معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن الله جل ذكره شرف أهل العلم الشرعي على غيرهم، فقال سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وقال سبحانه وتعالى مبيناً أنه يرفعهم درجات: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، ولم يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله الزيادة في شيء إلا في العلم؛ لأن العلم فيه زيادة درجاته صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].

وبين الله عز وجل أن أشد الناس له خشية هم العلماء، فقال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى لا يعني في أمثال هذه الآيات علماء الدنيا، كعلماء الحساب أو الهندسة أو الطب أو الصناعة أو الزراعة، أو غير ذلك؛ لأن أكثر هؤلاء لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى فضلاً عن أن يخافه أو يتقيه.

وهؤلاء الذين فرحوا بما عندهم من العلم بظاهر الحياة الدنيا جعل الله علمهم كالجهل في قوله تبارك وتعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:6] * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7]، فأبدل من قوله: (لا يعلمون) قوله: (يعلمون)، فدل على أن هذا العلم ما دام متوقفاً على ظاهر الحياة الدنيا دون أن ينفذ إلى باطن ذلك مما في هذا العلم من آيات ودلائل توحيد الله عز وجل فهو جهل.

والله تبارك وتعالى واصف أهل الكفر وأهل الشرك بالضلال وبالجهل، حتى ولو كانوا على علم بعلوم الدنيا، فقال تبارك وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ [البقرة:118]، وقال أيضاً: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ [البقرة:113] بذلك إلى المشركين، وقال الله تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]، فوصف أكثر أهل الأرض بالجهل على ما كانوا عليه من العلم وعمارة الدنيا ومهارة في الصناعة والزراعة، ونحو ذلك.

بين النبي صلى الله عليه وسلم أن العلم يكون في تناقص، فبين في بعض الأحاديث أن من أشراط الساعة أن يظهر الجهل، ويرفع العلم، فإذا تأملنا واقع الناس اليوم وجدنا ظهور العلم الدنيوي، وانتشار الجهل بأمور الدين، حتى إنك تفاجأ أن من الناس من لا يعرف أصلاً أن الصلاة واجبة، يحكي لي قصة بدايته أن المواظبة على الصلاة كانت في سن الأربعين؛ لأنه وجد كتاباً عند أحد باعة الجرائد عنوانه: حكم تارك الصلاة، وكان وقتها لا يعلم حكم الصلاة، ففوجئ بأن الصلاة واجبة وفريضة، ولا ندري كيف نصدق أو نتخيل أن إنساناً يعيش في وسط المسلمين ثم يجهل أن الصلاة فريضة؟! بل هي عمود الدين الأعظم بعد التوحيد، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وهذه فنانة تائبة تقول: إنها لم تكن تعرف أصلاً أن الحجاب واجب، وإنما كانت تعرف أن الحجاب شيء اختياري. ومظاهر الغربة في الدين في هذا الزمان كلها ناشئة عن أن الجهل بالعلم الديني هو الذي يشيع، ومع اجتهاد الناس في تحصيل علوم الدنيا، ولو على حساب الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة)، فهو في غاية الاجتهاد في تعلم أمور الدنيا، فإن كان نجاراً فهو يعرف أنواع الخشب وكذا وكذا، وإن كان مهندساً في السيارات فهو يعرف جميع ماركات السيارات وخصائصها وكذا وكذا، بل من الناس من يحفظ أسماء لاعبي الفرق في كرة القدم، وتفاصيل حياتهم الشخصية في كل أقطار الأرض، وغير ذلك من هذه التفاهات، مع أن ذلك لا يغني عنه عند الله سبحانه وتعالى شيئاً.

إن العلم الذي ينبغي أن ينصرف إليه الفهم عندما تطلق كلمة العلم أو العلماء في القرآن أو السنة هو العلم الذي هو أشرف علم في الوجود وهو العلم بالله وبدين الله تبارك وتعالى وبحقوق هذا الدين.

هذا العلم هو الذي جاءت به الرسل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو الذي حواه كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

فعلم الدين هو أشرف العلوم على الإطلاق، ولما كان شرف العلم بشرف المعلوم، يعني: أن العلم يأخذ مرتبته في الشرف بحسب المعلوم الذي يتعلم عن طريق هذا العلم، ولا شك أن علم الطب -مثلاً- أشرف من علم الحشرات، مع أن هذا علم وهذا علم، لكن حتى علوم الدنيا تتفاضل؛ لأن موضوع هذا الحشرات، أما هذا فموضوعه رأس مال الإنسان في هذه الحياة وهو الصحة، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب شرف موضوعها.

