شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة


الحلقة مفرغة

بسم الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين؛ نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين.

كان عندنا بالأمس باب: الآنية.

أما اليوم فعندنا باب: قضاء الحاجة, وفي الواقع أنه ليس فيه كبير إشكال كالبابين قبله؛ لأنه في الغالب عبارة عن بعض الآداب التي تتعلق بقضاء الحاجة.

والمقصود بقضاء الحاجة: قضاء الضرورة التي لابد للإنسان منها, وهي: البول والغائط.

قال المصنف رحمه الله تعالى في المسألة الأولى: [يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول: باسم الله, أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم].

هذا الذكر الذي أشار المصنف إلى أنه يستحب أن يقال عند دخول الخلاء, هو عبارة عن ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أن يقول: (بسم الله), وهذا جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ستر ما بين أعين الجن وبين عورات بني آدم إذا أراد أحدكم دخول الخلاء أن يقول: باسم الله ). والحديث رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب, وأشار الترمذي إلى ضعفه, وحسنه جماعة من أهل العلم, والحديث حسن إن شاء الله تعالى بشواهده.

فهو يدل على أنه يستحب للإنسان أن يقول: باسم الله عند دخول الخلاء. هذا فيما يتعلق بالتسمية.

وقوله: (لمن أراد دخول الخلاء) المقصود بالخلاء: هو ما يسمى بالحُش, وهو المكان المعد لقضاء الحاجة, وقد يحمل عليه إذا كان الإنسان في الصحراء المكان الذي اختاره الإنسان وأراده لقضاء حاجته؛ وإنما سمي الخلاء لأن الإنسان يذهب في الصحراء بعيداً إذا أراد قضاء الحاجة, وقد يسمى الحُش -كما ذكرنا-, وأصله الحائط أو البستان؛ لأنهم يذهبون إليه حيث يستترون بالنخل وغيره في قضاء حوائجهم.

أما الدعاء الثاني: وهو قوله: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث) فقد جاء فيه حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما, بل رواه الجماعة أهل السنن : أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: أعوذ بالله من الخبث والخبائث ). وفي رواية: ( إذا أراد دخول الخلاء ). وهذا يفسر معنى قوله: (إذا دخل), فإنه ليس المعنى أنه يقول هذا الدعاء بعدما يدخل، وإنما يقوله إذا أراد الدخول.

وقوله: (الخبُث) فيها وجهان:

الوجه الأول: بسكون الباء: ( أعوذ بالله من الخبث )، وهو مذهب أبي عبيدة وغيره من أهل العلم, وقالوا: الخبْث مصدر, أي: الشر: ( أعوذ بالله من الخبْث ), أي: من الشر.

والوجه الثاني: الخبُث, بضم الباء, قالوا: جمع خبيث, كما اختاره الخطابي وغيره أيضاً, فيكون استعاذ بالله من الخبث جمع خبيث.

وقوله: (من الخبائث) الخبائث جمع خبيثة, أي: استعاذ بالله تعالى من ذكران الشياطين ومن إناثهم.

ورجح الأول طائفة من أهل العلم أن المعنى: أنه استعاذ بالله من الخبْث, يعني: من الشر, ومن الخبائث يعني: من الأشياء الخبيثة أياً كانت.

أما الدعاء الثالث: وهو قوله في الدعاء: ( ومن الرجس النَجس ) أو النِجس, يجوز الوجهان. (الرجس النَجس الشيطان الرجيم ). فهذا جاء فيه حديث أبي أمامة رضي الله عنه الذي انفرد بإخراجه ابن ماجه في سننه, والحديث لفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أيعجز أحدكم إذا أراد دخول مرفقه -يعني: الحش, أو الكنيف- أن يقول: أعوذ بالله من الخبث والخبائث, ومن الرجس النَجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ). يعني: هو خبيث في نفسه, مُخبث لغيره, يعني: متسبب لغيره في الخبث.

وهذا الحديث -كما ذكرت- انفرد بإخراجه ابن ماجه , وقال البوصيري في الزوائد : إسناده ضعيف, وعلة الحديث: أن فيه علي بن يزيد الدمشقي , وهو ضعيف.

