خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شخصية المسلم
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن كل ملة ونحلة وكل أيديولوجية لها قيم وأسس تبينها وتميزها عما سواها، وإن هذا الدين الذي هو الدين الحق عند الله سبحانه وتعالى له ميزات هي التي تميزه عما سواه، وهي التي يزداد بها منسوب الإيمان في قلوب ذويه، وهي التي يحسن الإنسان بها إيمانه فيصبح حسن الإسلام، ومن عدمها ولو كان مؤمناً بقلبه ولسانه وبعض جوارحه فإن إسلامه غير حسن، وحسن الإسلام هو الذي شرطه الرسول صلى الله عليه وسلم في تكفير الحسنات للسيئات، فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان سلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض أسس حسن الإسلام في قوله: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فعلى هذا الأساس فإن المؤمن مطالب بأن يعرف أسس شخصيته التي يرتضيها له بارئه سبحانه وتعالى، فيتخلق بهذه الأسس ويزيدها في نفسه، وما كان عادماً له منها تاب واستغفر وتدارك التثبيط فيما مضى، وما كان متصفاً به بفطرته أو بتربيته حمد الله عليه ورسخه وزاد فيه.
إن الأسس التي تميز بناء شخصية المسلم متعددة المشارب، فأعظمها وأقدمها: الأساس العقدي، فعقيدة المؤمن المقتضية للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره هي التي تميز تصوره لهذا الكون والحياة، وتميز كذلك تصرفه في حياته هذه، فإن الذي لا يحدد مبادئه بالإيمان يبقى ضائعاً في هذه الحياة مذبذباً كحال المنافقين الذين يقولون عندما يسألون في قبورهم: لا ندري، فالمنافق والمرتاب إذا سئل قال: لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
والمؤمن الصامد الثابت إذا سئل في قبره: ما ربك وما دينك وما تقول في هذا الرجل؟ يقول: الله ربي، والإسلام ديني، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا؛ ولذلك يجيبه الملائكة بقولهم: قد علمنا إن كنت لموقنا.
فهذا الأساس العقدي يميز شخصية المسلم ويلزمه بكثير من الأعمال وكثير من الأخلاق، وكثير من التصرفات، ويرد عنه ما يقابلها.
الأساس العقدي مقتض محبة الله وعبادته ومحبة رسوله
ومن هنا فهذا الأساس الأول مقتض من الإنسان محبة الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وحده ورجائه وخوفه والأدب معه، وكذلك مقتض لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر رسل الله، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية لتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وأن لا يعبد الله إلا بما بلغ عنه.. هذه ثلاثة أمور هي مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.
الأساس العقدي يقتضي من الإنسان الصبر والثبات والثقة بالله وحده
وكذلك فإن هذه الأسس العقدية تقتضي من الإنسان الصمود والصبر والثبات وعدم التزحزح، فالذي يؤمن بالله وحده ويعلم أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، وأن الله كتب ما هو كائن في قدره النافذ، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن الأمة كلها لو اجتمعت على أن تنفعه بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له، وأنها لو اجتمعت على أن تضره بشيء لم تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه؛ لا يمكن أن يخضع ويذل لغير الله، ولا يمكن أن يؤثر رضا المخلوق على رضا الله، ولا يمكن أن يخاف إلا من الله سبحانه وتعالى وحده، ذلك لأن إيمانه بالله سبحانه وتعالى مقتض لمعرفته به، بمعرفته وأنه ديان السماوات والأرض الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بيده مقاليد كل شيء، هو الحق الملك المبين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويعلم أنه سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء فلا يعجزه شيء، وأنه المدبر للكون كله، وأنه لا يغفل عنه لحظة واحدة، ومن هنا فإن قناعته بهذا مقتضية منه تمام التعلق بالله والاتصال به والتوكل عليه ورجائه وخوفه، وعدم رجاء من سواه أو خوفه أو الاعتماد عليه في أي شيء؛ لعلمه أن كل من سوى الله لا يملك لنفسه فضلاً عن الغير حياة ولا موتاً ولا نشوراً ولا نفعاً ولا ضرراً، ومن هنا لا يحق أن يتوكل عليه ولا أن يرجى نفعه ولا أن يخاف ضرره.
