تفسير : (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)
مدة
قراءة المادة :
24 دقائق
.
تفسير قول الله تعالى﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
قال الله عز وجل: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44].
"البر": الخير الواسع، والمعروف الكثير والإحسان، وطاعة الله وطلب مرضاته، أصله من "البر" بفتح الباء ضد البحر، والبر أيضًا الصدق، ومنه بر الوالدين؛ أي: كثرة الإحسان إليهما، وفعل الخير والمعروف معهما، ومن أسماء الله سبحانه وتعالى: "البَرُّ"؛ أي: الذي يعم الخلق خيره وفضله، ونعماؤه الواسعة الكثيرة، وسُمِّي القمح "بُرًا" لكثرة ما فيه من الغذاء والفائدة، وقد جاء مقابلًا للإثم كما في قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المجادلة: 9].
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: ((البر حُسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس))، وروى الإمام أحمد عن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد ألا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه، الحديث إلى أن قال: فجمع أصابعه الثلاث، فجعل ينكث بها في صدري ويقول: ((يا وابصة، استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك))، قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللطف والمبرة، وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق، ومعنى "حاك في صدرك"؛ أي: تحرك فيه وتردَّد، ولم ينشرح له الصدر، وحصل في القلب منه الشك وخوف كونه ذنبًا؛ ا.
هـ.
وقد جاء في سورة الانفطار والمطففين مقابلة البر بالفجور: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14]، ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾ [المطففين: 7 - 18].
والنسيان: ترك الإنسان ضبط ما استودع، وإهمال حفظ ما استحفظ، فما ذمه الله في القرآن وعابه على أهله، فهو الذي يكون عن قصد وتعمد، وما عذر فيه الإنسان ورفع عنه المؤاخذة فيه، فهو ما كان عن ضعف قلب، أو غفلة بانصراف القلب والفكر إلى شيء آخر.
وتلاوة الكتاب: قراءة التوراة، سُمِّيت القراءة تلاوة؛ لأن الكلمات تأتي متتالية وراء بعضها، وقد تكون تلاوة كعدمها إذا لم تكن عن تفقه وتدبر وإيمان بالكتاب المتلو أنه أُنزل هدًى وفرقانًا بين الحق والباطل، فإن كانت عن تفقه وتدبر، انتفع بها التالي، فهي التلاوة حق التلاوة، وإنما تكون من الذين يؤمنون به.
يقول الله تعالى ذكره عائبًا على بني إسرائيل وموبخًا لهم، وفاضحًا لمخازيهم، وكاشفًا عن قبائحهم وذميم خصالهم، ومرذول فعالهم: كيف تدعون الناس إلى الخير وتأمروهم بإنجاء أنفسهم من عذاب الله وغضبه بعمل الصالحات، والبعد عن الشرور والسيئات، وتتركون أنفسكم غارقة في بحر من الرذائل، مرتكسة في حمأة القبائح، موغلة في الشر والفساد والمنكر - اعتقادًا، وعملًا، وخلقًا، وصفة وحالًا - مسارعة إلى غضب الله وسخطه وشديد عذابه، ووبيل عقابه فيا لجنيا والآخرة؟!
إن ذلك من فعلكم لا يفعله عاقل، ولا يرضى به لنفسه من يكون عنده شيء من الفطنة، ومسكة من عقل، فإن شأن العاقل أن يسعى في الخير والنجاة والفوز أولًا لنفسه، ثم لمن هو أدنى وأقرب منه، فإما أن يكون ما تدَّعونه برًّا وتأمرون الناس به ليس هو في الحقيقة بر، وإنما هو إثم ومنكر من القول والعمل والاعتقاد ابتدعتموه بأهوائكم وزعمتموه للناس برًّا كذبًا على الله وعلى شريعته وعلى أنبيائه، وظلمًا لأنفسكم أشد ظلم وأقساه، وتلك جريمة بينة لا يَجترحها على نفسه عاقل، لما تجر على مجترحها من نكال ووبال، وأنتم تزعمون أنفسكم أعلم الناس وأعقل أهل الأرض، فأين هذا العلم المدَّعى؟ وأين هو هذا العقل المزعوم؟ وهل العاقل يكذب على الله ويخدع عباد الله ويغشهم هذا الغش الفاضح الذي يجر عليه خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ويتعرض به لمقت الله الذي لا تخفى عليه خافية؟!