فعلوم الدين بلا شك هي أشرف من علوم الدنيا، ثم إن علوم الدين نفسها تتفاوت في الشرف: فمنها علوم خادمة، ومنها علوم مخدومة، فالعلوم الخادمة التي هي علوم الوسائل: كعلوم النحو، والصرف، واللغة، ونحو ذلك من العلوم التي هي آلات في فهم الكتاب والسنة، أما العلوم المخدومة فهي الأشرف: كعلم الفقه، وعلم الحديث، وعلم التفسير، ونحو ذلك من علوم الشرع الكريم، لكن أعظم علم فيه على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأنه إذا كان شرف العلم بشرف المعلوم، فإن علم التوحيد موضوعه هو معرفة الله سبحانه وتعالى؛ فيه نعرف الله عز وجل؛ ولأجل ذلك فإن العلم بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله عز وجل وبتوحيده هو أشرف العلوم على الإطلاق في هذا الوجود، فأشرف العلوم الشرعية هو العلم بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ لتعلقها بأشرف معلوم وهو الله سبحانه وتعالى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة. يعني: أن الآيات التي فيها صفات الله عز وجل وأسماؤه الحسنى أكثر بكثير جداً من الآيات التي فيها نعيم الجنة من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد، فأعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب : (أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.. [البقرة:255]، إلى آخر آية الكرسي، فضرب بيده في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر !)، وهذا الحديث رواه مسلم ، وهو دليل على أن أشرف آية في القرآن الكريم كله هي آية الكرسي، وإذا تأملنا آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن الكريم نجد أنه ليس فيها أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام، وليس فيها إلا الإخبار عن صفة الله، وما الذي يليق به فنثبته له، وما الذي لا يليق فننفيه عنه عز وجل، فقوله: (الله لا إله إلا هو) (لا إله) هذا هو الكفر بالطاغوت، (إلا هو) إثبات التوحيد لله عز وجل، وهكذا بقيتها في صفة الله عز وجل، قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255].

وكذلك أفضل سورة في القرآن الكريم هي سورة أم القرآن؛ سورة الفاتحة، كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح حين قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها -أي: مثل سورة الفاتحة- ، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) ، وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد، كما هو معلوم.

وقد ثبت في الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، تعدل ثلث القرآن، وليس في: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) التي لها هذه المنزلة العظيمة أو العظمى سوى الإخبار عن صفة الله سبحانه وتعالى، وكيف نعرف الله. وكما نلاحظ أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى منصبة على أسلوب التلقين؛ لأن الله لا نعرفه بالعقل، كما يشيع على ألسنة بعض عوام الناس؛ حيث تسمع منهم من يقول: ربنا عرفناه بالعقل، فنتدبر بالعقل في آيات الله وفي صفات الله، وصفات الله سبحانه وتعالى قد تعرف عن طريق التأمل في آياته التي تدل على توحيده، لكن معرفة الله أساساً إنما تكون عن طريق الوحي الذي أوحاه إلى أنبيائه، فبه يتعرف العباد على ربهم، فيتعرفون أن له تسعة وتسعين اسماً من الأسماء الحسنى، وأنه على العرش استوى، وأن له كذا، وأنه يحب كذا، وأنه يبغض كذا، وهكذا، فهذا يأتي عن طريق التلقين، وليس عن طريق الاجتهاد العقلي؛ لأن العقل لا يمكن أبداً أن يدرك صفات الله سبحانه وتعالى، ولا ما هي أسماء الله، ولا غير ذلك، بدليل: أن أسماء الله عز وجل كثيرة لا تختص بتسعة وتسعين، لكن الذي أخبرنا به هو التسعة والتسعين، قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة)، وقال عليه الصلاة السلام في الدعاء: (أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فهذا يدل على أن لله أسماء لم نطلع عليها، ولا سبيل إلى الاطلاع عليها؛ لأن السبيل الوحيد هو الوحي، وقد انقطع الوحي، وهي غير موجودة فيما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر الصحابي الذي كان يختم القراءة في الصلاة في كل ركعة بـ (قل هو الله أحد)، فأخبر قومه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فسأله عن سبب ذلك؟ فقال: إني أحبها؛ لأنها صفة الرحمن، فأخبره عليه الصلاة والسلام: بأن الله سبحانه وتعالى يحبه) والحديث متفق عليه، فبين أن الله يحب من يحب الثناء عليه بذكر صفاته وأسمائه عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يذكر بهذه الصفات العظيمة والأسماء الحسنى.

والعلم بأسماء الله جل ثناؤه وصفاته ومعرفة معانيها يحدث خشية ورهبة في قلب العبد، فمن عرف أن الله بكل شيء عليم، وأنه لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد، ويؤمن بذلك فإنه يكون أشد خوفاً ممن لا يعلم ذلك، سبق أن تكلمنا في تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [النحل:105] وقلنا: إن: (إنما) تفيد الحصر، فكأن صفة الكذب لا توجد إلا فيمن لا يؤمن بآيات الله، ولذلك المؤمن لا يكون كذاباً، كما جاء في الحديث؛ لذلك فإن من أخلاق من يؤمن بآيات الله أنه يتنزه عن الكذب، فهذه لفتة إلى أثر الإيمان بصفات الله سبحانه تعالى وبآيات الله في سلوك الإنسان.

