فتاوى نور على الدرب [102]


الحلقة مفرغة

السؤال: نرى في الأعوام الماضية بعض الحجاج يهرجون في المسعى وهم يسعون، وبعضهم مثلاً يضحك أو يُصَوِّت للآخر فما حكم مثل هذا العمل في المسعى؟

الجواب: السعي من شعائر الحج؛ لقول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] ، فهو من شعائر الله المشروعة في الحج والعمرة، وهو عبادة من العبادات، واللائق بالمسلم إذا كان في عبادة أن يكون وقوراً وأن يكون خاشعاً لله سبحانه وتعالى مستحضراً عظمة من يتعبد له، ومستحضراً بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)، فكون الإنسان يعبث ويضحك ويمرح ويُصِّوت، هذا وإن كان لا يبطل سعيه لكنه يُنَقُصُه تنقيصاً بالغاً، وربما يصل إلى درجةِ الإبطال إذا فعل ذلك استخفافاً بهذا المشعر أو بهذه الشعيرة، ولهذا يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير)، فالمهم أن الكلام لا يُبطل السعي، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يتكلم إلا بخير في الطواف.

مداخلة: أيهما أشد الكلام في السعي أم الكلام في الطواف؟

الشيخ: الكلام في الطواف أشد؛ لأن الطواف أخص من السعي؛ ولأن الطواف مشروع في كل وقت والطهارة فيه واجبة أو شرط على قول جمهور العلماء، وأما السعي فإنما يشرع في العمرة أو في الحج فقط فلا يكرر، والطهارة ليست شرطاً فيه ولا واجبة.

مداخلة: نرى الآن حول الكعبة أناساً يُطوفون، فإذا التقى الآخر بالآخر سلم عليه وهذا قد يدخل في المباح الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم لكن يواصلون الحديث ويتشعب الحديث حتى يشتغلون في أمور الدنيا؟

الشيخ: هذا لا ينبغي، أما السلام ورده فلا بأس به؛ لأنه من الخير، لكن كونهم يسترسلون في هذا الأمر فهذا لا ينبغي، ثم إن كان الأمر توسع حتى حصل بيع وشراء كان ذلك محرماً؛ لأن البيع والشراء في المساجد محرم ولا سيما في أفضل المساجد وهو بيت الله الحرام.

السؤال: بعض الحجاج يأتون إلى مكة في وقت مبكر، وكل يوم ينزلون إلى الحرم للطواف والجلوس فيه مما يحدث زحمة في الحرم لكثرة القادمين للحج، فهل هذا من السنة وما حكمه وفقكم الله؟

الجواب: ليس من السنة للحاج أن يُكثر الطواف بالبيت، بل السنة في حقه أن يتبع في ذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قدم إلى مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة وطاف طواف القدوم، ثم طاف طواف الإفاضة يوم العيد، ثم طاف طواف الوداع صبيحة اليوم الرابع عشر، فلم يطف بالكعبة إلا ثلاث مرات فقط، وكل هذه الأطوفة أطوفة نسك لابد منها، فعمل بعض الناس الآن بترددهم على البيت في أيام الحج هذا ليس مشروعاً، وقد أقول: إنهم إلى الإثم أقرب منهم إلى الأجر؛ لأنهم يُضَيقون المكان على من يؤدون مناسك الحج والعمرة، وليس ذلك من الأمور المشروعة، فيحصل في فعلهم هذا أذية بدون قصدٍ مشروع، فينبغي للمسلم أن يكون عابداً لله تعالى بحسب الهدى لا بحسب الهوى، فالعبادة طريق مشروع من قبل الله ورسوله وليست طريقاً مشروعاً بحسب ما تهوى، وما أكثر المحبين للخير الذين يعبدون الله تعالى بأهوائهم ولا يتبعون في ذلك ما جاء في شرع الله، وهذا شيء كثير في الحج وفي غيره، ولكن الذي ينبغي للإنسان أن يُعَود نفسه على التعبد لما جاء عن الله ورسوله فقط ويمشي معه، ولو ذهبنا نضرب لذلك أمثلة لكثرت؛ لكننا لا بأس أن نذكر بعض الأمثلة، مثلاً: بعض الناس إذا جاء والإمام راكع تجده يسرع لإدراك الركعة، وهذا خلاف المشروع فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ( لا تسرعوا)، وقال لـ أبي بكرة : ( لا تعد) لمَّا أسرع.

