أرشيف المقالات

تلاوة القرآن (2)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
تلاوة القرآن (2)

ذكَرْنا في الحلقة السابقة أنَّ تلاوة القُرآن من الصِّفات التي يجدرُ بالدعاة أنْ يُداوموا عليها، وذكَرْنا بعضَ الآيات وبعضَ الأحاديث التي تحضُّ على التلاوة، ونودُّ أنْ نقفَ وقفةَ تأمُّلٍ لآيةٍ من الآيات التي تقدَّمَ ذِكرُها؛ وهي قوله - عَزَّ مِن قائلٍ -: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ [الكهف: 27]، في هذه الآية الكريمةِ يأمُر الله - تبارك وتعالى - نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يَتلُوَ القُرآنَ، ولم تَذكُر الآية (القُرآن) باسمِه العَلَمِيِّ، وإنما ذكرَتْه بحقيقتِه: ﴿ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ﴾؛ حَفْزًا للهِمَمِ لمتابعة تلاوته والحِرص عليها؛ فهو مُوحًى من الله، والأمورُ تعظُمُ وتجلُّ تبعًا للمصدر الذي تصدرُ عنه، فالرَّسائل التي تأتي إليك ليست في نظرك سواءً؛ فما يأتيك من حبيبٍ أو قريبٍ أو سُلطانٍ أو وجيهٍ يعظُمُ اهتمامُك به بالنسبة إلى ما يأتيكَ من آخَرين، إنَّك تهتمُّ ببعض هذه الرسائل اهتِمامًا يملك عليك نفسَك، وتقدم قراءتها وتدبُّرها على أيِّ أمرٍ آخَر، يدفَعُك إلى ذلك الحبُّ أو الخوفُ أو الرَّجاء، وأمَّا بعضُها الآخَر، فلا تُلقِ له بالاً، وقد تُلقِي به في سلَّة المُهمَلات؛ فالآية الكريمة التي تدعو إلى تلاوة القُرآن تَذكُره مقرونًا بمصدره: ﴿ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ﴾.
 
ولا أقفُ مَرَّةً أمامَ هذا المعنى - وهو إرسال الله رسلَه للإنسان لهدايتِه وإنقاذِه وإسعادِه - إلا ويتملَّكني شُعورٌ عجيب يُبصِّرُني بقيمةِ هذا الإنسان، هذا الإنسان الضَّعيف الهيِّن أمامَ المخلوقات العُظمَى في هذا الكون المَلِيء بالأمور الجليلة، هذا الإنسان يكرمُه اللهُ؛ ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، ويرسلُ إليه - تبارك وتعالى - الرُّسل، ويبعثُ إليه بالآيات مُبشِّرةً ومُنذِرةً، الله مالكُ الملكِ، جبَّار السَّموات والأرض، العليم بكلِّ شيءٍ، القادر على كلِّ شيء - يرسلُ الرسلَ وينزلُ الكتبَ لهداية الإنسان، إنَّ الإنسان لو تأمَّل هذا المعنى، لعرَف قدرَه ومكانتَه.
والتلاوة الكامِلة هي ما كانت بتدبُّرٍ واعٍ عَمِيق؛ قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وما كانت بإقبالٍ على كُنوزٍ هذا القُرآن؛ "وإنَّ هذا القُرآن لا يمنحُ كُنوزَه إلا لِمَن يُقبِلُ عليه بهذه الرُّوح؛ رُوح المعرفة المنشئة للعمل، إنَّه لم يجئْ ليكونَ كتابَ مَتاعٍ عقلي، ولا كتابَ أدبٍ وفن...
وإنْ كان هذا كلُّه من محتوياته؛ إنما جاء ليكونَ منهاجَ حياةٍ، منهاجًا إلهيًّا خالصًا"[1].
 