وإيمان الإنسان الراسخ بأن الأنفس كلها بيد الله، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، مقتض منه كذلك أن لا يثق فيما سوى الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي لا يبدو له البداء، فعلمه سابق لكل خلقه أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[البقرة:231] والمخلوق يبدو له البداء في كل لحظة، فيتغير رأيه ويعدل عن الآراء التي كان يراها.
الأساس العقدي يقتضي صرف العبادة لله وحده
كذلك فإن عقيدة المسلم هذه تقتضي منه أن يميز بين الخالق والمخلوق تمييزاً كاملاً، فمقتضيات الألوهية لا يعدل بشيء منها إلى المخلوق لعلمه أنها من خصائص الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يمكن أن يصرف شيئاً منها للمخلوق، فلا يمكن أن تصرف عبادة للمخلوق أياً كانت لا في ظاهرها ولا في باطنها، فالمؤمن ذو الشخصية الإسلامية القوية لا يصرف شيئاً من عبادته الباطنية لمخلوق، فلا يرائي ولا يلتفت بشيء من عباداته لغير الله، لعلمه بالمراقبة الحقيقية (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه) .
وكذلك لا يعدل عنه بشيء من عباداته الظاهرة، فلا نذر للمخلوق، ولا رجاء ولا خوف؛ لأنه لا يأتي من عنده إلا ما كتبه الله، ومن هنا لن يصرف للمخلوق أي جزء من أجزاء العبادة بأي وجه من الوجوه؛ لأنها من خصائص الألوهية، حتى لو كان هذا المخلوق أشرف الخلق على الله وأكرمهم لديه وأحبهم إلى الناس وأنفعهم لهم، فرسل الله وملائكته المقربون عليهم السلام هم أبلغ عباد الله تحقيقاً لهذه العقيدة؛ ولهذا قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء:57] ويقول في وصف الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[الأنبياء:90] ويقول في وصف من ارتضى عملهم، ويدخل فيهم الأنبياء وغيرهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ[السجدة:16-18].
هذا الأساس مقتض لهذا التميز وعدم الميوعة، أما من اختل لديه شيء من الأسس العقدية فسيضع كل شيء في غير موضعه، فيجعل العبادة في غير موضعها فلا يتجه بها اتجاهها الصحيح، ويجعل التوكل في غير موضعه فلا يتجه به الاتجاه الصحيح، ويجعل الخوف والرجاء في غير موضعهما فلا يتجه بهما الاتجاه الصحيح، ومن هنا يصاب بالتذبذب كحال المنافقين الذين قال الله فيهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا[النساء:143] .
ومن هنا فهذا الأساس الأول مقتض من الإنسان محبة الله سبحانه وتعالى والتوكل عليه وحده ورجائه وخوفه والأدب معه، وكذلك مقتض لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر رسل الله، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتضية لتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وأن لا يعبد الله إلا بما بلغ عنه.. هذه ثلاثة أمور هي مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله.
وكذلك فإن هذه الأسس العقدية تقتضي من الإنسان الصمود والصبر والثبات وعدم التزحزح، فالذي يؤمن بالله وحده ويعلم أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، وأن الله كتب ما هو كائن في قدره النافذ، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف، وأن الأمة كلها لو اجتمعت على أن تنفعه بشيء لم تنفعه إلا بشيء قد كتبه الله له، وأنها لو اجتمعت على أن تضره بشيء لم تضره إلا بشيء قد كتبه الله عليه؛ لا يمكن أن يخضع ويذل لغير الله، ولا يمكن أن يؤثر رضا المخلوق على رضا الله، ولا يمكن أن يخاف إلا من الله سبحانه وتعالى وحده، ذلك لأن إيمانه بالله سبحانه وتعالى مقتض لمعرفته به، بمعرفته وأنه ديان السماوات والأرض الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بيده مقاليد كل شيء، هو الحق الملك المبين لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويعلم أنه سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء فلا يعجزه شيء، وأنه المدبر للكون كله، وأنه لا يغفل عنه لحظة واحدة، ومن هنا فإن قناعته بهذا مقتضية منه تمام التعلق بالله والاتصال به والتوكل عليه ورجائه وخوفه، وعدم رجاء من سواه أو خوفه أو الاعتماد عليه في أي شيء؛ لعلمه أن كل من سوى الله لا يملك لنفسه فضلاً عن الغير حياة ولا موتاً ولا نشوراً ولا نفعاً ولا ضرراً، ومن هنا لا يحق أن يتوكل عليه ولا أن يرجى نفعه ولا أن يخاف ضرره.
