أريد أن أتوب ولكن [1، 2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يقبل التوبة عن عباده ويغفر السيئات ويعفو عن كثير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى سبيله، أرسله الله رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

إخواني في الله! أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون من الليالي المشهودة في صفحات أعمالنا عنده عز وجل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل ملائكته السيارين الذين يبحثون عن حلقات العلم والذكر، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الملائكة تحفنا بأجنحتها، وأن تحط رحالها في حلقتنا هذه.

إخواني! موضوعنا في هذه الليلة يتعلق بأعمال القلوب ويتعلق بالأمور الإيمانية التي حصل فيها إهمال وتقصير من جمهور المسلمين في هذه الأيام، وقضية قسوة القلوب موضوع طال الكلام فيه، ولكن أعمال القلوب دائماً تعتمد على التطبيق العملي أكثر مما تعتمد على الكلام النظري، وهذا الموضوع الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة إن شاء الله، قبل أن أدخل فيه أحب أن أنبه إلى ثلاث مسائل:

الأولى: دعوية.

الثانية: تربوية.

الثالثة: عقدية.

واقع الناس مع المعاصي

أما المسألة الدعوية في موضوعنا: فإن الوضع الذي نعيشه اليوم -أيها الإخوة- وضع انغماس الناس في المعاصي، وارتكابهم للمخالفات الشرعية التي نهى الله عنها، ولذلك أكثر الناس اليوم غارقون في أوحال الذنوب، والدعاة إلى الله عز وجل عليهم مسئولية عظيمة في فتح الطريق أمام هؤلاء الناس حتى يعودوا إلى ربهم عز وجل، والذي لا يعرف كيف يمهد الطريق ويفتح الباب أمام الناس الذين يريدون أن يتوبوا، فهو غير ناجح في عمله، ولذلك ينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يفقهوا هذه المسألة وأن يعرفوا خطورة موضوع التوبة، لأن هناك الآن في هذه الأيام رجعة صادقة إلى الله عز وجل من الكثيرين بدأت تنتشر والحمد لله على نعمه ونسأل الله المزيد.

فالفقه في هذه القضية يسبب المزيد من النجاح في استجلاب الأعداد الكثيرة الغفيرة إلى طريق الهداية، والدين لا ينتشر بغير فعل فاعل، لا يكفي القرآن فقط حتى ينتشر الإسلام في الأرض ولا السنة فقط، ولكن لابد من رجال يحملون القرآن والسنة وينطلقون بهما في الأرض يفتحون قلوب الناس قبل بلدانهم، ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف.

حاجة جميع المؤمنين إلى التوبة

والقضية الثانية وهي قضية تربوية تتعلق بموضوع التوبة: وهي أن بعض الإخوان ربما يظن أن هذا الموضوع خاص بالفسقة أو الفجرة أو الكفار، وليس للمسلمين أو ليس للمستقيمين الملتزمين بشرع الله، وربما يظن أن هذا الموضوع تحت مستواه بكثير، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] ما قال: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها الكافرون أو أيها الفاسقون أو الفاجرون فقط، وإنما قال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور:31] فإذاً موضوع التوبة معني به المؤمن أيضاً وليس هو عنه ببعيد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة أو مائة مرة.

أقول هذا الكلام لأن بعض الإخوان قد يوجد عندهم شعور أنه قد بلغ مرتبة اليقين في التربية وأن قضية التكاليف القلبية مثل التوبة وغيرها قد سقطت عنه، وأنه الآن في أعمال هامة للمسلمين وأنه يطلب العلم ويتفقه في الأصول والعلوم الصعبة، وأنه يشتغل بقضايا مصيرية للأمة، وأنه لا يحتاج إلى قضية التوبة والاستغفار وهذه الأشياء التي هي لعامة الناس، هذا مدخلٌ شيطاني خطير ينبغي أن نتنبه إليه.

علاقة التوبة بعقيدة أهل السنة

والمسألة الثالثة العقدية في هذا الموضوع: أن الكلام في المواضيع هذه ينبغي أن يكون منطلقاً من عقيدة أهل السنة والجماعة ، وقد يستغرب البعض ما علاقة موضوع التوبة بعقيدة أهل السنة والجماعة ، وربما يقول: أنت تريد أن تقحمها إقحاماً، أقول لك: كلا يا أخي! وأنا أبين لك إن شاء الله مثلاً: من المواضيع المتعلقة بالتوبة والملتصقة بها التصاقاً شديداً قضية مفهوم الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، هذا المفهوم هو عقيدة أهل السنة والجماعة ، من تفاصيل عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يزيد وينقص.

