خطب ومحاضرات
مقدمة في الفقه - محنة الإمام مالك وصبره [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فقد كان لـهارون الرشيد -وهو من خلفاء بني العباس- صلة أيضاً بالإمام مالك.
إخوتي الكرام! بعد المهدي مباشرة جاء ابنه الهادي وبقي سنة واحدة فقط في الخلافة، فما طالت حياته، فقد تولى سنة تسع وستين ومائة في السنة التي توفي فيها المهدي ، إلى سنة سبعين ومائة انتهت خلافته، والذي قتله أمه الخَيزُران، سمته واستراحت منه، وهذا حال الملك نسأل الله العافية، أمه هي التي قتلته، وهو موسى بن المهدي الملقب بـالهادي، أيضاً كان عنده شهامة، وكان كأبيه في استئصال الزنادقة، لكن قيل: إنه كان أحياناً يتطاول على أمه في الكلام، وقال لها: إذا رأيت أحداً من أمراء الدولة ووزرائها وقف عند بابك -لأنه كان لها شأن، وأحياناً يستشيرونها ويأخذون رأيها- فقال: إذا وقف ببابك أحد يكلمك في قضية لأضربن رقبته، يقول هذا لأمه، أما لكِ مصحف تقرئين فيه؟ أما لكِ سُبحة تسبحين بها؟ أما لكِ مِغزل تشتغلين به؟ يعني لا تتدخلي في أمر الدولة، هذا سبب، وسبب ثانٍ: قيل: إنه أراد أن يجعل الخلافة على طريق الميراث التي جرت في عهد بني أمية وفي عهد بني العباس، أراد أن يجعلها في أولاده بدل أخيه هارون الرشيد، فلما علمت الخيزران بذلك وضعت له السم، فما بقي في الخلافة إلا سنة واحدة ومات، فآلت الخلافة إلى هارون الرشيد عليه وعلى المسلمين أجمعين رحمة رب العالمين، ولذلك ما كان بين الهادي وبين سيدنا الإمام مالك صلة؛ لأنه مكث سنة واحدة وذهب بعدها إلى الدار الآخرة.
وهارون الرشيد طالت خلافته، من سنة سبعين ومائة إلى سنة ثلاث وتسعين ومائة، حكم ثلاثاً وعشرين سنة متتابعة، وهو الذي يُقال له: أبو الخلفاء، وهو ابن المهدي أيضاً، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء التاسع صفحة ست وثمانين ومائتين: كان يصلي كل يوم لله ألف ركعة، ويتصدق بألف درهم. وكان يحج سنة ويغزو أخرى، ويحب العلماء ويعظم حرمات الدين، وهو الذي كان يقول فيه سيد المسلمين في زمانه أبو علي الفضيل بن عياض: لوددت أن الله أخذ من عمري فوضع في عمر هارون الرشيد! وبعد هارون حقيقة فُتح على الأمة كل بلاء مشئوم، بعد هارون فُتح الباب وحصل ما حصل من الزيغ والتباب، عندما جاء المأمون، وحصل للأمة محنة عظيمة للزيغ والبدع والضلال الذي يتبناه الأمراء، بينما في عهد هارون فمن قبله كان يوجد زيغ من الرعية، ويستأصل من قِبل الأمراء، وبعد ذلك صار الزيغ في الأمراء، وهذه بلية البلايا ورزية الرزايا، والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وقد تقدم معنا قصاب الزنادقة المهدي، وولده الهادي كذلك، وهكذا أبو جعفر كانوا يغارون على دين الله، وبعد ذلك جاءت البلية أن هؤلاء تلبسوا بالظلم والجور، وانتحلوا البدعة أيضاً، وبدءوا يمتحنون علماء الإسلام ويذيقونهم ألوان العذاب من أجل أن يقعوا في الزيغ والضلال والتباب.
والمأمون كما يقول الذهبي: إنه بأس وبلاء على الإسلام، وهو الذي أحدث محنة خلق القرآن، وكم ذبُح في تلك المحنة من العلماء الكرام!