وإيمان الإنسان الراسخ بأن الأنفس كلها بيد الله، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، مقتض منه كذلك أن لا يثق فيما سوى الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي لا يبدو له البداء، فعلمه سابق لكل خلقه أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[البقرة:231] والمخلوق يبدو له البداء في كل لحظة، فيتغير رأيه ويعدل عن الآراء التي كان يراها.
كذلك فإن عقيدة المسلم هذه تقتضي منه أن يميز بين الخالق والمخلوق تمييزاً كاملاً، فمقتضيات الألوهية لا يعدل بشيء منها إلى المخلوق لعلمه أنها من خصائص الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يمكن أن يصرف شيئاً منها للمخلوق، فلا يمكن أن تصرف عبادة للمخلوق أياً كانت لا في ظاهرها ولا في باطنها، فالمؤمن ذو الشخصية الإسلامية القوية لا يصرف شيئاً من عبادته الباطنية لمخلوق، فلا يرائي ولا يلتفت بشيء من عباداته لغير الله، لعلمه بالمراقبة الحقيقية (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه وقال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه) .
وكذلك لا يعدل عنه بشيء من عباداته الظاهرة، فلا نذر للمخلوق، ولا رجاء ولا خوف؛ لأنه لا يأتي من عنده إلا ما كتبه الله، ومن هنا لن يصرف للمخلوق أي جزء من أجزاء العبادة بأي وجه من الوجوه؛ لأنها من خصائص الألوهية، حتى لو كان هذا المخلوق أشرف الخلق على الله وأكرمهم لديه وأحبهم إلى الناس وأنفعهم لهم، فرسل الله وملائكته المقربون عليهم السلام هم أبلغ عباد الله تحقيقاً لهذه العقيدة؛ ولهذا قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء:57] ويقول في وصف الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[الأنبياء:90] ويقول في وصف من ارتضى عملهم، ويدخل فيهم الأنبياء وغيرهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ[السجدة:16-18].
هذا الأساس مقتض لهذا التميز وعدم الميوعة، أما من اختل لديه شيء من الأسس العقدية فسيضع كل شيء في غير موضعه، فيجعل العبادة في غير موضعها فلا يتجه بها اتجاهها الصحيح، ويجعل التوكل في غير موضعه فلا يتجه به الاتجاه الصحيح، ويجعل الخوف والرجاء في غير موضعهما فلا يتجه بهما الاتجاه الصحيح، ومن هنا يصاب بالتذبذب كحال المنافقين الذين قال الله فيهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا[النساء:143] .
الإنسان مفطور على العبادة
الأساس الثاني بعد الأساس العقدي: هو الأساس التعبدي:
فمن شخصية المؤمن أنه عابد بطبعه، والإنسان مفطور على العبادة، فإذا عرف أن الله يستحق العبادة أبره بهذه العبادة، وإن لم يعرف إلهه بدأ يلتمس شيئاً يعبده، فلا بد أن يعبد شجراً أو حجراً أو مدراً أو غير ذلك، لأنه بطبعه مفطور على العبودية، والذي يزعم من البشر أنه هو الإله منتكس الفطرة مكذب لنفسه؛ ولذلك كان عمل فرعون وغيره من الذين ادعوا الربوبية نشازاً في عالم البشرية، فالبشر لا يمكن أن يصدقوا هذا، ومن الغريب أنه إذا لم يهتد الإنسان إلى ربه وإلهه فإنه يعبد شيئاً هو أشرف منه في الواقع، فقد كان الناس في أيام الجاهلية يعبدون الحجارة التي يصنعونها؛ ولهذا نبهم خليل الله إبراهيم إلى أنهم أشرف من هذه الحجارة وأعظم منها.
وكذلك كانوا يعبدون أتفه الأشياء، فقد حدث طارق بن شهاب : أنهم كانوا إذا وجدوا حجراً فأعجبهم عبدوه، فإذا وجدوا حجراً آخر أحسن منه عدلوا عن الأول وكسروه وعبدوا الثاني، فإذا لم يجدوا حجراً جمعوا تراباً واحتلبوا عليه شاة فإذا يبس عبدوه من دون الله.
