آداب قضاء الحاجة [1، 2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

نتحدث في هذه الليلة وفي هذه السلسلة؛ سلسلة الآداب الشرعية المجموعة الثانية عن أدب يدل على كمال هذه الشريعة وحسنها، وأنها لم تترك شيئاً إلا وأوردت فيه آداباً وأحكاماً ليدل ذلك على قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فالكمال والجمال في هذه الشريعة من سماتها، والحمد لله على نعمته.

ومن عظمة هذه الشريعة المباركة أنها ما تركت خيراً في قليل ولا كثير إلا أمرت به ودلت عليه، ولا شراً في قليل ولا كثير إلا حذرت منه ونهت عنه؛ فكانت كاملة حسنة من جميع الوجوه، وقد أثار ذلك دهشة غير المسلمين وإعجابهم بهذا الدين، حتى قال أحدهم لـسلمان الفارسي رضي الله عنه: (قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فقال سلمان: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول...) الحديث. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وهو في صحيح مسلم وغيره.

وقضاء الحاجة: هذا الاسم من الأدلة على الأدب في الشريعة، فإنه ذكر كنايةً عن خروج البول والبراز، ولا شك أن هذا الاسم -قضاء الحاجة- ألطف وأحسن وأجمل، والأدب في مثل هذا واضح في القرآن والسنة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43] فلم يسم الخارج باسمه البشع، وإنما كنى عنه بهذه العبارة فقال: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43] والغائط: هو المطمئن من الأرض.. المكان النازل من الأرض.. مستوى هابط من الأرض، فقد كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوه رغبة في التستر، فكني به عما يخرج من السبيلين.

ولذلك فإنه لا فحش ولا بذاءة في هذه الشريعة بخلاف ما يستعمله كثير من الناس في ألفاظهم ومجالسهم من أنواع البذاءات والفحش، فنقول: حتى هذه العملية وهي خروج هذه النجاسات سميت بهذه الأسماء من باب الأدب، وقيل: قضاء الحاجة، مع أن الحاجات كثيرة، لكن صار علماً أو رمزاً على إخراج النجاسة من السبيلين.

وقد ورد في هذه الشريعة عدة آداب وأحكام لهذا الأمر، ومن ذاك:

أولاً: عدم استقبال قبلة الصلاة عند البول والغائط، والقبلة: هي جهة الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام، فإن من احترام المسلمين لقبلتهم، وتعظيمهم شعائر الله ألا يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها ببول أو غائط، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها).

أما بالنسبة للخلاء، أو الصحراء، والفضاء، والمكان المفتوح، فإنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها ببول ولا غائط، لكن قد حصل خلاف في البنيان، هل يجوز استقبال القبلة أو استدبارها في البنيان؟

فذهب بعض العلماء إلى ذلك، وقالوا: بأن النهي خاص بالأماكن المكشوفة والمفتوحة كالفضاء والصحراء، وأما في البنيان فلا.

وقال بعضهم: النهي عام، وفرق بعضهم بين البول والغائط... إلى آخر ذلك من الأقوال المشهورة والمعروفة في هذا الموضوع، ولذلك الأحسن للإنسان -وهذه من الأمور المهمة- الذي يريد أن يصمم بيتاً أن ينتبه حتى يكون المكان المعد للجلوس لقضاء الحاجة في بيته ليس إلى جهة القبلة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول في المدينة : (شرقوا أو غربوا) ونحن نقول في هذا المكان: اتجهوا شمالاً أو جنوباً، بحسب الموقع: أين أنت من مكة ؟

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم من مراعاتهم لهذا لما دخلوا بلاد فارس والشام والفتوحات وجدوا المراحيض إلى جهة مكة فقال بعضهم: [ فكنا ننحرف ونستغفر الله ]. فلو أنه أراد أن يحتاط حتى في البنيان يمكن أن ينحرف ويستغفر الله.

ومن الآداب كذلك: ألا يمس ذكره بيمينه وهو يبول، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه) رواه البخاري ، وحيث أن اليد اليمنى تجعل للأمور الحسنة والطيبة فليس من المناسب إذاً أن يكون هذا المس باليمنى، ولو احتاج إليه فإنه يكون عند الحاجة باليسرى.

