شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصيام - باب صيام التطوع


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

عندنا اليوم (باب صيام التطوع).

والمقصود بالتطوع: ما سوى الفريضة، فيدخل في التطوع صوم النفل المطلق، مثل أن يصوم أياماً مطلقة، كما يدخل فيه صوم أيام معلومة كصوم يوم عرفة لغير الحاج أو صوم يوم عاشوراء.

وأما القسم الآخر: فهو صوم الفريضة ويدخل فيه: صوم شهر رمضان باعتباره أحد أركان الإسلام، وصوم النذر إذا أوجبه على نفسه، وصوم الكفارة: كفارة الجماع في نهار رمضان، أو كفارة الظهار أو غيرها من الكفارات.

ورد في فضل صوم التطوع أحاديث من أشهرها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صام يوماً في سبيل الله باعد الله تعالى بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً ).

والمقصود بقوله: (في سبيل الله) والله أعلم: أي: ابتغاء مرضاة الله، ولا يخص ذلك الصوم في الجهاد في السفر ؛ لأن صوم السفر ليس أفضل بكل حال من صوم الحضر، فلا يظهر وجه لتخصيصه، وإنما المقصود: الصوم احتساباً لوجه الله تعالى، كما جاء في الحديث الآخر المشهور: ( أن في الجنة باباً يقال له: الريان يدخل منه الصائمون ).

والأظهر والله أعلم: أن هذا وذاك يدخل فيهما صوم الفرض وصوم النفل، فلا مانع من إرادة صوم الفريضة أيضاً بهذا الفضل، والفرض أفضل من النفل.

الفرق بين صوم النفل وصوم الفرض

المصنف رحمه الله ذكر عدة مسائل:

منها: الأيام التي يستحب صيامها، ومنها: بعض الأحكام المتعلقة بصوم النفل، ومنها: ما يتعلق بحكم ليلة القدر، ولم يتعرض إلى الفرق بين صوم الفرض وصوم النفل.

وبين صوم النفل والفرض فروق، منها:

الفرق الأول: النية، فإن الفرض لابد له من تبييت النية: ( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل )، حديث عند أهل السنن.

وأما النفل فلا يجب له تبييت النية؛ ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً، فقال لها: ( هل عندكم شيء؟ قالت: لا والله يا رسول الله، قال: فإني إذاً صائم )، ولم يكن نوى الصيام إلا لما لم يجد عندها شيئاً، فهذا دليل على جواز الصوم من غير تبييت النية حتى لو أنه لم ينوِ الصيام إلا بعد الفجر أو بعد طلوع الشمس أو حتى بعد الزوال كما يذهب إليه الحنابلة والشافعية في أحد القولين عندهم، فإن ذلك جائز؛ بشرط: أن لا يكون ارتكب مفطراً من أكل أو شرب، فهذا لا يكون صائماً، إنما لو ظل ممسكاً ثم لم ينوِ الصيام يعني: تأخر في النية إلى ما بعد الفجر أو بعد الشمس؛ فإنه ليس عليه في ذلك شيء، هذا هو الفرق الأول.

الفرق الثاني: أنه بالنسبة للفرض يجب عليه أن يتمه، وهذا مما أشار إليه المصنف في آخر الباب، أما بالنسبة للنفل: فلا يلزم بالشروع فيه عند الشافعية والحنابلة، أي: يجوز له أن يفطر، وإن كان ناوياً، والدليل على هذا أيضاً ما رواه مسلم عن عائشة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً، فقالت له: يا رسول الله! أهدي لنا حيس، فقال: قربوه فإني قد أصبحت صائماً، فأكل منه عليه الصلاة والسلام )، فدل هذا على أنه يجوز للإنسان إذا صام تطوعاً أن يفطر، وهذا هو الصحيح بدلالة الحديث وهو مذهب الشافعية والحنابلة.

بينما يرى المالكية والأحناف: أنه يجب عليه إذا شرع في صوم النفل أن يتمه، ويستدلون أيضاً بما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دُعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصلِّ، وإن كان مفطراً فليطعم )، إن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصلِّ، ما معنى (يصلي)؟ يعني: يدعو لأهل الوليمة، وهذا واضح.

