فتاوى نور على الدرب [285]


الحلقة مفرغة

السؤال: ما حكم الشرع يا فضيلة الشيخ في مسجد بداخله مقام ولي من الأولياء ويصلى في هذا المسجد، فهل الصلاة في هذه الحالة تعتبر باطلة أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خير الجزاء.

الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ). قال ذلك تحذيراً مما صنعوا.

فلا يجوز للمسلمين أن يتخذوا القبور مساجد، سواء كانت تلك القبور قبور أولياء أم كانت قبور صالحين لم يصلوا إلى حد الولاية في زعم من اتخذ هذه المساجد عليها، فإن فعلوا -بأن بنو مسجداً على قبر من يرونه ولياً أو صالحاً- فإنه يجب أن يهدم هذا المسجد؛ لأنه مسجد محرم؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد.

أما إذا كان القبر بعد المسجد -يعني: أسس المسجد أولاً ثم دفن فيه الميت- فإنه يجب أن ينبش هذا الميت ويدفن في المقابر، ولا يحل إبقاؤه في المسجد؛ لأن المسجد تعين للصلاة فيه، فلا يجوز أن يتخذ مقبرة، هذا هو الحكم في هذه المسألة.

وبقي لي تنبيه على صيغة السؤال الذي سأله السائل وهو قوله: (ما حكم الشرع في كذا وكذا…) فإن هذا على الإطلاق لا يوجه إلى رجل من الناس يخطئ ويصيب؛ لأنه إذا أخطأ نسب خطأه إلى الشرع، حيث إنه يجيب باسم الشرع باعتبار سؤال السائل ولكن يقيد إذا جاءت الصيغة هكذا فيقال: ما حكم الشرع في نظركم، في رأيكم… وما أشبه ذلك، أو يقول صيغة ثانية: ما رأيكم في كذا وكذا… حتى لا ينسب الخطأ إذا أخطأ المجيب إلى شريعة الله عز وجل، وهذا يرد كثيراً في الأسئلة الموجهة إلى أهل العلم، ويرد أحياناً في الكتب المؤلفة، فتجد الكاتب يقول: نظر الشرع كذا وكذا، حكم الإسلام كذا وكذا، مع أنه إنما هو عنده فقط وحسب اجتهاده، وقد يكون صواباً وقد يكون خطأ.

أما إذا كان الأمر أو إذا كان الحكم حكماً منصوصاً عليه في القرآن واضحاً فلا حرج أن تقول: حكم الشرع، الحكم كذا وكذا، كما لو قلت: حكم الإسلام في الميتة أنها حرام؛ لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]. حكم الإسلام في نكاح الأم والبنت التحريم؛ لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23]. وما أشبه ذلك.

وهذه المسألة ينبغي التفطن لها عند توجيه الأسئلة إلى أهل العلم، وعند كتابة الأحكام في المؤلفات، وكذلك في الخطب والمواعظ، أن لا ينسب إلى الإسلام شيء إلا إذا كان منصوصاً عليه نصاً صريحاً بيناً، وإلا فيقالُ: فيما أرى. أو يقول: يحرم كذا مثلاً، أو يجوز كذا. بدون أن يقول: إن هذا حكم الإسلام؛ لأنه قد يخطئ فيه.

ولهذا كان بعض أهل العلم، بل كان بعض الأئمة من سلف هذه الأمة يحترزون من إطلاق التحريم على شيء لم ينص على تحريمه، وهذا كثير في عبارات الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، يقول: أكره هذا، أو لا يعجبني، أو لا أراه، أو هو قبيح… أو ما أشبه ذلك؛ تحرزاً من أن يطلق التحريم على شيء ليس في الشرع ما يدل على التحريم فيه على وجه صريح.

السؤال: أحمد الله سبحانه وتعالى بأن من علي بالمحافظة على الصلوات الخمس، ولي يا فضيلة الشيخ سؤال بارك الله فيكم أريد أن تجيبوني عليه، وهذا السؤال هو: إذا فاتتني ركعة من صلاة الفجر، وقمت بقضائها، وبعد صلاة الفجر قمت بأداء ركعتي السنة، هل هذا جائز؟ وإذا فعلت هذه الركعتين في البيت قبل حضوري للمسجد لصلاة الفجر، فما الحكم؟ أفيدونا بارك الله فيكم.