ثالثاً: ألا يزيل النجاسة بيمينه، ليس فقط ألا يمس الموضع أو العورة باليمنى، ولكن لا يزيل النجاسة باليمنى، بل يستخدم شماله لمباشرة النجاسة في إزالتها لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يستنجي بيمينه) رواه البخاري . ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تمسح أحدكم فلا يتمسح بيمينه) رواه البخاري ، ولما روت حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه واستياكه وأخذه وعطائه، ويجعل شماله لما سوى ذلك) رواه الإمام أحمد رحمه الله، وهو حديث صحيح، وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استطاب أحدكم فلا يستطب بيمينه، ليستنجي بشماله).

رابعاً: والسنة أن يقضي حاجته جالساً وألا يقضيها واقفاً، وأما البول فإن الأصل في فعله عليه الصلاة والسلام والأكثر والأشهر هو أنه كان عليه الصلاة والسلام يقعد عند قضاء حاجته، وأما بالنسبة للوقوف عند البول فإن هناك بعض الأحاديث والآثار التي وردت فيه، أما بالنسبة لنهي صريح مرفوع عن البول قائماً فلا دليل له، وقد جاء عن ابن مسعود : [من الجفاء أن تبول وأنت قائم] وكان سعد بن إبراهيم من السلف لا يجيز شهادة من بال قائماً، وحديث عائشة : (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً). قال الترمذي : هذا أصح شيء في الباب.

وقد رويت الرخصة في البول قائماً عن عمر وعلي و ابن عمر و زيد وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة ، وروى حذيفة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) رواه البخاري . أتى سباطة قوم، أي: موضع رمي القمامة.

ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، ويحتمل أن يكون في موضع لم يتمكن من الجلوس فيه، وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمأبضه؛ والمأبض: باطن الركبة من كل حيوان، فكان هناك جرح أو علة فما استطاع أن ينثني فبال قائماً، ولكن هذا الحديث الذي أشاروا إليه في قضية المأبض حديث ضعيف ليس بصحيح، فقد رواه الخطابي في معالم السنن ، والحاكم والبيهقي ، ولكن هناك من هو أعلى من الخطابي ، لأن كتاب المعالم للخطابي من الشروح، وقد أورد فيه سنده ولكن عند العزو يعزى إلى مثل: الحاكم والبيهقي، وفي هذا الحديث رجل يقال له: حماد ؛ وهو ضعيف، والحديث قد ضعفه الدار قطني و البيهقي وأقر ذلك ابن حجر.

أما رواية ابن مسعود : [من الجفاء أن تبول قائماً] فإن الترمذي قد رواه في سننه ، وعلقه أحمد شاكر فقال: وهذا الأثر معلق بدون إسناد، وقال المباركفوري : لم أقف على من وصفه، وقد تتبع الشيخ: ناصر الدين الألباني في إرواء الغليل طرقه وجمعها، فقال في رواية ابن مسعود : [أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره، ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته، وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه في قوله] يقول الألباني : هذا صحيح عن ابن مسعود موقوفاً، وقد رواه ابن أبي شيبة ، وأما مرفوعاً: [ثلاث من الجفاء...] فإن هذا الحديث ضعيف ومنكر، ولا يثبت مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً: قال بعضهم: إن العلة في بوله عليه الصلاة والسلام قائماً -ما دام أنه قد ثبت في البخاري أنه بال مرةً قائماً- لعدم التمكن من البول، وقيل: ليبين الجواز.

ولا شك أن العلة ما دامت أنها لم تثبت فبقي أنه يريد أن يبين الجواز، أو لم يتمكن من الجلوس في موضع القمامة.

الخلاصة: لا بأس عند الحاجة أن يبول الشخص قائماً بشرط: أن يأمن عود رشاش البول عليه، وأن يأمن تلويث ملابسه، فإذا أمن تلويث الملابس والجسم فلا بأس أن يبول قائماً، لكن الأفضل البول قاعداً، لماذا؟

أولاً: لأنه أستر.

ثانياً: لأنه آمن من ارتداد رشاش البول عليه وتلويث بدنه وثيابه. فلذلك الأفضل البول قاعداً.

خامساً: من آداب إرادة قضاء الحاجة: أن لا يرفع ثوبه إلا بعد أن يدنو من الأرض، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض). رواه الترمذي وهو حديث صحيح.