إذا كنا من المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأنك أنت يا أيها المسلم كامل الإيمان، إذا أنت معتقد أنك كامل الإيمان ما الذي سيدفعك إلى التوبة والاستغفار؟ إذا لم تعتقد أن الإيمان يزيد وينقص ما الذي يدفعك في لحظات الضعف أن تبادر مستغفراً لله عز وجل طالباً منه المعونة؟ فإذاً: مثل هؤلاء المرجئة اللعَّابين بالدين كما قال الشاعر:

ولا تك مرجياً لعوباً بدينه     ألا إنما المرجي بالدين يمزح

إذا كنا من هؤلاء من أصحاب هذه العقيدة فما الذي سيدفعنا إلى التوبة؟ وما الذي سيجعلنا نتحسس نقص الإيمان في قلوبنا؟ مرتبطة وقضية التوبة مرتبطة أيضاً بجانب آخر من العقيدة وهي مسألة الأسماء والصفات، فإذا لم نفقه قضية توحيد الأسماء والصفات، فما الذي يجعلنا نتجه إلى التوبة ونحن لا نعرف معنى الرحمن ومعنى الرحيم؟ ما الذي سيلجئنا إلى التوبة ويدفعنا إليها ويجذبنا إلى هذا الباب الإيماني الواسع ونحن لا نفقه معنى التواب، أو الحليم، أو السميع الذي يسمع آهات التائبين وأناتهم وهم يصرخون مستغيثين بربهم؟ وما الذي سيدفع الإنسان إلى الخوف من الله فيتوب وهو لم يعقل بعد أن الله شديد العقاب؟!

إذاً: أيها الإخوة المسألة فيها تكامل، ومن الناحية الأخرى نجد أن الناس الذين لا يعتقدون بالعقيدة الصحيحة وأن عندهم أنواعاً من الشركيات عندهم في باب التوبة انحرافات خطيرة، فمثلاً: بعض غلاة الصوفية يتوب الفرد منهم في ذلك الطريق الصوفي يتوب إلى شيخه وليس لله عز وجل، ولذلك عندهم شيء اسمه: التوبة للشيخ، قال ابن القيم رحمه الله: وهذا شرك عظيم.

وملاحظة أخرى أيضاً: أن هذا الكلام أو هذا الدرس هو موجه للصادقين في توبتهم وليس إلى المستهترين ولا إلى المصرين، ولهذا -أيها الإخوة- تعمدت أن أترك أحاديث صحيحة مهمة في باب التوبة خشية أن يفهم بعض ضعاف النفوس غير المقصود الصحيح عند عرضها، وبهذا نصحني بعض أفاضل العلماء وأنا أتباحث معه في بعض هذه الأحاديث.

نفسية اليأس والقنوط

والموضوع الذي سنتكلم فيه يا إخواني فيه نوعٌ من المصارحة التي قد يستغربها البعض، ولكن حتى تكتمل الفائدة أرى أنه لابد منها، وموضوع التوبة يُطرق على مستويات كثيرة ونسمع خطباً كثيرة في هذا الجانب، لكن هناك أموراً ذكرها بعض أهل العلم لا تطرق عند الكلام عن موضوع التوبة وهي متعلقة بالتوبة تعلقاً شديداً.

الناس الآن في موضوع التوبة عندهم إشكالات، فبعضهم يمنعه من التوبة أشياء مثل ماذا؟

إن الشخص عندما يفكر بالذنوب والمعاصي التي فعلها في الماضي يتذكر عدد الفواحش التي اقترفها من زنا ولواط وغيره، والمحرمات التي شربها كالخمر والمخدرات وغيرها، والمال الحرام الذي أكله من ربا وسحت ورشوة وأكل مال اليتيم ومال مغصوب ومسروق، عندما يفكر بهذا الكم الهائل من المعاصي التي قارفها، يستبعد أن رحمة الله عز وجل تمحو هذه الأشياء، هذا اعتقاد عند بعض الناس، يقول لك: يا أخي أنا عملت أشياء عظيمة جداً، كيف يغفر الله هذه كلها؟ معقول! يمكن أن أصدق أن الله يغفر هذه كلها؟ هذا يكون حاجزاً في نفسه يمنعه من التوبة.

وآخر مسلم مستقيم سلك سبيل الاستقامة فترة من الزمن ثم عمل معصية، وقع في معصية من المعاصي فاحشة من الفواحش، فيقول في نفسه: الله عز وجل سيغفر لي أنا الداعية إلى الله والمستقيم على شرع الله الذي ظللت فترة من الزمن، الآن وقعت، يعني: هل يعقل أن هذه العثرة يمكن أن أنهض منها؟ هل يتجاوز الله عنها؟ وأنا الذي أعلم الناس وأنا الذي أدعو الناس إلى التوبة وأدعو الناس إلى ترك الذنوب وأنبههم على خطورة الفواحش والكبائر، والآن أنا وقعت، أهذا معقول؟ يعني: أنا الذي علمت وفقهت أكثر من غيري أمعقول أن يقبل الله مني توبتي؟ فيستبعد القبول، وربما يتزايد الانحراف ويترك الطريق بالكلية.

