحة طعامه، وربما يكون المجاور يتيماً أو أرملة، فتكون المشقة أعظم وتشتد الحسرة عند الصغير.

ولذلك جعل تشريكه في شيء من الطبخ نوعاً من المواساة لما اشتموا من هذه الرائحة، فلا أقبح من منع الشيء اليسير للمحتاج، أما إذا كان إرسال مرقة دون شيء يفهمه الجار على أنه استهانة به مثلاً، فلا يفعل الإنسان ما يؤدي إلى استياء جاره منه، أو شعوره بعدم التقدير له.

قال أبو ذر: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني وقال: إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك؛ فأصبهم منها بمعروف) طبعاً (منها) يعود على المرق، و(بمعروف) هذه اللفظة: إيماء إلى أن المرسَل إلى الجيران ينبغي أن يكون شيئاً نافعاً، ولو كان قليلاً، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً).. و( لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال أيضاً: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) .. (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) هذه رواية مسلم، والبوائق هي الغوائل والشرور، ومعنى (لا يدخل الجنة) أي: لا يدخل الجنة ناجياً، إلا يصيبه شيء من العذاب، أو لا يكون أول الداخلين، فهذا المسيء إلى جاره لا تتوقع أن يكون أول الداخلين، أو من أوائل الداخلين، أو أنه يدخل دون حساب ولا عذاب، فلابد أن يصيبه شيء من جراء ما آذى جيرانه.

ونظراً لأن النساء كثيرات المكث في المنزل أكثر من الرجال، واحتكاك الجارة بجارتها أكثر من احتكاك الجار بجاره، حيث أن الرجال خروجهم من البيت أكثر من النساء، كان لابد من وصية خاصة إلى الجارات لبعضهن البعض، وهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه. لما قال: (يا نساء المسلمات!) أي: يا نساء الجماعة المسلمات (لا تحقرن جارة لجارتها شيئاً من المعروف ولو فرسن شاة) وهو الشيء اليسير جداً.

الوصية بالسماح للجار بالاستفادة من جاره

إن بين الجيران مرافق مشتركة كالجدران والأسوار ونحوها، وربما احتاج الجار أن يضع خشبة على الجدار المشترك، أو على جدار الجار ليستفيد منه، وقد يمنعه، ويقول: هذا حائطي -مثلاً- ونحو ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) ثم يقول أبو هريرة : [مالي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم] متفق عليه.

فقوله: (لا يمنع) نهي أن يمنع جاره أن يغرز ولو كان في ملكه، وقوله: (أن يغرز خشبة في جداره) يعود على جدار المانع الذي يمنع، فإذا كان المقصود جداره هو فهذا لا يحتاج إلى وصية، لكن قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) أي: جدار الجار الآخر؛ لأن ذلك شيء يسير، وينبغي أن يتسامح به ويتساهل فيه، ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث: [مالي أراكم عنها] أي: عن هذه الخصلة من السماح للجار أن يغرز خشبة عندك [مالي أراكم عنها معرضين؟!] هل استغربتم الكلام، أو أعرضتم عنه بقلوبكم، أو نفرتم منه، أو لا تفعلونه في الواقع؟ [والله لأرمين بها ]، أي: بهذه السنة التي جاءت في الحديث [بين أكتافكم]، أي: سأبلغكم إياها، وألقيها على مسامعكم، وأوجعكم تقريعاً مما فيها، كما يضرب الإنسان الآخر ويرميه بالشيء بين كتفيه.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما أوصى بهذه الوصية أراد أن يكون هناك اشتراك في المرافق، أو الشيء الذي بينك وبينه لا تمنعه الاستفادة منه، إذا أراد أن يضرب مسماراً، أو يشد حبلاً مثلاً، أو يضع جزءاً من خشب أو ساتر، ونحو ذلك من هذه الأشياء المفيدة التي تفيده ولا تضرك، فلا تمنعه من الارتفاق بها والاستفادة منها.

وهذا الحديث يمكن أن يفهم منه الوجوب، ولذلك اختلف العلماء في حكم تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره، هل يجب أن يمكنه، ويأثم إذا منعه؟ قال بذلك بعض العلماء، وهما قولان للشافعي ، والإيجاب قال به أحمد وأبو ثور رحمهما الله من أصحاب الحديث، وهو ظاهر الحديث، والمعظم للسنة يقتضي أن يأخذ بهذا، وكلام أبي هريرة : [ما لي أراكم عنها معرضين؟!] ربما يدل على شيء من هذا، وكأن أبا هريرة لاحظ أنهم استغربوا الكلام، أو أنهم توقفوا عن العمل مثلاً، فقال: [ مالي أراكم عنها معرضين؟!] أي: لا تريدون هذا.