هذا من انتكاس الفطرة، والموافق للفطرة إنما هو العبودية، فالإنسان بطبعه عبد، والذين يدعون الحرية ويدعون إليها يعلمون أن تلك الحرية مقيدة، وأن لها حدوداً لا بد أن تنتهي إليها، فالإنسان مفطور على العبودية.
قيمة الإنسان في هذه الحياة قيامه بالعبادة
لهذا فإن من أسس بناء شخصية المؤمن أن يكون عابداً لله سبحانه وتعالى وأن يكون مسارعاً في ذلك، وأن يعلم أن قيمته هي هذه العبادة، فقيمة كل شيء ما ينفع فيه، فمثلاً: هذا الجهاز قيمته أنه وضع للتسجيل، فما دام يقوم بوظيفته فهو ذو سعر مرتفع، وإذا خرب ولم يؤد هذا الدور لم يبق له ثمن، والإنسان كذلك خلق من أجل العبادة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات:56-58]، فإذا فقد الإنسان هذه القيمة ولم يؤد هذه العبادة أو كان يؤديها بدور ناقص، مثل الجهاز إذا كان يسجل لكن بتشويش وأصوات مزعجة، فإنه تنحط قيمته ويقل سعره.
وبهذا فإن الفضل في البشرية إنما يكون بحسب التقوى والعبادة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، وهذه القيمة لا شك أنها متدرجة متفاوتة، فأعظم العبادات وأجلها ما افترضه الله على عباده، ودونها سياجها المكمل لها من السنن والمندوبات، فالواجبات مثل البيت والسنن والمندوبات مثل السور الذي يحيط بالبيت ويعصمه من السراق ومن اللصوص والسيارات والبهائم، والبيت محتاج إلى هذا السور الذي يحيط به، وكذلك العبادات في تكميلها وتتميمها بهذه السنن والمندوبات، ومن فرط في شيء منها فإن ذلك سيكون على حساب الأصل؛ لأن العبادة كل متكامل، فإذا فرط الإنسان في المندوبات ساقه ذلك إلى التفريط في السنن، وإذا فرط في السنن ساقه ذلك إلى التفريط في الفرائض التي هي رأس المال.
أثر النية الصالحة في رفع الدرجات
والله تعالى من فضله وكرمه أن أتاح للإنسان كثيراً من الفرص في مجال العبادات، من أعظم هذه الفرص فرصة النية، فالإنسان وقته محصور وجهده يسير لكن ينوي للعمل الواحد عشرين نية، فيكتب له عدد هذه النيات من الأعمال، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً خرج فرأى كثيباً أهيلاً من الرمل فتمنى لو كان له مثله سويقاً فينفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة حسناته فإذا فيها كثيب أهيل من السويق، فقال: من أين لي هذا وما أبصرته عيناي قط؟ فقال: إنك مررت بكثيب رمل فتمنيت لو كان لك مثله سويق فتنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك).
ونية المؤمن أبلغ من عمله، ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) .
وهذه النية يمكن أن تنمى وينمى بها العمل ويزداد، فإذا جاء الإنسان وأدرك الناس في أثناء الصلاة فإنه ينوي أداء هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام، ثم ينوي كذلك الحفاظ عليها حين أمره الله بذلك، وينوي المحافظة على الصلاة الوسطى؛ لأن أرجح شيء فيها أنها صلاة العصر، وينوي كذلك تكثير سواد المسلمين، وينوي كذلك أن أجر خطاه إلى المسجد: فلا يرفع خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة، وأن لا يمر على شيء إلا شهد له، وأن يعتدل في الصف كما تصف الملائكة عند ربها، وأن يحبس جوارحه عن المعصية ما دام في المسجد، وأن (يأتي لعلم يعلمه أو يتعلمه فيكون كالمجاهد في سبيل الله ويرجع غانماً) كما أخرج مالك في الموطأ، وأن يكون كذلك من الذين يتعرفون على الله في الرخاء حتى يعرفهم في الشدة، ومن الذين يتعرفون على ملائكة الله الذين يستغفرون لعباده وهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، وأن يكون كذلك من الذين يترهبون بعمارة المساجد ولو لحظة، وأن يلتمس دعاء المسلمين في المساجد، وأن يكون من عمارها: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ[التوبة:18] ، وأن يكون كذلك من الذين يلتمسون بركة الذين يعمرون هذه المساجد من الملائكة ومن صالحي الإنس والجن، فدعواتهم وأخلاقهم ومجالستهم تغفر بها الذنوب كما في الحديث الصحيح: (أشهدوا أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). كذلك نية تحية المسجد، إذا جاء الإنسان ووجد الإمام في أثناء الصلاة، فهذه الفريضة بالإمكان أن ينوي بها السنة، فينوي بها أيضاً تحية المسجد فتحسب له صلاة أخرى زائدة على أصل ذلك.
