شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر


الحلقة مفرغة

ثم قال المؤلف رحمه الله: [باب صلاة المسافر].

وهذه أيضاً مسألة، فإنه نص على المسافر؛ لأن السفر يكون فيه مشقة تلحق المسافر وتحتاج إلى الترخيص، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن السفر قطعة من عذاب -كما في الصحيح- يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم حاجته فليعجل إلى أهله )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة )، وقال الله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [النساء:43]، وقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، فجعل للمسافر رخصاً كالصيام والصلاة وغير ذلك من الأحكام، ووضع عنه كثيراً من العبادات كالسنن الرواتب وغيرها لما في ذلك من المشقة التي تلحق المسافر؛ ولذلك عقد له المصنف وغيره باباً خاصاً.

الثانية: قال: [وإن كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخاً، وهي مسيرة يومين قاصدين].

هذا هو الشرط الأول للقصر: أن تكون المسافة ستة عشر فرسخاً، وهذه المسافة قدرها أربعة بُرد، فالبريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال.

إذاً: البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وهنا كما قيل: الميل اثنا عشر ألف قدم، وهي مسافة يومين قاصدين كما قال المؤلف، فهذا هو الشرط الأول، وهذا الشرط لا دليل عليه، بل جاء في صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان إذا سافر مسافة ثلاثة أميال أو فراسخ -شك شعبة - قصر الصلاة )، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم بين المدينة وبين ذي الحليفة، وقصر على أقل من ذلك؛ ولهذا فلا دليل على هذه المدة.

والأولى أن يقال: كل ما عُدّ سفراً في العرف فهو سفر في الشرع.

كل ما عد سفراً واحتاج إلى راحلة وزاد، وكان في عرف الناس مسافراً؛ فإنه يترخص فيه برخص السفر، والمدة لا تتحدد؛ فإن المسافات لا تنضبط ولا تتحدد، وأكثر الناس لا يعرفون هذه الأشياء، لا يعرفون الفراسخ ولا الأميال ولا البرد ولا غيرها، ولم يطالبهم الشرع بتحديد الأقدام ولا عدد الخطوات ولا أن يختاروا طريقاً محدداً قاصداً، حتى الملوك إذا أرادوا أن ينتقلوا من بلد إلى غيره على جهة الاختصار فإنهم يحتاطون لذلك ويتعبون فيه ولا يستطيعون إلا أن يتحملوا في ذلك بعض البعد، وبعض المشقة، ولا يكون سفرهم قاصداً محدوداً منضبطاً، بل يكون فيه تقدم وتأخر وذهاب ذات اليمين أحياناً وذات الشمال أحياناً أخرى.

ولهذا فإن المسافة لا تنضبط ولا تتحدد، بل يقال: إن ما كان سفراً في العرف وكان يلحق الإنسان فيه ما يحلقه في السفر فإنه يترخص فيه برخصه.

الشرط الثاني: قال [وكان مباحاً].

أي: من شروط الترخص برخص السفر أن يكون السفر مباحاً.

وقد ذكر بعضهم: أنه لا يترخص إلا في سفر حج أو عمرة أو غزو، وقال بعضهم: أن يكون السفر مباحاً.

والصواب: أن كل ما كان سفراً جاز له أن يترخص فيه، سواء كان سفر حج أو عمرة أو غزوٍ، أو كان سفراً مباحاً، أو كان حتى سفراً مكروهاً أو كان سفراً حراماً، حتى المسافر قاطع الطريق، وحتى المسافر للتجارة في خمر أو ربا، وحتى المسافر لارتكاب الحرام، نقول: هو آثم بسفره، وآثم بفعله، وآثم بقصده، ومع ذلك فإنه يجوز له أن يترخص برخص السفر؛ لأن هذه سنة شرعها الله تعالى، ولم يحدد مسافراً من غيره، وقد جاء في قول الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فقال يعلى بن أمية لـعمر رضي الله عنه: [ كيف وقد أمن الناس؟ فقال له عمر رضي الله عنه: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ].

وقد جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سبق، وقصر الصلاة أبداً، فإنه لم يُعلم من حال النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه قصر الصلاة في جميع أسفاره مطلقاً، ولم يثبت عنه أنه أتم الصلاة في السفر مرة واحدة، وما رُوي عن عائشة من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فباطل، وإنما ثبت ذلك عنها من فعلها رضي الله عنها، وقد تأوّلت كما تأول عثمان، كما ذكر ذلك الزهري .