لكن وجه الاستدلال بالحديث فيه إشكال؛ لأنه لا دلالة في الحديث على أنه لا يجوز له الفطر، بل نقول: إن الفطر جائز والإمساك جائز أيضاً، وقد يكون هذا أفضل، وقد يكون هذا أفضل، فالفضيلة -مثلاً-: لو كان في الفطر جبر لخاطر الداعي، أو إكراماً لضيفه، أو براً بوالديه لو أصروا عليه بالفطر أو ما أشبه ذلك من المصالح، فيكون الفطر حينئذٍ أولى به من الاستمرار في الصوم، والصيام والإمساك والاستمرار أولى إذا لم يكن ثمة شيء من ذلك، فيكون استمراره فيما شرع فيه من النفل أفضل من قطعه.

كذلك مما يفرق به، نفس الكلام بالنسبة للقضاء هل يقضي أو لا يقضي؟

الشافعية والحنابلة لأنه يجوز له الفطر عندهم لا يرون عليه القضاء. والآخرون: يرون أنه يقضي، وهذا ممكن أن يجعل فرقاً مستقلاً أو يلحق بالسابق.

أيضاً من الفروق: أن النفل لا يجوز للمرأة أن تصومه وزوجها شاهد إلا بإذنه، بينما الفرض لا يستأذن فيه زوج ولا غيره، وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه )، وهذا باتفاق الفقهاء فيما ذكره غير واحد: أنه لا يحل للمرأة أن تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها بخلاف الفريضة، فهذه -تقريباً- أربعة فروق ويمكن الزيادة عليها.

المصنف رحمه الله ذكر عدة مسائل:

منها: الأيام التي يستحب صيامها، ومنها: بعض الأحكام المتعلقة بصوم النفل، ومنها: ما يتعلق بحكم ليلة القدر، ولم يتعرض إلى الفرق بين صوم الفرض وصوم النفل.

وبين صوم النفل والفرض فروق، منها:

الفرق الأول: النية، فإن الفرض لابد له من تبييت النية: ( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل )، حديث عند أهل السنن.

وأما النفل فلا يجب له تبييت النية؛ ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً، فقال لها: ( هل عندكم شيء؟ قالت: لا والله يا رسول الله، قال: فإني إذاً صائم )، ولم يكن نوى الصيام إلا لما لم يجد عندها شيئاً، فهذا دليل على جواز الصوم من غير تبييت النية حتى لو أنه لم ينوِ الصيام إلا بعد الفجر أو بعد طلوع الشمس أو حتى بعد الزوال كما يذهب إليه الحنابلة والشافعية في أحد القولين عندهم، فإن ذلك جائز؛ بشرط: أن لا يكون ارتكب مفطراً من أكل أو شرب، فهذا لا يكون صائماً، إنما لو ظل ممسكاً ثم لم ينوِ الصيام يعني: تأخر في النية إلى ما بعد الفجر أو بعد الشمس؛ فإنه ليس عليه في ذلك شيء، هذا هو الفرق الأول.

الفرق الثاني: أنه بالنسبة للفرض يجب عليه أن يتمه، وهذا مما أشار إليه المصنف في آخر الباب، أما بالنسبة للنفل: فلا يلزم بالشروع فيه عند الشافعية والحنابلة، أي: يجوز له أن يفطر، وإن كان ناوياً، والدليل على هذا أيضاً ما رواه مسلم عن عائشة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً، فقالت له: يا رسول الله! أهدي لنا حيس، فقال: قربوه فإني قد أصبحت صائماً، فأكل منه عليه الصلاة والسلام )، فدل هذا على أنه يجوز للإنسان إذا صام تطوعاً أن يفطر، وهذا هو الصحيح بدلالة الحديث وهو مذهب الشافعية والحنابلة.

بينما يرى المالكية والأحناف: أنه يجب عليه إذا شرع في صوم النفل أن يتمه، ويستدلون أيضاً بما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دُعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصلِّ، وإن كان مفطراً فليطعم )، إن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصلِّ، ما معنى (يصلي)؟ يعني: يدعو لأهل الوليمة، وهذا واضح.

لكن وجه الاستدلال بالحديث فيه إشكال؛ لأنه لا دلالة في الحديث على أنه لا يجوز له الفطر، بل نقول: إن الفطر جائز والإمساك جائز أيضاً، وقد يكون هذا أفضل، وقد يكون هذا أفضل، فالفضيلة -مثلاً-: لو كان في الفطر جبر لخاطر الداعي، أو إكراماً لضيفه، أو براً بوالديه لو أصروا عليه بالفطر أو ما أشبه ذلك من المصالح، فيكون الفطر حينئذٍ أولى به من الاستمرار في الصوم، والصيام والإمساك والاستمرار أولى إذا لم يكن ثمة شيء من ذلك، فيكون استمراره فيما شرع فيه من النفل أفضل من قطعه.