كل هذه النيات تكتب أعمالاً مستقلة في ميزان الحسنات الذي توزن فيه مثاقيل الذر وهي أصغر شيء: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء:47] .. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8] .
مما ينمي العبادات ويزكيها الإخلاص لله وموافقتها للشرع
كذلك مما ينمي هذه العبادات ويزكيها: الإخلاص فيها لله سبحانه وتعالى وموافقتها لما شرع، وهذان الركنان هما ركنا صلاح العمل:
الركن الأول: أن يكون الإنسان مخلصاً في كل حركاته وعباداته وحده ديان السماوات والأرض، لا يشرك معه غيره في شيء من تصرفاته، فهو الملك الحق المبين الذي يقول فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، فأنا أغنى الشركاء عن الشرك) ومن هنا يحاول الإنسان الإخلاص في تصرفاته، وقد كان كثيرٌ من الصالحين إذا بدأ عملاً في العبادة ثم تذكر أن بعض النيات قد ندت عن ذهنه، أو قصر عنها تفكيره رجع عنها إلى الوراء حتى يبتدئ العمل بهذه النيات المخلصة كلها.
والركن الثاني: أن تكون هذه العبادة موافقة لما شرع الله، فكم من أقوام يعبدون ولا يستريحون ولا يفترون؛ لكن عبادتهم غير موافقة لما شرع الله فلا يتقبلها الله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ[الغاشية:2-7]، فهؤلاء خالفوا فلم يتقبل الله تعالى عبادتهم وردها عليهم؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن من أكبر المصائب على الإنسان العابد أن يكون أجنى جناياته عبادته التي يريد بها التقرب إلى الله، فإذا كانت الصلاة -التي هي القربة الأولى لدى الإنسان يتقرب بها إلى الله- هي الجناية الكبرى يوم القيامة، فهذا من أعظم المصائب.
ومن هنا فعلى الإنسان فيما يتعلق بعباداته أن يتعلم ما شرعه الله فيها، وأن يحافظ على ذلك، فهذا هو إقامتها والمحافظة عليها، فإنه لا ينبغي أن يمل الناس من دراسة أحكامها وسننها وهيئاتها وآدابها الكثيرة التي لا نرى تطبيق كثير منها، فكثير من الناس يعلم هيئة الركوع ولكنه لا يعطيه وقتاً ولا يطمئن فيه، وكثير منهم يعلم هيئة السجود ولكنه لا يؤديه كما شرع! فنراه منقبضاً يدخل مرفقيه عند بطنه ويمس جنبيه بضبعيه! ويخالف الهدي النبوي في هيئة الصلاة كلها.
إن دراسة الهدي النبوي في العبادة مقتض من الإنسان أن يحسن هذه العبادة، التي هي قيمة وأساس شخصيته، ومن هنا اعتنى كثير من أهل العلم ببيان الهدي النبوي في العبادات، ومن هؤلاء شمس الدين بن القيم رحمه الله الذي ألف كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد)، فحاول أن يجمع فيه الهدي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هيئات التعبدات ليكون ذلك معيناً للمسلم على تطبيق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء الحافظ البغوي رحمه الله فقد ألف كتابه (مصابيح السنة) ورتبه في كل عبادة وفي كل باب على فصلين:
الفصل الأول: ما جاء في الصحيحين.
الفصل الثاني: ما كان في السنن والمسانيد والمعاجم.
وسمى الأول الصحاح والثاني الحسان، وإن كان أهل الحديث قد لاحظوا عليه هذا الاصطلاح؛ لأن أحاديث السنن منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف فلا توصف كلها بالحسن؛ ولهذا قال العراقي رحمه الله في الألفية:
والبغوي قسم المصابحا إلى الصحاح والحسان جانحا
أن الحسان ما رووه في السنن عيب عليه إذ بها غير الحسن
لكن مع هذا جمع هذا الجمع المفيد الطيب الذي أفاد الناس في مختلف العصور، وجاء بعده الإمام التبريزي رحمه الله فاختصر (المصابيح) واستخرج منها أهم أحاديث الأبواب في كتابه (مشكاة المصابيح)، وهذا الكتاب ميسر وسهل وفي متناول الأيدي، وبالإمكان أن يرجع الإنسان فيه إلى الهدي النبوي في كل تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك أصلاً يرجع إليه في إحسان عباداته لله وحده.