هارون الرشيد عليه وعلى المسلمين رحمة رب العالمين أيضاً زار الإمام مالكاً عندما زار المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، والأثر في الحلية في الجزء السادس في ترجمة سيدنا الإمام مالك صفحة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وهو في السير في الجزء الثامن صفحة ثمان وتسعين، زيارة هارون الرشيد للإمام مالك ثابتة، وعرضه عليه أن يحمل الناس أيضاً على موطئه ثابتة، لكن ضُم إليها أمور أخر، الإمام الذهبي توقف فيها فقال: لعل الزائر هو المهدي ووهِم الراوي، وأنا أقول: هارون زار، والمهدي زار، وأبو جعفر زار، لكن بعض الروايات هنا التي فيها زيادة لعلها تدل على أن الذي زار في هذه الحادثة هو المهدي وليس هارون، هذا موضوع آخر لأمر من جهة التاريخ نبه عليه الإمام الذهبي.
يقول الإمام عبد الله بن عبد الحكم وهو والد محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت مالكاً يقول: شاورني هارون الرشيد في ثلاثة أمور: في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه، وفي أن ينقض منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعله من ذهب وفضة وجوهر، وفي أن يقدم نافعاً إماماً في مسجد النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، الأمر الثالث من أجله قال الذهبي: لا يمكن أن تقع هذه القصة مع هارون، قال: لعله المهدي، وسيأتينا هذا، قال سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه: فقلت: أما تعليق الموطأ فإن الصحابة اختلفوا في الفروع وتفرقوا، وكلٌ عند نفسه مصيب. وكما قلت: لا يجوز لفقيه أن يحمل غيره على فقهه، وأن يلزمهم بذلك، ولا لولي الأمر، قال: وأما نقض المنبر فلا أرى أن يحرم الناس أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعهم يتبركون به ويتنفعون به، وأما تقدمتك نافعاً فإنه إمام في القراءة لا يُؤمن أن تبدر منه بادرة في المحراب، يعني أن يخطئ، أن يذهل، فتُحفظ عليه، فهو إمام القراءة، وله شأن، وهذه الهيبة تخف إذا ذهل ونسي وطرأ عليه ما يطرأ على البشر، فلتبقى الهيبة العظيمة لهذا الإمام لا يتقدم إماماً للمسلمين في مسجد نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ضع الإمامة في غيره، لا يؤمن أن تبدر منه بادرة في محراب فتحفظ عليه، فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله!
قال الإمام الذهبي: هذا إسناد حسن، لكن لعل الراوي وَهِم في قوله: هارون؛ لأن نافعاً مات قبل خلافة هارون. وحقيقة هذا هو الفقه وهذا هو الذكاء، نافع رضي الله عنه وأرضاه إمام القراءة في المدينة توفي قبل خلافة هارون بسنة، سنة تسع وستين ومائة، وخلافة هارون سنة سبعين، فما يعقل هذا! كيف سيعرض هارون على الإمام مالك أن يجعل نافعاً إمام مسجد النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وقد مات قبل خلافته! فإسناده حسن، لكن لعل القصة مع المهدي لا مع هارون، لكن مجيء هارون إلى الإمام مالك رضي الله عنه ثابت في أخبار كثيرة، ولذلك يقول: لعل الراوي وهم في قوله: هارون؛ لأن نافعاً مات قبل خلافة هارون، مات سنة تسع وستين ومائة قبل سيدنا الإمام مالك بعشر سنين.
والإمام مالك من تلاميذ نافع في القراءة، ولذلك قال الذهبي: ممن قرأ على هذا الإمام مالك الإمام، قرأ على نافع الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، وكان يقول: قراءة نافع عندنا سنة، ولا يراد بالسنة ما يقابل الفرض هنا، بل الطريقة الثابتة عند المسلمين التي لا نزاع فيها في الدين، قراءة نافع عندنا سنة، وتقدم معنا من مناقب هذا الإمام المبارك أنه كان إذا قرأ في مجلس يشم من فِيهِ ريح الطيب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ القرآن في فمه في نومه.