كذلك مما يفرق به، نفس الكلام بالنسبة للقضاء هل يقضي أو لا يقضي؟

الشافعية والحنابلة لأنه يجوز له الفطر عندهم لا يرون عليه القضاء. والآخرون: يرون أنه يقضي، وهذا ممكن أن يجعل فرقاً مستقلاً أو يلحق بالسابق.

أيضاً من الفروق: أن النفل لا يجوز للمرأة أن تصومه وزوجها شاهد إلا بإذنه، بينما الفرض لا يستأذن فيه زوج ولا غيره، وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصوم المرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه )، وهذا باتفاق الفقهاء فيما ذكره غير واحد: أنه لا يحل للمرأة أن تصوم تطوعاً إلا بإذن زوجها بخلاف الفريضة، فهذه -تقريباً- أربعة فروق ويمكن الزيادة عليها.

ننتقل بعد ذلك إلى الفقرة التالية وهي: الأيام التي يشرع صومها.‏

استحباب صيام يوم وإفطار يوم

قال المصنف رحمه الله تعالى: [أفضل الصيام صيام داود عليه السلام: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً].

وهذا اللفظ جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الطويل، وهو حديث متفق عليه: ( لما دعاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكان يصوم النهار ويقوم الليل، ويقول له: صم وأفطر.. إلى أن قال له في آخر الحديث: صم يوماً وأفطر يوماً، قال: يا رسول الله! أطيق أكثر من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، هذا صيام داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً )، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا أفضل الصيام، وأنه ليس صيام أفضل منه، فيكون هذا أفضل من سرد الصوم لمن يصومون الدهر كله، فهذا أفضل الصيام أن يصوم يوماً ويفطر يوماً.

استحباب صيام شهر الله المحرم

ثم قال: [وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم].

وصيام شهر المحرم كله مستحب لهذا الحديث الذي ذكر المصنف رحمه الله وهو: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم )، وقد أخرجه مسلم وأهل السنن.

استحباب صيام عشر ذي الحجة

ثم قال: [وما من أيام -هذا الثالث- العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة].

فصيام عشر ذي الحجة مستحب على ما ذكره المصنف، والدليل على استحبابه: ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه العشر -يعني: عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء )، فهذا دليل على فضل عشر ذي الحجة، وفضل العمل الصالح فيها.

قالوا: ومن العمل الصالح في عشر ذي الحجة الصوم؛ لأنه من الأعمال الصالحة بالاتفاق، فيدخل في عموم الحديث، لكن في هذا بعض النظر، فقد ورد أحاديث مخصصة لمشروعية الصيام في عشر ذي الحجة، مثل ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أفضل الأيام عشر ذي الحجة: صيام يوم منها يعدل صيام سنة، وقيام ليلة منها يعدل قيام ليلة القدر )، هكذا رواه الترمذي، والحقيقة أن هذا الحديث ضعيف السند، مضطرب، رواه الترمذي من طريق مسعود بن واصل عن النهاس بن قهم -بالقاف- وهما ضعيفان، ورجح أئمة الحديث والعلل: أن الحديث مرسل من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب، وليس من طريق سعيد عن أبي هريرة كما رواه الترمذي، فالحديث إذاً مرسل، وهو أيضاً ضعيف، وهو الذي فيه: تخصيص الصيام في العشر.

وبالمقابل: ورد في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صائماً في العشر قط )، وفي رواية: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم العشر قط )، وهذا الحديث أصح وأضبط.

ولذلك فإن الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم عشر ذي الحجة، ولكن عدم صيام النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم منه عدم مشروعية صيامها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يشق به على أمته، أو يشغل عن العمل بما هو أفضل منه وأهم.

ولهذا نقول: لا بأس أن يصوم الإنسان في هذه العشر، وإن لم يكن ورد بخصوص صيامها شيء معين، يعني: لم يصح في فضل صيام العشر شيء كما ذكره ابن رجب في لطائف المعارف، وغيره من أهل العلم، ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم صامها، ولو صامها الإنسان فلا بأس بذلك؛ لأنها من العمل الصالح.