بعض الناس عنده نفسية اليأس من رحمة الله وأن الله قد كتبه في عداد أهل النار ولا محالة هكذا يظن، ييأس من رحمة الله، وبعضهم يمنعه عن التوبة خشية أن يفضحه أهل السوء الذين كان مخالطاً لهم، وهذه الشلل المنتشرة الآن في المجتمع، وهذه المجموعات التي تلتف على بعضها من أصحاب السوء، رافق بعضهم بعضاً ويعرف بعضهم خبايا بعضٍ وأسرار بعضهم الآخر، وربما تكون عندهم مستندات صور عن الجرائم التي اقترفوها في بلدان العالم المختلفة، وقد يكون عند أحدهم رسالة من آخر وهكذا فيها اعترافات بأشياء، فيأتي إنسان يريد أن يتوب يتنبه من الغفلة، فيقول له أصدقاء السوء: لو تركتنا وتركت ما نحن عليه فإننا سنشهر بك وسنفعل وسنفعل، وسنظهر جميع هذه المستندات ونفضحك بين الناس، فهو تحت هذا الضغط النفسي من هؤلاء الفسقة يُسقط في يدهم ولا يتوب، هو يريد التوبة لهذا السبب.

إذاً: هناك عند الناس إشكالات كثيرة، هناك عند الناس مشاكل في قضية التوبة تحتاج إلى علاج، ينبغي منا نحن معشر الذين نحاول أن ندعو ونفقه الدعوة إلى الله أن نحل لهم هذه العقد، هذه مهمتنا.

أهمية التوبة ومعناها

وبادئ ذي بدءٍ اعلموا أن ربكم يقول: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] فقسم الله العباد إلى تائب وظالم وليس ثم قسم ثالث البتة: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] والله عز وجل قد فتح لنا للتوبة باباً عظيماً يقول عليه الصلاة والسلام في شأنه: (إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب) وفي رواية: (عرضه مسيرة سبعين عاماً) يقول عليه الصلاة السلام في شأنه: (لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) لا يغلق هذا الباب باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، وقد بين عليه الصلاة السلام أ، من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه ويقول: (من تاب إلى الله قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).

إذاً: انظر إلى الرحمة الواسعة الآن، إنه باب عريض جداً لا يغلق إلى قيام الساعة، ويمكن أن تتوب ما لم تصل إلى مرحلة الغرغرة وما لم تطلع الشمس من مغربها، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ هذه نقطة أساسية في القناعة بأن التوبة ممكنة مهما عظم الجرم، ويقول عليه الصلاة السلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) حديث صحيح، ويقول عليه الصلاة السلام مبيناً كيف أن الله يمهل العاصي: (إن صاحب الشمال -الملك الذي يكتب السيئات- ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ولم يكتبها -ست ساعات- وإلا كتبت واحدة) رواه الطبراني عن أبي أمامة وحسنه الألباني وهو في أحاديث السلسلة الصحيحة .

وعرَّف بعض العلماء التوبة فقال: هي "الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان" أي: عدم العودة إلى المعصية، إضمار عقد القلب على عدم العودة إلى المعصية.

"ومهاجرة سيئ الإخوان": لابد من الخروج من الوسط السيئ، "وإرجاع حقوق بني الإنسان"، إذا كانت الحقوق للعباد فلابد من إرجاعها.

فإذاً: الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الإخوان، وإرجاع حقوق بني الإنسان.

أما المسألة الدعوية في موضوعنا: فإن الوضع الذي نعيشه اليوم -أيها الإخوة- وضع انغماس الناس في المعاصي، وارتكابهم للمخالفات الشرعية التي نهى الله عنها، ولذلك أكثر الناس اليوم غارقون في أوحال الذنوب، والدعاة إلى الله عز وجل عليهم مسئولية عظيمة في فتح الطريق أمام هؤلاء الناس حتى يعودوا إلى ربهم عز وجل، والذي لا يعرف كيف يمهد الطريق ويفتح الباب أمام الناس الذين يريدون أن يتوبوا، فهو غير ناجح في عمله، ولذلك ينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يفقهوا هذه المسألة وأن يعرفوا خطورة موضوع التوبة، لأن هناك الآن في هذه الأيام رجعة صادقة إلى الله عز وجل من الكثيرين بدأت تنتشر والحمد لله على نعمه ونسأل الله المزيد.

فالفقه في هذه القضية يسبب المزيد من النجاح في استجلاب الأعداد الكثيرة الغفيرة إلى طريق الهداية، والدين لا ينتشر بغير فعل فاعل، لا يكفي القرآن فقط حتى ينتشر الإسلام في الأرض ولا السنة فقط، ولكن لابد من رجال يحملون القرآن والسنة وينطلقون بهما في الأرض يفتحون قلوب الناس قبل بلدانهم، ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف.