يقول الإمام الشاطبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا:
وأما الكريم السر في الطيب نافع فذاك الذي اختار المدينة منزلا
إخوتي الكرام! كما قلت: مجيء هارون إلى سيدنا الإمام مالك ثابت، لكن يمكن أن يكون حصل وهم، وفي الحلية يوجد وهم آخر في الجزء السادس صفحة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، لا يمكن أن تقبل بحال، يقول: سأل المأمون الإمام مالكاً: هل لك من دار؟ يقول: كيف ذلك، فقد وُلد سنة سبعين ومائة، ولما مات الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه كان عمر المأمون تسع سنين، فكيف سيسأله وهو خليفة؟! ثم يقول: سأله الشخوص معه إلى بغداد، هذا في الحلية في الجزء السادس صفحة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، وقال له: عزمت أن أكتب كلامك كما يكتب المصحف، وأن أنشره في المسلمين كما نشر سيدنا عثمان المصحف بين المسلمين، فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين! هذا لا يمكن أن يكون -إخوتي الكرام- مع المأمون أبداً، المأمون توفي سنة ثمان عشرة ومائتين.
يقول الإمام الذهبي في ترجمته في الجزء العاشر صفحة اثنتين وسبعين ومائتين: ما رجع عنها، أي: عن البدعة التي اخترعها وهي محنة خلق القرآن، يقول: وفي تلك السنة التي اخترع فيها هذه البدعة ونصبها للأمة أخذه الله سنة ثماني عشرة ومائتين، وقال في الجزء العاشر أيضاً صفحة أربع وثلاثين ومائتين، في ترجمة أحد أئمتنا الكرام الكبار أبي مُسهِر عبد الأعلى بن مسهر ، شيخ أهل الشام، وحديثه في الكتب الستة، توفي سنة ثماني عشرة ومائتين في السنة التي توفي فيها المأمون، وقد امتحنه المأمون في خلق القرآن، ففي ترجمته يقول الذهبي: كان المأمون بأساً وبلاءً على الإسلام. ولما جيء بـأبي مسهر وأرادوا امتحانه، قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال المأمون: علي بالسيف والنَّطع، وبسط وحمل المأمون السيف بيده، فقال: أمهلوني، فأمهلوه، ثم أعادوه، فقال: غير مخلوق. قال: علي بالسيف والنطع. قال: أمهلوني. ثم قال: إنه مخلوق. ثم لما خرج قال: غير مخلوق. يفعل معهم هذا مراراً، فلما يرى السيف رضي الله عنه وأرضاه يعتريه ما يعتري البشر فيقول ما رُخص له في قوله عند الإكراه، فإذا خرج يقول: ليس بمخلوق، ثم يعيدونه للامتحان، وفي نهاية الأمر حبسوه، فبقي مائة يوم فمات في السجن رحمة الله ورضوانه عليه، أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر إمام أهل الشام جيء به من بلاد الشام مقيداً إلى بغداد ليمتحن في خلق القرآن.
إذاً: هارون زار الإمام مالكاً رضي الله عنه وأرضاه، وعرض عليه ما عرض، ونصحه الإمام مالك، وأيضاً ما رضي أن يؤخذ بكلامه في جميع أمصار المسلمين، وسيأتينا كلام الإمام ابن تيمية بعون الله وتوفيقه في مجموع الفتاوى في الجزء الثلاثين صفحة تسع وسبعين، يقول: ليس للحاكم أن ينقض حكم غيره، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه الأمور التي تدخل في أمور الاجتهاد وتحتملها الأدلة، يقول: ولهذا لما استشار هارون الرشيد الإمام مالكاً أن يحمل الناس على الموطأ نهاه. فهي قصة ثابتة، لكن لعل ما ورد في قصة نافع رضي الله عنه جرت مع المهدي والعلم عند الله جل وعلا.
