من طعام أهل النار وشرابهم يوم القيامة
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
من طعام أهل النار وشرابهم يوم القيامةتحدَّث القرآن الكريم عن أنواع عديدة ومتنوعة من عذاب الكفَّار يوم القيامة، فتوعَّدهم بالعذاب العظيم، والعذاب المهين، والعذاب الأليم، والعذاب الشديد، والعذاب المقيم، وعذاب الجحيم، والعذاب الغليظ، والعذاب المحيط، والعذاب العقيم، والعذاب الكبير، والعذاب الأكبر، والعذاب الواصب، وعذاب الحريق، وعذاب الخلد، وعذاب جهنَّم، وعذاب السَّعير، وعذاب الحميم، وسوء العذاب، وعذاب السَّموم، وغير ذلك كثير من أنواع العذاب وألوانه جزاء بما كسبت أيديهم.
1 - طعام الكفار:
ومن جملة أنواع العذاب التي ذكرها سبحانه في حق أهل الكفر والعناد، طعام خاص بأهل النار، يأكلونه اضطرارًا؛ ليسدوا به جوعتهم، فينالهم من ذلك الطعام عذاب أشد إيلامًا من ألم الجوع، وهذا الطعام هو (الضريع)؛ قال الله تعالى:
﴿ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ﴾ [1].
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد، وعكرمة رحمهما الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ ضَرِيعٍ ﴾ "الشبرق"[2].
وقال قتادة رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ ضَرِيعٍ ﴾ "من شرِّ الطعام، وأبشعه وأخبثه"[3].
وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ ضَرِيعٍ ﴾ "الحجارة"[4].
وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿ ضَرِيعٍ ﴾ "شجر من نار"[5].
وقال ابن زيد رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ﴿ ضَرِيعٍ ﴾ "الضريع: الشَّوك من النار، قال: وأما في الدنيا فإنَّ الضريع: الشوك اليابس الذي ليس له ورق، تدعوه العرب الضريع، وهو في الآخرة شوك من نار"[6].
والصواب في الجمع بين الأقول أن كل المعاني المتقدمة يمكن أن تكون صحيحةً؛ لأن عذاب الله تعالى في يوم القيامة شديد جدًّا وإن بين نِقَم الدنيا ونِقَم الآخرة فرقًا، كما بين نِعَمهما؛ ولذلك يمكن أن يكون الضريع مرًّا كالشبرق وأن يكون صلبًا كالحجارة كما يمكنه أن يكون نباتًا ذا شوك من نار جهنم، والله تعالى أعلم.
وقد بيَّن الله تعالى من طعام الكفار أنواعًا مختلفة:
النوع الأول: الذي بين آنفًا؛ بأنه ليس لهم طعام إلا من ضريع.
النوع الثاني: الغسلين؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ﴾ [7].
قال ابن منظور رحمه الله تعالى في معنى المراد من (غسلين): "مَا يَسِيل مِنْ جُلُودِ أَهل النَّارِ؛ كَالْقَيْحِ وَغَيْرِهِ كأَنه يُغْسل عَنْهُمْ"[8].
النوع الثالث: الزَّقُّوم الذي أشير إليه بقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴾ [9].
قال ابن فارس رحمه الله تعالى في كلمة (الزقوم): "الزَّاءُ وَالْقَافُ وَالْمِيمُ أُصَيْلٌ يَدُلُّ عَلَى جِنْسٍ مِنَ الْأَكْلِ"[10].
وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى في المعنى المراد من (الزقوم): "عبارة عن أطعمة كريهة في النار"[11].
ولكن القرآن الكريم بيَّن المعنى المراد من (الزقوم) بقوله تعالى: ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴾ [12]، وفي موضع آخر، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ﴾ [13].
فكيف نجمع بين هذه الآيات التي تدل كل واحدة منها على أن طعام الكفار ليس إلا طعامًا خاصًّا؛ وفي آية صرحت بأن طعامهم ليس إلا من ضريع وفي آية أخرى إلا مِن غسلين وفي آية أخرى لآكلون من شجر من زقوم؟!
وأجاب أهلُ العلم عن هذا الاختلاف بأجوبة - مع الاعتقاد بأنه لا يوجد في القرآن الكريم اختلاف تضاد، إنما الاختلاف الموجود هو الاختلاف التنوع والصوري - كما يأتي:
الجواب الأول: أن العذاب يوم القيامة ألوان وأشكال، والمعذبون طبقات ودرجات؛ فمنهم من لا طعام له إلا الغسلين، ومنهم من لا طعام له إلا الضريع، ومنهم من لا طعام له إلا الزقوم؛ يرشد لهذا التنوع في العذاب، قوله تعالى في وصف النار: ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ﴾ [14]، فكل باب من هذه الأبواب اختص بفريق من أهل الكفر، وكل باب من هذه الأبواب داخله مغاير لما في داخل الباب الآخر، فإذا تعدَّدتِ الأبواب، وتنوَّعتِ المقامات دل ذلك على تنوُّع أنواع العذاب.