والقضية الثانية وهي قضية تربوية تتعلق بموضوع التوبة: وهي أن بعض الإخوان ربما يظن أن هذا الموضوع خاص بالفسقة أو الفجرة أو الكفار، وليس للمسلمين أو ليس للمستقيمين الملتزمين بشرع الله، وربما يظن أن هذا الموضوع تحت مستواه بكثير، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] ما قال: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها الكافرون أو أيها الفاسقون أو الفاجرون فقط، وإنما قال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور:31] فإذاً موضوع التوبة معني به المؤمن أيضاً وليس هو عنه ببعيد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة أو مائة مرة.

أقول هذا الكلام لأن بعض الإخوان قد يوجد عندهم شعور أنه قد بلغ مرتبة اليقين في التربية وأن قضية التكاليف القلبية مثل التوبة وغيرها قد سقطت عنه، وأنه الآن في أعمال هامة للمسلمين وأنه يطلب العلم ويتفقه في الأصول والعلوم الصعبة، وأنه يشتغل بقضايا مصيرية للأمة، وأنه لا يحتاج إلى قضية التوبة والاستغفار وهذه الأشياء التي هي لعامة الناس، هذا مدخلٌ شيطاني خطير ينبغي أن نتنبه إليه.

والمسألة الثالثة العقدية في هذا الموضوع: أن الكلام في المواضيع هذه ينبغي أن يكون منطلقاً من عقيدة أهل السنة والجماعة ، وقد يستغرب البعض ما علاقة موضوع التوبة بعقيدة أهل السنة والجماعة ، وربما يقول: أنت تريد أن تقحمها إقحاماً، أقول لك: كلا يا أخي! وأنا أبين لك إن شاء الله مثلاً: من المواضيع المتعلقة بالتوبة والملتصقة بها التصاقاً شديداً قضية مفهوم الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص، هذا المفهوم هو عقيدة أهل السنة والجماعة ، من تفاصيل عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يزيد وينقص.

إذا كنا من المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأنك أنت يا أيها المسلم كامل الإيمان، إذا أنت معتقد أنك كامل الإيمان ما الذي سيدفعك إلى التوبة والاستغفار؟ إذا لم تعتقد أن الإيمان يزيد وينقص ما الذي يدفعك في لحظات الضعف أن تبادر مستغفراً لله عز وجل طالباً منه المعونة؟ فإذاً: مثل هؤلاء المرجئة اللعَّابين بالدين كما قال الشاعر:

ولا تك مرجياً لعوباً بدينه     ألا إنما المرجي بالدين يمزح

إذا كنا من هؤلاء من أصحاب هذه العقيدة فما الذي سيدفعنا إلى التوبة؟ وما الذي سيجعلنا نتحسس نقص الإيمان في قلوبنا؟ مرتبطة وقضية التوبة مرتبطة أيضاً بجانب آخر من العقيدة وهي مسألة الأسماء والصفات، فإذا لم نفقه قضية توحيد الأسماء والصفات، فما الذي يجعلنا نتجه إلى التوبة ونحن لا نعرف معنى الرحمن ومعنى الرحيم؟ ما الذي سيلجئنا إلى التوبة ويدفعنا إليها ويجذبنا إلى هذا الباب الإيماني الواسع ونحن لا نفقه معنى التواب، أو الحليم، أو السميع الذي يسمع آهات التائبين وأناتهم وهم يصرخون مستغيثين بربهم؟ وما الذي سيدفع الإنسان إلى الخوف من الله فيتوب وهو لم يعقل بعد أن الله شديد العقاب؟!

إذاً: أيها الإخوة المسألة فيها تكامل، ومن الناحية الأخرى نجد أن الناس الذين لا يعتقدون بالعقيدة الصحيحة وأن عندهم أنواعاً من الشركيات عندهم في باب التوبة انحرافات خطيرة، فمثلاً: بعض غلاة الصوفية يتوب الفرد منهم في ذلك الطريق الصوفي يتوب إلى شيخه وليس لله عز وجل، ولذلك عندهم شيء اسمه: التوبة للشيخ، قال ابن القيم رحمه الله: وهذا شرك عظيم.

وملاحظة أخرى أيضاً: أن هذا الكلام أو هذا الدرس هو موجه للصادقين في توبتهم وليس إلى المستهترين ولا إلى المصرين، ولهذا -أيها الإخوة- تعمدت أن أترك أحاديث صحيحة مهمة في باب التوبة خشية أن يفهم بعض ضعاف النفوس غير المقصود الصحيح عند عرضها، وبهذا نصحني بعض أفاضل العلماء وأنا أتباحث معه في بعض هذه الأحاديث.