إخوتي الكرام! عند هذا أختم الكلام على ترجمته بالمحنة التي حصلت له مع جهره وصدعه بالحق رضي الله عنه وأرضاه، المحنة التي حصلت له ليست على أيدي الخلفاء مباشرة كما حصل لسيدنا أبي حنيفة، إنما على أيدي أمير من أمراء الخلفاء وهو جعفر بن سليمان ابن عم أبي جعفر المنصور، انظروا محنته لسيدنا الإمام مالك في السير في الجزء الثامن صفحة ثمانين، امتحنه وضربه وسخم وجهه، وحُمل الإمام مالك على دابة بصورة مقلوبة وطِيف به في شوارع المدينة رضي الله عنه وأرضاه، وهو مع ذلك ينادي: أنا مالك بن أنس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فليعرفني، طلاق المُكره غير واقع. فقيل لجعفر بن سليمان: الإمام مالك يقول هذا في شوارع مدينة النبي عليه الصلاة والسلام. قال: ويحكم فضحتمونا! أعيدوه ولا داعي أن يُطاف به في الشوارع، لكنه ضُرب ضرباً فظيعاً بليغاً حتى انخلعت يمينه من كتفه رضي الله عنه وأرضاه.
نهي أبي جعفر المنصور للإمام مالك عن التحديث بحديث عدم وقوع طلاق المكره ومحنته بسبب ذلك
وهذا الذي نُقل عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن طلاق المكره ليس بشيء لا يقع، أثر عن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، كما في مصنف الإمام ابن أبي شيبة في المكان الذي حددته، رُوي عن سيدنا عمر وعن سيدنا علي وعن سيدنا عبد الله بن عمر وعن سيدنا عبد الله بن الزبير ، وعن السادة الكرام عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعن عطاء والضحاك رضوان الله عليهم أجمعين.
انظروا هذه الآثار مع الكلام عليها في نصب الراية في الجزء الثالث صفحة اثنتين وعشرين ومائتين إلى أربع وعشرين ومائتين، وفي الراية في الجزء الثاني صفحة سبعين.
إذاً: نهاه أن يحدث بأن طلاق المكره لا يقع، ليس على مستكره طلاق، وبهذا قال الأئمة الثلاثة، الإمام مالك وتلميذه الشافعي وتلميذه الإمام أحمد، وخالفهم سيدنا أبو حنيفة فقال: طلاق المكره واقع، ورووا في ذلك آثاراً، انظروها في نصب الراية في المكان الذي ذكرته وفي الدراية.
نقلوا آثاراً في ذلك أنها تقع، في مصنف الإمام ابن أبي شيبة عن ابن عمر، وعليه فهو يقول: لا يقع، ورُوي عنه في رواية: أن طلاق المكره واقع، وقال الإمام الشعبي والنخعي وأبو قلابة والزهري وقتادة: بوقوع طلاق المكره، وأثر ابن عمر والشعبي والنخعي في مصنف الإمام ابن أبي شيبة أيضاً، وبوب عليه: باب من يرى طلاق المكره جائزاً، بعد الترجمة الأولى مباشرة أيضاً في الجزء الخامس صفحة خمسين، وروى أيضاً الإمام ابن أبي شيبة عن الإمام سعيد بن المسيب وشريح وقوع طلاق المكره، وبهذا قال السادة الحنفية.
ورُوي الحديث، لكن فيه ضعف: (لا قيلولة في الطلاق)، في قصة المرأة التي ألجأت زوجها إلى طلاقها، فحملت سكيناً وقالت: إما أن أذبحك وإما أن تطلقني، فطلقها، ورُفع الأمر إلى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فقال: (لا قيلولة في الطلاق)، انتهى لا تُقال، والطلاق وقع سواء كنت مكرهاً أو لا، وبهذا أخذ الحنفية، مع آثار السلف المتقدمة، قال الحنفية في كتبهم كما في الاختيار في الجزء الثالث صفحة أربع وعشرين ومائة: تقع به الفرقة، يعني طلاق المكره، فيستوي فيه الإكراه والطوع كالرضاع، يعني: من أرضع سواء برضا أبويه أو بغير رضا أبويه، سواء كان له اختيار أو لا اختيار له، رضع من امرأة من غير اختياره وهي نائمة، فقد ثبت له حكم الرضاع، يقول: الطلاق تقع به فرقة، فيثبت الحكم إذا وُجد، سواء كان بطوع أو بإكراه.