إن هذه القيمة التعبدية هي التي بها النور، والإنسان محتاج إليه، فنور بصيرته وفهمه وأدبه مع الله إنما يستقى من قيمته التعبدية، فهي أساس عظيم من أسس شخصيته تستنير بها بصيرته ويستنير بها وجهه وقلبه ويصلح للتلقي عن الله سبحانه وتعالى والتفهم في كتابه، ومن عدم هذه القيمة لم ينل وقار العلم ولا هيبته، حتى لو أفنى عمره في الدراسات ولن يستشعر هذه العظمة والسعادة والراحة القلبية التي عبر عنها أحد العلماء في هذه البلاد بقوله: إن من أعظم النعم التي تذاق بها حلاوة الإيمان أن يأتي إلى الإنسان خطاب من ربه أن افعل كذا، فيكون قد علم حكمه وعرف هيئته الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأداه على وفق ما شرع، فيحصل له بهذا سعادة عجيبة.
الأساس الثاني بعد الأساس العقدي: هو الأساس التعبدي:
فمن شخصية المؤمن أنه عابد بطبعه، والإنسان مفطور على العبادة، فإذا عرف أن الله يستحق العبادة أبره بهذه العبادة، وإن لم يعرف إلهه بدأ يلتمس شيئاً يعبده، فلا بد أن يعبد شجراً أو حجراً أو مدراً أو غير ذلك، لأنه بطبعه مفطور على العبودية، والذي يزعم من البشر أنه هو الإله منتكس الفطرة مكذب لنفسه؛ ولذلك كان عمل فرعون وغيره من الذين ادعوا الربوبية نشازاً في عالم البشرية، فالبشر لا يمكن أن يصدقوا هذا، ومن الغريب أنه إذا لم يهتد الإنسان إلى ربه وإلهه فإنه يعبد شيئاً هو أشرف منه في الواقع، فقد كان الناس في أيام الجاهلية يعبدون الحجارة التي يصنعونها؛ ولهذا نبهم خليل الله إبراهيم إلى أنهم أشرف من هذه الحجارة وأعظم منها.
وكذلك كانوا يعبدون أتفه الأشياء، فقد حدث طارق بن شهاب : أنهم كانوا إذا وجدوا حجراً فأعجبهم عبدوه، فإذا وجدوا حجراً آخر أحسن منه عدلوا عن الأول وكسروه وعبدوا الثاني، فإذا لم يجدوا حجراً جمعوا تراباً واحتلبوا عليه شاة فإذا يبس عبدوه من دون الله.
هذا من انتكاس الفطرة، والموافق للفطرة إنما هو العبودية، فالإنسان بطبعه عبد، والذين يدعون الحرية ويدعون إليها يعلمون أن تلك الحرية مقيدة، وأن لها حدوداً لا بد أن تنتهي إليها، فالإنسان مفطور على العبودية.
لهذا فإن من أسس بناء شخصية المؤمن أن يكون عابداً لله سبحانه وتعالى وأن يكون مسارعاً في ذلك، وأن يعلم أن قيمته هي هذه العبادة، فقيمة كل شيء ما ينفع فيه، فمثلاً: هذا الجهاز قيمته أنه وضع للتسجيل، فما دام يقوم بوظيفته فهو ذو سعر مرتفع، وإذا خرب ولم يؤد هذا الدور لم يبق له ثمن، والإنسان كذلك خلق من أجل العبادة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات:56-58]، فإذا فقد الإنسان هذه القيمة ولم يؤد هذه العبادة أو كان يؤديها بدور ناقص، مثل الجهاز إذا كان يسجل لكن بتشويش وأصوات مزعجة، فإنه تنحط قيمته ويقل سعره.
