خطب ومحاضرات
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصيام - باب الاعتكاف
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وعندنا في هذا اليوم إن شاء الله تعالى الدرس الأخير من دروس الصيام، وبإنجازه نكون قد أنجزنا كتاب الصيام كاملاً ولله الحمد والمنة، وكتاب الطهارة والحج سبق إنجازه، وكتاب الحج والعمرة سبق في العام الماضي أن أخذنا أكثره وبقي أقله، فنسأل الله أن يعين على إتمامه، وبذلك ننجز القسم المتعلق بالعبادات كاملاً إن شاء الله تعالى.
اليوم عندنا: باب الاعتكاف.
الاعتكاف في اللغة
تركنا الخيل عاكفة عليه مقلِّدة أعنتها صفوناً
فالاعتكاف يدل على الملازمة والمواظبة والحبس والمنع على الشيء أو عن الشيء.
وقد جاء في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] وسوف يأتي، ومثل قوله: يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ [الأعراف:138] أي: حبسوا أنفسهم عليها، ومثل قوله تعالى: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52].. إلى غير ذلك.
ومن الملاحظ أن مادة العكف والعكوف تأتي بعدة صيغ في اللغة العربية:
فتأتي لازمة، أي: غير متعدية، تقول: عكف في المكان، يعني: أقام فيه وأطال اللبث فيه، أو عكف أو اعتكف، اعتكف في المسجد، يعني: مكث فيه وأطال البقاء.
وتأتي معداة بـ(على) تقول: عكف على الشيء، مثل لو أعطيته كتاباً ليقرأه، فتقول: عكف على الكتاب، يعني: خصَّص وقته وأطال المكث لقراءة هذا الكتاب.
وتأتي معداة بالباء، تقول: عكف به، عكف بالشيء.
وتأتي معداة بعن، عكف عن الشيء، يعني: امتنع منه.
وتأتي أيضاً متعدية بنفسها، فتقول: عكف الخيل، يعني: منعها، ومنه قوله تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا [الفتح:25] أي: ممنوعاً، فتقول: عكف الهدي عن المسجد الحرام.
الاعتكاف في الشرع
فألفاظ الفقهاء تدور على هذا المعنى، وهو المكث في المسجد بنية، فاللزوم هو المكث، والمقصود بالطاعة: أن يكون عمله هذا بنية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والعبادة، فلا يدخل فيه ما لو عكف في المسجد لغير نية، مثل: أن يُحبس في المسجد كما أُسر وحبس ثمامة بن أثال -وكان مشركاً- في المسجد أو غير ذلك مما لا يكون فيه قصداً ولا نية، وهذا التعريف الذي ذكره المصنف هو ما يدور عليه غالب قولهم.
الاعتكاف: مأخوذ من عكف، فهو فعل ثلاثي، وهو أصل واحد -كما يقول ابن فارس وغيره- يدل على الحبس والمنع، الحبس عن شيء أو الحبس على شيء، تقول: عكف على كذا، عكف على الصنم مثلاً، يعني: حبس نفسه عليه، كما يقول الله سبحانه وتعالى: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، وتقول: عكف عن كذا، يعني: امتنع عنه، مثل قوله تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح:25] يعني: ممنوعاً، فالحبس على الشيء والحبس عن الشيء كلاهما يسمى عكوفاً أو يسمى اعتكافاً؛ ولذلك يقول عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة:
تركنا الخيل عاكفة عليه مقلِّدة أعنتها صفوناً
فالاعتكاف يدل على الملازمة والمواظبة والحبس والمنع على الشيء أو عن الشيء.
وقد جاء في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] وسوف يأتي، ومثل قوله: يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ [الأعراف:138] أي: حبسوا أنفسهم عليها، ومثل قوله تعالى: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52].. إلى غير ذلك.
ومن الملاحظ أن مادة العكف والعكوف تأتي بعدة صيغ في اللغة العربية:
فتأتي لازمة، أي: غير متعدية، تقول: عكف في المكان، يعني: أقام فيه وأطال اللبث فيه، أو عكف أو اعتكف، اعتكف في المسجد، يعني: مكث فيه وأطال البقاء.
وتأتي معداة بـ(على) تقول: عكف على الشيء، مثل لو أعطيته كتاباً ليقرأه، فتقول: عكف على الكتاب، يعني: خصَّص وقته وأطال المكث لقراءة هذا الكتاب.
وتأتي معداة بالباء، تقول: عكف به، عكف بالشيء.