ومن يعلم أن الله لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير أتقى ممن لا يعلم، وهكذا في سائر الأسماء والصفات، ولهذا قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى في الآية: إنما يخاف الله فيتقي عقابه بطاعته العلماء بقدرته على ما يشاء من شيء، وأنه يفعل ما يريد؛ لأن من علم ذلك وأيقن بعقابه على معصيته فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه.

إذاً: العلم بالله سبحانه وتعالى يدعو إلى محبته وخشيته ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه، وفي هذا فوز العبد وسعادته في الدارين، ولا يمكن معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى وفهم معانيها، والعلم بالله عز وجل هو أحد أركان الإيمان، بل هو أصل الإيمان كله، وما بعده تبع له، وليس الإيمان مجرد أن تقول: آمنت بالله من غير علم ومعرفة بالله، بل إن حقيقة الإيمان أن يعرف الرب الذي يؤمن به، ولذلك جاء في الحديث أنه لما أرسل عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فإذا لقيتهم فليكن أول ما تدعوه إليه أن يوحدوا الله، ثم قال: فإذا هم عرفوا الله فأخبرهم: أن الله افترض عليهم خمس صلوات)، فجعل أول واجب هو معرفة الله سبحانه وتعالى، وفي بعض الروايات: (فإذا هم وحدوا الله).

يجب على الإنسان أن يبذل جهده في معرفة أسماء الله وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب علم العبد بربه تكون درجة إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه أزداد إيمانه، والطريق الشرعي للعلم بالله وبأسمائه وصفاته هو تدبر القرآن والسنة وما جاء فيهما.

ثم إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] أي: ليعبدوني وحدي، ولا يمكن أن يعبدوه دون أن يعرفوه، فلابد من معرفتهم له سبحانه ليحققوا الغاية المطلوبة منهم والحكمة من خلقهم، والعبادة لا تصح من الكافر؛ لأن الكافر لا تصح نيته، والمؤمن تصح منه العبادة؛ لأنه ينوي التقرب بها إلى الله، والكافر لا يعرف الله، فكيف تصح منه العبادة لو أتاها دون أن يدخل في الإسلام؟! فالنصراني -مثلاً- إذا صلى أو حج أو فعل أي شيء من أفعال القرب يتقرب إلى المسيح فقد أخطأ وضل الطريق، كما وصفهم الله بالضالين، فلا يمكن أن تصح عبادته وهو لا يعرف الله، ولا يعرف ما الذي يليق به، وما الذي ينبغي أن ينزه الله سبحانه وتعالى عنه، فالاشتغال بمعرفة الله عز وجل هو اشتغال بما خلق العبد من أجله، فالوظيفة التي خلقت من أجلها أيها الإنسان! أن تعرف الله؛ لأنه لا يمكن أن تعبده وأنت لا تعرفه، وترك هذا العلم وتضييعه إهمال لما خلقت له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة وفضله عليه عظيماً متوالياً من كل وجه أن يكون جاهلاً بربه معرضاً عن معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته، والعالم بالله تعالى حقيقة يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأن الله لا يفعل إلا ما هو من مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل، وكذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة، وهذا العلم أعظم وأشهر من أن ينبه عليه، كما قال الشاعر:

وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل؟!

قال أبو القاسم التيمي الأصبهاني في بيان أهمية معرفة الأسماء الحسنى: قال بعض العلماء: أول فرض فرض الله على خلقه معرفته؛ فإذا عرفه الناس عبدوه. يعني: أن معرفة الله هي أول فرض أوجبه الله على عباده، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، وبدأ القرآن بالبسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، يعني: أن أول شيء في القرآن هو البسملة، وفيها البداءة بأسماء الله: الله، الرحمن، الرحيم، ونزل الوحي أول ما نزل آمراً النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتدبر آيات الله كلها من خلال النظر في أسمائه الحسنى، قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فليس من علم ولا فهم إلا ويوصل إليه من خلال أسماء الله عز وجل الحسنى، والعلم بالأسماء الحسنى هو أساس قبول الدعاء؛ فإنك إذا لم تعرف من تدعوه فكيف تتوجه إليه، وإذا لم تعرف صفاته فكيف تتوجه إليه بالدعاء، ولذلك مما يدل على توجه العبد بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى معرفته بأسماء الله وصفاته.