إذاً: هذا الدعاء يصح منه أن يقول الإنسان: ( باسم الله, أعوذ بالله من الخبث والخبائث )، أما زيادة: ( ومن الرجس النَجس الشيطان الرجيم ), فهي زيادة ضعيفة انفرد بإخراجها ابن ماجه , وضعفها البوصيري وغيره, وفي إسنادها علي بن يزيد الدمشقي , وهو ضعيف.

قال المصنف: [ وإذا خرج من الخلاء قال: غفرانك, الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني ].

أما قوله: (غفرانك), فهذا ثابت أنه يستحب أن يقول: (غفرانك)؛ وذلك كما في حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الخمسة إلا النسائي : ( أنه كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك ). وقد صححه جماعة منهم الذهبي والنووي والحاكم وابن حبان وابن خزيمة والترمذي قال: حديث حسن.. وغيره من أهل العلم.

وإنما استحب أن يقول: غفرانك إذا خرج من الخلاء إما أنه يستغفر الله تعالى من لحظة قضاها لم يكن يذكر الله تعالى فيها؛ لأنه لا يذكر الله تعالى على الخلاء, فيستغفر الله تعالى من تلك اللحظة التي لم يذكر الله تعالى فيها. وهذا يحث الإنسان ويحضه على أن يحرص على ذكر الله تعالى في كل حال, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى في كل أحيانه عليه الصلاة والسلام.

وإما أنه يستغفر الله تعالى من نعمة أنعم الله تعالى عليه بها ولم يقم بحق شكرها, حيث سهل له أكل هذا الطعام وسهل للجسم أن يمتص ما يكون منه نافعاً, ثم يتخلص مما لا فائدة منه, ولم يكن هذا ليكون إلا برحمة الله تعالى وتوفيقه وتهيئة أجزاء الجسم وأعضائه وأجهزته لذلك, فيستغفر الله تعالى من التقصير في الشكر.

أما قوله: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) فقد جاء فيه أيضاً حديث, ولكن هذا الحديث ضعيف؛ هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره، وضعفه البوصيري في زوائد ابن ماجه , وضعفه أيضاً النووي وغيرهم, فيه إسماعيل بن مسلم المكي , وهو ضعيف.

إذاً: يثبت من دعاء الدخول قوله: ( باسم الله, أعوذ بالله من الخبْث والخبائث ). ويثبت من دعاء الخروج قوله: ( غفرانك ).

ثم قال المصنف رحمه الله: [ ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج ]؛ وذلك لأن العادة أن الأشياء التي يتعاطاها الإنسان شيئان: أشياء مشتركة, يعني: يعملها الإنسان باليدين كلتيهما أو بالرجلين كلتيهما, فهذه يقدم فيها الإنسان اليمين, كما في قول عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن -يعني: البداءة باليمين- في تنعله وترجله وطهوره, وفي شأنه كله )؛ فإذا أراد لبس النعل -مثلاً- يبدأ باليمين, وإذا أراد أن يترجل -يعني: يغسل رأسه ويسرحه- يبدأ بالجهة اليمنى, وإذا أراد أن يتطهر يبدأ باليد اليمنى, ويبدأ بالرجل اليمنى.. وهكذا إذا أراد دخول المسجد -مثلاً- يبدأ بالرجل اليمنى, وهكذا الأشياء الطيبة والمستحبة فإنه يبدأ فيها باليمين إذا كانت مشتركة.

أما إذا كانت أشياء مكروهة أو مستخبثة فإنه يبدأ فيها بالشمال.

فمثلاً: في الخروج من المسجد يقدم الرجل الشمال, وفي الخروج من البيت إلى السوق أيضاً يقدم الشمال, وكذلك إذا أراد دخول الأماكن الخبيثة؛ كما لو كان محتاجاً إلى أن يدخل مكاناً خبيثاً لإصلاحه أو إنكار منكر؛ فلو أراد أن يدخل البنك -مثلاً- يقدم ماذا؟ الظاهر حسب القاعدة أنه يقدم رجله اليسرى, وكذلك إذا أراد دخول الخلاء يقدم رجله اليسرى أيضاً.

إذاً: القسم الأول: الأشياء المشتركة التي تفعل باليدين كلتيهما أو بالرجلين كلتيهما، فهذه تقدم فيها الرجل اليمنى أو اليد اليمنى.