والموضوع الذي سنتكلم فيه يا إخواني فيه نوعٌ من المصارحة التي قد يستغربها البعض، ولكن حتى تكتمل الفائدة أرى أنه لابد منها، وموضوع التوبة يُطرق على مستويات كثيرة ونسمع خطباً كثيرة في هذا الجانب، لكن هناك أموراً ذكرها بعض أهل العلم لا تطرق عند الكلام عن موضوع التوبة وهي متعلقة بالتوبة تعلقاً شديداً.

الناس الآن في موضوع التوبة عندهم إشكالات، فبعضهم يمنعه من التوبة أشياء مثل ماذا؟

إن الشخص عندما يفكر بالذنوب والمعاصي التي فعلها في الماضي يتذكر عدد الفواحش التي اقترفها من زنا ولواط وغيره، والمحرمات التي شربها كالخمر والمخدرات وغيرها، والمال الحرام الذي أكله من ربا وسحت ورشوة وأكل مال اليتيم ومال مغصوب ومسروق، عندما يفكر بهذا الكم الهائل من المعاصي التي قارفها، يستبعد أن رحمة الله عز وجل تمحو هذه الأشياء، هذا اعتقاد عند بعض الناس، يقول لك: يا أخي أنا عملت أشياء عظيمة جداً، كيف يغفر الله هذه كلها؟ معقول! يمكن أن أصدق أن الله يغفر هذه كلها؟ هذا يكون حاجزاً في نفسه يمنعه من التوبة.

وآخر مسلم مستقيم سلك سبيل الاستقامة فترة من الزمن ثم عمل معصية، وقع في معصية من المعاصي فاحشة من الفواحش، فيقول في نفسه: الله عز وجل سيغفر لي أنا الداعية إلى الله والمستقيم على شرع الله الذي ظللت فترة من الزمن، الآن وقعت، يعني: هل يعقل أن هذه العثرة يمكن أن أنهض منها؟ هل يتجاوز الله عنها؟ وأنا الذي أعلم الناس وأنا الذي أدعو الناس إلى التوبة وأدعو الناس إلى ترك الذنوب وأنبههم على خطورة الفواحش والكبائر، والآن أنا وقعت، أهذا معقول؟ يعني: أنا الذي علمت وفقهت أكثر من غيري أمعقول أن يقبل الله مني توبتي؟ فيستبعد القبول، وربما يتزايد الانحراف ويترك الطريق بالكلية.

بعض الناس عنده نفسية اليأس من رحمة الله وأن الله قد كتبه في عداد أهل النار ولا محالة هكذا يظن، ييأس من رحمة الله، وبعضهم يمنعه عن التوبة خشية أن يفضحه أهل السوء الذين كان مخالطاً لهم، وهذه الشلل المنتشرة الآن في المجتمع، وهذه المجموعات التي تلتف على بعضها من أصحاب السوء، رافق بعضهم بعضاً ويعرف بعضهم خبايا بعضٍ وأسرار بعضهم الآخر، وربما تكون عندهم مستندات صور عن الجرائم التي اقترفوها في بلدان العالم المختلفة، وقد يكون عند أحدهم رسالة من آخر وهكذا فيها اعترافات بأشياء، فيأتي إنسان يريد أن يتوب يتنبه من الغفلة، فيقول له أصدقاء السوء: لو تركتنا وتركت ما نحن عليه فإننا سنشهر بك وسنفعل وسنفعل، وسنظهر جميع هذه المستندات ونفضحك بين الناس، فهو تحت هذا الضغط النفسي من هؤلاء الفسقة يُسقط في يدهم ولا يتوب، هو يريد التوبة لهذا السبب.

إذاً: هناك عند الناس إشكالات كثيرة، هناك عند الناس مشاكل في قضية التوبة تحتاج إلى علاج، ينبغي منا نحن معشر الذين نحاول أن ندعو ونفقه الدعوة إلى الله أن نحل لهم هذه العقد، هذه مهمتنا.

وبادئ ذي بدءٍ اعلموا أن ربكم يقول: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] فقسم الله العباد إلى تائب وظالم وليس ثم قسم ثالث البتة: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] والله عز وجل قد فتح لنا للتوبة باباً عظيماً يقول عليه الصلاة والسلام في شأنه: (إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب) وفي رواية: (عرضه مسيرة سبعين عاماً) يقول عليه الصلاة السلام في شأنه: (لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) لا يغلق هذا الباب باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، وقد بين عليه الصلاة السلام أ، من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه ويقول: (من تاب إلى الله قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).

إذاً: انظر إلى الرحمة الواسعة الآن، إنه باب عريض جداً لا يغلق إلى قيام الساعة، ويمكن أن تتوب ما لم تصل إلى مرحلة الغرغرة وما لم تطلع الشمس من مغربها، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ هذه نقطة أساسية في القناعة بأن التوبة ممكنة مهما عظم الجرم، ويقول عليه الصلاة السلام: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) حديث صحيح، ويقول عليه الصلاة السلام مبيناً كيف أن الله يمهل العاصي: (إن صاحب الشمال -الملك الذي يكتب السيئات- ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ولم يكتبها -ست ساعات- وإلا كتبت واحدة) رواه الطبراني عن أبي أمامة وحسنه الألباني وهو في أحاديث السلسلة الصحيحة .