وبهذا فإن الفضل في البشرية إنما يكون بحسب التقوى والعبادة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، وهذه القيمة لا شك أنها متدرجة متفاوتة، فأعظم العبادات وأجلها ما افترضه الله على عباده، ودونها سياجها المكمل لها من السنن والمندوبات، فالواجبات مثل البيت والسنن والمندوبات مثل السور الذي يحيط بالبيت ويعصمه من السراق ومن اللصوص والسيارات والبهائم، والبيت محتاج إلى هذا السور الذي يحيط به، وكذلك العبادات في تكميلها وتتميمها بهذه السنن والمندوبات، ومن فرط في شيء منها فإن ذلك سيكون على حساب الأصل؛ لأن العبادة كل متكامل، فإذا فرط الإنسان في المندوبات ساقه ذلك إلى التفريط في السنن، وإذا فرط في السنن ساقه ذلك إلى التفريط في الفرائض التي هي رأس المال.
والله تعالى من فضله وكرمه أن أتاح للإنسان كثيراً من الفرص في مجال العبادات، من أعظم هذه الفرص فرصة النية، فالإنسان وقته محصور وجهده يسير لكن ينوي للعمل الواحد عشرين نية، فيكتب له عدد هذه النيات من الأعمال، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً خرج فرأى كثيباً أهيلاً من الرمل فتمنى لو كان له مثله سويقاً فينفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة حسناته فإذا فيها كثيب أهيل من السويق، فقال: من أين لي هذا وما أبصرته عيناي قط؟ فقال: إنك مررت بكثيب رمل فتمنيت لو كان لك مثله سويق فتنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك).
ونية المؤمن أبلغ من عمله، ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[النساء:100]، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) .
وهذه النية يمكن أن تنمى وينمى بها العمل ويزداد، فإذا جاء الإنسان وأدرك الناس في أثناء الصلاة فإنه ينوي أداء هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام، ثم ينوي كذلك الحفاظ عليها حين أمره الله بذلك، وينوي المحافظة على الصلاة الوسطى؛ لأن أرجح شيء فيها أنها صلاة العصر، وينوي كذلك تكثير سواد المسلمين، وينوي كذلك أن أجر خطاه إلى المسجد: فلا يرفع خطوة إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها سيئة وكتبت له بها حسنة، وأن لا يمر على شيء إلا شهد له، وأن يعتدل في الصف كما تصف الملائكة عند ربها، وأن يحبس جوارحه عن المعصية ما دام في المسجد، وأن (يأتي لعلم يعلمه أو يتعلمه فيكون كالمجاهد في سبيل الله ويرجع غانماً) كما أخرج مالك في الموطأ، وأن يكون كذلك من الذين يتعرفون على الله في الرخاء حتى يعرفهم في الشدة، ومن الذين يتعرفون على ملائكة الله الذين يستغفرون لعباده وهم على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول فالأول، وأن يكون كذلك من الذين يترهبون بعمارة المساجد ولو لحظة، وأن يلتمس دعاء المسلمين في المساجد، وأن يكون من عمارها: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ[التوبة:18] ، وأن يكون كذلك من الذين يلتمسون بركة الذين يعمرون هذه المساجد من الملائكة ومن صالحي الإنس والجن، فدعواتهم وأخلاقهم ومجالستهم تغفر بها الذنوب كما في الحديث الصحيح: (أشهدوا أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). كذلك نية تحية المسجد، إذا جاء الإنسان ووجد الإمام في أثناء الصلاة، فهذه الفريضة بالإمكان أن ينوي بها السنة، فينوي بها أيضاً تحية المسجد فتحسب له صلاة أخرى زائدة على أصل ذلك.
كل هذه النيات تكتب أعمالاً مستقلة في ميزان الحسنات الذي توزن فيه مثاقيل الذر وهي أصغر شيء: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء:47] .. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه[الزلزلة:7-8] .
كذلك مما ينمي هذه العبادات ويزكيها: الإخلاص فيها لله سبحانه وتعالى وموافقتها لما شرع، وهذان الركنان هما ركنا صلاح العمل:
الركن الأول: أن يكون الإنسان مخلصاً في كل حركاته وعباداته وحده ديان السماوات والأرض، لا يشرك معه غيره في شيء من تصرفاته، فهو الملك الحق المبين الذي يقول فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، فأنا أغنى الشركاء عن الشرك) ومن هنا يحاول الإنسان الإخلاص في تصرفاته، وقد كان كثيرٌ من الصالحين إذا بدأ عملاً في العبادة ثم تذكر أن بعض النيات قد ندت عن ذهنه، أو قصر عنها تفكيره رجع عنها إلى الوراء حتى يبتدئ العمل بهذه النيات المخلصة كلها.