إذاً: فالقصر سنة لكل مسافر، سواء كان سفره سفراً مباحاً أو غير مباح، وهي إحدى الروايتين عن أحمد ومذهب الجمهور وهو الصحيح.

قال: [فله قصر الرباعية خاصة].

يعني: أنه يقصر الرباعية الظهر والعشاء والعصر إلى ركعتين، أما المغرب فلا تقصر؛ لأنها لو قصرت وهي وتر النهار لم تكن وتراً، وكذلك الفجر فإنه تطول فيها القراءة ويكون في القصر إجحاف بها، فلا تقصر الفجر ولا تقصر المغرب بإجماع أهل العلم، وإنما تقصر الرباعية إلى ركعتين.

إتمام المسافر المؤتم بمقيم

الخامسة: قال: [إلا أن يأتم بمقيم].

يعني: أن يصلي المسافر خلف مقيم، فحينئذٍ يصلي بصلاته أربعاً؛ وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل: [ ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا لم يصلّ مع الإمام أربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال رضي الله عنه: تلك السنة ]، والحديث رواه أحمد وأصله في صحيح مسلم، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للإمام مالك رحمه الله تعالى.

ومما يرجح ويرشح مذهب الجمهور قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه )، ومما يرجحه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )، فهو دليل على أن ما فات الإنسان من صلاة الإمام يتمه، فإذا كان مسافراً مثلاً وأدرك التشهد الأخير مع الإمام نقول: يجب عليه أن يتم الصلاة الرباعية أربعاً اقتداءً بإمامه؛ لأن الصلاة كلها فاتته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( وما فاتكم فأتموا ).

حكم القصر في حق من لم ينوه قبل الشروع في الصلاة

السادسة: قال: [أو لم ينوِ القصر].

يعني: إذا لم ينوِ القصر فإنه يتم، وعلى هذا: فإنه يجب عليه أو يشترط له نية القصر قبل أن يدخل في الصلاة، وذلك لأن القصر صفة تتعلق بالصلاة؛ فلابد أن يكون مع نية الإحرام وإلا لزمه الإتمام كما لو نوى الصلاة مطلقاً، هذا مذهب المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى مشهورة، والجمهور على أنه لا يشترط نية القصر وهو الصحيح، فإنه يقصر ولو لم ينوِ عند تكبيرة الإحرام، أو لم يذكر القصر إلا بعدما شرع في الصلاة، فإنه يقصرها، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر المسافر بأن ينوي نية القصر، والأصل في حق المسافر القصر، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين، قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر)، وفي رواية: (أقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى).

وقال عمر رضي الله عنه: (صلاة السفر ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم).

وجاء ذلك المعنى في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أن أصل صلاة المسافر ركعتان، وأنه لا يشترط للقصر نية، بل يقصر ولو لم ينوِ، ولا ينبغي له أن يتم الصلاة في السفر، بل ذهب بعضهم -كما سوف يأتي- إلى أنه لا يجوز له أن يتم الصلاة.

ومما يدل على أنه لا يشترط نية القصر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه في حديث ذي اليدين، حديث أبي هريرة : ( لما سها فسلم من ركعتين، فقالوا: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ قال: ما نسيت ولم تقصر )، فدل على أنه يمكن أن تقصر الصلاة دون نية ودون أن يخبر بذلك من وراءه، ولا أن ينووا هم القصر أيضاً، فدل على أنه يمكن أن يقع القصر من دون نية.

الخامسة: قال: [إلا أن يأتم بمقيم].

يعني: أن يصلي المسافر خلف مقيم، فحينئذٍ يصلي بصلاته أربعاً؛ وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل: [ ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا لم يصلّ مع الإمام أربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال رضي الله عنه: تلك السنة ]، والحديث رواه أحمد وأصله في صحيح مسلم، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للإمام مالك رحمه الله تعالى.

ومما يرجح ويرشح مذهب الجمهور قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه )، ومما يرجحه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )، فهو دليل على أن ما فات الإنسان من صلاة الإمام يتمه، فإذا كان مسافراً مثلاً وأدرك التشهد الأخير مع الإمام نقول: يجب عليه أن يتم الصلاة الرباعية أربعاً اقتداءً بإمامه؛ لأن الصلاة كلها فاتته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( وما فاتكم فأتموا ).

السادسة: قال: [أو لم ينوِ القصر].

