خطب ومحاضرات
البدعة - الحث على الاتباع وذم الابتداع
الحلقة مفرغة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذانا صماً وقلوبا غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].
أما بعد:
معشر الإخوة الكرام! لا زلنا نتدارس شناعة البدعة في الإسلام، وأنها توجب للإنسان سوء الختام نسأل الله أن يحسن ختامنا، وأن يتوفانا وهو راض عنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وقد تقدم معنا أن هذا المبحث سنتدارسه ضمن ثلاثة أمور:
أولها: في تعريف البدعة.
وثانيها: في النصوص المحذرة من البدعة.
وثالثها: في أقسام البدعة.
والبدعة: هي الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، وذلك الحدث المحدث لا تشهد له نصوص الشرع الحسان، ولم يقل به أحد من أئمتنا الكرام.
وننتقل إلى مدارسة الأمر الثاني ألا وهو: النصوص التي تحذر من البدعة، وتحذر من الهوى والابتداع، وتأمرنا بالاقتداء بخاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! إن ديننا يقوم على دعامتين اثنتين وعلى ركنين ركينين أحدهما: إخلاص لربنا، وثانيهما: اقتداء بنبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهذان الركنان الركينان، والدعامتان المتينتان هما مدلول كلمة التوحيد في الإسلام؛ لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا إله إلا الله إخلاصنا لربنا وعبادتنا له وحده لا شريك له، ومحمد رسول الله عليه الصلاة والسلام اقتداؤنا بنبينا واتباعنا له، فمعبودنا هو الرحمن، وإمامنا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ودين الله من أوله إلى آخره يقوم على هاتين الدعامتين، كما أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فقال: دين الله منحصر في هاتين الجملتين: إياك أريد، بما تريد، فمن لمن يرد الله المجيد سبحانه وتعالى بأفعاله وبحركاته وسكناته فهو من أهل الشرك والرياء، ومن لم يتبع خاتم الأنبياء -على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه- فهو من أهل الزيغ والابتداع والأهواء، فلابد من إخلاص لله عز وجل، ومتابعة لنبيه عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام! فكل من انحرف عن اتباع نبينا عليه الصلاة والسلام فهو مبتدع، وهو صاحب زيغ وهوى، سواء فرّط أو أفرط، كما تقدم معنا في تعريف البدعة.
إخوتي الكرام! وقد جاءت نصوص القرآن تأمرنا باتباع نبينا عليه الصلاة والسلام، وتحذرنا من مخالفته، وتتابعت الأحاديث التي تقرر هذا الأمر، كما تتابع أئمتنا الكرام على وصية هذه الأمة بهذا الأمر.
النداء العلوي بالاستجابة لداعي الله وداعي رسوله
والآيات في ذلك كثيرة منها قول ذي الجلال والإكرام: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
فما أتى به نبينا عليه الصلاة والسلام ينبغي أن نأخذه وأن نتبعه وأن نقتدي به عليه صلوات الله وسلامه.
محبة الله في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام
وهكذا تكون رحمة الله لمن اقتدى بخير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في سورة الأعراف عندما حكى ما جرى من كليمه ونجيه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، من مناجاة بينه وبين ربنا الرحمن مع وفده الذين اختارهم من قومه وكانوا سبعين رجلاً، يقول نبي الله موسى كما حكاه الله جل وعلا عنه: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، أي: تبنا إليك ورجعنا إليك: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، ثم بين من يتصفون بهذه الصفات فقال جل وعلا: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
إذاً: رحمة الله تكون لهؤلاء، والفلاح يكون لهؤلاء الذين يتبعون الرسول النبي الأمي على نبينا وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، وعليه فقد خرج النصارى من هذا الوصف وخرج اليهود من هذا الوصف، وخرجت كل أمة ضالة ملعونة من هذا الوصف، فلا ينال وصف الفلاح، ولا يحصل رحمة الله إلا من اقتدى بنبينا خير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
أمر الله لعباده باتباع صراطه المستقيم والنهي عما سواه من السبل
ما يترتب على مخالفة سيد المرسلين من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة
والآية تحتمل أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: لا تجعلوا دعاءكم للرسول عليه الصلاة والسلام، ومناداتكم له عندما تنادونه كما ينادي بعضكم بعضاً، فإياك ثم إياك أن تقول: يا محمد! أو يا ابن عبد الله! لا يصح هذا، هذا رسول الله خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، قل: يا نبي الله! يا رسول الله! يا أفضل خلق الله! فلا تنادوا رسول الله عليه الصلاة والسلام كما ينادي بعضكم بعضاً.