والركن الثاني: أن تكون هذه العبادة موافقة لما شرع الله، فكم من أقوام يعبدون ولا يستريحون ولا يفترون؛ لكن عبادتهم غير موافقة لما شرع الله فلا يتقبلها الله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ[الغاشية:2-7]، فهؤلاء خالفوا فلم يتقبل الله تعالى عبادتهم وردها عليهم؛ ولذلك قال بعض العلماء: إن من أكبر المصائب على الإنسان العابد أن يكون أجنى جناياته عبادته التي يريد بها التقرب إلى الله، فإذا كانت الصلاة -التي هي القربة الأولى لدى الإنسان يتقرب بها إلى الله- هي الجناية الكبرى يوم القيامة، فهذا من أعظم المصائب.
ومن هنا فعلى الإنسان فيما يتعلق بعباداته أن يتعلم ما شرعه الله فيها، وأن يحافظ على ذلك، فهذا هو إقامتها والمحافظة عليها، فإنه لا ينبغي أن يمل الناس من دراسة أحكامها وسننها وهيئاتها وآدابها الكثيرة التي لا نرى تطبيق كثير منها، فكثير من الناس يعلم هيئة الركوع ولكنه لا يعطيه وقتاً ولا يطمئن فيه، وكثير منهم يعلم هيئة السجود ولكنه لا يؤديه كما شرع! فنراه منقبضاً يدخل مرفقيه عند بطنه ويمس جنبيه بضبعيه! ويخالف الهدي النبوي في هيئة الصلاة كلها.
إن دراسة الهدي النبوي في العبادة مقتض من الإنسان أن يحسن هذه العبادة، التي هي قيمة وأساس شخصيته، ومن هنا اعتنى كثير من أهل العلم ببيان الهدي النبوي في العبادات، ومن هؤلاء شمس الدين بن القيم رحمه الله الذي ألف كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد)، فحاول أن يجمع فيه الهدي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هيئات التعبدات ليكون ذلك معيناً للمسلم على تطبيق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء الحافظ البغوي رحمه الله فقد ألف كتابه (مصابيح السنة) ورتبه في كل عبادة وفي كل باب على فصلين:
الفصل الأول: ما جاء في الصحيحين.
الفصل الثاني: ما كان في السنن والمسانيد والمعاجم.
وسمى الأول الصحاح والثاني الحسان، وإن كان أهل الحديث قد لاحظوا عليه هذا الاصطلاح؛ لأن أحاديث السنن منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف فلا توصف كلها بالحسن؛ ولهذا قال العراقي رحمه الله في الألفية:
والبغوي قسم المصابحا إلى الصحاح والحسان جانحا
أن الحسان ما رووه في السنن عيب عليه إذ بها غير الحسن
لكن مع هذا جمع هذا الجمع المفيد الطيب الذي أفاد الناس في مختلف العصور، وجاء بعده الإمام التبريزي رحمه الله فاختصر (المصابيح) واستخرج منها أهم أحاديث الأبواب في كتابه (مشكاة المصابيح)، وهذا الكتاب ميسر وسهل وفي متناول الأيدي، وبالإمكان أن يرجع الإنسان فيه إلى الهدي النبوي في كل تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك أصلاً يرجع إليه في إحسان عباداته لله وحده.
إن هذه القيمة التعبدية هي التي بها النور، والإنسان محتاج إليه، فنور بصيرته وفهمه وأدبه مع الله إنما يستقى من قيمته التعبدية، فهي أساس عظيم من أسس شخصيته تستنير بها بصيرته ويستنير بها وجهه وقلبه ويصلح للتلقي عن الله سبحانه وتعالى والتفهم في كتابه، ومن عدم هذه القيمة لم ينل وقار العلم ولا هيبته، حتى لو أفنى عمره في الدراسات ولن يستشعر هذه العظمة والسعادة والراحة القلبية التي عبر عنها أحد العلماء في هذه البلاد بقوله: إن من أعظم النعم التي تذاق بها حلاوة الإيمان أن يأتي إلى الإنسان خطاب من ربه أن افعل كذا، فيكون قد علم حكمه وعرف هيئته الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأداه على وفق ما شرع، فيحصل له بهذا سعادة عجيبة.