من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه، ومعنى يوصيني به أي: بالاعتناء به والاحتفاء بشأنه، وأن تكون دائماً مهتماً بشأنه، وقوله: (حتى ظننت) أي: من شدة الإيصاء (أنه سيورثه) حتى يكون من أسباب الإرث الجوار، فأسباب الميراث ثلاثة:

أسباب ميراث الورى ثلاثه     كل يفيد ربه الوراثه

وهي نكاح وولاء ونسب      ما بعدهن للمواريث سبب

فكاد أن يكون أسباب الميراث في الورى أربعة: نكاح وولاء ونسب وجوار: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

وقد كان الجوار في بداية الإسلام من أسباب الميراث والتعاهد والتناصر، أي: الإخوة في الدين لها دخل بالميراث، ثم نسخت بآية المواريث للقربى: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75].

قال عليه الصلاة والسلام موصياً أبا ذر : (يا أبا ذر ! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) رواه مسلم ، وهذه الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر رضي الله تعالى عنه في مسألة طبخ المرقة -أي: طبخ اللحم- والمرق قد يحوي لحماً وقد يحوي أشياء أخرى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا ذر رضي الله تعالى عنه أن يكثر المرق إذا طبخ شيئاً بإدام، أو بمرقة أن يكثر منها ويرسل إلى جاره.

وقوله: (فأكثر ماءها)، ليكثر الإدام، وهو ما يؤتدم به حتى يلين الخبز ويسيغه. (وتعاهد جيرانك)، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم وأكد عليه، أي: بالإحسان إليهم، وفعل البر معهم، بإشراكهم في الطعام الذي طبخته، وقد جاء عند ابن أبي شيبة هذا الحديث بلفظ: (إذا طبختم لحماً؛ فأكثروا المرق؛ فإنه أوسع وأبلغ للجيران) فهذا حث على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها، وقد يتأذى الجار بقتار قدر جار، وقتار القدر: ريح الطبخ، فقد يتأذى الجيران منه، فلا أقل من أن يعطوا مما شموا رائحته أو تأذوا منه، أو وصل إليهم دخانه مثلاً، وقد تتهيج عند صغارهم الشهوة إلى الطعام مما شموا من الجار، وتشتد الحسرة والألم عند الفقير الذي لا يجد مثلما عند جاره عندما يشتم رائحة طعامه، وربما يكون المجاور يتيماً أو أرملة، فتكون المشقة أعظم وتشتد الحسرة عند الصغير.

ولذلك جعل تشريكه في شيء من الطبخ نوعاً من المواساة لما اشتموا من هذه الرائحة، فلا أقبح من منع الشيء اليسير للمحتاج، أما إذا كان إرسال مرقة دون شيء يفهمه الجار على أنه استهانة به مثلاً، فلا يفعل الإنسان ما يؤدي إلى استياء جاره منه، أو شعوره بعدم التقدير له.

قال أبو ذر: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني وقال: إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك؛ فأصبهم منها بمعروف) طبعاً (منها) يعود على المرق، و(بمعروف) هذه اللفظة: إيماء إلى أن المرسَل إلى الجيران ينبغي أن يكون شيئاً نافعاً، ولو كان قليلاً، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً).. و( لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال أيضاً: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) .. (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) هذه رواية مسلم، والبوائق هي الغوائل والشرور، ومعنى (لا يدخل الجنة) أي: لا يدخل الجنة ناجياً، إلا يصيبه شيء من العذاب، أو لا يكون أول الداخلين، فهذا المسيء إلى جاره لا تتوقع أن يكون أول الداخلين، أو من أوائل الداخلين، أو أنه يدخل دون حساب ولا عذاب، فلابد أن يصيبه شيء من جراء ما آذى جيرانه.

ونظراً لأن النساء كثيرات المكث في المنزل أكثر من الرجال، واحتكاك الجارة بجارتها أكثر من احتكاك الجار بجاره، حيث أن الرجال خروجهم من البيت أكثر من النساء، كان لابد من وصية خاصة إلى الجارات لبعضهن البعض، وهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه. لما قال: (يا نساء المسلمات!) أي: يا نساء الجماعة المسلمات (لا تحقرن جارة لجارتها شيئاً من المعروف ولو فرسن شاة) وهو الشيء اليسير جداً.