قال الحنفية: عندنا كل ما صح فيه شرط الخيار فالإكراه فيه يؤثر، كالبيع والإجارة، هذا لك فيه خيار، وعليه إذا أُكرهت على البيع لا ينعقد،كل ما صح فيه الخيار فالإكراه فيه يؤثر، وما لا يصح فيه الخيار فلا يؤثر فيه الإكراه، كالنكاح، والطلاق والعتَاق، فلو أكره في النكاح فقال: أنكحتُ مكرهاً، وفي الطلاق طلقت مكرهاً، وفي العتاق أعتقت مكرهاً، فالحنفية يقولون: هذا لا يؤثر، فليس له أن يشترط، وليس له الخيار، وعليه إن وقع مكرهاً أو طائعاً يقع طلاقه.
ضرب الإمام مالك لعدم تركه التحديث بالحديث
قال الإمام الذهبي: فوالله ما زال الإمام مالك بعد في رفعة وعلو، قلت -القائل هو الذهبي-: هذا ثمرة المحنة المحمودة أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير، ومن يرد الله به خيراً يُصب منه كما ثبت في المسند وصحيح البخاري من رواية سيدنا أبي هريرة عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: (من يرد الله به خيراً يصب منه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل قضاء المؤمن خير له).
ضرورة الابتلاء والامتحان خاصة للعلماء الربانيين ورفعتهم بذلك
ولذلك نُقل عن سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه كما في ترتيب المدارك عند الكلام على محنته في الجزء الأول صفحة ثلاثين ومائتين، أنه كان يقول: لا خير فيمن لا يُؤذى في هذا الأمر، يعني في هذا الدين، فإذا لم يجهر بالحق ولم يؤذ فلا خير فيه؛ لأنه سيداهن، وسيدخل مداخل السوء، فلا خير فيمن لا يُؤذى في هذا الأمر.
إخوتي الكرام! لابد من وقوع الأذى على علماء الإسلام، وهذا الذي وقع من العصر الأول إلى هذا الزمان إلى ما بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإذا حصل اليقين في القلب مع الصبر طلباً لرضوان الرب نال الإنسان الإمامة، والله يقول: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، وذلك أثر عن العبد الصالح شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية ، ويقرر هذا القول تلميذه الإمام ابن قيم الجوزية عليهم جميعاً رحمات رب البرية، يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. فلا يمكن للإنسان أن ينال الإمامة، وأن يمكن، وأن يحصل له لسان صدق من ثناء طيب عطر، إلا بعد أن يصبر ويتقدم الصبر امتحان، فإذا صبر رفع الله ذكره في هذه الحياة، مع ما له من الأجر العظيم بعد الممات، والله يقول في كتابه سبحانه وتعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].
لقد أوذي الإمام مالك فحصلت له البراءة والوجاهة العظيمة عند الله جل وعلا، وهذه سنة دينية لا تتخلف؛ لأن من أوذي فصبر رفع الله ذكره وقدره في هذه الحياة، مع ما له من الأجر عند رب الأرض والسماوات، وكانت الدِرر التي ضُرب بها سيدنا الإمام مالك وبلغت سبعين، وقيل: مائة، كان تلك الدرر دُرراً حُلي بها رضي الله عنه وأرضاه، وجُمل بها في هذه الحياة، فرفع الله قدره وذكره وشأنه عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
خلاصة محنة الإمام مالك في عهد أبي جعفر المنصور
وقلت: بهذا قال الجمهور، وهم الأئمة الثلاثة رضوان الله عليهم أجمعين، مالك وتلميذه وتلميذ تلميذه، مالك والشافعي وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين، قالوا: طلاق المكره غير واقع، وانفرد السادة الحنفية كما تقدم معنا رضوان الله عليهم أجمعين فقال بوقوع طلاق المكره؛ لأن الطلاق لفظ جُعل للفرقة، فيستوي عندهم فيه الطوع والكره كالرضاع تماماً، وتقدم معنا قاعدتهم: ما يدخله الاختيار يؤثر فيه الإكراه، وما لا يدخله الاختيار ولا خيار للإنسان فيه إذا أطلقه، فلا يؤثر فيه الإكراه، كالطلاق والنكاح والعتاق وغير ذلك، فهذه الألفاظ يترتب أثرها إذا صدرت وجرت من الإنسان.