وبحسب هذا التوجيه، يكون كل نوع من الطعام مخصصًا لفريق من أهل النار؛ ففريق يكون طعامه الغسلين، وفريق آخر يكون طعامه الضريع، وفريق ثالث يكون طعامه الزقُّوم، وهكذا، ولا يلزم من كون (الغسلين) طعامًا لهذا الفريق، و(الضريع) طعامًا لذاك الفريق تعارضًا بين ما نصت عليه كل آية من الآيتين؛ فغاية ما في الأمر أن كل آية تحدَّثتْ عن نوع من الطعام المخصص لهذا الفريق أو ذاك.
وهذا التوجيه الأول للجمع بين الآيات، ذكره كثيرٌ من المفسرين؛ كالشيخ القرطبي رحمه الله تعالى[15]، والإمام الرازي رحمه الله تعالى[16].
الجواب الثاني: أنَّ المعنى في الآيتين وما شاكلهما، أنه لا طعام لهم أصلًا؛ لأن (الضريع) لا يصدق عليه اسم الطعام، ولا تأكله البهائم، ومن باب أولى الآدميون؛ وكذلك (الغسلين) ليس من الطعام في شيء؛ فمَن طعامه (الضريع) لا طعام له؛ ومن طعامه (الغسلين) كذلك، ويكون التعبير بهذا الأسلوب من باب المبالغة، ومنه قولهم: فلان لا ظِلَّ له إلا الشمس، ولا دابَّة له إلا دابة ثوبه، يعنون: القمل، ومرادهم: لا ظل له أصلًا، ولا دابة له أصلًا.
وهذا وجه ثانٍ للجمع بين الآيات؛ ذكره الإمام الألوسي رحمه الله تعالى[17]، ومَن تبعه.
الجواب الثالث: ولا بأس أن نشير هنا إلى أن ثمة وجهًا ثالثًا للتوفيق بين الآيات، ذكره العلامة القرطبي رحمه الله تعالى[18]، حاصله: أن تُحمل الآيات على حالات، حالة يكون فيها طعامهم الضريع دون غيره؛ وحالة ثانية يكون طعامهم الغسلين، ولا شيء غيره، وحالة لآكلة من الزقوم، ويرشح هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ [19]، أي: تارة يعذبون في الجحيم، وتارة يسقون من الحميم؛ وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب، يقطع الأمعاء والأحشاء.
وعلى ضوء ما تقدَّم من تلك التوجيهات، يتبيَّن أن لا تعارض ولا تضاد بين هذه الآيات، بل هنَّ متوافقات غاية الوفاق؛ وصدق الله حيث يقول: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [20].
[1] سورة الغاشية: (6، 7).
[2] أخرجه الطبري في تفسيره "جامع البيان في تأويل القرآن"، (12/ 384).
[3] أخرجه الطبري في تفسيره "جامع البيان في تأويل القرآن"، (12/ 384).
[4] المصدر نفسه (24/ 385).
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.
[7] سورة الحاقة: (36، 37).
[8] "لسان العرب"؛ لابن منظور الإفريقي، مادة: (غ س ل)، (11/ 495).
[9] سورة الواقعة: (51 - 53).
[10] "معجم مقاييس اللغة"؛ لابن فارس، مادة: (ز ق م)، (3/ 16).
[11] "مفردات القرآن"؛ للراغب الأصفهاني، مادة: (س ج ن)، (ص 380).
[12] سورة الصافات: (62 - 66).
[13] سورة الدخان: (43 - 46).
[14] سورة الحجر: (44).
[15] راجع: "الجامع لأحكام القرآن"؛ للقرطبي، (20/ 31).
[16] راجع: مفاتيح الغيب = التفسير الكبير، للرازي، (31/ 140).
[17] راجع: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني؛ لشهاب الدين محمود بن عبدالله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270هـ)، (15/ 326)، المحقق: علي عبدالباري عطية، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة: الأولى، 1415 هـ، عدد الأجزاء: (16؛ 15 ومجلد فهارس).
[18] راجع: "الجامع لأحكام القرآن"؛ للقرطبي، (20/ 31).
[19] سورة الرحمن: (44).
[20] سورة النساء: (82).