وتأتي معداة بعن، عكف عن الشيء، يعني: امتنع منه.
وتأتي أيضاً متعدية بنفسها، فتقول: عكف الخيل، يعني: منعها، ومنه قوله تعالى: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا [الفتح:25] أي: ممنوعاً، فتقول: عكف الهدي عن المسجد الحرام.
أما بالنسبة للتعريف الشرعي للاعتكاف فهو كما ذكر المصنف رحمه الله يقول: [ وهو لزوم مسجد لطاعة الله تبارك وتعالى فيه ].
فألفاظ الفقهاء تدور على هذا المعنى، وهو المكث في المسجد بنية، فاللزوم هو المكث، والمقصود بالطاعة: أن يكون عمله هذا بنية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والعبادة، فلا يدخل فيه ما لو عكف في المسجد لغير نية، مثل: أن يُحبس في المسجد كما أُسر وحبس ثمامة بن أثال -وكان مشركاً- في المسجد أو غير ذلك مما لا يكون فيه قصداً ولا نية، وهذا التعريف الذي ذكره المصنف هو ما يدور عليه غالب قولهم.
وقد يسمى الاعتكاف بغير هذا الاسم، فمن أسمائه: الرباط، والرباط يُحمل على هذا المعنى، ومنه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أدلكم على ما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط )، فتلاحظ في هذا المعنى اجتماع الرباط والاعتكاف على معنى لزوم المسجد بنية.
وأيضاً من معانيه: الجوار، وهو يسمى شرعاً بالجوار، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ( وهو مجاور في المسجد )، وكما في حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كنت أجاور في العشر الأواخر من رمضان ) أي: كنت أعتكف، وإن كان الغالب أن لفظ (الجوار) يُطلق على نوع من الاعتكاف وهو المجاورة في المسجد الحرام، فهذا غالب ما يُطلق، وكذلك الرباط غالب ما يُطلق على لزوم الثغور لمحاربة الأعداء، لكن يشمل هذا المعنى وذاك.
حكمة الاعتكاف واضحة وهي أن الاعتكاف ولزوم المساجد فيها القرب إلى الله سبحانه وتعالى والانقطاع عن الناس والتفرُّغ للعبادة والقربة المحضة، وهي في أوقات معينة يصفو فيها قلب العبد ويقبل على ربه ويتخفف من الشواغل، حتى الشواغل التي هي في الأصل مطلوبة، وقد يكون بعضها واجباً، كحقوق الأهل وحقوق الأولاد.. وغير ذلك فإنه بالاعتكاف يمتنع عن هذا كله ويتخلَّص منه ويتفرغ لعبادة الله تعالى وذكره واستغفاره وقراءة القرآن، وفي هذا تصفية للقلب، وهي فترة مؤقتة كما ذكرنا؛ ولهذا حتى في الجاهلية فإن الله سبحانه وتعالى قيَّض رسوله صلى الله عليه وسلم لشيء من ذلك، فكان يجلس في غار حراء الليالي ذوات العدد يتعبَّد أو يتحنَّث -كما قال الزهري - وهو التعبد، ثم يعود إلى أهله فيتزود لمثلها، فكان هذا إرهاصاً وتهيئة للنبي صلى الله عليه وسلم لتحمل تبعات الوحي والرسالة؛ ولهذا قال الله تعالى له: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، فإن تبعة حمل الرسالة، وأداء الأمانة، ومواجهة المشقات، وتحمل أذى الناس، وتحمل ردهم للدعوة واعتراضهم عليها، وتحمل التبعات الناجمة عمن قبلوا الدعوة بما يواجهونه وما يعانونه، والصعوبات النفسية والاجتماعية التي تلقاهم، كل هذا يتطلَّب قدراً ووقتاً يتفرُّغ فيه الإنسان من الصوارف، ويقبل على ربه جل وتعالى، فكان الاعتكاف إرشاداً لمثل هذا المعنى.
وفيه إيحاء وإيماء إلى المعنى الآخر: وهو أنك إذا فرَّغت في رمضان في السنة: عشرة أيام أو أقل أو أكثر للتفرغ للعبادة وذكر الله تعالى واستغفاره وقراءة القرآن والانقطاع عن الناس، فمعنى ذلك: أن الإنسان في بقية وقته منشغل بالاختلاط بالناس وتوجيههم وإرشادهم وإفادتهم والاستفادة منهم؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:7]، فالإنسان مأمور بهذا ومأمور بهذا، ولابد له من كل منهما، فهذا من معنى الاعتكاف ومن حكمته.
