شرح سنن أبي داود [105]


الحلقة مفرغة

شرح حديث أم الفضل (إنها لآخر ما سمعت من رسول الله يقرأ بها في المغرب)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: قدر القراءة في المغرب.

حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس : (أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1] فقالت: يا بني! لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب قدر القراءة في المغرب ]، وقد وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على قراءته فيها، فقرأ فيها من طوال المفصل مثل الطور، وقرأ فيها من أواسط المفصل مثل المرسلات، وقرأ فيها من قصار المفصل، وقرأ فيها -أيضاً- بسورة الأعراف، وهي من أطول سور القرآن، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم القراءة في المغرب على أوجه مختلفة، وكلها صحيحة، وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سنة.

ومما أورده أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة حديث أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية ، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله تعالى عن الجميع، وهي زوجة العباس بن عبد المطلب ، وأم أولاده الذين أكبرهم الفضل رضي الله تعالى عن الجميع.

فكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقرأ سورة المرسلات، فقالت أمه: (إنك ذكرتني بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة، وذلك في آخر صلاة جهرية سمعته صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بهذه السورة). فدل هذا الحديث على مشروعية قراءة سورة المرسلات في صلاة المغرب كما جاء بذلك هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل -أيضاً- على أنها آخر قراءة سمعتها أم الفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وأم الفضل هي التي روت الحديث الذي فيه: (أن الناس لما حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع كانوا يتساءلون: هل النبي صلى الله عليه وسلم صائم أو مفطر؟ فأرادت أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم للناس على سبيل العموم حاله عليه الصلاة والسلام هل هو صائم أو مفطر، فقالت: أنا أدلكم على ذلك. فأعطتهم قدحاً فيه لبن فقالت: ناولوه إياه، وكان على ناقته، فشرب منه والناس يرون، وهذا من فطنتها وذكائها رضي الله تعالى عنها وأرضاه).

تراجم رجال إسناد حديث أم الفضل (إنها لآخر ما سمعت من رسول الله يقرأ بها في المغرب)

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبيد الله ].

هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو تابعي مشهور، أحد الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويروي عن أمه أم الفضل، وهي لبابة بنت الحارث الهلالية رضي الله تعالى عنها، وهي -كما قلت- أخت أم المؤمنين ميمونة ، وهناك لبابة الكبرى أم خالد بن الوليد ، ولبابة الصغرى وهي أم الفضل رضي الله تعالى عن الجميع، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.

شرح حديث (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بـ(والطور) في المغرب)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بـوَالطُّورِ [الطور:1] في المغرب) ].

أورد أبو داود رحمه الله حديث جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب) أي: يقرأ بسورة الطور في المغرب، وهي من طوال المفصل؛ لأن المفصل يبدأ بـ (ق) أو بالحجرات إلى آخر القرآن، على قولين، ومبنى هذين القولين على اعتبار بدء العدد من الفاتحة أو من البقرة، أي: تحزيب القرآن، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزبون القرآن سبعة أحزاب، بحيث يقرأ الواحد منهم حزباً في اليوم، فيكمل القرآن في سبعة أيام، فكانوا يجعلونه أحزاباً سبعة.

وقد جاء عن أوس بن أوس أنه قال: (سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثاً، وخمساً، وسبعاً، وتسعاً، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل، وأوله (ق)،) فهي إذن سبعة أحزاب.

فعلى القول بأن الفاتحة معدودة في السور الثلاث -وهي: الفاتحة والبقرة وآل عمران- ينتهى الحزب السادس بسورة الفتح، ثم يأتي حزب المفصل وأوله الحجرات، وعلى القول بأن سورة الفاتحة غير محسوبة وإنما العدد للسور الطوال، وهي: البقرة وآل عمران والنساء تكون (ق) هي أول المفصل، فتكون الحجرات هي آخر الثلاث عشرة التي هي نهاية الحزب السادس.

فسورة الطور من طوال المفصل، وجبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور وكان إذ ذاك مشركاً، ولم يكن قد أسلم بعدُ، وقد جاء عنه في صحيح البخاري أنه قال: (لما بلغ قول الله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] كاد قلبي أن يطير)، وكان ذلك سبباً في إسلامه، وكاد قلبه أن يطير من حسن هذا البيان، ومن هذه البلاغة والفصاحة، وهذا الحديث يدل على أن الكافر إذا تحمل في حال كفره، وأدى في حال إسلامه فإن روايته معتبرة؛ لأن العبرة في حال التأدية بالإسلام، وأما التحمل فسواء كان في حال الكفر، أو في حال الإسلام فإنه لا يضر، فالمهم أن يؤدي ما تحمله في حال إسلامه.