والدعاء يرادف في القرآن العبادة ويعتوران، يعني: يتبادلان المواقع، فأحياناً تعبر العبادة بالدعاء والعكس؛ لأن الدعاء من أظهر أنواع العبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة، وقرأ قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]) ، فمجرد توجهك في الدعاء إلى الله يعني أشياء كثيرة جداً: يعني: إثبات وجود الله؛ لأن العدم لا يدعى، ويعني: إثبات رحمة الله؛ لأن القاسي لا يدعى، ويعني: إثبات كرم الله وجوده؛ لأن البخيل لا يدعى، ويعني إثبات كذا وكذا وكذا من الصفات التي يعبر أو يعكس إيمانك بها دعاؤك الله عز وجل.

كذلك العلم بأسماء الله الحسنى ينشئ حب الله تبارك وتعالى ويقويه في قلب المؤمن لما فيها من كمال وجلال وجمال.

قال بعض أهل العلم: لو أراد رجل أن يتزوج إلى رجل أو يزوجه أو يعامله طلب أن يعرف اسمه وكنيته واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطته أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها. والله تعالى أعلم.

إن العلم بأسماء الله عز وجل ومعرفة معانيها ودلالتها، وآثار الإيمان بها من أعظم المقاصد، بل هو أصل للعلم بكل المعلومات.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سوى الله سبحانه وتعالى إما أن تكون خلقاً له تعالى، أو أمراً. إما خلق وإما أمر، إما علم بما كونه -يعني: بما خلقه- أو علم بما شرعه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، فالأمور التكوينية، والأمور الشرعية كلاهما يصدران عن أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه، فالأمر كله مصدره الأسماء الحسنى، وهذا كله حسن لا يخرج عن مصالح العباد، والرأفة والرحمة بهم، والإحسان إليهم بتكليفهم بما أمرهم به، ونهاهم عنه.

فأمره سبحانه وتعالى كله مصلحة وحكمة ورحمة، ولطف وإحسان؛ إذ مصدره أسماؤه الحسنى، فلا تفاوت في خلقه، ولا عبث، ولم يخلق خلقه باطلاً ولا سدى ولا عبثاً، وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده -يعني: لا يمكن أنه يكون موجوداً إلا أن يوجده الله سبحانه وتعالى- فوجود من سواه تابع لوجوده عز وجل، تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم بها أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي أحصى جميع العلوم؛ إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها، ومرتبطة بها.