ومن ذلك أيضاً: أن بعض الناس في الطواف يبدءون من قبل الحجر الأسود، ويقولون: نفعل هذا احتياطاً، ولكن الاحتياط حقيقة هو في اتباع السنة، فالمشروع أن يبدءوا من الحجر نفسه، وأن ينتهوا أيضاً بالحجر نفسه، والذي أدعو إليه إخواننا المسلمين أن يكونوا في هذا العمل وغيره متبعين للسنة، بأن يتحروا البداءة من الحجر والانتهاء بالحجر.

ومن ذلك أيضاً أن بعض الناس عندما يتسحر في يوم الصيام يمسك عن الأكل والشرب قبل الفجر معتقداً أن ذلك واجب عليه، حتى إن في بعض المذكرات المواقيت يُقولون: وقت الإمساك وقت الفجر، فيجعلون الوقتين وقتاً للإمساك ووقتاً للفجر، وهذا أيضاً خلاف المشروع، فإن الله تعالى يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( كلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)، فلا وجه لكون الإنسان يحتاط فيمسك قبل طلوع الفجر، وإنما السنة أن يكون كما أمر الله وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد نبه النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن الاحتياط للعبادة بسبقها أمرٌ ليس بالمشروع ولا بالمحبوب إلى الله عز وجل في قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تَقدّموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه)، فهذه ثلاثة أمثلة في الصلاة وفي الحج وفي الصيام.

السؤال: سمعت من بعض الناس أن علماء آخر الزمان يتوسعون في الدين -أي: يبيحون كُلّ شيء- بحيث إنهم يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تأخذوا من علماء آخر الزمان فهم يضلونكم هل هذا حديث صحيح وفقكم الله؟ وأيضاً نجد في هذا العصر ما لم يوجد في العصور السابقة وخاصة من قبل الطاعنين في السن يقولون لكم: أحللتم شيئاً بواسطة المذياع وبواسطة التلفاز وبواسطة الصحف كان محرماً علينا في السابق وكيف يُقال لمثل هؤلاء؟

الجواب: الحديث الذي ذكرت لا أصل له وليس بصحيح، وعلماء الضلال موجودون في أول هذه الأمة من بعد عصر القرون المفضلة إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم والله أعلم، وليس هذا خاصاً بآخر الزمان، فقد ورد في صدر هذه الأمة بعد القرون المفضلة علماء مضلون صاروا أئمة لمن بعدهم في الضلال والدعوة إلى الضلال والعياذ بالله، وليس هذا خاصاً بآخر هذه الأمة، وأما ما نسمعه من بعض كبار السن من إنكارهم ما يسمعون من العلم، فإن هذا من جهلهم في الحقيقة وليس غريباً أن يقع منهم مثل هذا الإنكار؛ لأنهم جهلة ولو كان عندهم علم لكانوا يطلبون -لما سمعوه من هذه العلوم- الدليل فإذا وجدوا الدليل علموا أن ما قيل ليس بجديد، ولكن الذي جَّد هو سماع هؤلاء له، ولا يلزم من تجدد سماع هؤلاء لما سمعوه من العلم أن يكون العلم جديداً، فالواجب على المسلم إذا سمع شيئاً ليس في معلومه من شريعة الله سبحانه وتعالى أن يبحث عن دليل هذا الذي سمع، فإذا كان دليلاً صحيحاً وجب عليه القبول، وإن لم يكن صحيحاً فيجب عليه أن يرفض إذا كان يخالف دليلاً آخر أصح منه.

