إعجاز القرآن الكريم (مذكرات في علوم التفسير - 5)
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
مذكرات في علوم التفسير (5)الشيعة وتفسير القرآن:
ومن المفسِّرين بالرأي المذموم: الشيعة؛ وهم قوم تشيَّعوا للإمام علي رضي الله عنه.
ومنهم من غالى في تشيُّعه حتى بلغ حدَّ الكفر، ومنهم قوم لم يبلغوا ذلك، ولكنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في تقدير أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وتقديمهم على الإمام علي في الإمامة.
وهؤلاء قد ذُكرت عنهم تأويلات في كتاب الله عز وجل أيَّدوا بها مذهبهم، بل ووضعوا أحاديث كثيرة تشهد لهم.
ومن كتبهم في التفسير: كتاب يسمى "مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار"، ألَّفه شيعي يسمى عبداللطيف الكازلاني، وذكر فيه العَجب العُجاب من التأويلات الفاسدة والآراء الباطلة، وقد صدَّره بمقدمة ذكر فيها: "ما للإمام علي وشيعته من النصيب الأوفر من كتاب الله تعالى"، وذكر أحاديث كثيرة، ثم فسَّر المفردات القرآنية حسب الحروف الأبجدية بما يطابق مذهب الشيعة؛ فمن ذلك أنه فسر كلمة "الأرض" بالدين، وبالأئمة، وبالشيعة، وبالقلوب التي هي محلُّ العلم وقرارُه، وبأخبار الأمم الماضية؛ فحمَل هذا اللفظ - الذي لا يجهل أحد معناه - على تلك المعاني البعيدة من غير استناد إلى أمَارة أو قرينة، ولا حامل له على ذلك إلا مُجرَّد الرأي الفاسد والاعتقاد الباطل.
مزج العلوم الأدبية والكونية وغيرها في التفسير وسبب ذلك وأثره
علمتَ مما سبق أنَّ تفسير القرآن العظيم كان بما يُتلقَّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بيان القرآن لما أُجمل فيه على النحو المتقدم، ثم جرى الصحابة والتابعون ومَن بعدهم على التفسير بالمأثور وبما يعرفونه من لغة العرب بحسب سليقتهم؛ لأنه عربي مُبِين، وهم أهل اللغة، وبلسانهم نزل القرآن، وظل الأمر على هذه الحال حتى دُوِّنت العلوم العربية وصارت قواعد ومسائل لتَكون وسائل لفهم كتاب الله العزيز.
وكان العرب قد اختلطوا بالعَجم؛ بسبب كثرة الفتوحات، وتفرقوا في البلاد، وضَعُفت السَّليقة؛ فاحتيج إلى هذه العلوم العربية لتكون أداة لفهم بلاغة القرآن، وعونًا على إدراك ما تضمَّنه من المعاني والأحكام، خصوصًا فيما لم يرد فيه أثر.
لذلك؛ اشتدت عناية المفسرين بتلك العلوم الأدبية؛ فإنها الوسيلة إلى فهم القرآن العزيز، وبها يُعرف وجه إعجازه، وتُستنبط معانيه وأحكامه.
ومِن أشهر المفسرين الذين عُنوا بتلك الناحية في القرآن الكريم: "الزمخشري" في تفسيره "الكشاف"، و"أبو السعود" في تفسيره المعروف بـ"إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم"، وقد تقدمت الإشارة إلى كل منهما.
وعلى هذا يمكننا أن نقرر ما يأتي:
مُزجت العلوم العربية بالتفسير؛ لتكون أداة لفهم القرآن، وعونًا على تذوق أسراره بعدما ضَعُفت السليقة العربية.
العلوم الكونية:
ولمَّا قَويت شوكة المسلمين، واتَّسع سلطانهم، وخضع لهم كثير من الأمم الأجنبية، عَمَد المسلمون إلى العلوم الفلسفية وترجموها إلى اللغة العربية، ثم قارنوا بينها وبين القرآن العزيز؛ فما رأوه موافقًا للقرآن أَثبتوه وأيَّدوه وشرحوه، وما رأوه مُخالفًا رَدُّوا عليه ونَقضوه وأَبطلوه؛ ولهذا نرى كثيرًا من كتب التفسير ممتزجًا بآراء الفلاسفة وأقوال الحكماء.