ذكر الشيخ محمد بن حمد الحمود حفظه الله في كتابه: (النهج الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) مقدمة يسيرة حول مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء الحسنى فقال: مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء الحسنى هو مذهبهم في الصفات عموماً، وذلك أن أسماء الله سبحانه وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء، وهي أوصاف، ولذلك كانت حسنى. والذي درج عليه سلف الأمة ومن تابعهم بإحسان، واتفقوا عليه: هو الإقرار والتصديق بآيات الأسماء والصفات وأحاديثها، وإمرارها كما جاءت، وإثباتها دون تشبيه أو تعطيل أو تحريف أو تأويل. عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى -وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به- يقول: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فمن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالروية والفكر، ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها، ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. انتهى كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وإسناده إليه صحيح. وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أيضاً في الرسالة: ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه سبحانه وتعالى. وعن محمد بن إسماعيل الترمذي قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيهاً. وقال الترمذي بعدما روى حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره) إلى آخر الحديث: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث، وما يشبه هذا من الروايات في الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا قالوا: قد ثبتت الروايات في هذا، ويؤمن بها، ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا روي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية فأنكروا هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه: اليد والسمع والبصر، فتأولوا هذه الآيات، وفسروها على غير ما فسرها أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق بيده، وقالوا: إنما معنى اليد القوة. وقال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا تشبيه، أما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف؟ ولا يقول: مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهاً، فهو كما قال تبارك في كتابه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. انتهى من سنن الترمذي رحمه الله تعالى. إذاً: إثبات الأسماء والصفات كلها تنحصر فيما هو ظاهر هذه الأسماء والصفات إذا أطلقت في حق الله تبارك وتعالى. والصحيح أن يقال: ظاهرها هو ما يليق بالله، فلا ينبغي أن تصرف النصوص عن ظاهرها، أما من قال: إن ظاهرها هو التشبيه فهذا فر من ذلك إلى التعطيل؛ لأنه فهم منها التشبيه، فوقع في التشبيه أولاً، فنفر من التشبيه إلى التعطيل، تعالى الله عن ذلك. فهو فر من فساد إلى فساد، لكن أهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات والأسماء بلا كيف، وهذا هو مذهب الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رحمه الله تعالى، الذي رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وترك ما كان عليه من علم الكلام المبتدع المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر نصوصاً في ذلك في (مقالات الإسلاميين) وهو كتاب للإمام الأشعري رجع فيه إلى مذهب أهل السنة والجماعة. قال رحمه الله في كتابه (اختلاف المصلين ومقالات المسلمين) بعد أن ذكر فرق الخوارج، والروافض، والجهمية وغيرهم: ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث: جملة قولهم: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئاً، وأن الله على عرشه، كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]. وأن له يدين بلا كيف، كما قال: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]. وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علماً، كما قال تعالى: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]. وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة ... إلى آخر كلام الأشعري في إثبات الصفات. وهذه العقيدة هي التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهي التي تلقاها التابعون منهم، وتواصوا بها جيلاً بعد جيل، محذرين بعضهم البعض من مخالفتها، والميل عنها، ودان بهذه العقيدة أئمة السلف الماضين من المحدثين والفقهاء، والمفسرين، واللغويين، والمصنفين، وكيف لا تكون هذه هي العقيدة صحيحة والله قد زكى اعتقاد نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين بقوله جل ثناؤه: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] ؟ فتأمل قوله: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137] ففيه إشارة إلى أن الإنسان لا يهتدي إلا بهذه المثلية، وذلك بأن تكون عقيدتهم مثل عقيدة الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ومن تبعهم بإحسان، قال عز وجل: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:137-138]. فمذهب أهل الحق إثبات الأسماء الحسنى الواردة في الكتاب العزيز، وفي السنة المطهرة، والإيمان بها، وبما دلت عليه من المعاني، والإيمان بما تعلق بها من آثار، فمثلاً: نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى رحيم، ومعناه: أنه ذو رحمة، ومن آثار هذا الاسم: أنه يرحم من يشاء. ومثال ثانٍ: نؤمن بأن الله قدير، ومعناه: أنه ذو قدره، ومن آثار هذا الاسم: أنه على كل شيء قدير، وهكذا القول في جميع الأسماء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: ولو ذكرنا قول كل من له كلام في إثبات الصفات من الأئمة لاتسع الخرق، وإذا كان المخالف لا يهتدي بمن ذكرنا أنه يقول: الإجماع على إثباتها من غير تأويلها، أو لا يصدقه في نقله فلا هداه الله. يعني: إن كان لا يملأ عينيه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين والأئمة العظام الأجلة، كالإمام الشافعي والإمام أحمد والإمام أبي حنيفة والإمام مالك وسفيان الثوري ، وكل هؤلاء الأئمة من أئمة أهل السنة وأهل الحديث، إذا كان يخالفهم ويشذ عنهم فيما نقلوه من الإجماع على إثبات الصفات كما يليق بالله سبحانه وتعالى، أو لا يصدقهم فيما نقوله من أن هذه عقيدة السلف. يقول: أي: أنه يدعو على من لم يهتد بمثل ما آمنوا به بألا يهديه الله، فلا هداه الله، ولا خير والله فيمن رد على مثل الزهري ومكحول والأوزاعي والثوري والليث بن سعد ومالك وابن عيينة وابن المبارك ومحمد بن الحسن والشافعي والحميدي وأبي عبيد وأحمد بن حنبل وأبي عيسى الترمذي وابن سريج ، وابن جرير الطبري وابن خزيمة وزكريا الساجي وأبي الحسن الأشعري ، أو لا يقول مثل قولهم من الإجماع. وممن حكى إجماعهم من الخلف الخطابي وأبو بكر الإسماعيلي وأبو القاسم الطبراني وأبو أحمد العسال ... إلى آخر هذه القائمة. إذاً: هذه مقدمة تتعلق بمنهج السلف في إثبات أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، فإنهم قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى فيما بعد لهذه القواعد.

وصف الله سبحانه وتعالى أسماءه بالحسنى في أربع آيات من القرآن العظيم، وهي قوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110]، وقال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8]، وقال أيضاً: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الحشر:24]، قوله: (الحسنى)، هي تأنيث الأحسن، كالكبرى والصغرى تأنيث الأكبر والأصغر، وفي وصف الأسماء بكونها حسنى وجوه: الأول: أن أسماءه سبحانه وتعالى دالة على صفات كمال عظيمة، وبذلك كانت حسنى. ثانياً: أنها حسنى لما وعد الله عليها من الثواب بدخول الجنة لمن أحصاها، فإن من أحصاها دخل الجنة. ثالثاً: أن حسنها شرف العلم بها، فإن شرف العلم بشرف المعلوم، والبارئ عز وجل أشرف المعلومات، فالعلم بأسمائه أشرف العلوم؛ فلذلك كانت حسنى. رابعاً: أن من تمام كونها حسنى: أنه لا يدعى إلا بها، لا يسأل الله سبحانه وتعالى ولا يدعى إلا بهذه الأسماء الحسنى، سواء كان دعاء الثناء والتحميد والتمجيد أو دعاء المسألة والطلب، فلا يسأل الله سبحانه وتعالى إلا بأسمائه الحسنى ولا يثنى عليه إلا بها، قال تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، قوله: (وذروا الذين يلحدون) الإلحاد في اللغة: هو الزيغ والميل والذهاب عن سنن الصواب، ومنه يسمى الملحد ملحداً؛ لأنه مال عن طريق الحق، ومنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه: الملتحد على وزن مفتعل، قال تعالى: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الكهف:27]، أي: لن تجد من تعدل إليه أو تهرب وتميل إليه.