القسم الثاني: الأشياء الخاصة التي تفعل بيد واحدة أو ما شابه ذلك, فهذه إن كانت من الأمور المستطابة فإنها تفعل باليمين, مثاله ما يفعل باليمين فقط؟ مثل العطاء والأخذ, وأيضاً الأكل والشرب.

وإن كانت أشياء مستخبثة فإنها تفعل بالشمال, مثل الاستنجاء وإزالة النجاسة.

وقال بعض الفقهاء: ومثله السواك؛ لأنه من باب تطييب الفم, وهذا ذكره غير واحد وفيه نظر؛ فإنه لم يثبت أن السواك يفعل باليد اليسرى, وقد لا يكون السواك دائماً لتطييب الفم, قد يكون السواك لفعل السنة, ولو كان الفم طيباً, وقال بعض الفقهاء بالتفصيل, فقالوا: إن كان السواك -مثلاً- لفعل السنة؛ كما إذا أراد أن يستاك عند الصلاة أو عند قراءة القرآن أو ما أشبه ذلك، فإنه يستاك باليمنى, وإن أراد أن يستاك لتطييب الفم فإنه يفعله باليسرى, وأيضاً هذا التفصيل إنما هو استحسان, وليس عليه دليل شرعي.

إذاً: قوله: (ويقدم رجله اليسرى في الدخول) يعني: دخول الخلاء؛ لأنها من الأشياء المستخبثة المكروهة, ويقدم اليمنى في الخروج أيضاً, كما يقدم اليمنى إذا أراد أن يلبس حذاءه, واليسرى يقدمها إذا أراد أن يخلع, فتكون اليمنى أولهما تلبس وآخرهما تخلع.

قال المصنف: [ ولا يدخل بشيء فيه ذكر الله تعالى إلا من حاجة ].

قوله: (ولا يدخل) يعني: إلى الخلاء (بشيء فيه ذكر الله تعالى), وفي بعض النسخ: (فيه ذكر اسم الله تعالى إلا من حاجة)، والدليل على ذلك الحديث الذي رواه أهل السنن: أبو داود والترمذي وقال الترمذي : حديث حسن غريب, عن أنس بن مالك : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول الخلاء نزع خاتمه )، ومعروف أن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم منقوش فيه: محمد رسول الله. وحديث أنس : ( أنه إذا أراد دخول الخلاء نزع خاتمه ). حسنه الترمذي كما أسلفت, وقال الحاكم : هو حديث حسن صحيح, ولكن ضعفه أكثر أهل العلم, وحكموا بأنه حديث شاذ, فممن أنكره أبو داود ؛ فإنه قال عقب روايته: هذا حديث منكر, وكذلك النسائي رحمه الله رواه وقال: هذا حديث غير محفوظ.

وقال النسائي : هو حديث ضعيف, وقال أكثر أهل العلم: إنه حديث شاذ, وإن المحفوظ من حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه ) هذا هو المحفوظ. أما قضية: ( أنه إذا أراد دخول الخلاء نزع خاتمه ) فهذا غلط ووهم من الراوي.

إذاً: لا يصح الحديث عند الجمهور: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد دخول الخلاء نزع الخاتم ) هذا ضعيف, بل هو شاذ.

أما أصل المسألة: أنه إذا أراد دخول الخلاء لا يدخله بشيء فيه ذكر الله تعالى، فقد يقال: لأن ذلك مستحب؛ صوناً لذكر الله تعالى عن أن يدخل به إلى هذا المكان المستخبث, إلا أن يكون الذكر خفياً, كأن يكون في جيبه -مثلاً ورق أو ما أشبه ذلك- فيه ذكر فهذا لا يظهر أنه يستحب له أن يخرجه مادام خفياً, ولهذا قال الإمام أحمد لما سئل فيما يتعلق بالخاتم وغيره قال: إن أدار فصه إلى باطن كفه فلا بأس, أو إن وضعه في كفه فلا بأس, يعني: إذا أخفاه فلا بأس عليه أن يدخل به إلى الخلاء؛ لأنه لا دليل على المنع من ذلك.