وإما أن يكون ما تدعون الناس إليه وتأمرونهم به حقيقة هو البر والخير، والاستقامة على الصراط السوي الذي يؤدي بسالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة، فيكون من الأبرار الذين هم في نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك، فلا يتصور في عقل عاقل أن ينأى بجانبه عنه، وأن يجافيه ويعاديه، فيكون من المجرمين الفجار الذين هم في جحيم وشقاء في الدنيا والآخرة، في حين أنه يأمر الناس به ويدعوهم إليه؛ ليكونوا من أهل النعيم.
إن هذه حال تدل على الارتباك الفكري الشديد وعلى الاضطراب العقلي الشنيع الذي لا يمكن معه لأمة ولا لجماعة ولا لفرد أن يسير في الحياة المعيشية، أو يكون في الدين على سنن واضح وعلى صراط مستقيم، والله تعالى قد وهبكم العقل ليمنعكم من هذا الاضطراب، ويحجزكم عن هذا الارتباك، فتزنوا أعمالكم وشؤونكم بميزانه، وتحكموها برباطه، فتكونوا من المفلحين، ولكن إذا غلب الهوى، وتحكمت شهوات النفس الإمارة، واستسلم الإنسان للشيطان، وألقى بزمامه لعدوه المبين، ضاع الرشد، وطاش الحلم، واستحكم الغي، وتجرد من كل ميزة إنسانية، وأصبح كما قال الله سبحانه وتعالى في بني إسرائيل: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
اليهود يزعمون أنهم أعلم الناس وأتقاهم وأشدهم تمسكًا بدين الله، وأعظمهم إيمانًا، والواقع الذي يشهد به كل شيء في الأرض وفي السماء أنهم أجهل الناس وأفسقهم عن دين الله، وأعظمهم تلاعبًا بشرائعه، واستهزاء بكتبه، وعداوة له سبحانه ولأنبيائه وملائكته.
يزعمون أن ما يحرصون عليه من تقاليد الأحبار ومراسيمهم، وما افتراه الأحبار على الله مما يسمونه فقهًا في الدين، وما كذبوه من الأوضاع التي حرَّموا بها ما أحل الله، وأحلوا بها ما حرَّم الله، وبجلوا بها شرعة الله ودينه - يزعمون أن هذا هو الدين، وهو الشريعة المختارة، وهو الصراط السوي، والأحبار مع هذا هم أول المضيعين لتلك الأحكام الوضعية، ولتلك التقاليد والمراسم إذا لم توافق أهواءهم، ولم تأت على ما تشتهي نفوسهم الجامحة، فهم أسرع الناس تفصِّيًا من تلك الأحكام بأقل حيلة وأوهى خدعة يحاولون بها أن يمكروا على الله والله خير الماكرين، فيسفكون الدماء، ويستحلون الأموال، ويستبيحون الفروج، ويقعون بحِيَلهم هذه وخدعهم في مهاوي السخافات والخرافات، والمحرَّمات والمُوبقات.