أما التفصيل في صور الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى الحسنى، فإن الإلحاد في أسماء الله عز وجل على أنواع:

تسمية الأصنام بأسماء الله الحسنى

النوع الأول: أن بعض الكفار سموا الأصنام بالأسماء الحسنى، فسموا الأحجار والأشجار والأوثان التي كانوا يعبدونها: آلهة، قال تعالى: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5]، وسموا اللات من الإلهية، يعني: على أنه مؤنث رب الجلالة والعياذ بالله، وسموا العزى من العزيز، ومناة من المنان، فهذا إلحاد؛ لأنهم عدلوا ومالوا بأسمائه الحسنى إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.

وصف الله تعالى وتسميته بالنقائص

النوع الثاني من صور الإلحاد في الأسماء الحسنى: وصف الله تبارك وتعالى وتسميته بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم الدين: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، والعياذ بالله! فهذا إلحاد في أسماء الله أن يوصف الله بما يتضمن النقص، وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق الخلق!! وقولهم لعنهم الله: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، وأمثال ذلك من الإلحاد في أسمائه وصفاته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد نزه الله نفسه عما وصفوه به من الفقر والبخل والإعياء، فالإعياء من جنس العجز المنافي لتمام القدرة، صحيح أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض، وخلق المخلوقات كلها، لكن لم يمسه أدنى تعب أو إعياء معاذ الله، وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، لم يمسه نصب أو إعياء؛ لأن الإعياء هذا من جنس العجز الذي ينافي كمال القدرة، والفقر من جنس الحاجة من الغير الذي يتنافى مع كمال الغنى، والبخل من جنس منع الخير وكراهة الإعطاء المنافي لكمال الرحمة والإحسان والقدرة والرحمة.

تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها

النوع الثالث من صور الإلحاد في أسماء الله الحسنى: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها، وأنها مجرد أعلام فقط، يعني: أسماء لا معنى وراءها، لا تتضمن المعاني التي اشتقت منها، فهي مجرد أعلام، وعليه يكون الجبار مثل الرحيم مثل العزيز، كلها مجرد أعلام مع جحد معانيها وحقائقها، وهذا مذهب الجهمية وأتباعهم، فيطلقون على الله سبحانه وتعالى اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، لكن يقولون: هذه أعلام مجردة لا معنى وراءها، فهم يقولون: سميع بلا سمع! عليم بلا علم! مع أن الله تعالى يقول: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، فهم يفصلون الأسماء عن المعاني، فالله اسمه السميع بلا سمع، البصير بلا بصر، الحي بلا حياة، الرحيم بلا رحمة، المتكلم أو المريد بلا إرادة ولا كلام، لا تقوم به هذا الصفات، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعاً ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإلحاد المشركين وقع بأنهم خلعوا أسماء الله وصفاته وجعلوها لآلهتهم، أما هؤلاء فقد سلبوه صفات كماله وجحدوها وأبطلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه. ثم الجهمية وطوائفها متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمنكوب، وكل من جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليستقل أو ليستكثر، وإذا كان الله سبحانه وتعالى أنكر على المشركين حينما جحدوا اسماً واحداً فقط من أسماء الله، وهو الرحمن، كما قال عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان:60]، مع أنهم كانوا يعرفون الله باسمه الرحمن، لكنه الجحود والنكران، وقال أيضاً: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]، فإذا كان هذا الإنكار في جحد اسم واحد فقط فكيف بحال الجهمية الذين جحدوا جميع صفات الله وأسمائه؟! نعوذ بالله من الخذلان؛ لذلك فإن العلماء يعتبرون الجهمية النفاة المحضة الذين ينفون كل أسماء الله وصفاته كفاراً أكثر من المشركين في شركهم وفي كفرهم، كما سبق أن تكلمنا في ذلك، وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى سبب ضلال الجهمية وأتباعهم فقال: سبب هذا الضلال أن لفظ التمثيل والتشبيه لفظ فيه إجمال، وهؤلاء أنفسهم وجماهير العقلاء يعلمون أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك، ونفي ذلك القدر المشترك ليس هو نفي التمثيل والتشبيه الذي قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، فالتشبيه الذي قام الدليل على نفيه: ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى، إذ هو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولهذا اتفق جميع طوائف المسلمين وغيرهم في الرد على هؤلاء الملاحدة، وبيان أنه ليس كل ما اتفق شيئان في شيء من الأشياء يجب أن يكون أحدهما مثلاً للآخر، يعني: حينما يوصف شخص بأنه عالم، وشخص آخر بأنه عالم، وثالث بأنه عالم، لا يقتضي ذلك تساويهم في درجة العلم، بل يتفاوتون؛ فما بالك إذا وصف المخلوق بالعالم ووصف الله سبحانه وتعالى بالعالم؟! لا شك أن علم الله يختلف تماماً عن علم المخلوقين، فالقاعدة: أن تماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسميات، فالعبد عالم والله عالم، لكن هناك فرق كبير هو تمام الفرق بين الخالق والمخلوق في هذه الصفات، كذلك يقال في: كريم.. حكيم.. عليم، وغير ذلك من هذه الأسماء. ولا يجوز أن ينفى عن الخالق سبحانه كل ما تكون فيه موافقة لغيره في معنىً ما، فإنه يلزم منه أن يكون عدماً بالكلية كما فعله هؤلاء الملاحدة، بل يلزم من ذلك نفي وجوده ونفي عدمه، وهو غاية التناقض والإلحاد والكفر والجهل، انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. فالجهمية هم نفاة الأسماء والصفات، ويقولون: إنما يسمى بها مجازاً! أو المقصود بها غيره! أو لا يعرف معناه! وأصل تلبيسهم هو: أن إطلاق هذه الأسماء على الله فيه تشبيه له بخلقه، ولذا فيجب نفي الأسماء عنه، هذا هو مبلغهم من العلم والعقل، أو بتعبير أدق من الجهل والغباوة! فإنهم قالوا: إننا لو أثبتنا هذه الأسماء لله سبحانه وتعالى، فمعنى ذلك أننا نشبه الله بخلقه، فإذا قلنا: إن الله هو العليم أو العالم، فمعنى ذلك أن فيها صفة لله، فإذاً: هذا معناه أن الله يشبه خلقه! فلا يتحقق التنزيه في زعمهم إلا بنفيه؛ وكل اسم من أسماء الله هو بلا معنى، فهو عليم بلا علم في زعمهم، وهكذا في باقي الصفات. وقال الجهم بن صفوان وهو إمام هؤلاء الجهمية الضلال: لا يجوز أن يوصف الباري سبحانه بصفة يوصف بها خلقه؛ لأن ذلك بزعمه يوجب تشبيهه، وهذا هو السبب في أنهم نفوا جميع أسماء الله وصفاته.