والقُرآن رحمةٌ وشِفاءٌ للمؤمنين، أمَّا الكافرون الظالمون، فلا يزيدُهم إلا كُفورًا.
قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].
وقال: ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44].
والقُرآن مُيسَّر للذِّكر: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17].
ولا يحتاجُ الأمرُ من المسلم إلا أنْ تكونَ عندَه الإرادةُ للتدبُّر والاستِعداد لذلك.
فيا أخي، أَرِدِ الفهمَ، وخُذْ لذلك أسبابَه من الاستِعداد والتعلُّم، تفهَمْ، وعندئذٍ ستكونُ في سَعادةٍ لا تعدلُها سعادةٌ، وتحسُّ بلَذَّةٍ لا يَفُوقُها لَذَّةٌ، وتفوزُ بالفوزِ والنَّجاة إنْ عَمِلتَ بِمُقتَضى ما فهمتَ.
إنَّ حَلاوة القُرآن لَتُغرِي بتلاوتِه، ويزيدُ هذه الحلاوةَ حلاوةُ تدبُّرِ ما في آيات القُرآن من المعاني والأحكام.
 
إنَّ حَلاوة القُرآن أمرٌ أدرَكَه المؤمنون، ولمسَه الكافرون، وشَهِدَ بها البَرُّ والفاجر، ألاَ تَذكُر كلمةَ الوليد عندما ناقَشَ قومَه سرًّا فيما يُواجِهون به الناسَ لصَدِّهم عن السَّبيل، وصَرْفِهم عن الإيمان بهذا الكتاب، لقد قال لهم: ماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجلٌ أعلم منِّي بالشِّعر ولا برَجَزِه ولا بقَصِيده، ولا بأشعار الجنِّ، والله ما يُشبِه الذي يقولُ شيئًا من هذا، والله إنَّ لقوله لَحَلاوةً، وإنَّ عليه لَطَلاوةً، وإنَّ أعلاه لَمُثمِرٌ، وإنَّ أسفَله لَمغدقٌ، وإنَّه ليحطمُ ما تحتَه، وإنَّه ليَعلُو وما يُعلَى عليه.
وبيَّن لهم أنَّه ليس بالسَّجع المعروف، ولا هو بالشِّعر المألوف، ووضَّح لهم أنَّ اتِّهامهم محمدًا بأنَّه كاهنٌ أو شاعرٌ ليس له أيُّ قيمةٍ.
ثم قال بعد أنْ فكَّر وقدَّر، وبعد أنْ نظَر وعبَس وبسَر، قال: "إنْ هذا إلا سحر يُؤثَر، أمَا رأيتُموه يُفرِّقُ بين الرجل وأهله ومَوالِيه؟"، وفي ذلك يقولُ تعالى: ﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 18 - 25].
 
هذا الكتاب المُعجِز الجميل، ذو الحلاوة والطَّلاوة التي يُدرِكُها كلُّ مُتذوِّقٍ للعربيَّة، هذا الكتاب أَوْحاه الله إلى محمدٍ، وأمَرَه بتلاوتِه: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ﴾ [الكهف: 27]، والمسلمون مأمورون أيضًا بتلاوة هذا الكتاب، وليس هناك مُبدِّل لكلماته، إنَّ الحقائقَ التي يعرضُها القُرآن حَقائق نهائيَّة لا تقبَلُ الجدَل والمِراء، أو التردُّد والنَّقض، وليس لك أيُّها العبد ملجأٌ من الله إلا إليه.
إنَّ قُدرة الله كبيرةٌ، وسُلطانه واسعٌ، وكلُّ ما في الأرض في يده وطوعُ أمرِه، فأين المفرُّ؟
إنَّ إدراك هذا المعنى ليزجرُ النفسَ أيَّما زجرٍ، ويحولُ بينها وبين المعصية، وهذا المعنى حقيقةٌ لا يَرتابُ فيها مؤمنٌ.
 
هل هناك في اعتقاد المؤمن مَلجَأٌ لا يخضعُ لسُلطان الله حتى يُحدِّث العاصي نفسَه بأنَّه يَأوِي إليه ليُنقِذَ نفسَه من العُقوبة؟ ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 4].
لن تجدَ أيُّها العبد من دُونِه مُلتَحَدًا؛ فارجِعْ إليه، وأقبِلْ عليه وأنت في سَعَةِ الدنيا، قبل أنْ تَرجِعَ إليه وقد كسَبتَ من الذُّنوب الكثير، وأهلكت نفسَك بالشكِّ والارتِياب.
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115].
﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ﴾ [الشورى: 47].
وقد جاء في القُرآن على لسان الجنِّ يُخاطِبون قومَهم: ﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [الأحقاف: 31، 32].

[1] من كلام الأستاذ سيد قطب في "المعالم" صـ15.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