بقي أن نقول: إن العلماء يطلقون العشر، ولا يقصدون الأيام العشرة، وإنما يقصدون ثمانية؛ لأن يوم العيد لا يجوز صيامه أصلاً، وسوف يمر، ويوم عرفة له حكم آخر فهو مستحب أن يصام بالاتفاق، وفيه أحاديث خاصة.

إذاً: الكلام والأخذ والرد والخلاف والأحاديث هي في الأيام الثمانية، يوم التروية والأيام التي قبلها.

استحباب صيام ست من شوال

الرابع مما ذكره المصنف، قال: [ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله].

وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية، وغيرهم: أنه يستحب أن يصوم بعد رمضان ستة أيام من شوال، وأن ذلك صيام الدهر كله، قالوا: لأن الحسنة بعشرة أمثالها، فصوم شهر رمضان يعادل عشرة شهور، وصوم ستة أيام يعادل ستين يوماً، أي: شهرين، فيكون كأنه صام الدهر كله.

ومما يدل على استحباب صيام الست من شوال: ما رواه مسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله )، وهذا حجة للجمهور -كما ذكرنا- وقد نقل عن أبي حنيفة : أنه كان لا يرى صوم الست خشية أن تعد هذه الست من رمضان، وكذلك جاء عن الإمام مالك رحمه الله: أنه كان يكره صيامها خشية أن يلحق برمضان ما ليس منه.

ولا شك أن ما ذكروه استحسان، وأن النص مقدم على ذلك، ولهذا نقول: قول الجمهور هو الصحيح في استحباب صيام ستة أيام من شوال.

استحباب صيام يوم عرفة وصيام يوم عاشوراء

الخامس: [ وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة، وصيام يوم عرفة كفارة سنتين ].

هذا الخامس والسادس، وقد اجتمع في حديث أبي قتادة الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صيام يوم عرفة أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله )، والحديث رواه مسلم، فهذا دليل على فضل صيام هذين اليومين وأنهما من أفضل الأيام.

أما يوم عرفة : فيستحب صيامه بالاتفاق كما أشرت قبل قليل؛ لهذا الحديث ولغيره من الأحاديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وصامه معه أصحابه رضي الله عنهم.

لكن ها هنا سؤال: هل يشرع صيام يوم عرفة لكل أحد؟ أو لأحد دون أحد؟

الجواب: يستحب صيام يوم عرفة لغير الحاج، أما الحاج فلا يستحب له أن يصوم عرفة، وهذا مذهب الجمهور، الأئمة الثلاثة، ومما يستدل به على ذلك: ما رواه البخاري ومسلم عن أم الفضل بنت الحارث زوج العباس رضي الله عنها: ( أن الصحابة رضي الله عنهم تماروا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على بعيره بـعرفة، فأرسلت له قدح لبن فشربه صلى الله عليه وسلم ).

فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفطراً، قالوا: ولأن الفطر بـعرفة يعين الحاج على الوقوف وعلى الدعاء، وعلى التضرع إلى الله سبحانه وتعالى، وخصوصية يوم عرفة هي في الدعاء والتضرع، فناسب أن يكون الصوم غير مشروع في هذا اليوم، كما هو الحال بالنسبة ليوم الجمعة، فإنه ورد النهي عن تخصيصه بالصوم، وقال جمع من أهل العلم: إن ذلك حتى يفرغ للذكر والعبادة والتبكير للجمعة واستماع الخطبة والدعاء، وغير ذلك.

وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.

وأما الأحناف: فهم يرون استحباب الصيام بـعرفة للحاج إذا كان هذا لا يضعفه عن الدعاء، والجمهور قالوا: لا يستحب، وكلمة (لا يستحب) عامة، هل هو مباح؟ هل هو مكروه؟ هل هو خلاف الأولى؟ يعني: هذا بينهم تفاوت فيه.