أما قول المصنف رحمه الله تعالى: (إلا من حاجة) فإن الحاجة هي فيما إذا كان يخاف عليه, أو لا يجد مكاناً آمناً يضعه فيه, ولكن تبين ما في أصل المسألة من الإشكال, فإنه لا دليل على تحريم الدخول بشيء فيه ذكر الله عز وجل إلا صون ذكر الله تعالى عن أن يدخل به إلى الخلاء, فإن كان ذكر الله تعالى مخفياً كأن يكون في جيبه أو مكان خفي فلا حرج عليه أن يدخل به, وهذا فيه إشارة أيضاً إلى عدم ذكر الله تعالى إذا كان الإنسان في الخلاء وكان على الحاجة.

ومما يرشد إلى ذلك -وهو أقوى في الاستدلال مما ذكر المصنف, أقوى من حديث أنس -, ما رواه مسلم في صحيحه : ( أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على حاجته فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم السلام ). فهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان لا يشرع له أن يذكر الله تعالى إذا كان على حاجته؛ لأن رد السلام واجب, فكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك هذا الواجب دل ذلك على أنه غير مشروع إذا كان الإنسان متلبساً بقضاء الحاجة أن يذكر الله تعالى.

سؤال: إذا عطس الإنسان وهو على حاجته يستحب له أن يذكر الله تعالى في نفسه؛ يحمد الله تعالى في نفسه، هذه رواية في المذهب، والرواية الثانية: أن يفعل ذلك سراً.

وينبغي أن يقال مثل ذلك في رد السلام.. وما يشبهه.

ومثله أيضاً إذا أراد أن يسمي, لو فرض أنه في الخلاء وأراد أن يسمي لوضوء أو لغير ذلك فإنه إما أن يقال: يفعله في نفسه, أو يفعله سراً, هما روايتان في المذهب, وكلاهما جائز, ولعل القول أن يفعل ذلك في نفسه أوجه لما يتعلق برد السلام وحمد الله إذا عطس وما أشبه ذلك؛ لأن ذكر الإنسان ربه في نفسه وقلبه لا يعد تحريكاً للسان, ولا يعد إهانة أن يكون من الإنسان أثناء قضاء الحاجة.

قال المصنف رحمه الله: [ ويعتمد في جلوسه على رجله اليسرى ], أي: أثناء قضاء الحاجة, أن يجعل بدنه أميل إلى الجهة اليسرى, وقد استدل الفقهاء لهذا بحديث ضعيف جاء عن سراقة بن مالك المدلجي رضي الله عنه قال: ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوكأ أحدنا على رجله اليسرى عند قضاء الحاجة ), أو كما قال.

وهذا الحديث ليس بصحيح؛ فقد جاء من رواية رجل من بني مدلج, وهذا الرجل من بني مدلج مجهول, فالحديث فيه جهالة, وقد ضعفه أهل العلم؛ ضعفه الحازمي صاحب الاعتبار والحافظ ابن حجر والبيهقي والنووي وغيرهم من أهل العلم.

وبناء عليه نقول: لا يستحب للإنسان أن يعتمد على رجله اليسرى, بل الأمر في ذلك مستو؛ أن يعتمد على رجليه معاً كما هي العادة في كل جلوس.

المسألة السادسة: قال المصنف: [ وإن كان في الفضاء أبعد واستتر ], يعني: إذا أراد قضاء الحاجة في الصحراء فإنه يبعد عن الناس, ويستتر في بوله.

أما الإبعاد أن يبعد فقد جاء في هذا حديث صحيح رواه مسلم عن المغيرة بن شعبة : ( أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأراد الخلاء فأبعد في المذهب ) (ذهب فأبعد) حتى توارى عن الناس. وهذا الحديث كما أسلفت هو في صحيح مسلم , فهو دليل على استحباب الإبعاد.

أما الاستتار (أبعد واستتر) فقد جاء في ذلك حديث ضعيف أيضاً, ولكن يمكن أن يستدل للاستتار بالنظر, فإن الإنسان إذا أراد قضاء الحاجة يكشف عورته, والمشروع سترها, ولهذا عليه أن يستتر لئلا يراه أحد, فهذا من حيث النظر يدل على مشروعية الأمرين؛ على مشروعية الإبعاد وعلى مشروعية الاستتار, سواء استتر بكثيب رمل أو بجدار أو بثيابه أو بغير ذلك.