إخوتي الكرام! هذا المبحث إن شئتم أن تنظروه في كتب أئمتنا، فانظروا الأحاديث الواردة في ذلك في نصب الراية في الجزء الثالث صفحة اثنتين وعشرين ومائتين إلى أربع وعشرين ومائتين، وفي الدراية في الجزء الثاني صفحة سبعين، وانظروا المصنفين أيضاً، وانظروا كتاب الاستذكار لشيخ الإسلام الحافظ ابن عبد البر ، فقد كتب في هذه المسألة قرابة ست صفحات في الجزء الثامن عشر من صفحة ثمان وأربعين ومائة إلى أربع وخمسين ومائة، وانظروها في غير ذلك من كتب أئمتنا، وقلت: إنها موجودة في فتح الباري في الجزء التاسع صفحة تسعين وثلاثمائة، حول هذا الأثر امتُحن هذا الإمام المعتبر رضي الله عنه وأرضاه، أبو جعفر نهاه أن يحدث بهذا الأثر: ليس على المكره طلاق، والسبب في ذلك أنه كان يُكره الناس على البيعة، وعندما يأخذ منهم البيعة يستحلفهم بأيمان الطلاق والعتاق والصدقة، فما يملكونه صدقة وعبيدهم -أرقاؤهم وإماؤهم- أحرار، ونساؤهم طوالق إذا نقضوا العهد ونكثوا البيعة، فوقع في محذورين:
الأمر الأول: أنه أخذ البيعة عن طريق القسر والإكراه، والأصل أن يبايع الإنسان برضا وبرغبة، وهم ينيبون عنهم من يقوم بتطبيق وتنفيذ شرع الحي القيوم، أما أن يأتي إنسان ليأخذ منهم هذا الحق رغم أنفوهم فما حصلت -إذاً- فائدة البيعة والمبايعة، لأنها بإكراه!
الأمر الثاني: بما أنه أخذ هذا الأمر منهم قسراً، فلا يحصل طلاق لو حصل خلاف هذا؛ لأنه لا طلاق على مكره، والآثار في ذلك ثابتة، فـأبو جعفر نهاه وقال: لا تحدث بهذا، وكيف يكتم العلم الشرعي، فقد حدَّث وما بالَى، فلما علم بذلك جعفر بن سليمان أمير المدينة المنورة على منورها أفضل الصلاة وأزكى السلام، لما علم بذلك استشاط غضبه كيف يُمنع من قبل الخليفة ثم يحدث! فاستدعاه فنكل به وعذبه وضربه قيل: سبعين سوطاً، وقيل: مائة، ومد يديه وهو يضرب الضرب الشديد حتى انخلع كتفه وقيل: كتفاه رضي الله عنه وأرضاه، وكان بعد ذلك لا يستطيع أن يرفع يده، ولا أن يتناول شيئاً بها رضي الله عنه وأرضاه.
وخلال الضرب كان يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل، اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون! سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم! يسبح ربه ويثني عليه ثم يدعو لهم بالمغفرة: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون، وتوسط بعد ذلك بعض الناس في الصلح بين جعفر بن سليمان والإمام مالك ، فقال: أريد أن يسامحني مما حصل مني، وأن يحللني مما حصل مني، فقال: كنت سامحته وعفوت عنه عندما وقع الضرب علي، لكن مع ذلك إذا أردت أن تتوب إلى علام الغيوب بينك وبينه فرحمة والله واسعة، وأما أنا فقد أسقطت حقي، فيقال: أن جعفر بن سليمان أعتق بعد ذلك عن كل ضربة ضُرب بها الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه غلاماً.