الجواب: أولاً: أهنئك بما أنت عليه مما ذكرت عن نفسك من المحافظة على الصلاة، وأسأل الله لي ولك الثبات على الحق.

ثانياً: بالنسبة للجواب على سؤالك: فإنه يجوز للإنسان إذا فاتته سنة الفجر قبل صلاة الفجر، يجوز له أن يقضيها بعد الصلاة إذا انتهى من التسبيح الوارد خلف الصلاة، فإن له أن يقضيها في الحال، وله أن يؤخر القضاء إلى الضحى.

لكن إذا كان يخشى أن ينسى أو يشتغل عنها فإنه يصليها بعد صلاة الفجر.

وأما صلاته إياها في بيته قبل أن يأتي إلى المسجد فهذا هو الأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في بيته، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ).

ولكن إذا علمت أن الصلاة قد أقيمت فإنك لا تصليها في البيت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ). فإذا علمت أن المسجد الذي تريد أن تصلي فيه الفريضة قد أقام الصلاة فلا تصل النافلة، بل اخرج إلى المسجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا ).

السؤال: تسأل عن الحلم بالرز الأبيض، وأنها تحلم كثيراً بهذا، وكان عندها ذهب ليس بكثير -في حدود اثني عشر ألف ريال- وكانت تلبسه، والآن لا يوجد عندها ذهب، وهي الآن تقول: إنني أخاف أن هذا الحلم من أجل الذهب! حيث إنني لا أزكي منه شيئاً. فأرجو من الشيخ محمد إجابة حول هذا.

الجواب: أنا لا أعرف تفسير الرؤيا، ولكني وبسبب كثرة السؤال عن المرائي أقول لإخواني المستمعين: إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمته إذا رأى الإنسان في منامه ما يكره أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتفل عن يساره ثلاثاً ويقول: أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت، ولا يحدث بها أحداً، وينقلب عن جنبه الذي كان نائماً عليه إلى الجنب الآخر، وإن قام وتوضأ وصلى ركعتين فحسن، وحينئذ لا تضره تلك الرؤيا مهما عظمت فداحتها، والإنسان إذا استعمل هذا فإنه يسلم من هموم كثيرة تصيبه في هذه المرائي المزعجة.

وأما بالنسبة للذهب الذي كانت لا تؤدي زكاته: فمن المعلوم أن أهل العلم اختلفوا في وجوب زكاة الذهب، وعند الاختلاف يجب الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى:10]. وقوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]. وإذا رددنا هذا الاختلاف والتنازع بين أهل العلم في وجوب زكاة الذهب، إذا رددنا ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الذي يتبين لي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجوب زكاة في الذهب -في حلي الذهب والفضة- بشرط أن يبلغ النصاب، وهو خمسة وثمانون جراماً من الذهب، فإذا بلغ هذا المقدار وجب على المرأة أن تزكيه كل عام، بأن تقومه عند تمام الحول بما يساوي، ثم تخرج ربع عشر القيمة التي يساويها وقت وجوب الزكاة.

وبما أن العلماء مختلفون في هذا، فإن الإنسان الذي لم يخرج الزكاة فيما سبق ولكن لما علم رجحان القول بالوجوب أخرجها فلا إثم عليه فيما مضى، ولكنه إذا تبين له رجحان القول بالوجوب فإنه يجب عليه أن يزكيه، ولا أظن أن هذه السائلة تركت زكاة حليها وهي تعتقد الوجوب.

السؤال: أبعث لكم بسؤالي هذا: وهو أنني متزوج من زوجتين، واحدة تطيعني، وتقوم بواجبي، وتحب والدي وأقاربي وأولادي الذين ليسوا منها. أما الأخرى فهي لا تطيعني، ولا تسمع كلامي، ولا تحب أولادي الذين من غيرها، ولا تحب أيضاً أقاربي، هل يجوز لي يا فضيلة الشيخ أن أهجرها وأتجنبها؟ علماً أن لي منها أولاداً. أفيدونا مأجورين.