قال رحمه الله: [ ويرتاد لبوله موضعاً رخواً ], أي: أنه يختار للبول المكان الدمث الذي لا يتطاير منه البول؛ لئلا يصيب بدنه أو يصيب ثيابه, هذا هو المعنى, والحجة في ذلك: ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد قضاء الحاجة فمال إلى مكان دمث ). وهذا الحديث رواه أحمد وأبو داود , وفي إسناده ضعف, لكن يدل عليه المعنى, فإن الإنسان يشرع له أن يتحرز من بوله؛ للحديث المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ), وفي رواية: ( لا يستبرئ ), وفي رواية: ( لا يستنزه من البول ). والمعنى واحد, أي: أنه لا يتقي من بوله, فيصيب البول بدنه وثيابه, فعذب في قبره.

فدل الحديث على أنه ينبغي أن يستبرئ الإنسان من البول, ومن الاستبراء والاستنزاه أن يرتاد الإنسان لبوله موضعاً رخواً إذا كان يبول في صحراء أو نحوها.

ومما يتعلق بذلك سؤال: هل يجوز للإنسان أن يبول وهو قائم؟

القول الأول: أنه لا يجوز؛ لأنه لا يأمن تطاير البول, وقد جاء في حديث صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فلا تصدقوه). والحديث عند أهل السنن وسنده صحيح.

والقول الثاني: أن ذلك جائز إذا أمن الرشاش, أي: إذا أمن تطاير البول إلى بدنه, يعني: إذا كان المكان رخواً, بل قد يكون أحياناً أهون من الجلوس وأبعد من أن يصيبه البول, فحينئذ يكون جائزاً بلا كراهة, وهذا هو الصحيح أنه جائز بلا كراهة إذا أمن وصول رشاش البول إلى بدنه أو ثيابه, والدليل على جوازه حديث حذيفة في صحيح مسلم، بل عند الجماعة مسلم والبخاري وغيرهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم -يعني: كنافة أو قمامة- فبال قائماً ). قال الشافعي رحمه الله: نرى أن ذلك فعله صلى الله عليه وسلم علاجاً من داء كان بركبته, من جرح كان بمأبضه. والعرب كانت تتداوى, وهذا إنما هو ظن, والواقع أن الحديث دليل على جواز البول قائماً إذا لم يصل البول إلى بدنه أو ثيابه بلا كراهة, كما هي الرواية الأخرى في المذهب, وهي الرواية الصحيحة.

قال: [ ولا يبول في ثقب ], المقصود بالثقب: الجحر الذي يكون في الأرض, سواء كان ثقباً لحيوان أو دابة أو غيرها.

قوله: [ ولا في شق ]، وهو أيضاً الشق في الأرض, والدليل على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر ). وقد قيل لـقتادة رضي الله عنه: لماذا نهى عن ذلك؟ فقال: كان يقال: إنها مساكن الجن، لكن هذا لا دليل عليه أيضاً, وإن كان يقال: إن سعد بن عبادة سيد الخزرج رضي الله عنه بال في جحر فقتلته الجن, ثم أصبحوا يقولون:

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم نخطي فؤاده

إنما هذه كلها أشياء لا يثبت بها دليل ولا حكم شرعي, وإنما النهي عن البول في الجحر والشق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك: ( نهى أن يبال في الجحر ).

وقد يقال: إنه نهى عن ذلك لأنه لا يؤمن أن يكون في الجحر هوام, فإذا جاءها البول خرجت فآذت هذا الإنسان. فهذا أقرب من الأول.

قوله: [ ولا طريق ] أي: ولا يبول في طريق؛ وذلك لأن البول في الطريق فيه أذية للناس؛ حيث إن الطريق إنما وضع لذهاب الناس وإيابهم, فإذا بال فيه أو قضى حاجته آذى الناس برائحة ذلك أو بالنجاسة التي قد تصيبهم.

قوله: [ ولا ظل نافع ]؛ لأن الظل يستفاد منه في القعود ونحوه, فإذا بال فيه حرم الناس من ذلك.