وعرَّف بعض العلماء التوبة فقال: هي "الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان" أي: عدم العودة إلى المعصية، إضمار عقد القلب على عدم العودة إلى المعصية.

"ومهاجرة سيئ الإخوان": لابد من الخروج من الوسط السيئ، "وإرجاع حقوق بني الإنسان"، إذا كانت الحقوق للعباد فلابد من إرجاعها.

فإذاً: الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيئ الإخوان، وإرجاع حقوق بني الإنسان.

ولقد كانت نفسيات الصحابة حساسة جداً ضد الذنوب، يقول أنس رضي الله عنه فيما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه : [إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من الموبقات] فإذاً: قضية استصغار الذنوب مشكلة عند بعض الناس، يستصغرون الذنوب ويحتقرونها، ولذلك يقول بعض السلف: "لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت"، انظر إلى من عصيت عند ذلك تجد فعلاً أنك تستنكر كيف فعلت هذا الأمر؟! تتهول ما فعلت، فبعض الناس يستصغرون مثلاً: النظر واللمس المحرم والحديث المحرم في الهاتف وغيره، والقبلة التي هي من مقدمات الزنا، ويستصغرون النظر إلى المجلات والمسلسلات ويقولون: هذه أشياء بسيطة جداً، يعني: ماذا ستؤثر؟

ومن ضمن الناس الذين قد يتجاوزون أناسٌ أبيح لهم النظر للضرورة فتوسعوا فيه مثل: الطبيب والخاطب، امرأة لم تجد طبيبةً مسلمةً مؤهلةً للنظر في ذلك المرض، فذهبت إلى الطبيب، يباح للطبيب أن ينظر من المريضة إلى الموضع الذي يحتاج أن ينظر إليه للعلاج، وقد يتوسع الطبيب أكثر من ذلك، فبعض الأطباء قد يتساهل، والخاطب يباح له أن ينظر إلى مخطوبته حتى يرى ما يدعوه إلى نكاحه منها، فإذا رأى وقرر وانتهينا وعرف النتيجة، ثم طلب أن يرى مرة ثانية وأنه جلس معها فترة طويلة ساعة أو ساعتين وهو لا يحتاج إلى هذه الفترة، فإذاً: هذا إنسان متعدٍ ينبغي له أن يتوب من هذه الزيادة.

وهذا الاستصغار يولد الاستهتار والوقوع في الكبائر، ويترك الإنسان الخوف ويستهين بالمعصية، سألني أحد الناس سؤالاً عن معصية، قال: ما حكم كذا؟ قلت له: هذه حكمها حكم المسألة أو بالدليل من كلام العلماء أنها محرمة فهي حرام، فقال: حرام، يعني: حرام كثير أم قليل؟ فيها سيئات كثير وإلا كم؟ لماذا يسأل بعض العامة هذه الأسئلة؟ لأن عندهم مبدأ الاستهانة بالصغائر، ومحقرات الذنوب هذه مسألة لا يلتفتون إليها ولا يلقون لها بالاً.

وقال ابن القيم رحمه الله: وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها من رتبتها؛ من رتبة الكبائر.

حرص الصحابة على إصلاح الخطأ

ولذلك -أيها الإخوة- كان الصحابة رضوان الله عليهم عندهم اهتمام بالغ فإذا أخطئوا أن حاولوا إصلاح الخطأ بأي وسيلة ولو كلفهم إصلاح الخطأ والتوبة ولو كلفتهم أنفسهم، ففي الصحيح عن بريدة رضي الله عنه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إني قد ظلمت نفسي وزنيت -اعترف- وإني أريد أن تطهرني، فرده وأعرض عنه، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله! إني قد زنيت، فرده ثانيةً، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً؟ تنكرون منه شيئاً؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا فيما نرى -نعرف أنه من الصالحين، عندنا أنه إنسان صالح- فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرةً ثم أمر به فرجم رضي الله عنه) دفع حياته ثمناً لتكفير تلك الفاحشة التي وقع فيها. قال: (فجاءت الغامدية -يقول الراوي في نفس الرواية- فجاءت الغامدية) وبعض العلماء يقولون: إن ماعزاً زنا بتلك الغامدية (فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله! لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى -أنا حبلى والدليل على الفاحشة لا يحتاج إلى سؤال ولا يحتاج إنه قد بان والمسألة ظاهرة- قال: أما لا -يعني: أما وقد حصل هذا فلا، انتهت المسألة، وصل الحد إلى الإمام وهو ظاهر فلابد من إقامته- فاذهبي حتى تلدي، قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته) -ما فرت ولا تراجعت طيلة أشهر الحمل وهي لا تزال متذكرة الذنب وتنتظر متى تلد حتى تأتي ليقتص منها لتتوب لتتطهر فلم تنس ولم تتراجع عن المبدأ طيلة الأشهر مع أنه قضية موت- (قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه -والرضاع يأخذ وقتاً- فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبزٍ -حتى تبين أنه فعلاً انفطم وأنه الآن بدأ يأكل الطعام ولا حاجة له للرضاع- فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه إياها، فقال: مهلاً يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لغفر له -الذي يأخذ الضرائب على الحجاج- ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت) تابت توبةً لو وزعت على سبعين من الفساق لكفتهم، تابت توبة عظيمة تسع أهل مدينة بأسرها.