أما ما يتعلق بيوم عاشوراء، فهو اليوم العاشر من شهر المحرم عند جمهور العلماء، واستحباب صيامه لما ذكرنا، من أنه يكفر السنة التي قبله، وهل يستحب صيام يوم آخر معه؟ نعم، يستحب أن يصوم معه اليوم التاسع، لما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع )، وهنا أيضاً يقول الجمهور: يعني التاسع مع العاشر؛ بحيث يكون صام يومين، ولكن يجوز صيام يوم عاشوراء مفرداً من غير كراهة، وهذا مذهب الحنابلة والمالكية: أنه يجوز له أن يفرد يوم عاشوراء وحده، والسنة والأفضل أن يصوم التاسع معه، ولماذا استحب أن يصوم معه التاسع؟

قيل: إن هذا مخالفة لليهود ؛ لأنهم كانوا يصومون العاشر، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم ويتميز عنهم بصيام يوم التاسع، ولهذا جاء في حديث آخر وإن كان فيه ضعف: ( صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده )، هذا الاحتمال الأول.

وقيل في صيام اليوم التاسع: لئلا يفرد يوم عاشوراء بصوم، بل يوصل بصوم يوم آخر كما هو الشأن في يوم الجمعة: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إفراده بالصوم إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده )، فكذلك في يوم عاشوراء، قال بعضهم: من أجل أن لا يفرد بل يوصل بصيام يوم آخر.

وقيل: إن صيام التاسع من أجل الاحتياط لليوم العاشر.

وقيل: يصوم التاسع والعاشر والحادي عشر.

أما الحديث الصحيح الثابت وهو صيام التاسع والعاشر، هذا ليس فيه إشكال؛ لأن الحديث رواه مسلم .

ولو لم يصم التاسع وصام العاشر والحادي عشر، هذا لا شك أنه أفضل من إفراده؛ لأنه صام يومين، ولأنه جاء في حديث -وإن كان فيه مقال- ولأنه حقق العلة المذكورة، خصوصاً إن كانت العلة هي التميز عن اليهود أو وصل عاشوراء بصوم يوم، وابن القيم رحمه الله كأنه مال في الزاد إلى أن الأكمل في صيام يوم عاشوراء أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، لكن هذا مما لم يرد فيه دليل في الواقع، بل قصارى ما ورد هو التخيير، والأفضل أن يصوم التاسع مع العاشر.

استحباب صيام أيام البيض

السابع مما ذكر المصنف مشروعية صيامه، قال: [ويستحب صيام أيام البيض].

أيام البيض هي صيام ثلاثة أيام من الشهر سميت بأيام البيض لأنها ليال مسفرة ساطعة حيث أنها في وسط الشهر، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر، تسمى أيام البيض.

وقد نقل غير واحد من الفقهاء الاتفاق على استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهذا جاء فيه أحاديث صحيحة منها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أشرنا إليه قبل قليل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أول ما قال: (صم ثلاثة أيام من كل شهر)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم له: أن كل يوم بعشرة أيام، فتكون الثلاثة الأيام كصيام الشهر كله، وكصيام السنة كلها.

وكذلك جاء في المتفق عليه من حديث أبي هريرة لما قال: ( أوصاني خليلي بثلاث -وذكر منها-: صيام ثلاثة أيام من كل شهر ).

إذاً: مشروعية صيام ثلاثة أيام من كل شهر هذا متفق عليه، لكن ما هي هذه الأيام الثلاثة؟ هل هي أيام البيض كما ذكرنا: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر؟ أو هي -مثلاً- أول إثنين، ثم خميس، ثم إثنين.. وهذا أيضاً جاء فيه أحاديث؟ هذا محل اختلاف.

المصنف رحمه الله ذكر أيام البيض، وهذا هو قول الجمهور: أن الأيام التي يستحب صيامها من الشهر هي الأيام الثلاثة: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهو مذهب الأحناف والشافعية والحنابلة، بخلاف المالكية فإنهم لا يستحبون صيامها بخصوصها.

و البخاري رحمه الله بوّب في صحيحه فقال: (باب صيام أيام البيض)، ولم يذكر فيها حديثاً، لكن تبويبه رحمه الله وترجمته تدل على قوة هذا الحكم عنده، وقد جاء فيها عدة أحاديث غالبها لا يخلو من مقال، لكن أشير إليها.

الحديث الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر : ( يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر )، والحديث أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وأخرجه النسائي أيضاً، والإمام أحمد في مسنده، ومداره على موسى بن طلحة وقد اختلف عليه وعلى من دونه اختلافاً كبيراً يشعر بعدم ضبط الحديث؛ ولهذا أعله الحفاظ. هذا الحديث الأول.

الحديث الثاني: حديث ابن ملحان القيسي عن أبيه، قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض، ويقول عليه الصلاة والسلام: هنّ كهيئة الدهر )، يعني: كصيام الدهر، وهذا الحديث أيضاً رواه أبو داود والنسائي وفي سنده جهالة.