وأيضاً من علة النهي عن البول في الطريق والنهي عن البول في الظل أنه إذا بال في الطريق والظل تسبب لنفسه بضرر عظيم؛ حيث يلعنه الناس على ذلك, فإذا رأى الناس البول في الطريق أو في الظل الذي يستفيدون منه قالوا: لعن الله من فعل هذا, فوقعت اللعنة عليه, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( اتقوا اللاعنين, قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟! قال: الذي يبول في طريق الناس أو ظلهم ). ومعنى اللاعنين يعني: المتسببين في اللعن, إما أن يكون الفعل نفسه يتسبب في لعن من فعل, فيقول الناس: لعن الله من فعل هذا, وإما أن يكون المعنى: أن هذا الفعل مما يستحق صاحبه اللعن, يعني: من الشارع, فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا, وهذا أشد وأنكى. وعلى كل حال فهو دليل على تحريم البول في الطريق أو في الظل النافع.

قال: [ ولا تحت شجرة مثمرة ]. وقد جاء في هذا حديث أيضاً فيه نظر, والمعنى يدل على منع البول والغائط تحت الشجرة المثمرة؛ لأنها تشبه الطريق من حيث إن الناس يأتون إلى هذه الشجرة لقطف ثمرها, فيصيبهم أثر البول أو غيره, ولهذا فالنهي عنه هو مثل النهي عن البول في الطريق أو الظل النافع.

قال: [ ولا يستقبل شمساً ولا قمراً ]. هذه هي المسألة التاسعة عند المصنف, أنه لا يستقبل في البول ولا في الغائط الشمس ولا القمر.

لماذا لا يستقبل الشمس ولا القمر؟ قالوا: أولاً: جاء في هذا حديث, ولكن الحديث الوارد في هذا حديث باطل لا يصح بحال, لا يوجد حديث معتمد عليه لا صحيح ولا حسن، بل ولا ضعيف, إنما هو حديث باطل في النهي عن استقبال الشمس والقمر في قضاء الحاجة. إذاً: لا يوجد نص.

ننتقل بعد ذلك إلى العقل والنظر, هل يوجد ما يمنع من استقبال الشمس والقمر؟

قال بعضهم: إنها هي مصدر الإضاءة والإشراق في الكون, لكن هذا لا يمنع من استقبالها, وقال آخرون: إن أسماء الله الحسنى مكتوبة عليها, وهذا أيضاً ليس عليه دليل, وليس بصحيح.

إذاً: يجوز للإنسان أن يستقبل الشمس والقمر بلا كراهة, بل مما يرشد إلى ذلك ويرشح إليه حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في المتفق عليه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول, ولكن شرقوا أو غربوا ). والخطاب في هذا الحديث في الأصل لمن؟ لأهل المدينة, ( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول, ولكن شرقوا أو غربوا ). فأهل المدينة إذا تركوا القبلة، وهي بالنسبة لأهل المدينة في اتجاه الجنوب, فهم سيتركون استقبال الجنوب؛ لئلا يستقبلوا القبلة, ويتركون الشمال أيضاً, ولذلك أرشدهم بقوله: ( شرقوا أو غربوا ). طيب إذا شرقوا أو غربوا ما يستقبلون الشمس والقمر أو يستدبرونها؟ بلى.

إذاً: هذا الحديث دليل على أنه لا يكره استقبال الشمس ولا القمر ولا استدبارهما حال قضاء الحاجة.

ومثله أيضاً استقبال الريح؛ أن يستقبل الإنسان اتجاه الريح إذا كانت الريح تهب من الشمال, فإن الفقهاء يقولون: يكره أن يستقبل الريح, لماذا؟ جاء في هذا أيضاً حديث ولكنه باطل لا يصح, إنما من حيث النظر قالوا: إنه إذا استقبل الريح ربما دفعت الريح البول فوقع على بدنه, فإن كانت الريح قوية فعلاً بحيث يمكن أن تدفع البول إلى أن يصيب بدنه وثيابه، فهنا ينهى عن ذلك لا من حيث استقبال الريح, لكن من حيث صيانة بدنه وثيابه عن النجاسة, أما فيما سوى ذلك فإنه لا يقال بالكراهة إلا بدليل شرعي.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3973 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3917 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3846 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3838 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3661 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3617 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3606 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3541 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3504 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3425 استماع