يحدثنا السموْءَل بني يحيى - الذي كان من أكابر أحبار اليهود وعلمائهم، ثم منَّ الله عليه بالإسلام - يقول في كتابه بذل المجهود:
ذكر السبب في تشديدهم على أنفسهم، له سببان: أحدهما من جانب فقهائهم الذين يدعون (الحاخاميم)؛ أي: الحكماء، وكان لهم في الشام وغيرها من المدائن مدارس فيها ألوف من الفقهاء يؤلفون ويفتون، حتى اجتمع لهم الكتابان اللذان اجتمع فقهاؤهم عليهما، وهما: المشنا، وهو الكتاب الأصغر، والتلمود وهو الكتاب الأكبر، ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه في عصر واحد، وإنما ألفوه في جيل بعد جيل، فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مر جيل زادوا فيه، وأن هذه الزيادات المتأخرة تناقض المتقدمة - علموا أنهم إن لم يمنعوا ذلك أدى إلى الخلل الظاهر والتناقض الفاحش، فمنعوا من الزيادة وحظروا على الفقهاء أن يضيفوا شيئًا آخر، وكان أئمتهم قد حرَّموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة الأجانب ومناكحتهم، والأكل من ذبائحهم، والمراد من الأجانب الوثنيون الذين كانوا يعبدون الأوثان، وذلك الحظر والمنع كان خوفًا من الحاخاميم أن يتلاشى بنو إسرائيل، ويندمجوا في هذه الشعوب الوثنية، مع أنهم كانوا تحت الذلة والعبودية، فلم يمكن الحاخاميم أن يصدوا الإسرائيليين ويمنعوهم عن مخالطة من كان على غير ملتهم إلا بحجة يستدعونها من أنفسهم، ويكذبون بها على الله؛ لأن التوراة إنما حرمت مناكحة الوثنيين، وأكل ما ذبحوه على غير اسم الله، وأباحت تناول المآكل من يد غيرهم من الأمم، فشدد الحاخاميم عليهم وزادوا على ذلك، وحرَّموا عليهم تناول أي شيء من يد مَن كان على غير ملتهم؛ سواء كان وثنيًّا، أو غير وثني، وجعلوا كل ما يذبحه غيره اليهودي (طريفًا)؛ أي نجسًا محرمًا، واختلقوا كتابًا في علم الذباحة، وضعوا فيه من التشديدات عليهم ما شغلوهم به عما هم فيه من الذلة والمشقة، وشرطوا للذبيحة شروطًا في رئتاها وقلبها وغير ذلك، كما شرطوا في موضع الذبح وآلة الذبح والذابح شروطًا في غاية القسوة والعسر، وكل ذل زعموه فقهًا في الدين، وهو كذب على الله رب العالمين، قصدوا بذلك أن يُوهموا الإسرائيليين أن هذا العلم ميَّزهم الله به، وأنه لا يعرفه أحد من الأمم سواهم، وأنهم إنما شرفهم الله بهذا وأمثاله من الترهات التي أفسدوا بها عقول بني إسرائيل، وقصدوا بها مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم؛ حتى لا يختلطوا بهم، فيندمجوا ويتلاشوا في غيرهم.
والسبب الثاني في تضييق المعيشة والتشديد عليهم: أن اليهود مبددون في شرق البلاد وغربها، فما من جماعة في بلد إلا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة عنهم يظهر لهم الخشونة في دينه والمبالغة في التورع والاحتياط، ويسرع في إنكار كل شيء عليهم، ويوهمهم التنزيه عما هم فيه، وينسبهم إلى قلة الدين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخهم وأهل بلدهم، ويكون في كل ذلك كاذبًا مخادعًا منافقًا، وإنما قصده الرياسة عليهم أو تحصيل غرض منهم، ولا سيما إذا أراد المقام عندهم، فتراه أول ما ينزل عندهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم، ويتأمل سكين ذابحهم، وينكر عليهم بعض أمر الذباح، ويقول: أنا لا آكل إلا من ذباحة يدي، فتراهم معه في عذاب، لا يزال ينكر عليهم الحلال والمباح، ويهمهم تحريمه بإسنادات يخترعها، حتى لات يشكوا في ذلك، فإن وصل من أهل بلده بعد مدة من يعرف أنه كاذب؛ فإما أن يوافقه ليشاركه الرياسة والمغنم وخوفًا أن ينسبه إلى قلة الدين، فيظهر استحسان ما اعتمده القادم الأول من تحريم المباحات وإنكار المحللات، ويقول: لقد عظم الله ثواب فلان إذ قوى ناموس الشرع في قلوب هؤلاء الجماعة، والأول يقول: جزاك الله خيرًا، لقد زين الله بك أهل بلدنا، فإذا انفردا عن الناس تقاسما الغنيمة وتناقشا الحساب وأخذا في المساومة.
فإن أنكر القادم الثاني على الأول لم يبق أحد من أهل البلد يستنصحه ولا يصدقه، بل كلهم ينسبونه إلى قلة الدين؛ لأن هؤلاء القوم يعتقدون أن تضييق المعيشة وتحريم المحللات هو الدين والزهد، وهم أبدًا يعتقدون أن الدين والحق مع من يشدد عليهم، ولا يسألونه دليلًا، ولا يبحثون عن كونه محقًّا أو مبطلًا.