الجواب: هذه الزوجة التي تطيعك وتكرم أقاربك وأولادك من غيرها هي مأجورة ومشكورة على هذا العمل الجليل.

وأما الزوجة الأخرى التي بخلاف ذلك، لا تطيعك، ولا تحب أولادك من غيرها، ولا تحب أقاربك، هذه آثمة إذا لم يكن لنشوزها سبب، وعليها أن تتوب إلى الله عز وجل، وأن تعاشر زوجها بالمعروف، فإن لم تفعل فهي ناشز، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].

فلك في هذه الحال -أي: في حال نشوزها بلا سبب-، لك أن تهجرها في المضجع حتى تستقيم وتقوم بواجبها الذي أوجب الله عليها، لكن في الكلام لا تهجرها؛ لأنه لا يحل لأحد من المؤمنين أن يهجر أخاه المؤمن فوق ثلاث، كما ثبت ذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلك أن تهجرها في الكلام في حدود ثلاثة أيام فقط، وأما في المضجع فلك أن تهجرها ما شئت حتى تقوم بما يجب عليها لك.

السؤال: شخص رجم في اليوم الأول من أيام التشريق الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق اعتقاداً منه أن وقت بعد الزوال يبدأ بعد منتصف النهار -أي: الثانية عشرة- وكان في نيته حين خروجه من منى للرجم أنه تحرى الوقت الصحيح للرجم، وسأل أحد المسلمين بالقرب من الجمرات، فأجابه بأن الوقت -بأن وقت بعد الزوال- هو الثانية عشرة، وحينما عاد لمسكنه بمكة أعلمه أحد الأصدقاء بأن وقت الرجم يحين بعد الثانية عشرة والنصف، وحينها تبين له جهله.

وفي اليوم الثاني رجم بعد أذان الظهر -أي: الساعة الثانية عشرة وعشرين دقيقة- والآن بعد أن عاد إلى بلاده يسأل فضيلتكم: هل يلزمه هدي بهذه الحالة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.

الجواب: قبل الإجابة على سؤاله أحب أن يكون تعبيره عن الرمي -أي: عن رمي الجمرات- بلفظ الرمي لا بلفظ الرجم؛ وذلك لأن هذا هو التعبير الذي عبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله ). وكلما كان الإنسان في لفظه متبعاً لما في الكتاب والسنة كان أولى وأحرى.

أما بالنسبة لما فعله، فإن رمي الجمرات في أيام التشريق قبل الزوال رمي في غير وقته، وفي غير الحد الذي حدده النبي عليه الصلاة والسلام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرم الجمرات في أيام التشريق إلا بعد الزوال، وقال: ( لتأخذوا عني مناسككم ). ونحن نعلم أن رمي الجمرات قبل زوال الشمس أرفق بالناس وأيسر لهم؛ لأن الشمس لم ترتفع بعد، ولم يكن الحر شديداً، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر الرمي حتى تزول الشمس وعند اشتداد الحر دليل على أنه لا يجوز الرمي قبل ذلك، إذ لو كان جائزاً قبل ذلك ما اختار لأمته الأشق على الأيسر، وقد قال الله تعالى في القرآن حين ذكر مشروعية الصوم، قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]. ورمي الجمرات قبل زوال الشمس من اليسر، ولو كان من شرع الله عز وجل لكان من مراد الله الشرعي ولكان مشروعاً.

وإذا تبين أن رمي الجمرات قبل الزوال قبل الوقت المحدد شرعاً فإنه يكون باطلاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ). أي: مردود على صاحبه.