وإذا كان في مرحاض ونحوه فلا يرفع ثوبه إلا بعد إغلاق الباب وتواريه عن أعين الناظرين، فما يفعله بعض الكفرة ومن قلدهم من أبناء المسلمين من التبول وقوفاً في بعض المحلات المكشوفة داخل بعض المراحيض العامة مما هو موجود في المطارات وغيرها هو أمر منافٍ للأدب والحشمة والحياء والأخلاق الفاضلة، وتقشعر منه أبدان أصحاب الفطر السليمة، والعقول الصحيحة، وهو أمر منكر شرعاً وحرام، إذ كيف يكشف الشخص عن عورته أمام الناس الغادي منهم والرائح التي جعلها الله بين رجليه ستراً لها، وأمر بتغطيتها، واستقر أمر تغطيتها عند جميع عقلاء البشر؟! ثم إنه من الخطأ أصلاً أن تبنى المرافق بهذا الشكل المشين الذي يرى مستعملوها فيها بعضهم بعضاً وهم يبولون متخلفين في ذلك عن البهائم التي من عادتها الاستتار عند التبول والتغوط.

سادساً: أن يستتر عن أعين الناس عند قضاء الحاجة بالبعد إذا لم يكن ثمة مراحيض تغلق أبوابها. (وقد كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخلٍ).

والهدف: هو المرتفع من الأرض، وحائش النخل: هو البستان، وإذا كان الإنسان في الفضاء كأن يخرج الإنسان -مثلاً- إلى الساحل أو الشاطئ فيريد أن يقضي حاجته، وليس هناك لا حائش نخل، ولا مرتفع والأرض مستوية، فماذا يفعل؟

إذا كان عنده شيء يتوارى خلفه كسيارة ونحوها فعل ذلك، وإلا فينبغي له أن يبعد عن أعين الناظرين؛ وذلك بأن يمشي إلى مكان بعيد عن الناس، لما روى المغيرة بن شعبة قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم حاجته فأبعد في المذهب). أي: ذهب بعيداً، رواه الترمذي ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وعن عبد الرحمن بن أبي قرادن قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلاء، وكان إذا أراد الحاجة أبعد). رواه النسائي وهو حديث صحيح.

سابعاً: من آداب قضاء الحاجة أيضاً: الاعتناء بإزالة النجاسة بعد الفراغ من قضاء الحاجة، لقوله صلى الله عليه وسلم محذراً من التساهل في التطهر من البول: (أكثر عذاب القبر من البول). رواه ابن ماجة ، وهو حديث صحيح.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).

ثامناً: من آداب قضاء الحاجة أيضاً: أن يكون مسح النجاسة ثلاثاً فما فوق، وأن يكون وتراً، بحسب ما تدعو إليه حاجة التطهير، فإذا لم تكف ثلاث فخمس مسحات أو سبع أو تسع، لما جاء عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل مقعدته ثلاثاً، قال ابن عمر : فعلناه فوجدناه دواءً وطهوراً). حديث صحيح، رواه ابن ماجة رحمه الله.

ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر وتراً). رواه الإمام أحمد ، وحسنه الألباني في: صحيح الجامع إذن يقطع على وترٍ.

تاسعاً: من الآداب أيضاً: ألا يستعمل العظم ولا الروث في الاستجمار؛ والاستجمار: هو إزالة النجاسة بالمسح، والاستنجاء: هو إزالة النجاسة بالغسل. ولا يستعمل العظم ولا الروث للاستجمار وإنما يستعمل الحجارة والمناديل ونحو ذلك، لما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ قال: أنا أبو هريرة ، قال: أبغني أحجاراً أستجمر بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى إذا وضعتها بجنبه ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت فقلت: ما بال العظم والروثة؟! قال: هما من طعام الجن). رواه البخاري رحمه الله تعالى.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
آداب في زيارة الإخوان 2889 استماع
آداب تلاوة القرآن الكريم [1، 2] 2446 استماع
آداب الجوار 2299 استماع
آداب الهدية 2296 استماع
آداب الحوار [1، 2] 2285 استماع
آداب المزاح 2284 استماع
آداب الكلام والمحادثة 2133 استماع
السفر وآدابه [2] 2101 استماع
آداب الاستئذان 2024 استماع
آداب الطعام [1، 2] 1936 استماع