أما حكمه، فقال المصنف رحمه الله: [ وهو سنة إلا أن يكون نذراً فيلزم الوفاء به ].
أما كونه سنة فهو محل إجماع من أهل العلم كما ذكره ابن المنذر وغيره.
والدليل على سنيته:
أولاً: الآية الكريمة وهي قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، فهذا دليل على مشروعية الاعتكاف في المساجد.
وكذلك قوله تعالى: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]، هذا في أي سورة؟ في البقرة، وفي سورة الحج: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]، قد يكون معنى القيام: الاعتكاف، فهذا دليل على مشروعيته، وأن الله سبحانه وتعالى جعل المساجد للصلاة وللاعتكاف، وأيضاً دليل على أن الله تعالى قرن الاعتكاف بالطواف وقرنه بالصلاة، فدل على مشروعيته واستحبابه.
وكذلك من السنة: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتكف، كما في الصحيحين من حديث عمر وأبي سعيد وعائشة .. وغيرهم، وكذلك اعتكف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، واعتكف الصحابة رضي الله عنهم، وقال عمر للرسول صلى الله عليه وسلم: أنه نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام أو يوماً أو يوماً وليلة -كما في البخاري - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أوف بنذرك )، والأحاديث في مشروعية الاعتكاف أكثر من أن تُحصر في هذا المقام.
إذاً: هو سنة بالاتفاق، لكن قدر السنية هذا محل اختلاف، فعند الحنفية والشافعية أنه سنة مؤكدة في العشر الأواخر من رمضان، أما عند الحنابلة فإنهم يطلقون السنية ولا يؤكدونها.
ولذلك نقول: إن الاعتكاف ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الاعتكاف المندوب أو المسنون، وهو ما ليس بواجب.
القسم الثاني: الاعتكاف الواجب.
والاعتكاف الواجب يدخل فيه شيئان:
أولاً: النذر، فإذا نذر أن يعتكف، قلَّ أو كثر، قصر أو طال، فإنه يجب عليه الوفاء بالنذر، والدليل على وجوب الوفاء بالنذر قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عائشة : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه )، وكذلك حديث عمر الذي ذكرناه وهو في البخاري : ( يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف يوماً أو ليلة، أو يوماً وليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك )، فهذا دليل على وجوب الوفاء بالنذر؛ لأنه ألزم نفسه بذلك، وقال الله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7].
القسم الثاني من الاعتكاف الواجب وإن كان ليس عند جميع الفقهاء لكن عند بعضهم، وهذا قد يُستفاد من الجلسة الماضية، فقد سبق أن ذكرنا في الجلسة الماضية لو أنه شَرع في صوم مسنون تطوع هل يجب عليه الاستمرار فيه أو لا يجب؟ وذكرنا في المسألة قولين، قول بأنه يجب عليه الاستمرار فيه، والقول الثاني: أنه لا يجب وهو المذهب؛ ولذلك المصنف قال في الدرس الماضي: [ الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ]، فكذلك نقول في الاعتكاف، فيه قولان: بعضهم يقول: إنه إذا شرع في الاعتكاف ولو كان مسنوناً فإنه يجب عليه إتمامه، فعلى هذا القول يكون الاعتكاف الواجب نوعين: الأول: المنذور، الثاني: إذا شرع فيه.
الاعتكاف أولاً: يصح من كل إنسان بشروط: أن يكون مسلماً فلا يصح من كافر، وأن يكون عاقلاً فلا يصح من مجنون، وأن يكون من بالغ أو نقول: من مميز؛ لأنه لا يتصور النية إلا ممن حصل عنده تمييز، وأيضاً: ممكن أن نضيف شرطاً رابعاً: وهو أن يكون طاهراً من الحدث الأكبر، ويدخل في هذا الجنب إذا تعمَّد فإنه لا يصح منه الاعتكاف، ويدخل في ذلك الحائض والنفساء فإنه لا يصح منهما الاعتكاف عند الجمهور؛ لأن هؤلاء ممنوعون من اللبث والمكث في المسجد أصلاً، والاعتكاف إنما هو لُبث ومُكث في المسجد، وهذا رأي الأكثرين، وفي المسألة قول آخر حتى في الحائض والنفساء في جواز مكثها في المسجد إذا أمنت تلويثه.