تشبيه صفات الله بصفات خلقه

النوع الرابع من صور الإلحاد في أسماء الله الحسنى: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علواً كبيراً، فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، يعني: كما أن المعطلة الجهمية وغيرهم عطلوا أسماء الله وصفاته الكاملة وجحدوا معانيها، فهؤلاء في الجهة الأخرى شبهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرق هذا الإلحاد، فهؤلاء ألحدوا بأن شبهوا الله بخلقه، وأولئك ألحدوا بأن عطلوا أسماء الله وصفاته، فهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق حتى كأنهم عبدوا صنماً، والجهمية نفوا صفات الخالق وعطلوها حتى كأنهم عبدوا عدماً، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الجهمية تطاول وغلا ورمى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه بالتجسيم، حتى قال ثمامة بن الأشرس -وهو من رؤساء الجهمية- عليه من الله ما يستحق: ثلاثة من الأنبياء مشبهة! موسى حيث قال: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ [الأعراف:155]، وعيسى حيث قال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا..)، إلى آخر الحديث. وجُلُّ المعتزلة تُدخِل عامة الأئمة، فأغلب المعتزلة ينظرون إلى هؤلاء الأئمة بأنهم مشبهون، وهؤلاء الأئمة مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه.. والأوزاعي وأصحابه.. والشافعي وأصحابه.. وأحمد وأصحابه.. وإسحاق بن راهويه.. وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة، فهم يزعمون أن من قال إن الله فوق العرش فقد اعتقد أنه محدود ومحصور، والحدود لا تكون إلا لمخلوق فهذا القول تشبيه!! والسبب أنهم هم الذين شبهوا؛ فلذلك استفظعوا، أما لو لم يشبهوا لأثبتوا الصفة كما تليق بالله، ولما حصل هذا الإلحاد، يقولون أيضاً: إن من قال: إن لله علماً وقدرة وكلاماً فقد جعل الله محلاً للأعراض، وهي لا تقوم إلا بالجواهر فهو مشبه، إلى آخر ما يرمون به الرسل وأتباع الرسل من الألقاب التي يفترونها، تماماً كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم، تارة مجنوناً.. وتارة شاعراً.. وتارة كاهناً.. وتارة مفترياً.