ومن أجَلِّها: تفسير الإمام فخر الدين الرازي؛ فقد سلك مسلك الحكماء في الاستدلالات العقلية في مباحث الإلهيات، مهذبًا للأدلة بما يوافق أصول أهل السنة، وتعرض لرد شُبه الفلاسفة في غير ما موضع، كما سلك مسلك الطبيعيِّين في الكونيات؛ فتكلَّم في الأفلاك وفي السماء والأرض والحيوان والنبات، بل وفي أجزاء الإنسان وغير ذلك مما جرَّ إليه الاستدلال على وجود الصانع في كثير من الآيات.
وعلى هذا يمكننا أن نقول:
مُزجت العلوم الفلسفية بالتفسير بعد أن تُرجمت الفلسفة إلى اللغة العربية، وقُورن بينها وبين القرآن العزيز.
العلوم الفقهية:
حينما أَيْنع الفقه الإسلامي، وتعدَّدت فصوله، وتشعَّبت مسائله، وكثر الخلاف فيه - أخذ كل فقيه يَستدل على رأيه بما يمكنه من آيات القرآن، مؤيدًا وجهة نظره، معترضًا على آراء مخالفيه، وجاء مِن المفسرين مَن جَمع تلك الآراء الفقهية ووضح وجهات النظر المختلفة أثناء الكلام على التفسير.
ومن أشهر هؤلاء المفسرين الفقهاء: "القرطبي" في كتابه: "الجامع لأحكام القرآن"، و"الجصاص" في تفسيره المعروف بـ"أحكام القرآن"، وكثيرًا ما يعرض الألوسي والفخر الرازي للاستدلال الفقهي أثناء تفسير آيات الأحكام.
وعلى ذلك؛ يمكن القول بأنه مُزجت العلوم الفقهية بالتفسير حينما نضج الفقه الإسلامي واعتنى الفقهاء بالاستدلال على آرائهم من القرآن.
العلوم الاجتماعية:
كذلك اشتدت عناية المفسرين بشرح ما تضمَّنه القرآن من السياسات العامة؛ كسياسة الحرب والسِّلم والمعاهدات، والبيع والشراء، والنظر في شؤون الرعية، والسياسات الخاصة كمعاملة الوالدين والأولاد والأقربين والزوجة والجيران والأصدقاء، وغير ذلك؛ فامتزجت كتب التفسير بهذه العلوم؛ نظرًا لما تضمنه القرآن من حاجة البشر، وصلاحيته لكل زمان ومكان.
ومن أشهر المفسرين الذين عنوا بتلك الناحية الاجتماعية: الشيخ السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المعروف بـ"تفسير المنار".
أثر تلك العناية:
وكان من آثار عناية المفسرين بتلك النواحي المختلفة من العلوم - أن اتسع نطاق البحث العلمي، ووجد العلماء موردًا صافيًا ومنهلًا عذبًا يغذي عقولهم ويشبع نهمهم؛ فاتسعت دائرة العلوم اللسانية بعد أن كانت في بدء وضعها ضيقة، وتنوَّعت العلوم والفنون وأيْنَعت ثمارها، وأصبحت المكتبة الإسلامية زاخرةً بشتى الموسوعات في مختلف الفنون.
إعجاز القرآن الكريم
الإعجاز في الأصل: إثبات العجز، وإثبات العجز مُستلزِم لإظهاره.
والمراد به هنا: إظهار صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته، وبذلك سميت المعجزة معجزة؛ لأن البشر يَعجِزون عن الإتيان بمثلها، ويظهر بذلك صدق من تظهر على يديه في دعواه الرسالةَ.
القرآن معجزة خالدة: مقارنة بين معجزة القرآن وسائر المعجزات:
اختار الله القرآن الكريم ليكون هو المعجزة الباقية والآية الدائمة الدالة على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت معجزات بني إسرائيل حسِّيَّة؛ كقلب العصا حيةً، وإخراج اليد بيضاء من غير سوء، وكإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ وذلك لبلادة بني إسرائيل وضَعْف بصيرتهم وقلة فهمهم تحتاج إلى الإيقاظ بالمحسوسات.
أمَّا هذه الأمة، فقد أكرمَها الله تعالى وجعل معجزة نبيها أعظم معجزة؛ وذلك لأمرين:
أولهما: الإشارة إلى كمال أفهام الأمة، وصفاء أذهانها، وسلامة تفكيرها، ورجحان عقولها.