الحديث الثالث: ما رواه النسائي عن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر -يعني: كصيام الدهر- وأيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة )، وسنده لا بأس به.

والحديث الرابع: ما رواه النسائي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع صيام أيام البيض في حضر ولا سفر )، وسنده ليس بالقوي، وفي متنه غرابة أو نكارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه كان يفطر في شهر رمضان في السفر، ويقول: ( ليس من البر الصيام في السفر )، فيبعد أن يترك صيام رمضان ويحافظ على صيام أيام البيض في السفر؛ ولهذا ضعف أهل العلم هذا الحديث سنداً ومتناً.

لكن مجموع هذه الأحاديث الأربعة وهي أمثل وأفضل ما ورد في الباب، وقد جاء غيرها أيضاً، يدل على أن للمسألة أصلاً، وأن صيام أيام البيض وارد في السنة وعليه مذهب الجمهور كما ذكرنا.

ففي حديث أبي ذر كأنه لما قال: ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر )، ذكر أن أيام البيض هي هذه، يعني: كأنه أرشد إليها، يؤخذ من ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى أو يفضل صيامها.

فهو قال: ( صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر ) ثم قال: ( وأيام البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ) هذه دلالة الاقتران، يعني: ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم مما يوحي بأنها هي الأيام الثلاثة التي يستحب صيامها، ولا شك أن صيام ثلاثة أيام مشروع بمفرده، بمعنى: أنه يستحب أن يصوم ثلاثة أيام سواء جمعها في البيض أو فرقها.

استحباب صيام يومي الإثنين والخميس

الثامن مما ذكره المصنف قال: [ والإثنين والخميس ].

يعني: يستحب صيامها، وهذا محل اتفاق عند الفقهاء فيما ذكره غير واحد.

وأما يوم الإثنين، فقد ورد حديث في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه )، يعني: فكأنه صلى الله عليه وسلم رشّح صيامه وسنه، ولذلك الدليل في صيام يوم الإثنين قوي جداً، بخلاف يوم الخميس فقد جاء فيه أحاديث لكن لا تخلو من مقال.

ومن أشهرها: ما رواه أبو داود وغيره عن أسامة بن زيد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يصوم الإثنين والخميس، فسئل عن ذلك؟ فقال: إن أعمال العباد تعرض على الله تعالى في كل يوم إثنين وخميس )، وفي سنده مجهولان كما قال المنذري وغيره، فالحديث ضعيف، لكن جاء له شواهد عديدة، منها: شاهد عن أبي قتادة، ونفس حديث مسلم جاء فيه زيادة (والخميس)، لكنها زيادة شاذة، ومنها حديث عن أبي هريرة وعائشة وحفصة .

ولهذا نقول: إن مجموع هذه الأحاديث مع إطباق كافة الفقهاء على استحباب صيام يوم الخميس يدل على أن صيامه مستحب أيضاً، وقد ثبت أن الأعمال تعرض على الله تعالى يوم الإثنين ويوم الخميس.

هذه التي ذكرها المصنف رحمه الله ثمانية.

استحباب صيام شهر شعبان

بقي صيام شعبان، فإن صيام شعبان مما لم يذكره المصنف وهو مستحب، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يصوم شعبان أكثره بل كله ) ولهذا استحب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة صيام شعبان، ولم يستحبه جمهور الحنابلة ؛ ولهذا لم يذكره المصنف.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [أفضل الصيام صيام داود عليه السلام: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً].

وهذا اللفظ جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الطويل، وهو حديث متفق عليه: ( لما دعاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكان يصوم النهار ويقوم الليل، ويقول له: صم وأفطر.. إلى أن قال له في آخر الحديث: صم يوماً وأفطر يوماً، قال: يا رسول الله! أطيق أكثر من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، هذا صيام داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً )، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا أفضل الصيام، وأنه ليس صيام أفضل منه، فيكون هذا أفضل من سرد الصوم لمن يصومون الدهر كله، فهذا أفضل الصيام أن يصوم يوماً ويفطر يوماً.

ثم قال: [وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم].

وصيام شهر المحرم كله مستحب لهذا الحديث الذي ذكر المصنف رحمه الله وهو: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم )، وقد أخرجه مسلم وأهل السنن.