إن بين الجيران مرافق مشتركة كالجدران والأسوار ونحوها، وربما احتاج الجار أن يضع خشبة على الجدار المشترك، أو على جدار الجار ليستفيد منه، وقد يمنعه، ويقول: هذا حائطي -مثلاً- ونحو ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) ثم يقول أبو هريرة : [مالي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم] متفق عليه.

فقوله: (لا يمنع) نهي أن يمنع جاره أن يغرز ولو كان في ملكه، وقوله: (أن يغرز خشبة في جداره) يعود على جدار المانع الذي يمنع، فإذا كان المقصود جداره هو فهذا لا يحتاج إلى وصية، لكن قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) أي: جدار الجار الآخر؛ لأن ذلك شيء يسير، وينبغي أن يتسامح به ويتساهل فيه، ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث: [مالي أراكم عنها] أي: عن هذه الخصلة من السماح للجار أن يغرز خشبة عندك [مالي أراكم عنها معرضين؟!] هل استغربتم الكلام، أو أعرضتم عنه بقلوبكم، أو نفرتم منه، أو لا تفعلونه في الواقع؟ [والله لأرمين بها ]، أي: بهذه السنة التي جاءت في الحديث [بين أكتافكم]، أي: سأبلغكم إياها، وألقيها على مسامعكم، وأوجعكم تقريعاً مما فيها، كما يضرب الإنسان الآخر ويرميه بالشيء بين كتفيه.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما أوصى بهذه الوصية أراد أن يكون هناك اشتراك في المرافق، أو الشيء الذي بينك وبينه لا تمنعه الاستفادة منه، إذا أراد أن يضرب مسماراً، أو يشد حبلاً مثلاً، أو يضع جزءاً من خشب أو ساتر، ونحو ذلك من هذه الأشياء المفيدة التي تفيده ولا تضرك، فلا تمنعه من الارتفاق بها والاستفادة منها.

وهذا الحديث يمكن أن يفهم منه الوجوب، ولذلك اختلف العلماء في حكم تمكين الجار من وضع الخشب على جدار جاره، هل يجب أن يمكنه، ويأثم إذا منعه؟ قال بذلك بعض العلماء، وهما قولان للشافعي ، والإيجاب قال به أحمد وأبو ثور رحمهما الله من أصحاب الحديث، وهو ظاهر الحديث، والمعظم للسنة يقتضي أن يأخذ بهذا، وكلام أبي هريرة : [ما لي أراكم عنها معرضين؟!] ربما يدل على شيء من هذا، وكأن أبا هريرة لاحظ أنهم استغربوا الكلام، أو أنهم توقفوا عن العمل مثلاً، فقال: [ مالي أراكم عنها معرضين؟!] أي: لا تريدون هذا.

وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) والإيذاء أنواعه كثيرة، وإيذاء الجار حرام، وسنأتي على بعض أنواع الإيذاء، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) فذكر الإحسان وعدم الإيذاء حتى تكتمل القضية من طرفين: إحسان وعدم إيذاء؛ لأن عدم الإيذاء لا يتضمن الإحسان، أي: أنت ممكن لا تؤذي لكن لا تحسن، فليس المطلوب فقط أنك لا تؤذي، ولكن أن تحسن أيضاً.

أما الإحسان فهو ينافي الإيذاء، أي: إذا قال أحسن، فواضح أنه لا تؤذي، لكن عندما قال: لا تؤذي، فقد أكد على هذا الجانب؛ لأنه يحصل أذية من الجيران لبعضهم، ولذلك أكد عليه من جهتين: الإحسان وعدم الإيذاء، لكن عدم الإيذاء لا يعني وجوب الإحسان.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة رضي الله عنها وقالت له: (يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) رواه البخاري. فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أمر بإكرام الجار عملت عائشة رضي الله عنها، وقد كان الزاد عندهم قليلاً، ولم يكونوا على سعة من العيش، وكانت تمر أيام كثيرة لا يوقد في بيت النبي عليه الصلاة والسلام نار ولا هناك شيء يطبخ، وأرسل مرة في طلب طعام لضيفه فلم يجد إلا الماء، وأحياناً يأتي لبن من هنا أو شيء من هنا، مما يهدى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهم كانوا من جهة العيش ليسوا في سعة، فلما كان هذا، وربما يحضر عند عائشة القليل، والجيران كثر، قلنا: أربعون من كل جانب، فما الذي يسع هؤلاء الجيران الكثر؟ فلذلك سألته قالت: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) وهذا أحد الأقوال في تفسير (والجار الجنب والجار ذي القربى) على أحد الأقوال، ولكن القول الأشهر: القربى صاحب القرابة النسبية.