فإن كان القادم أحد الأحبار والعلماء المشهورين، فهناك ترى العيب من الناموس الذي يعتمده والسنن التي يحدثها ويلحقها بالفرائض، ولا يقدر أحدهم على الاعتراض عليه، فتراهم مستسلمين له وهو يحتلب درهم ويجلب بخيله وراء درهم، حتى لو بلغه أن بعض أحداث اليهود جلس على قارعة الطريق يوم السبت واشترى لبنًا من بعض المسلمين، سبه في مجمع من يهود المدينة، وأباحهم عرضه، ونسبه إلى قلة الدين؛ انتهى بتصرف.
فترى من هذا أن الأحبار إنما يحرمون على الناس المحللات، ويضيقون عليهم ما وسع الله؛ سعيًا منهم وراء الرياسة والظهور بمظهر التمسك بالدين والحرص عليه، جريًا وراء الغنيمة المادية، مع أنهم أبعد الناس عن التمسك بالدين كله، بأصله وبما زادوه وافتروه من المحرمات، ويوهمون العامة أنهم مغفور لهم ومعفو عنهم بانتسابهم إلى الدين أو انتمائهم إلى أحد المشهورين الأقدمين من قديسيهم وكهنتهم الأولين، وهم تحت هذا الستار يأتون من الفاحشة والمنكر والفسوق والعصيان ما قست به قلوبهم، فكانت كالحجارة أو أشد قسوة: ﴿ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 62].
وإنما كان هذا حال أحبار بني إسرائيل وشأن علمائهم؛ لأنهم إنما كانوا يتعلمون الدين اتجارًا وصناعة، ومأكلة واصطيادًا لما بأيدي الناس من عرض الدنيا ومتاعها، وليشتروا بالدين وآيات الله ثمنًا قليلًا، فبئس ما يشترون، ما كانوا يتعلمون ليتدينوا به، ويتبعوه ويقيموه حق إقامته، ما كان لهذا الدين أثر في قلوبهم عشر معشار ما كان على ألسنتهم وفي محاوراتهم ومجادلاتهم، وما كان له أثر في نفوسهم وأخلاقهم واحدًا من ألف مما كان في ثيابهم الفضفاضة، وعمائمهم المكورة، ولحاهم العريضة، وأفواههم المتفيهقة، وألفاظهم المنمقة، كل ذلك كان التدين واضحًا فيه ظاهرًا جدًّا، أما النفوس والأخلاق فكانت بريئة من الدين، عدوة للدين، قلوب مثل قلوب الذئاب، ونفوس في التهافت على الدنيا كالذباب، وأخلاق وضيعة تباع بأبخس ثمن لكل من يبذل ولو بعض الثياب، وتجري وراء اللقمة أسرع من جري الكلاب، فإذا جاء وقت الصناعة، وحل ميعاد الوظيفة، أفاض على جسمه من واسع الأردن، ومختلف الأقمشة والألوان ما يستر تلك العورات، ويغطي تلك النقائص الوضيعات، ويبهر عيون الحاضرين والشاهدين، ويزيغ بأبصار وأسماع الوافدين والمستمعين، ثم رقى الدرج متكلفًا السكون والوقار، وتباطأ في الرقي متصنعًا سمت الشيوخ الكبار، حتى إذا ما أخذ مكانه من منبر الخطابة أو منصة التدريس، وقد أحاطوه بكل زخرف زيَّنه لهم ونصحهم به إبليس - قام الشيخ يلقي ما حفظه واستظهره، أو ما نقله في الصحيفة من بطون الكتب وسطره، وأخذ يقيء ذلك في صوت مزعج وحركات مضطربة ونبرات مشوشة، يحذر من أكل أموال الناس بالباطل، ويخوف من يوم الحساب الذي يبعثر فيه ما في القبور ويحصل ما في الصدور، وكثير من المستمعين قد استدان من الشيخ مرارًا بالربا الفاحش، أو قد بذل للشيخ من السحت ثمن التميمة والحجاب، أو أجر الفتوى في تحليل ما حرم الله، أو إلى ذلك مما هو شر مما يحذر الشيخ منه ويخوف يوم الحساب.