وقد نص الإمام ابن حجر الهيتمي على أن من ذكر النبي عليه الصلاة والسلام وأضافه إلى أبيه ولم ينعته بنعت النبوة والرسالة فينبغي أن يعزّر، وأن يؤدب التأديب البليغ، عندما يقول: قال محمد بن عبد الله، يا عبد الله! ألا تنعته بما نعته رب العالمين: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، عليه الصلاة والسلام، وقال أيضاً: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، عليه الصلاة والسلام.
فإذا ذكرته فقل: قال حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام، قال رسول الله، قال خاتم أنبياء الله على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه، ولا يضاف إلى أبيه عليه صلوات الله وسلامه إلا عند بيان نسبه عليه صلوات الله وسلامه، وما عدا هذا: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]، فإذا دعاكم فإن لدعوته شأناً، وإذا دعوتموه فتأدبوا غاية التأديب مع هذا النبي الحبيب عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [النور:63]. أي: تختفون ويلوذ الواحد بالآخر ليخرج من الاجتماع الذي دعاهم إليه خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، وهذا كان يحصل من المنافقين.
وقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، أي: أن تصيبهم فتنة في هذه الحياة أي بلية ومصيبة عظيمة فاقرة تهلكهم، أو أن تصيبهم فتنة في دينهم فيخرجوا عن دين ربهم عز وجل، وأي فتنة أعظم من مخالفتهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام؟!
إخوتي الكرام! هذه بعض نصوص القرآن تأمرنا بالاقتداء والاتباع لنبينا عليه الصلاة السلام، وتحذرنا من مخالفته عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام! أمرنا الله جل وعلا باتباع نبينا عليه الصلاة والسلام، لئلا نكون من الزائغين المبتدعين، فقال ذو العزة والجلال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:20-24]، وهذا قيد لبيان الواقع، ولا يمكن أن تصدر الدعوة من الله جل وعلا ونبيه عليه الصلاة والسلام على خلاف ذلك، فدعوة الله ودعوة نبيه -خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه- في هذا الأمر، وهي حياتنا في هذه الحياة، حياة حقيقية آمنة مطمئنة توصلنا إلى السعادة والحياة الحقيقية أيضاً بعد الممات.
والآيات في ذلك كثيرة منها قول ذي الجلال والإكرام: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7].
فما أتى به نبينا عليه الصلاة والسلام ينبغي أن نأخذه وأن نتبعه وأن نقتدي به عليه صلوات الله وسلامه.
وقد ربط الله جل وعلا محبته باتباع نبينا عليه الصلاة والسلام، كما علق رحمته باتباع نبينا عليه الصلاة والسلام والاقتداء به على الدوام، فقال جل وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
وهكذا تكون رحمة الله لمن اقتدى بخير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في سورة الأعراف عندما حكى ما جرى من كليمه ونجيه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، من مناجاة بينه وبين ربنا الرحمن مع وفده الذين اختارهم من قومه وكانوا سبعين رجلاً، يقول نبي الله موسى كما حكاه الله جل وعلا عنه: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، أي: تبنا إليك ورجعنا إليك: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، ثم بين من يتصفون بهذه الصفات فقال جل وعلا: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].
إذاً: رحمة الله تكون لهؤلاء، والفلاح يكون لهؤلاء الذين يتبعون الرسول النبي الأمي على نبينا وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، وعليه فقد خرج النصارى من هذا الوصف وخرج اليهود من هذا الوصف، وخرجت كل أمة ضالة ملعونة من هذا الوصف، فلا ينال وصف الفلاح، ولا يحصل رحمة الله إلا من اقتدى بنبينا خير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! وقد أمرنا الله جل وعلا باتباع صراطه المستقيم الذي أتى به نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام وحذرنا من الخروج عنه، فقال جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
وهكذا أخبرنا العزيز الغفور في آخر سورة النور عند وصف المؤمنين، بأنهم يتبعون النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، ويقتدون به في كل حين، وحذرهم الله جل وعلا غاية التحذير من مخالفة هذا النبي البشير النذير على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فمن خالفه فقد عرض نفسه لفتنة الحياة والعذاب بعد الممات، قال الله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:62-63]، المصدر هنا: دُعاء، إما أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي: فلا تجعلوا دعاء الرسول لكم إذا دعاكم للاجتماع كما هو الحال في دعاء بعضكم لبعض، إن شئتم حضرتم، وإن شئتم تخلفتم، وإن شئتم بعد الحضور فارقتم هذا المجلس، فهذا يكون فيما بينكم، أما هذا النبي عليه الصلاة والسلام فإن دعا فالإجابة واجبة، وإذا حضرت فلا ينبغي أن تتخلف وأن تخرج وأن تفارق إلا بإذن منه عليه الصلاة والسلام.