إذاً: من يصح منه الاعتكاف: المسلم، العاقل، البالغ أو المميز.
ثم يقول المصنف رحمه الله: [ ويصح من المرأة في كل مسجد غيرِ مسجد بيتها]، أو غيرَ مسجد بيتها، يصلح فيه الوجهان. المرأة يصح لها الاعتكاف باتفاق الفقهاء مثل الرجل؛ لأن الأصل في واجبات الشرع وتعليماته أن يدخل فيها الرجل والمرأة على حد سواء، وإن كان الحكم في موضوع الاعتكاف قد يختلف عند بعض الفقهاء، فمثلاً: الحنفية يقولون أحياناً بكراهية الاعتكاف للمرأة، ويكرهونه تنزيهاً ويعتبرون هذا نظير حضورها للجماعات؛ لأنهم يقولون: إن المرأة ليست مأمورة بحضور الجماعة في المسجد وإن كان مأذوناً لها في ذلك، فكذلك ليست مأمورة بالاعتكاف وإن كان مأذوناً لها في ذلك، ولكن نعرف أنه قد ورد في السنة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن، كما قالت عائشة : ( واعتكف أزواجه من بعده )، وكما في قصة الأخبية التي رواها البخاري أنه: ( لما اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم استأذنت أمهات المؤمنين واحدة بعد الأخرى فنصبن الأخبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آلبر يردن؟ آلبر تقولون بهن؟ ثم أمر بنزع الأخبية وتقويضها وترك الاعتكاف في تلك السنة واعتكف في شوال ).
فنقول: هذا دليل على جواز الاعتكاف للمرأة، إلا إذا وجد ما يمنع من ذلك، مثلما قال بعض الفقهاء: المرأة الحسناء الجميلة الشابة إذا كان باعتكافها ضرر أو تعريض نفسها للفتنة فلا شك أن هذا يكون منهياً عنه بخصوصه، وإن كان هذا لا يعكِّر على أصل جواز الاعتكاف للمرأة مطلقاً.
ولكن نقول فيما يخص المرأة المتزوجة: لابد أن يقيد اعتكافها بإذن زوجها؛ لأن الاعتكاف يمنع الزوج من كمال الاستمتاع بها، وإذا كانت المرأة لا تصوم وبعلها شاهد إلا بإذنه -كما سبق- فالاعتكاف من باب أولى؛ ولذلك لا يجوز للمرأة أن تعتكف إلا بإذن زوجها، حتى نص الفقهاء أن المرأة لو اعتكفت بغير إذن زوجها فإنه يجوز له أن يمنعها من الاعتكاف ويخرجها من المعتكف.
قال المصنف: [ في كل مسجد غير مسجد بيتها ].
طبعاً المقصود بمسجد بيتها هو المسجد الخاص الذي تخصصه المرأة لتصلي فيه، وهو عادة يكون حجرة صغيرة، يعني: مكاناً صغيراً، ولا يُقصد بالحجرة: الغرفة، وإنما يُحجَّر بجدار قصير ويكون مخصصاً لصلاة المرأة، فهذا يُسمى مسجد البيت، فهل يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها هذا، أو لابد أن تعتكف في المسجد العام؟
كلام المصنف أنه لا يجوز لها أن تعتكف في مسجد البيت ولابد أن تعتكف في المسجد العام، وهذا هو قول الجمهور: أنها تعتكف في المسجد العام، يعني: في كل مسجد.
سؤال لو كان المسجد العام مهجوراً هل تعتكف فيه المرأة؟
المصنف يقول: [ في كل مسجد ] يعني: هو مسجد مبني، وقد يكون له إمام وقد يكون له مؤذن ومخصص للصلاة لكنه مهجور، هذا يصدق عليه أنه مسجد، هي لا تصلي، لأنها امرأة ليست مطالبة بالجماعة، وهذا هو الشاهد أنه يجوز للمرأة -على كلام المصنف- أنها تعتكف حتى لو كان المسجد مهجوراً أو لا يصلى فيه؛ لأنها غير مطالبة بصلاة الجماعة؛ فلهذا تعتكف في كل مسجد، سواء كان المسجد جامعاً أو غير جامع، وسواء كان مهجوراً أو غير مهجور.