ومثل ذلك -أيضاً- قصة أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم، فإن الأشياء التي جرت بينهما، والإخبار عنه عليه الصلاة والسلام بما كانوا يعرفونه عنه من الصفات، كل ذلك حصل في حال كفره، ولكن هذا الذي جرى من المحاورة بينه وبين هرقل أداه بعد إسلامه، ولهذا يذكر العلماء في (علم المصطلح) أن الكافر إذا تحمل في حال كفره، وأدى ذلك في حال إسلامه فالرواية صحيحة، ومثله في ذلك الصغير، فإنه إذا تحمل في حال صغره، وأدى بعد بلوغه فإن روايته معتبرة صحيحة، فالمهم حال الأداء، وأما التحمل فيمكن أن يكون في الصغر، وهناك عدد من صغار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكبر، وقد تحملوا ذلك في حال الصغر، منهم النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين، فإنه كان من صغار الصحابة، وقد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمره ثمان سنوات، وقد حدث بأحاديث بلفظ (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا لا يكون إلا في حال الصغر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مات وعمره ثمان سنوات، ومما حدث به حديث: (الحلال بين والحرام بين) وهو حديث مشهور متفق على صحته، فإنه قال فيه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فـالنعمان تحمله في حال صغره.

فالحديث الذي معنا -وهو حديث جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه- يدل على أن الكافر إذا تحمل في حال كفره، وأدى في حال إسلامه فذلك صحيح؛ لأن العبرة بحال الأداء وليست بحال التحمل.

تراجم رجال إسناد حديث (سمعت رسول الله يقرأ بـ(والطور) في المغرب )

قوله: [ حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه ].

محمد بن جبير بن مطعم النوفلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

وأبوه جبير بن مطعم النوفلي رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي جاء هو وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا: (يا رسول الله! إنك أعطيت بني المطلب ونحن وإياهم بدرجة واحدة) أي: أعطيت بني المطلب وهم من أولاد عبد مناف ، ونحن -أيضاً- من أولاد عبد مناف ولم تعطنا، فقال: (إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد)، فأعطاهم من الفي، وأما الزكاة فتحرم عليهم، ويعطون -أيضاً- من الغنائم.

فأولاد عبد مناف هم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم وبني المطلب من الخمس، ولم يعط بني نوفل الذين منهم جبير ، ولا بني عبد شمس الذين منهم عثمان رضي الله تعالى عن الجميع، وقد أجابهم عليه الصلاة والسلام بقوله: (إنا وبني المطلب شيء واحد) . ومطعم والد جبير هو الذي أجار النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه الشاعر:

ولو أن مجداً خلد الدهر واحداً

لأبقى مجده الدهر مطعماً

وقد مات على الكفر.

وأما أقسام المفصل فطوال وأواسط وقصار، وقد اختلف العلماء في تحديدها، ولا شك في أن بعضها يتبيّن بالنظر إليه، فالإنسان يستطيع أن يعرف القصار مثل: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ، وإِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا و(العاديات)، و(القارعة)، وما إلى ذلك، وبعضهم يدخل: لَمْ يَكُنِ فيها، والأوساط مثل: (البروج)، و(السماء والطارق)، والطوال مثل: (الذاريات)، و(الطور)، و(النجم) وغير ذلك.

شرح حديث (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم أنه قال: قال لي زيد بن ثابت رضي الله عنه: (ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين؟ قال: قلت: ما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف والأخرى الأنعام. قال: وسألت أنا ابن أبي مليكة ، فقال لي من قبل نفسه: المائدة والأعراف) ].

أورد أبو داود رحمه الله حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه يرويه عنه مروان بن الحكم أنه قال له -أي: زيد بن ثابت - : [ ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل؟ ] والمقصود من ذلك ملازمة القراءة بالقصار دون أن يقرأ شيئاً طويلاً، فهذا هو قصد زيد ، وليس ذلك منعاً للقراءة من القصار، وإنما المقصود من ذلك التنبيه على أن الإنسان لا يقتصر على شيء معين ويترك غيره، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله، فيقرأ من القصار، ومن الطوال، ومن الأواسط وهكذا، ولا يلازم ويداوم على شيء بعينه، فكل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حق، والإنسان يقرأ به، فـزيد بن ثابت رضي الله عنه إنما أنكر عليه الملازمة والمداومة، ولم ينكر عليه القراءة من القصار، فإن ذلك سائغ وجائز، فأنكر المداومة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في المغرب بالسور الطوال، بل قرأ طولى الطوليين، والمقصود بقوله: (طولى) أي: أطول، و(الطوليين) أي: الطويلتين، يعني سورتين طويلتين، وهاتان السورتان هما: الأنعام والأعراف، والأعراف أطولهما، فهي إذن طولى الطوليين، وطولى تأنيث أطول، والطوليين تثنية طولى، فهي أطول السورتين الطويلتين، وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب بالأعراف؛ ليبين أن القراءة في المغرب تكون بالسور القصيرة وبالطويلة.