والآية تحتمل أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: لا تجعلوا دعاءكم للرسول عليه الصلاة والسلام، ومناداتكم له عندما تنادونه كما ينادي بعضكم بعضاً، فإياك ثم إياك أن تقول: يا محمد! أو يا ابن عبد الله! لا يصح هذا، هذا رسول الله خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، قل: يا نبي الله! يا رسول الله! يا أفضل خلق الله! فلا تنادوا رسول الله عليه الصلاة والسلام كما ينادي بعضكم بعضاً.
وقد نص الإمام ابن حجر الهيتمي على أن من ذكر النبي عليه الصلاة والسلام وأضافه إلى أبيه ولم ينعته بنعت النبوة والرسالة فينبغي أن يعزّر، وأن يؤدب التأديب البليغ، عندما يقول: قال محمد بن عبد الله، يا عبد الله! ألا تنعته بما نعته رب العالمين: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، عليه الصلاة والسلام، وقال أيضاً: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، عليه الصلاة والسلام.
فإذا ذكرته فقل: قال حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام، قال رسول الله، قال خاتم أنبياء الله على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه، ولا يضاف إلى أبيه عليه صلوات الله وسلامه إلا عند بيان نسبه عليه صلوات الله وسلامه، وما عدا هذا: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور:63]، فإذا دعاكم فإن لدعوته شأناً، وإذا دعوتموه فتأدبوا غاية التأديب مع هذا النبي الحبيب عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا [النور:63]. أي: تختفون ويلوذ الواحد بالآخر ليخرج من الاجتماع الذي دعاهم إليه خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، وهذا كان يحصل من المنافقين.
وقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، أي: أن تصيبهم فتنة في هذه الحياة أي بلية ومصيبة عظيمة فاقرة تهلكهم، أو أن تصيبهم فتنة في دينهم فيخرجوا عن دين ربهم عز وجل، وأي فتنة أعظم من مخالفتهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام؟!
إخوتي الكرام! هذه بعض نصوص القرآن تأمرنا بالاقتداء والاتباع لنبينا عليه الصلاة السلام، وتحذرنا من مخالفته عليه الصلاة والسلام.
قد جاءت الأحاديث الكثيرة التي تأمرنا بالاتباع وتنهانا عن المخالفة والابتداع.
ابتداء النبي عليه الصلاة والسلام خطبته ببيان منزلة هديه ومنزلة البدعة
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث رواه الإمام النسائي في سننه، وابن ماجه في سننه أيضاً، والحديث رواه الإمام البغوي في شرح السنة، والإمام الآجري في كتاب الشريعة، من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام خطيباً يخطب فيهم الجمعة احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ثم يقول: أما بعد إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة )، وزاد الإمام النسائي في سننه بإسناد صحيح: ( وكل ضلالة في النار ).
كان هذا الكلام الحق يقوله نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه في كل جمعة إذا خطب المسلمين، ويغرس هذا المعنى في قلوبهم.
وقوله: ( أصدق الحديث كلام الله )، أي: هو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهو الذي يهدي للتي هي أقوم، وخير الهدي هدي نبينا عليه الصلاة والسلام، وشر الأمور المحدثات المبتدعات، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
الأعمال المحدثة مردودة على أصحابها
ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين، والحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه وأبو داود في سننه والبغوي في شرح السنة أيضاً، ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة، وهو في أعلى درجات الصحة فهو في الصحيحين، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ). أي: مردود عليه لا يقبل عند الله عز وجل.
وفي رواية في صحيح مسلم وقد علقها البخاري في صحيحه بصيغة الجزم، وهي أيضاً في كتاب السنة لـابن أبي عاصم بلفظ: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ )، وفي رواية في سنن أبي داود : ( من صنع أمراً ليس عليه أمرنا فهو ردّ ).