والعجب أن الناس قد اصطبغوا هم كذلك بصبغة الشيخ في الدجل والاتجار بالدين، وأصبحوا هم كذلك يأكلون في بطونهم كما رأوا الشيخ يلتهمه في بطنه، فتراهم يمصمصون ويحوقلون ويسترجعون، فإذا تفشت عن أثر لهذا في نفوسهم وأخلاقهم، وجدتها على الضد والنقيض، فالكل مهرجون، والكل متصنعون، والكل كاذبون مستهترون: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾[البقرة: 10]، فهم في ضلالهم سادرون وفي غيِّهم يَعمهون، صم بكم عمي فهم لا يعقلون: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنفال: 23].
هذا شأن الأحبار الذين يلبسون الدين ثوبًا يصيدون به الدنيا، ويحفظون مراسيمه وتقاليده للتجارة والصناعة، مجالسهم لا تخلو من الهمز واللمز لإخوانهم الغائبين ونهش أعراضهم، وربما حكمت الصنعة بتضليلهم، ودعت الظروف إلى تكفيرهم، وقلَّ أن يوجد فيهم من تشتاق نفسه إلى دراسة علمية أو مسألة أخلاقية، أو قصة تهذيبية، أو فكاهة أدبية، أو نحو ذلك مما يصرف الناس به عن نهش الأعراض والهمز واللمز!
وأبرز ما يرى الرائي من تدينهم وأثر التصنع والتكلف لستر بغضهم للدين وجشعهم في الدنيا - أنهم يتسقطون لبعضهم الزلات، ويتمنون لإخوانهم العثرات، وينقبون عن العورات، ويختلقون إذا لم يوجدوا التهم الشنيعات، فلا يكاد أحدهم يهديه أنفه - الذي لا يعرف إلا الجيف والنتن - إلى شيء من ذلك إلا سارع وراء أنفه جريًا، ثم نبشًا بأظفاره وأنيابه وتمزيقًا لأكفان تلك الجيفة، حتى يدعها على قارعة الطريق بأوضح صورة وأبشعها، ثم يدعو الناس إلى التفرج عليها والاستمتاع برؤيتها والتشهير بصاحبها؛ طمعًا في أن هذا يهدمه عند الناس، فيحظى هو بوظيفته أو يرقى إلى مركزه ورتبته، وقد يخطئ أنفه الشم، وتتعدى نفسه الخبيثة التقدير - وهي أبدًا مخطئة؛ لأنها لشدة خبثها ترى الخير دائمًا شرًّا، والشر أبدًا خيرًا - فيذهب ينبش ويمزق وينادي المتفرجين، فإذا به يكشف عورة نفسه ويمزق إهابه، ويظهر الناس على قذره هو خبثه وجهله ودجله، فيَفتضح ويُفتضح، ولكنه يحاول بصفاقة وجهه أن يلصق القذر بغيره، ويدفعه عن نفسه، والعامة مهما بلغوا من الغواية لا بد فيهم من تدعوه فطنته إلى مقت أولئك المتعالمين من الأحبار، ولا بد يومًا من تيقُّظ داعي العقل، فينبذون أولئك الدجالين الذين يأكلون الدين في بطونهم.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد:
"علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلمُّوا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقًّا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدِلاَّء، وفي الحقيقة قطاع الطرق؛ ا .هـ.
ولهذا كان أعلم الخلق بالله وأتقاهم لربه صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إلى العمل بما يدعو إليه، وكانت دعوته العملية أكثر من دعوته الكلامية، ودعوته بخلقه وهديه وسمته وحاله أنفع من دعوته بالخطب، وهكذا كان إخوانه المرسلون عليهم الصلاة والسلام من قبله، قال الله تعالى عن شعيب عليه السلام: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88]، ولذا يقول تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ [الأحزاب: 21].