مداخلة: إذاً نستطيع أن نقول: إن انتشار العلم وكثرة العلماء والبحث هو الذي أدَّى إلى هذه المعرفة التي كانت خافية عليهم؟

الشيخ: نعم هو هذا، لكن في الحقيقة الذي يخشى منه الآن هو أن بعض الناس يتسرعون في الفتوى ولا يحققون ما يقولون، وهذه هي المسألة الخطيرة جداً؛ لأننا نسمع هذا كثيراً ونقرؤه كثيراً وينقل إلينا كثيراً مسائل أُفتي فيها، نعلم أن المفتي لو أنه بحث وفتش لوجد أن الصواب في خلاف ما أفتى به، ولكنه لم يشأ أن يتكلف المشقة في طلب الحق، فتجده يفتي بما يراه، يقول: أرى كذا وأرى كذا، والعامة لا يميزون بين قوله: أرى كذا، وبين قوله: هذا حكم الله، فهم يرون أن من يعتقدونه عالماً أنه إذا قال: أرى كذا فمعناه أن هذا هو الشرع، مع أن الأمر بخلافه، والذي أنصح به إخواني ألا يتسرعوا، فإن التسرع في الفتوى بدون بحث ولا تحقيق وعلم هو في الحقيقة مرض خطير، ويجب على المرء أن يعلم بأنه إذا أفتى بحكم من أحكام الشريعة فإنما هو مبلغ عن شريعة الله سبحانه وتعالى لخلقه وهو مسؤول عن ذلك، فليحذر هذا الأمر العظيم.

مداخلة: إذاً: هل يجوز للمفتى أن يقول: أرى وهو يجد نصاً أو يجد فتوى سابقة؟

الشيخ: إذا كان النص صريحاً فإنه لا يقول: أرى، بل يقول: هذا حكم الله لقوله تعالى أو لقول النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان النص غير صريح فلا حرج أن يقول: أرى؛ لأن الحديث ليس بصريح فيما يقول، وقد يكون رأيه أو فهمه للحديث ليس بصحيح فحينئذٍ يقول: هذا رأي، وأما الرأي المجرد الذي ليس له مستند وبدون علم هذا لا يجوز إطلاقاً أن يفتي به المرء؛ لأنه لو قيل كذلك لكان من الذين يقولون في القرآن برأيهم؛ لأن من قال في القرآن برأيه كما أنه لتفسير القرآن فهو أيضاً لبيان أحكام القرآن والشريعة، فمجرد الرأي لا يجوز الفتوى به حتى يكون له مستند من نص أو إجماع أو قياس صحيح يكون به الرائي من أهل النظر والقياس والمعرفة.

مداخلة: بالنسبة للفتوى إذا كان هناك فتوى سابقة؟

الشيخ: كذلك بالنسبة للفتوى السابقة لا يجب عليه أن يلتزم بها؛ لأن الفتوى السابقة يجوز عليها الخطأ كما يجوز على الفتوى اللاحقة، وإنما يعتمد فيما يفتي إذا استطاع على الكتاب والسنة.

السؤال: هل يجوز للحاج أن يسعى ماشياً بعض الأشواط وراكباً في بعضها الآخر إذا كان يتعب من السير المتواصل؟

الجواب: نعم يجوز ولا حرج عليه في ذلك، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لـ أم سلمة أن تطوف وهي راكبة حيث اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: ( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة).

السؤال: هل يجوز للحاج وهو يسعى أن يجلس أو يقف ليستريح ثم يواصل ويجلس وهكذا؟

الجواب: نعم يجوز له هذا، وقد ذكر أهل العلم أن الموالاة بين أشواط السعي سنة وليست بشرط، وعلى هذا فله أن يستريح ولو طال الزمن ثم يبتدئ السعي، ولكن كلما كانت الأشواط متوالية فهو أفضل بحسب ما يستطيع.

مداخلة: لكن طول هذا الزمن هل يباح له أن يخرج من المسعى؟

الشيخ: نعم، يُباح له أن يخرج من السعي ويقضي حاجته أو يشرب وما أشبه ذلك.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
فتاوى نور على الدرب [707] 3913 استماع
فتاوى نور على الدرب [182] 3693 استماع
فتاوى نور على الدرب [460] 3647 استماع
فتاوى نور على الدرب [380] 3501 استماع
فتاوى نور على الدرب [221] 3496 استماع
فتاوى نور على الدرب [411] 3478 استماع
فتاوى نور على الدرب [21] 3440 استماع
فتاوى نور على الدرب [82] 3438 استماع
فتاوى نور على الدرب [348] 3419 استماع
فتاوى نور على الدرب [708] 3342 استماع