إخوتي الكرام! كان نبينا عليه الصلاة والسلام يغرس هذا المعنى ويؤكد عليه في كثير من المناسبات، لتكون الأمة على وعي تام ولتريد بعبادتها وجه الرحمن كما جاء بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يقبل العمل عند الله إلا إذا أخلصت فيه لله واتبعت فيه رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالتمسك بسنته وهديه
ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه أهل السنن الأربعة إلا الإمام النسائي ، ورواه الإمام البغوي في شرح السنة، ورواه الإمام الدارمي في سننه، وهو في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم ، ورواه الإمام أبو نعيم في حلية الأولياء، ورواه الإمام البيهقي -عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة الله- في كثير من كتبه، فرواه في السنن الكبرى وفي المدخل إلى السنن، ورواه في دلائل النبوة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ورواه في شعب الإيمان، ورواه في كتاب الاعتقاد، ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة، والإمام الآجري في الشريعة، والإمام اللالكائي في شرح أصول أهل السنة، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وهو مروي في غير ذلك من دواوين السنة، والحديث صحيح إسناده كالشمس في رابعة النهار، من رواية أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه قال: ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودِّع فأوصنا ). شعر الصحابة من حرقة نبينا عليه الصلاة والسلام واشتداده في الموعظة في آخر حياته شعروا أنه يوصيهم؛ لأن أجله قد اقترب عليه الصلاة والسلام، حتى اجتهد هذا الاجتهاد في وصية هذه الأمة لتكون على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، (قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ).
ديننا يقوم على كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، كما فهم ذلك سادتنا وأئمتنا سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فمن جرد القرآن عن السنة فهو ضال، ومن جرد القرآن والسنة عن فهم سلفنا فهو ضال، فلابد من اجتماع هذه الأمور الثلاثة: كتاب الله، وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، حسبما فهم سلفنا الكرام الخلفاء الراشدون المهديون ومن سار على نهجهم الميمون.
وتقدم معنا في رواية النسائي في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ... وكل ضلالة في النار ).
تمثيل النبي عليه الصلاة والسلام الصراط المستقيم وسبل الشيطان بواسطة الخطوط
ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، ورواه الإمام الآجري في الشريعة والبزار في مسنده، وابن أبي عاصم في السنة، ورواه الإمام اللالكائي في شرح السنة، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وقد روى الحديث هؤلاء أيضاً باستثناء ابن حبان والحاكم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وأما حديث عبد الله بن مسعود فقد روي أيضاً في غير المصادر التي تقدمت من دواوين السنة، رواه الإمام الطبري في تفسيره، والإمام الطيالسي في مسنده، ورواه البغوي في شرح السنة وفي معالم التنزيل، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، والحديث صحيح، وقد بحث الإمام ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في إسناد هذا الحديث وحقق درجته ومكانته، وقد جرى كلام حول إسناد حديث جابر فيشهد له حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
انظروا كلامه إن شئتم في تفسيره في الجزء الثاني صفحة تسعين ومائة عند الآية التي سيقرؤها نبينا عليه الصلاة والسلام بعد ذكر هذا الحديث الشريف، ولفظ الحديث كما قلت من رواية عبد الله بن مسعود وحديث جابر بمعناه رضي الله عنهم أجمعين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستقيماً ثم قال: هذا صراط الله مستقيماً، ثم خط النبي عليه الصلاة والسلام خطوطاً متعددة عن يمينه وعن شماله، أي: عن يمين هذا الخط وعن شماله، وقال: هذه هي السبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] ).
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
البدعة - عبادة الدعاء والابتداع فيه | 3778 استماع |
البدعة - زيارة النساء للقبور | 3656 استماع |
البدعة - الاجتهاد وموقعه من التشريع | 3156 استماع |
البدعة - الابتداع في الذكر | 2817 استماع |
البدعة - حياة الأنبياء في البرزخ | 2775 استماع |
البدعة - عبادة الذكر والابتداع فيه | 2673 استماع |
البدعة - تعريفها وضوابطها | 2600 استماع |
البدعة - ما يصل للميتين باتفاق المسلمين | 2589 استماع |
البدعة - التشريع لله وحده | 2457 استماع |
البدعة - إهداء القربات البدنية للأموات | 2186 استماع |