وقال عليه الصلاة والسلام: (خير الجيران عند الله خيرهم لجاره) رواه الترمذي وهو حديث حسن. و(خيرهم لجاره) أي: في النفع والدفع، فهو ينفعه ويدفع عنه ما يؤذيه، فهذا خير الناس وأكثرهم ثواباً، وأكرمهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى.

تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من جار السوء

وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أحاديث متعددة في مسألة الجار، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الجار السيء، يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول) حديث صحيح، رواه ابن حبان ، والحاكم وصححه الذهبي والألباني ، فجار البادية -مثلاً- أنت ذاهب إلى البحر فجاء عندك جار سوء، هذا مهما مكث لا يطيل، لكن في البلد وبالذات إذا كان بيتك بيت ملك، وحتى إن كنت مستأجراً، فالنقل من البيت عذاب وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ [الحشر:3] الجلاء عن البيت والديار عذاب، ولولا أن كتب الله عليهم هذا النوع من العذاب لعذبهم بعذاب آخر، هذا معنى الآية.

فجار السوء في دار المقامة مصيبة؛ خصوصاً إذا كان بيتاً لا تجد له بديلاً، فهذا من أكبر المصائب، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ منه، قال: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول).

إعانة الجار من علامات الإيمان الكامل

ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً إذا بات شبعان وجاره جائع، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به) رواه البزار وإسناده حسن؛ لأن بعض الجيران قد لا يعلم بحقيقة جاره، ولذلك إذا وصل إليك علم عن جارك، فقد قامت عليك الحجة في مساعدته.

من سعادة الإنسان الجار الصالح

ومن سعادة الإنسان في المقابل الجار الصالح، كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من سعادة المرء: الجار الصالح والمركب الهنيء والمسكن الواسع) وقال: (أربع من السعادة: ...وذكر الجار الصالح، وأربع من الشقاء: ...وذكر الجار السوء) فإذا كان للإنسان جار صالح كان هذا من أسباب سعادته في الدنيا وهناء عيشه.

وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة

أذية الجار من أسباب دخول النار

وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن امرأة أنها من أهل النار مع صلاتها وصدقتها وصيامها، لماذا؟ لأنها كانت تؤذي جيرانها، والحديث رواه أحمد والبزار وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ورواه ابن أبي شيبة ، قال رجل: (يا رسول الله! إن فلانة تكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها -باللسان- قال: هي في النار، قال: يا رسول الله! فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تتصدق بالأثوار من الإقط -الإقط هو اللبن المجفف، وهو من الشيء الزهيد- ولا تؤذي جيرانها، قال: هي في الجنة) فما نفع تلك كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها؛ لأنها تؤذي جيرانها، وهذه نفعها الإحسان وعدم إيذاء الجار، فأخبر عليه الصلاة والسلام أنها في الجنة، فهذه من الأدلة على خطورة هذا الموضوع، وأنه لابد من الاهتمام به.

وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أحاديث متعددة في مسألة الجار، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الجار السيء، يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول) حديث صحيح، رواه ابن حبان ، والحاكم وصححه الذهبي والألباني ، فجار البادية -مثلاً- أنت ذاهب إلى البحر فجاء عندك جار سوء، هذا مهما مكث لا يطيل، لكن في البلد وبالذات إذا كان بيتك بيت ملك، وحتى إن كنت مستأجراً، فالنقل من البيت عذاب وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ [الحشر:3] الجلاء عن البيت والديار عذاب، ولولا أن كتب الله عليهم هذا النوع من العذاب لعذبهم بعذاب آخر، هذا معنى الآية.

فجار السوء في دار المقامة مصيبة؛ خصوصاً إذا كان بيتاً لا تجد له بديلاً، فهذا من أكبر المصائب، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ منه، قال: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول).




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
آداب قضاء الحاجة [1، 2] 2992 استماع
آداب في زيارة الإخوان 2897 استماع
آداب تلاوة القرآن الكريم [1، 2] 2450 استماع
آداب الهدية 2303 استماع
آداب الحوار [1، 2] 2293 استماع
آداب المزاح 2291 استماع
آداب الكلام والمحادثة 2138 استماع
السفر وآدابه [2] 2108 استماع
آداب الاستئذان 2029 استماع
آداب المصافحة والمعانقة والتقبيل 1943 استماع