يعني: إذا لم ينوِ القصر فإنه يتم، وعلى هذا: فإنه يجب عليه أو يشترط له نية القصر قبل أن يدخل في الصلاة، وذلك لأن القصر صفة تتعلق بالصلاة؛ فلابد أن يكون مع نية الإحرام وإلا لزمه الإتمام كما لو نوى الصلاة مطلقاً، هذا مذهب المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى مشهورة، والجمهور على أنه لا يشترط نية القصر وهو الصحيح، فإنه يقصر ولو لم ينوِ عند تكبيرة الإحرام، أو لم يذكر القصر إلا بعدما شرع في الصلاة، فإنه يقصرها، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر المسافر بأن ينوي نية القصر، والأصل في حق المسافر القصر، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين، قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر)، وفي رواية: (أقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى).

وقال عمر رضي الله عنه: (صلاة السفر ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم).

وجاء ذلك المعنى في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أن أصل صلاة المسافر ركعتان، وأنه لا يشترط للقصر نية، بل يقصر ولو لم ينوِ، ولا ينبغي له أن يتم الصلاة في السفر، بل ذهب بعضهم -كما سوف يأتي- إلى أنه لا يجوز له أن يتم الصلاة.

ومما يدل على أنه لا يشترط نية القصر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه في حديث ذي اليدين، حديث أبي هريرة : ( لما سها فسلم من ركعتين، فقالوا: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ قال: ما نسيت ولم تقصر )، فدل على أنه يمكن أن تقصر الصلاة دون نية ودون أن يخبر بذلك من وراءه، ولا أن ينووا هم القصر أيضاً، فدل على أنه يمكن أن يقع القصر من دون نية.

السابعة: قال: [أو نسي صلاة حضر فيذكرها في السفر ].

أي: لو أنه كان عليه صلاة في الحضر فذكرها وهو مسافر، صلاها صلاة حضر، صلاها أربعاً؛ لأنها وجبت في ذمته أربعاً.

وفي النفس من ذلك شيء، فإنه لما صلى الصلاة كان مسافراً، وينبغي أن يقال: إن مقتضى الرخصة للمسافر أن يؤذن له أن يصليها ركعتين كما يصلي الصلاة الحاضرة ركعتين، ومن المعلوم أن الصلاة الحاضرة قد تجب في ذمته أربعاً فلا يصليها إلا ركعتين، مثال ذلك: لو أنه لم يسافر إلا بعدما دخل وقت الظهر بنصف ساعة أو ساعة ولكن قبل أن يصلي الظهر، فصلى الظهر وهو مسافر، فحينئذٍ من المعلوم أنه يصليها ركعتين، قال ابن قدامة رحمه الله في المغني لا أعلم في ذلك خلافاً بين أهل العلم، يعني: لو دخل عليه وقت الظهر ولم يصلّ إلا بعدما سافر فإنه يقصر، قال في المغني : لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم، هذا مع أنها وجبت في ذمته تامة؛ لأنها وجبت وهو مقيم، فكذلك يجب أن يقال -والله تعالى أعلم-: في الصلاة -صلاة الحضر- التي نسيها فلم يصلها إلا في السفر؛ لأنه يوم صلاها كان مسافراً وكان يشق عليه، فكما نقول له: اقصر الصلاة الحاضرة وصلها ركعتين، فكذلك ينبغي أن يقال له: اقصر الصلاة التي سوف تقضيها وصلها ركعتين؛ لأن العبرة بحاله التي يكون عليها حال الصلاة لا بالوقت الذي وجبت عليه الصلاة فيه.

الثامنة: قال: [أو صلاة سفر فيذكرها في الحضر فعليه الإتمام].

يعني: لو أنه ذكر صلاة وجبت عليه في السفر ذكرها في الحضر فعليه أن يتم، وهذا متجه؛ لأن الوقت الذي أوقع فيه الصلاة قد ذهب عنه فيه مشقة السفر، وذهب عنه السفر الذي يكون سبباً في الرخصة، فهو حاضر مقيم، فعليه حينئذٍ أن يعمل عمل المقيم، فلو صلى صلاة سفر فليست العبرة بوقت وجوبها عليه أنها ركعتان، بل العبرة بوقت أدائها فيصليها أربعاً؛ لأن المبيح للقصر وغيره من الرخص هو السفر وقد زال، فيلزمه الإتمام وأن يرجع إلى الأصل.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3986 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3925 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3854 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3846 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3672 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3625 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3615 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3552 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3516 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3444 استماع