عدم لزوم الاعتراف بالفاحشة

إن الصحابة لم يكن ديدنهم الفسق، حاشا وكلا! كانوا يقعون أحياناً وإذا وقعوا أصروا على أن تمحى تلك الذنوب بشتى الوسائل، أما فساقنا فهم يمرحون ويرتعون ويلعبون في غفلة عن الله، وإذا فكر أحدهم يوماً بأن يتوب ويؤدي ما عليه من الحقوق يتراجع لأول وهلة فإنه يتعاظم ذلك، وأنا أعلم أن بعض الناس سيتساءلون ويقولون: لقد وقعنا في فواحش، هل يجب علينا أن نأتي ونعترف؟ الجواب: ما دامت المسألة لم تصل إلى الإمام ولا إلى القاضي فإنه لا يجب عليك أن تذهب وتعترف وهذه عزيمة أخذ بها ذلك الصحابي وتلك الصحابية، ولكن المسألة عندك أنت يا من وقعت في الفاحشة لا يجب عليك أن تذهب إلى القاضي وتقول: أقم حد الله علي، لا يجب من ناحية الوجوب، وتكفيك التوبة بينك وبين الله.

وبعضهم سأل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله سؤالاً قال: إني قد زنيت هل يجب علي أن أذهب إلى إمام المسجد مثلاً أو أحد الناس فأقول له اجلدني الحد حد خمر أو حد زنا اجلدني خفية؟ فقال الشيخ حفظه الله تعالى ونفع به المسلمين: لا يجب عليه ذلك، فلا يفعل هذا، وإنما تكفيه التوبة بينه وبين الله، لا يحتاج أن يضربه أحد لا في بيت ولا في مسجد ما لم تصل المسألة إلى الحاكم أو القاضي فإنه يجب عند ذلك إقامة الحد.

خطر استعظام الذنوب

بالنسبة لقضية استعظام الذنوب، فبعض الناس يستعظمون الكم الهائل من الذنوب التي ارتكبها عبر عشرات السنين في الماضي وجاء الآن ليتوب، وقد ملأت تلك الذنوب نفسه وضاقت بها جوانحه وهو يريد الخلاص، فقد يقول كما ذكرت قبل قليل: كيف يغفر الله لي؟ هذه أشياء عظيمة جداً، كثير من الناس يأتي بعضهم يقول: يا أخي! أنا ما تركت بلية إلا فعلتها، ما تركت فاحشة إلا وأتيتها، ليس هناك حد من حدود الله إلا وانتهكته، كل ما تتصور ببالك من المعاصي والآثام أنا فعلتها، ماذا يمكن أن أفعل؟ هذه نفسية كثير من الناس يكتبونها برسائل أو يأتون يشافهون بها وهم في غاية الحرج، يقول: فعلنا وفعلنا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث الصحيح أيضاً: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة) إن الله عز وجل واسع المغفرة واسع الرحمة: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].

وفي حديث أبي ذر : (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) سبحانه وتعالى ما أحلمه! ما أرحمه! ما أشد عفوه! وما أوسع مغفرته! لو قال إنسان: يا أخي هذه من الناحية النظرية أنت تأتيني بآيات وأحاديث، لكن أعطني مثالاً واقعياً على أناس اشتدت بهم الفواحش ثم غفر الله لهم، نقول لك: نعم يا أخي يوجد، والحمد لله، ورصيد التجربة وهو رصيد مهم للأمة الإسلامية ولجيل الصحوة، رصيد التجربة رصيد موجود والحمد لله، في القرآن والسنة ما نقل إلينا من السابقين ومن سيرة المسلمين التي نحن الآن نقرؤها، مثل: حديث قاتل المائة النفس حادث عملي، وشيء وقع، شخص قتل مائة نفس قتلها كلها ظلماً وعدواناً، فهو معتد ظالم، وبعد ذلك يقول له العالم وليس العابد الجاهل: وما الذي يحول بينه وبين التوبة؟ نعم. لك توبة، ثم يتوب فيتوب الله عليه وتختصم فيه الملائكة فيكون من نصيب ملائكة الرحمة، وقد قتل مائة نفس.