وتقدم معنا إخوتي الكرام أنه ضُرب، ومع الضرب سُخِّم وجهه رضي الله عنه وأرضاه، ثم أُركب على حمار بجهة مقلوبة وطِيف به في شوارع المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وكان ينادي: أنا مالك بن أنس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فليعرفني، طلاق المكره غير واقع، ليس على المستكره طلاق، فلما علموا بذلك سارعوا في إنزاله وكتمان الأمر؛ لئلا ينتشر أكثر مما حصل.
كلام الإمام الذهبي على ما حصل من المحنة للإمام مالك
والحديث ثابت صحيح من رواية ثلاثة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أولهم وروايته أصح الروايات رواية سيدنا صهيب رضي الله عنه وأرضاه في المسند، وصحيح مسلم ، وسنن الدارمي ، وروايته في صحيح ابن حبان ، ورواها البيهقي في السنن الكبرى، ولفظ روايته عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وان أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
ورُوي الحديث من رواية سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، روايته في المسند ومعجم الطبراني الأوسط ومسند البزار ، انظروها في المجمع في الجزء العاشر صفحة خمس وتسعين، قال: رجاله رجال الصحيح، والحديث رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده كما في منحة المعبود في الجزء الأول صفحة ثمان وعشرين، ولفظ رواية سيدنا سعد رضي الله عنه وأرضاه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبت من قضاء الله للمؤمن؛ إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وان أصابته مصيبته حمد ربه وصبر).
ورُوي الحديث من رواية سيدنا أنس بن مالك أيضاً، وعليه فهو من رواية صهيب وسعد وأنس رضي الله عنه أجمعين، رواية سيدنا أنس في المسند، انظروها في الجزء الخامس صفحة أربع وعشرين من المسند، وأشار إليها البزار كما في كشف الأستار في الجزء الرابع صفحة تسع وعشرين بعد أن خرَّج رواية سعد ، وتقدم معنا أنه رواها البزار ، قال: ورُوي الحديث عن صهيب وأنس .
ولفظ حديث المسند عن سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً للمؤمن لا يقضي الله له شيئاً إلا كان خيراً له)، وإسناد الحديث جيد صحيح كما نص على ذلك الإمام الهيثمي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
إخوتي الكرام! هذه روايات هذا الحديث: (كل قضاء المؤمن خير له)، وفي بعض روايات سيدنا سعد رضي الله عنه وأرضاه يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (والمؤمن يؤجر في كل شيء، حتى في أكلته يرفعها إلى فِيه)، وقال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وتقدم معنا هذه الآيات وما يشبهها حتى نعلم علم ظهور وانكشاف بعد أن علمناه علم تقدير في الأزل.
وأنزل الله في وقعة أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فالمؤمن إذا امتُحن صبر واتعظ واستغفر، ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حَكَمُ مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له.
هذا التعليق من الإمام الذهبي ذهب خالص ينبغي أن نعيه حول ما يحصل للإنسان من مصيبة وامتحان في دار المحنة والامتحان، نسأل الله الثبات وحسن الخاتمة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
توفي الإمام المبارك مالك بن أنس سنة تسع وسبعين ومائة، ودُفن في المكان الذي حرص على البقاء فيه في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، وقبره معروف يُزار في البقيع، الإمام مالك إمام دار الهجرة رضي الله عنه وأرضاه، وتقدم معنا فضل من عاش فيها ومن دُفن فيها، أنه سيشهد له نبينا عليه الصلاة والسلام ويشفع له، جزاه الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] | 4383 استماع |
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] | 3678 استماع |
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] | 3660 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2] | 3541 استماع |
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] | 3309 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] | 3293 استماع |
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه | 3260 استماع |
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] | 3259 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] | 3214 استماع |
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] | 3166 استماع |