وثانيهما: الإشارة إلى بقاء شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ببقاء معجزته ودوامها ما بقيت العقول واستقامت الأفهام.
وتلك المعجزة العُظمَى هي القرآن، وقد أخبر الله عنه بأنه الآية الكافية والمعجزة الباقية؛ فقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [العنكبوت: 51]، كما أخبر بأن القرآن شاهد على صِدق النبوة بقوله سبحانه: ﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 166].
وليس إلى الشك سبيل في أنَّ القرآن هو الشاهد الأعظَم على صدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه يؤيِّد هذا حيث يقول: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19].
وقد انقرضت معجزات الأنبياء جميعًا بانقراض عصورهم، ولم يشهدها حين وقوعها إلا من كان حاضرًا عندهم.
أما معجزة القرآن، فإنها باقية إلى الآن، يشهدها القريب والبعيد، ويتردد صداها في الشرق والغرب، وستبقى كذلك خالدة حتى تقوم الساعة؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطِي مِن الآيات ما مِثله آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُه وحيًا أوحاه الله إليَّ؛ فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعًا)).
قال العلماء: معناه أنَّ المعجزات الماضية كانت تُشاهَد بالأبصار، ومعجزة القرآن كانت تشاهَد بالبصيرة؛ فلا يمر عصر إلا وهي مُشاهَدة.
الدليل على إعجاز القرآن
تحدَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العرب بالقرآن؛ أي: طلب منهم أن يأتوا بمثله، فعجَزوا عن ذلك مع كونهم أهل البلاغة والبيان.
وكُلُّ ما كان كذلك فهو مُعجِز؛ فالقرآن الكريم مُعجِز.
أمَّا أنه صلى الله عليه وسلم قد تحدى العرب بالقرآن، فقد ثبت ذلك بالنقل المتواتر؛ بل ثبت في نفس القرآن في أكثر من آية، وذلك التحدي على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: التحدِّي بالقرآن كله؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].
المرتبة الثانية: التحدِّي بعشر سور من القرآن؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [هود: 13] جوابًا لقوله: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ [هود: 13].
المرتبة الثالثة: التحدِّي بسورة منه؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ الآيتين [البقرة: 23]، وكذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 37، 38].
وهذه المراتب الثلاث هي النهاية في بلوغ التحدي.
وأما أنهم عجزوا عن معارضته؛ فلأنهم لم يلجؤوا إليها مع توفُّر الدواعي إليها، وعدم المانع لهم منها، وكل مَن هذا شأنُه فهو عاجز عن معارضة القرآن؛ فالعرب عاجزون عن المعارضة.
بيانُ أنهم لم يلجؤوا إليها: أنهم لو لجؤوا وعارَضوا، لاشتهرَ أمرُ المعارَضة كاشتهار أمر القرآن بل أشد؛ لأنهامُبطلة لأمره، لكنها لم تُنقَل، فضلًا عن أن تشتَهر.
وبيانُ أن الدواعي إليها متوفرة: أنه يتوقف عليها حفظ أديانهم ودمائهم وأموالهم، مع كونهم ذوي حَمِيَّة وغيرة وقوة ومَنَعة.
وبيان أنهم لا مانع لهم من المعارضة: فلأنهم كانوا أكثر عددًا وقوة مما كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصًا في بادئ الأمر.
ويوضح لك عجز العرب عن معارضة القرآن: أنهم عرَّضوا أنفسهم للقتل، وأموالَهم للسَّلْب، ونساءهم وأولادَهم للسبي، وقوَّتَهم للذَّهاب، ودينَهم للضياع، وحميَّتهم للذلة والانكسار، وقد كانت المعارضة عليهم أسهل من ذلك كله؛ فعُدُولهم عنها إلى ما هو أشدُّ دليلٌ على إحساسهم بالعجز عن المعارضة، وإلا لما ارتكبوا الأَشدَّ مع إمكان الأيسر.
هذا، وإذا ثبت عجْز العرب عن المعارضة، ثبت عجْز سائر الأمم من باب أولى؛ لأنهم لم يَبلُغوا شأوهم في قوة اللسان العربي.
نظير ذلك: السحرة؛ لمَّا عجزوا عن معارضة موسى في قلب العصا حيَّةً، ثبَت عجْز غيرهم مِن باب أولى؛ لأنهم لم يبلغوا شأوهم في فن السحر.
وقِس على هذا سائر المعجزات.