إذاً: حتى نقرب المسألة عملياً إلى الأذهان نقول: نعم، هناك أمثلة عملية، فهذا قتل مائة نفس، فهل عندك جريمة مثل هذه؟ قتل مائة نفس! والعلماء يصنفون الذنوب: الشرك ثم البدعة ثم قتل النفس ثم الفواحش الأخرى، قتل النفس عظيم، وقول ابن عباس رحمه الله فيه أنه خالد مخلد في جهنم، والعلماء لهم فيها أقوال بسطها ابن القيم رحمه الله في المدارج وغيرها ورجح فيها.

ولذلك -أيها الإخوة- كان الصحابة رضوان الله عليهم عندهم اهتمام بالغ فإذا أخطئوا أن حاولوا إصلاح الخطأ بأي وسيلة ولو كلفهم إصلاح الخطأ والتوبة ولو كلفتهم أنفسهم، ففي الصحيح عن بريدة رضي الله عنه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إني قد ظلمت نفسي وزنيت -اعترف- وإني أريد أن تطهرني، فرده وأعرض عنه، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله! إني قد زنيت، فرده ثانيةً، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً؟ تنكرون منه شيئاً؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل من صالحينا فيما نرى -نعرف أنه من الصالحين، عندنا أنه إنسان صالح- فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرةً ثم أمر به فرجم رضي الله عنه) دفع حياته ثمناً لتكفير تلك الفاحشة التي وقع فيها. قال: (فجاءت الغامدية -يقول الراوي في نفس الرواية- فجاءت الغامدية) وبعض العلماء يقولون: إن ماعزاً زنا بتلك الغامدية (فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله! لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى -أنا حبلى والدليل على الفاحشة لا يحتاج إلى سؤال ولا يحتاج إنه قد بان والمسألة ظاهرة- قال: أما لا -يعني: أما وقد حصل هذا فلا، انتهت المسألة، وصل الحد إلى الإمام وهو ظاهر فلابد من إقامته- فاذهبي حتى تلدي، قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته) -ما فرت ولا تراجعت طيلة أشهر الحمل وهي لا تزال متذكرة الذنب وتنتظر متى تلد حتى تأتي ليقتص منها لتتوب لتتطهر فلم تنس ولم تتراجع عن المبدأ طيلة الأشهر مع أنه قضية موت- (قال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه -والرضاع يأخذ وقتاً- فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبزٍ -حتى تبين أنه فعلاً انفطم وأنه الآن بدأ يأكل الطعام ولا حاجة له للرضاع- فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله سبه إياها، فقال: مهلاً يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لغفر له -الذي يأخذ الضرائب على الحجاج- ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت) تابت توبةً لو وزعت على سبعين من الفساق لكفتهم، تابت توبة عظيمة تسع أهل مدينة بأسرها.

إن الصحابة لم يكن ديدنهم الفسق، حاشا وكلا! كانوا يقعون أحياناً وإذا وقعوا أصروا على أن تمحى تلك الذنوب بشتى الوسائل، أما فساقنا فهم يمرحون ويرتعون ويلعبون في غفلة عن الله، وإذا فكر أحدهم يوماً بأن يتوب ويؤدي ما عليه من الحقوق يتراجع لأول وهلة فإنه يتعاظم ذلك، وأنا أعلم أن بعض الناس سيتساءلون ويقولون: لقد وقعنا في فواحش، هل يجب علينا أن نأتي ونعترف؟ الجواب: ما دامت المسألة لم تصل إلى الإمام ولا إلى القاضي فإنه لا يجب عليك أن تذهب وتعترف وهذه عزيمة أخذ بها ذلك الصحابي وتلك الصحابية، ولكن المسألة عندك أنت يا من وقعت في الفاحشة لا يجب عليك أن تذهب إلى القاضي وتقول: أقم حد الله علي، لا يجب من ناحية الوجوب، وتكفيك التوبة بينك وبين الله.

وبعضهم سأل الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله سؤالاً قال: إني قد زنيت هل يجب علي أن أذهب إلى إمام المسجد مثلاً أو أحد الناس فأقول له اجلدني الحد حد خمر أو حد زنا اجلدني خفية؟ فقال الشيخ حفظه الله تعالى ونفع به المسلمين: لا يجب عليه ذلك، فلا يفعل هذا، وإنما تكفيه التوبة بينه وبين الله، لا يحتاج أن يضربه أحد لا في بيت ولا في مسجد ما لم تصل المسألة إلى الحاكم أو القاضي فإنه يجب عند ذلك إقامة الحد.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3530 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3496 استماع
اليهودية والإرهابي 3425 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3424 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3348 استماع
الزينة والجمال 3335 استماع