كان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الجهاد، وهو أول من يلبس لبوس الحرب، ويأخذ أهبتها بالنفس والمال، وكان يدعو إلى الصدقة وهو أول وأفضل وأكرم المتصدقين، وكان يدعو إلى القرآن والاعتصام بحبله، وهو أول المستمسكين به في صدق ويقين راسخ، وفي كل حركة من حركاته، وفي كل نفس وكل ذرة من لحمه ودمه، وفي كل شأن من شؤونه، حتى قالت عائشة رضي الله عنها - وقد سئلت عن أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم -: "أدبه القرآن"، وبهذا كان يبعث من نور هذا اليقين القوي بالقرآن وشعاع هذا الإيمان الراسخ بالقرآن - نورًا على قلوب أصحابه، وإيمانًا على كل من حوله، حتى يقول البدوي الذي يراه لأول وهلة: "والله ما هذا وجه كاذب"، وهكذا الذين صدقوا والمتقون من أصحابه البررة وأتباعهم في كل عصر؛ يقتفون أثره صلى الله عليه وسلم، ويهتدون بهديه، وتكون أعمالهم وأحوالهم وصفاتهم في الدعوة إلى الإسلام وآداب الإسلام وأخلاق الإسلام ومحاسن الإسلام، أظهر وأكثر وأوضح من كلامهم وخطبهم، وإنما امتاز أتباع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وفازوا بأنهم خير أمة أُخرجت للناس، وبأنهم وسط، وبغير ذلك مما أكرمهم الله به، إنما فازوا بذلك لا بكثرة عددهم ولا بكثرة كلامهم وخطبهم، إنما امتازوا بأنهم يقولون ما يفعلون، لسانهم عند عملهم وقلبهم عند جوارحهم، وظاهرهم مع باطنهم، وسرهم مع علانيتهم، لله مخلص، والكل صادق مع الله، والكل متق لله، والكل راج فضل الله ورحمته، يخشى الله ولا يخشى الناس، ولبقاء القرآن وسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه سراجًا منيرا وموردًا عذبًا، وغذاءً نافعًا، لم يكدرهما طول الأيام، ولم يغيرهما كثرة الرد والانتفاع، فيجد أتباع الرسول بُغيتهم من الهدى فيهما في كل زمان ومكان، ويجدون شفاء صدورهم عندهما في كل وقت وأوان، ويمزجونهما بأنفسهم مزجًا تفنى به الأهواء وتتلاشى الآراء، وتنسبك النفس بهما سبكًا لا نرى ولا تسمع ولا تحس، ولا تصدر ولا ترد ولا تتقدم ولا تتأخر إلا بهما، فيتحقق لهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ [فصلت: 30]، ولا تزال طائفة من الأمة على هذا الخير قائمة حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، ومهما غلبت اليهودية والنصرانية، وغيرهما من الأخلاق والعقائد والأعمال والشرور، والتفرق واتباع الأهواء وعبادة المال والشهوات، ومهما كثُر ذلٌّ وغلب - فإن هذه الطائفة لا يغرها تلك الكثرة الساحقة للشرور والفتن، ومهما كثر المحترفون للدين والمتجرون به، والبائعون له بأعراض الدنيا ومتاعها وأهواء الأمراء والعامة، ومهما كثر المختلفون في الكتاب والمخالفون له بما فتنوا من تقليد أعمى وعصبيات جاهلة، واعتزاز بالتقاليد، وغرَّهم بالله الغرورُ، ومهما كثر هؤلاء فإن هذه الطائرة سائرة في طريقها إلى الخير والبر لا تلوي على أحد من هؤلاء، ومهما أقام هؤلاء العقبات في طريق هذه الطائفة ولوَّحوا في وجهها بفتنهم وكيدهم وتهديدهم، وسلاحهم الشيطاني، ومهما أجلبوا عليها وراء أبي مرة قائدهم بخيلهم ورجلهم، وقَضِّهم وقضيضهم، وكبارهم وصغارهم، فإن كل ذلك لا يخذل هذه الطائفة، ولا يفل من عزمها، ولا يهن من قوتها، فهي أبدًا مستجيبة لقول ربها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
بهذه الطائفة تقوم حجة الله على خلقه، وبهذه الطائفة يعتز الحق، وبهذه الطائفة ينتصر الدين، وبهذه الطائفة يرفع الله عن هذه الأمة الخسف والمسخ، وأنواع العذاب التي عاقب بها الماضين، فهم كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه: الذين يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحبوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجموعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي كتاب الله بغير علم.
نعوذ بالله من فتنهم، ونسأله سبحانه - ضارعين إليه ومتوكلين عليه وحده - أن يجعلنا من طائفة أهل الحق الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم من أهل البدع واتباع الأهواء، ونسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يقولون ما يفعلون ويفعلون ما يؤمرون، وأن يجيرنا من مقته وغضبه وسخطه، وأن يوفقنا لكل ما يرضيه.
المصدر: مجلة الهدي النبوي - المجلد الرابع
العدد 40 - 15 صفر سنة 1359هـ