تسمية الله تعالى بما لا يليق بجلاله

النوع الخامس من صور الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى: تسمية الله بما لا يليق بجلاله، كتسمية النصارى له أباً، يسمون الله أباهم، يقولون: أبانا الذي في السماء، فهذا من الإلحاد أن يسموا الله أباً لهم، وتسمية الفلاسفة لله سبحانه وتعالى بأنه الموجد بذاته، أو تسميته بأنه علة فاعلة بالطبع، ومن هذا قول الكرامية: إنه -تعالى الله عما يقولون- جسم أستغفر الله! وقول بعضهم: إنه جوهر.. ونحو ذلك، وكما يقول الماسوني في هذا العصر حينما يصفون الله سبحانه بأنه مهندس الكون الأعظم!! كل هذا من الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى، لكن برأ الله أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت إليه لفظاً ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباته بريئاً من التشبيه، وتنزيههم خالياً من التعطيل. قال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: إن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فالرحيم اسم، لكن في نفس الوقت يتضمن إثبات صفة الرحمة لله عز وجل، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء وهي أوصاف، وبذلك كانت حسنى، هذا هو السبب في كونها حسنى، إذ لو كانت ألفاظاً لا معاني لها لم تكن حسنى، ولم تكن دالة على حسن ولا على كمال، ولساغ وجود الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان وبالعكس، فيقال: لو أن الرحيم أو الغفور مثل المنتقم الجبار لكان للعبد أن يقول مثلاً: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم الجبار؛ لأن الرحيم نفس المنتقم تماماً!! أو مثلاً يقول واحد: اللهم أعطني فإنك أنت الضار المانع!! فهذه الأسماء عبارة عن حروف لا معاني من ورائها! مجرد أعلام بدون أن تكون متضمنةً لمعانيها التي تثبتها؛ ولذلك قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: حقيقة الاسم: كل لفظ جعل للدلالة على المعنى، إن لم يكن مشتقاً، فإن كان مشتقاً فليس باسم إنما هو صفة، يقول: هذا قول النحاة، يعني: أهل اللغة والنحو يجعلون حقيقة الاسم: اللفظ الذي جعل للدلالة على المعنى إن لم يكن مشتقاً، لكن إن كان مشتقاً فهو في هذه الحالة يكون صفة؛ ولذلك حكى عن أبي الحسن بن أخت أبي علي قال: سمعت خالي أبا علي يقول: كنا بمجلس سيف الدولة بحلب وبالحضرة جماعة من أهل المعرفة، فيهم ابن خالويه ... إلى أن قال ابن خالويه في المجلس: أحفظ للسيف خمسين اسماً، فتبسم أبو علي وقال: ما أحفظ إلا اسماً واحداً وهو السيف، فقال ابن خالويه -وهو يحسب أنه لا يعرف فعلاً الأسماء التي تطلق على السيف: فأين المهند؟ وأين الصارم؟ وأين الرسوب؟ وأين المخذم؟ وظل يعدد أسماء السيف، فقال أبو علي بعدما وجده سرد كل هذه الأسماء وهو يعرفها والآخر لا يعرفها، قال له أبو علي : هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرق فيه بين الاسم والصفة، فإذاً: أسماء الله مشتقة من الصفات، فهي أسماء وهي في نفس الوقت أوصاف لله سبحانه وتعالى، يقول ابن القيم : ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها، قال تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، يلحدون في أسمائه كالصور التي ذكرناها، ومنها صور أخرى يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى فيما بعد، كما يفعل الصوفية حين يلحدون في أسماء الله عز وجل بأن يطلقوا على الله أسماء بلغات غير مفهومة ولا واضحة، أو كما يسمون الله بأنه: آه، لما يذكرون الله، فبدل أن يقولوا: الله، يقولون: آه آه، أو: هو هو هو إلى آخره!! فهذا كله من الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى، كما سنبين ذلك بالتفصيل فيما بعد إن شاء الله تعالى، يقول: ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها، قال تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، ولأنها لو لم تدل على معانٍ وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها، لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: اسم القوي، ليس مجرد علم، لكنه يتضمن إثبات صفة القوة، والدليل: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، (ذو القوة) فهذا إثبات لصفة القوة، خلافاً لما يصنعه الملاحدة من الجهمية، فعلم أن القوي من أسمائه ومعناه: الموصوف بالقوة، ذو القوة، كذلك قوله تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10]، (لله العزة) والعزيز اسم من أسماء الله، فالعزيز هو من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قوياً وعزيزاً سبحانه وتعالى، ولذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية: أسماؤه أوصاف مدح كلها مشتقة قد حملت لمعاني إياك والإلحاد فيها إنه كفر معاذ الله من كفران وحقيقة الإلحاد فيها الميل للـ ـإشراك والتعطيل والكفران

النوع الأول: أن بعض الكفار سموا الأصنام بالأسماء الحسنى، فسموا الأحجار والأشجار والأوثان التي كانوا يعبدونها: آلهة، قال تعالى: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5]، وسموا اللات من الإلهية، يعني: على أنه مؤنث رب الجلالة والعياذ بالله، وسموا العزى من العزيز، ومناة من المنان، فهذا إلحاد؛ لأنهم عدلوا ومالوا بأسمائه الحسنى إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.