وقد فسرت الطولى التي قرأ بها بأنها الأعراف، والأخرى هي الأنفال.

وسأل ابن جريج ابن أبي مليكة عن ذلك، فقال من قبل نفسه -يعني: تفسيراً من قبل نفسه-: هي الأعراف والمائدة.

تراجم رجال إسناد حديث (رأيت رسول الله يقرأ بطولى الطوليين ...)

قوله: [ حدثنا الحسن بن علي ].

هو الحسن بن علي الحلواني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي .

[ حدثنا عبد الرزاق ].

هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن جريج ].

ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن أبي مليكة ].

ابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عروة بن الزبير ].

هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن مروان بن الحكم ].

مروان بن الحكم كان إذ ذاك أمير المدينة، وقد تولى الخلافة، خرج له البخاري وأصحاب السنن.

[ عن زيد بن ثابت ].

هو زيد بن ثابت رضي الله عنه الصحابي المشهور، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: قدر القراءة في المغرب.

حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس : (أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [المرسلات:1] فقالت: يا بني! لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب) ].

يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب قدر القراءة في المغرب ]، وقد وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على قراءته فيها، فقرأ فيها من طوال المفصل مثل الطور، وقرأ فيها من أواسط المفصل مثل المرسلات، وقرأ فيها من قصار المفصل، وقرأ فيها -أيضاً- بسورة الأعراف، وهي من أطول سور القرآن، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم القراءة في المغرب على أوجه مختلفة، وكلها صحيحة، وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سنة.

ومما أورده أبو داود رحمه الله تحت هذه الترجمة حديث أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية ، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله تعالى عن الجميع، وهي زوجة العباس بن عبد المطلب ، وأم أولاده الذين أكبرهم الفضل رضي الله تعالى عن الجميع.

فكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقرأ سورة المرسلات، فقالت أمه: (إنك ذكرتني بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة، وذلك في آخر صلاة جهرية سمعته صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بهذه السورة). فدل هذا الحديث على مشروعية قراءة سورة المرسلات في صلاة المغرب كما جاء بذلك هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل -أيضاً- على أنها آخر قراءة سمعتها أم الفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وأم الفضل هي التي روت الحديث الذي فيه: (أن الناس لما حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع كانوا يتساءلون: هل النبي صلى الله عليه وسلم صائم أو مفطر؟ فأرادت أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم للناس على سبيل العموم حاله عليه الصلاة والسلام هل هو صائم أو مفطر، فقالت: أنا أدلكم على ذلك. فأعطتهم قدحاً فيه لبن فقالت: ناولوه إياه، وكان على ناقته، فشرب منه والناس يرون، وهذا من فطنتها وذكائها رضي الله تعالى عنها وأرضاه).

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عبيد الله ].

هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو تابعي مشهور، أحد الفقهاء السبعة في المدينة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويروي عن أمه أم الفضل، وهي لبابة بنت الحارث الهلالية رضي الله تعالى عنها، وهي -كما قلت- أخت أم المؤمنين ميمونة ، وهناك لبابة الكبرى أم خالد بن الوليد ، ولبابة الصغرى وهي أم الفضل رضي الله تعالى عن الجميع، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بـوَالطُّورِ [الطور:1] في المغرب) ].

أورد أبو داود رحمه الله حديث جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب) أي: يقرأ بسورة الطور في المغرب، وهي من طوال المفصل؛ لأن المفصل يبدأ بـ (ق) أو بالحجرات إلى آخر القرآن، على قولين، ومبنى هذين القولين على اعتبار بدء العدد من الفاتحة أو من البقرة، أي: تحزيب القرآن، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزبون القرآن سبعة أحزاب، بحيث يقرأ الواحد منهم حزباً في اليوم، فيكمل القرآن في سبعة أيام، فكانوا يجعلونه أحزاباً سبعة.

وقد جاء عن أوس بن أوس أنه قال: (سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاثاً، وخمساً، وسبعاً، وتسعاً، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل، وأوله (ق)،) فهي إذن سبعة أحزاب.