أما مسجد بيتها فالجمهور على أنها لا تعتكف فيه؛ لأنه ليس بمسجد وإنما هو في الحقيقة مصلى هذا مذهب الجمهور؛ وذلك للآيات الكريمة: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج:26]، وللأحاديث الواردة، ولاعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد واعتكاف أزواجه في المسجد، ولو كان الاعتكاف في البيت جائزاً وسائغاً لاعتكف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن بدلاً من الخروج إلى المسجد، وقد روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه (أنه سئل: عن اعتكاف المرأة في بيتها؟ فقال: بدعة، وشر الأعمال عند الله تعالى البدع).
لكن في المسألة قول آخر: أنه يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو القول القديم للشافعي وإن أنكره بعض الشافعية؛ قالوا: لأن هذا المسجد الذي هو في بيتها هو محل صلاتها؛ ولأن بيت المرأة أفضل من المسجد بالنسبة لها في الصلاة، فكذلك هو بالنسبة للاعتكاف.
والقول الأول أرجح: أن المرأة لا تعتكف إلا في مسجد عام.
قال: [ ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ].
يعني: يصح من المرأة في كل مسجد كما قال المصنف، سواء كانت الجماعة تُقام فيه أو لا، والجمعة تقام فيه أو لا، أما بالنسبة للرجل فلا يَعتكف إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، وهذا فيه عدة نقاط:
النقطة الأولى: أن الاعتكاف لابد أن يكون في مسجد، وأرى أن الاقتصار على هذا أولى، أن نقول: الاعتكاف لابد أن يكون في مسجد:
أولاً: لأن هذا محل اتفاق عند جميع الفقهاء: أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج:26].
ثانياً: للسنة النبوية، ولما جاء عن عائشة وعلي وابن عباس وغيرهم.. (أنه لا اعتكاف إلا في المسجد).
الجانب الآخر: أن ما زاد عن كلمة مسجد فإن عليه مؤاخذة وعليه اعتراض، فنحن نقول مثلاً: لابد أن يكون المسجد مما تُصلى فيه الجماعة، هذا صحيح، لكن لو كان هذا الإنسان ممن لا تجب عليه الجماعة ألا يصح الاعتكاف منه؟ مثل المعذور عن الجماعة، والمرأة كما ذكرنا، ومثل ما لو لم يوجد غيره، افترض إنساناً في قرية لا يوجد في القرية غيره وعنده مسجد، هذا المسجد ليس فيه جماعة ومع ذلك يصح فيه الاعتكاف.
إذاً: إذا قيَّدنا المسجد بأن تقام فيه الجماعة أبطلنا اعتكاف هؤلاء، مع أنه حتى الفقهاء الذين يشترطون أن يكون مسجد جماعة يستثنون مثل هذا، مثل: اعتكاف المرأة كما تلاحظون من كلام المصنف مثلاً، يستثنون ما لو لم تكن الجماعة واجبة في حقه.
إذاً: نحن نقول: يصح الاعتكاف في كل مسجد، لكن إن كان المعتكف ممن تجب عليه الجماعة فيجب عليه أن يعتكف في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأنه إن ترك الجماعة فقد فعل مسنوناً وترك واجباً، وإن خرج إلى الجماعة في كل وقت فإن هذا ينافي مقصود الاعتكاف، كونه سوف يخرج خمس مرات في اليوم على الأقل.
إذاً: مقصود المؤلف بقوله: [ في مسجد تقام فيه الجماعة ]، ليصلي المعتكف الجماعة في مسجده ولا يحتاج إلى الخروج أو يترك الجماعة.
والمقصود -أيضاً- بقوله: [ تقام فيه الصلاة ] يعني: وقت الاعتكاف، ولو كانت لا تقام قبله ولا تقام بعده، مثاله: نحن اعتكفنا في مسجد نقيم فيه الصلاة بجماعتنا، هل يصح الاعتكاف هنا أو لا يصح؟ يصح، حتى لو كان المسجد قبل الاعتكاف مهجوراً وبعد الاعتكاف مهجوراً فإن الصلاة قد أقيمت فيه، فصح الاعتكاف فيه؛ لأن من معاني الاعتكاف: انتظار الصلاة، كما جاء في حديث أبي هريرة : ( انتظار الصلاة بعد الصلاة ).
وفي المسألة قول آخر للمالكية والشافعية: وهو أنه يصح الاعتكاف في أي مسجد كان، سواء أقيمت الصلاة فيه أو لم تقم.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية | 3986 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 | 3925 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة | 3854 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض | 3845 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين | 3672 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 | 3625 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض | 3615 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع | 3552 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج | 3516 استماع |
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها | 3444 استماع |