وقد ذكر أهل العلم أن الإنسان إذا ترك واجباً من واجبات الحج فإن عليه أن يذبح فدية في مكة يوزعها على الفقراء إذا كان قادراً عليها، فإن كان ذلك في مقدورك فافعل إبراء لذمتك واحتياطاً لدينك، وإن لم يكن في مقدورك فليس عليك شيء، ولكن عليك أن تتوب إلى الله عز وجل وتستغفره، وأن تتحرى لدينك في كل شرائع الدين وشعائره؛ حتى تعبد الله على بصيرة.

السؤال: هل يجوز الاستخدام الظاهري للروائح والعطور التي تحتوي على نسبة من الكحول، كما في تطهير الجروح وغيرها؟ أفيدونا أفادكم الله.

الجواب: هذا السؤال يحتاج في الجواب عليه إلى أمرين:

الأمر الأول: هل الخمر نجس أو ليس بنجس؟ وهذا مما اختلف فيه أهل العلم، وأكثر أهل العلم على أن الخمر نجس نجاسة حسية، بمعنى: أنه إذا أصاب الثوب أو البدن أو البقعة وجب التطهر منه. ومن أهل العلم من يقول: إن الخمر ليس بنجس نجاسة حسية؛ وذلك لأن النجاسة حكم شرعي يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل على أن الخمر نجس، وإذا لم يثبت بدليل شرعي أن الخمر نجس فإن الأصل الطهارة، وإذا كان الأصل الطهارة فإن من قضى بنجاسته يطالب بالدليل. قد يقول قائل: الدليل من كتاب الله في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. والرجس بمعنى النجس؛ لقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145]. أي: هذا المطعوم المذكور من الميتة ولحم الخنزير والدم المسفوح، فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145]. أي: نجس، والدليل على أن المراد بالرجس هنا النجس: قول النبي صلى الله عليه وسلم في جلود الميتة: ( يطهرها الماء والقرظ ). فإن قوله: ( يطهرها ) دليل على أنها كانت نجسة، وهذا أمر معلوم عند أهل العلم، فإذا كان الرجس بمعنى النجس فإن قوله تعالى في آية تحريم الخمر: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]. أي: نجس.

ولكن يجاب على ذلك بأن المراد بالرجس هنا: الرجس العملي لا الرجس الحسي، بدليل قوله: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]. وبدليل أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجسة نجاسة حسية كما هو معلوم، والخبر هنا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] خبر عن الأمور الأربعة: عن الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، وإذا كان خبراً عن هذه الأربعة فهو حكم عليها جميعاً بحكم تتساوى فيه.

ثم إن عند القائلين بأن الخمر ليس بنجس نجاسة حسية دليلاً من السنة، فإنه لما نزل تحريم الخمر لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الأواني منها، والصحابة رضي الله عنهم أراقوها في الأسواق؛ ولو كانت نجسة ما أراقوها في الأسواق لما يلزم من تنجيس الأسواق وتنجيس المارين بها، بل قد ثبت في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي أهدى راوية خمر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنها حرمت، فساره رجل -أي: تكلم مع هذا الصحابي رجل آخر سراً- يقول له: بعها. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأخبره أنه يقول له: بعها. فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، ففتح الرجل فم الرواية وأراق الخمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسلها من هذا الخمر ). فدل ذلك على أن الخمر ليس بنجس نجاسة حسية. هذا هو الأمر الأول الذي يحتاجه هذا السؤال.

أما الأمر الثاني: فهو إذا تبين أن الخمر ليس بنجس -وهو القول الراجح عندي- فإن الكحول لا تكون نجسة نجاسة حسية، بل نجاستها معنوية؛ لأن الكحول المسكرة خمر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مسكر خمر ). وإذا كانت خمراً، فإن استعمالها في الشرب والأكل -بأن تمزج في شيء مأكول ويؤكل- حرام بالنص والإجماع.

وأما استعمالها في غير ذلك -كالتطهير من الجراثيم ونحوه- فإنه موضع نظر، فمن تجنبه فهو أحوط، وأنا لا أستطيع أن أقول: إنه حرام، لكني لا أستعمله بنفسي إلا عند الحاجة إلى ذلك، كما لو احتجت لتعقيم جرح أو نحوه، والله أعلم.