فعلى القول بأن الفاتحة معدودة في السور الثلاث -وهي: الفاتحة والبقرة وآل عمران- ينتهى الحزب السادس بسورة الفتح، ثم يأتي حزب المفصل وأوله الحجرات، وعلى القول بأن سورة الفاتحة غير محسوبة وإنما العدد للسور الطوال، وهي: البقرة وآل عمران والنساء تكون (ق) هي أول المفصل، فتكون الحجرات هي آخر الثلاث عشرة التي هي نهاية الحزب السادس.

فسورة الطور من طوال المفصل، وجبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور وكان إذ ذاك مشركاً، ولم يكن قد أسلم بعدُ، وقد جاء عنه في صحيح البخاري أنه قال: (لما بلغ قول الله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] كاد قلبي أن يطير)، وكان ذلك سبباً في إسلامه، وكاد قلبه أن يطير من حسن هذا البيان، ومن هذه البلاغة والفصاحة، وهذا الحديث يدل على أن الكافر إذا تحمل في حال كفره، وأدى في حال إسلامه فإن روايته معتبرة؛ لأن العبرة في حال التأدية بالإسلام، وأما التحمل فسواء كان في حال الكفر، أو في حال الإسلام فإنه لا يضر، فالمهم أن يؤدي ما تحمله في حال إسلامه.

ومثل ذلك -أيضاً- قصة أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم، فإن الأشياء التي جرت بينهما، والإخبار عنه عليه الصلاة والسلام بما كانوا يعرفونه عنه من الصفات، كل ذلك حصل في حال كفره، ولكن هذا الذي جرى من المحاورة بينه وبين هرقل أداه بعد إسلامه، ولهذا يذكر العلماء في (علم المصطلح) أن الكافر إذا تحمل في حال كفره، وأدى ذلك في حال إسلامه فالرواية صحيحة، ومثله في ذلك الصغير، فإنه إذا تحمل في حال صغره، وأدى بعد بلوغه فإن روايته معتبرة صحيحة، فالمهم حال الأداء، وأما التحمل فيمكن أن يكون في الصغر، وهناك عدد من صغار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكبر، وقد تحملوا ذلك في حال الصغر، منهم النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه وعن أبيه وعن الصحابة أجمعين، فإنه كان من صغار الصحابة، وقد توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام وعمره ثمان سنوات، وقد حدث بأحاديث بلفظ (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا لا يكون إلا في حال الصغر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مات وعمره ثمان سنوات، ومما حدث به حديث: (الحلال بين والحرام بين) وهو حديث مشهور متفق على صحته، فإنه قال فيه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فـالنعمان تحمله في حال صغره.

فالحديث الذي معنا -وهو حديث جبير بن مطعم النوفلي رضي الله عنه- يدل على أن الكافر إذا تحمل في حال كفره، وأدى في حال إسلامه فذلك صحيح؛ لأن العبرة بحال الأداء وليست بحال التحمل.

قوله: [ حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه ].

محمد بن جبير بن مطعم النوفلي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

وأبوه جبير بن مطعم النوفلي رضي الله تعالى عنه صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو الذي جاء هو وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا: (يا رسول الله! إنك أعطيت بني المطلب ونحن وإياهم بدرجة واحدة) أي: أعطيت بني المطلب وهم من أولاد عبد مناف ، ونحن -أيضاً- من أولاد عبد مناف ولم تعطنا، فقال: (إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد)، فأعطاهم من الفي، وأما الزكاة فتحرم عليهم، ويعطون -أيضاً- من الغنائم.

فأولاد عبد مناف هم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم وبني المطلب من الخمس، ولم يعط بني نوفل الذين منهم جبير ، ولا بني عبد شمس الذين منهم عثمان رضي الله تعالى عن الجميع، وقد أجابهم عليه الصلاة والسلام بقوله: (إنا وبني المطلب شيء واحد) . ومطعم والد جبير هو الذي أجار النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه الشاعر:

ولو أن مجداً خلد الدهر واحداً

لأبقى مجده الدهر مطعماً

وقد مات على الكفر.

وأما أقسام المفصل فطوال وأواسط وقصار، وقد اختلف العلماء في تحديدها، ولا شك في أن بعضها يتبيّن بالنظر إليه، فالإنسان يستطيع أن يعرف القصار مثل: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ، وإِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا و(العاديات)، و(القارعة)، وما إلى ذلك، وبعضهم يدخل: لَمْ يَكُنِ فيها، والأوساط مثل: (البروج)، و(السماء والطارق)، والطوال مثل: (الذاريات)، و(الطور)، و(النجم) وغير ذلك.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2887 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2831 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2728 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2698 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2677 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2674 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2651 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2643 استماع