شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [61]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلازلنا نتدارس الطرق التي ينبغي أن يحصن بها أهل الإيمان أنفسهم من الشيطان، وقلت: هذه الطرق على كثرتها وتعددها تنقسم إلى طريقين اثنين:

الأول: ينبغي أن نحصن أنفسنا منه وأن نحذره، والأمر الثاني: ينبغي أن نحصن أنفسنا به وأن نفعله.

الأمر الأول كما تقدم معنا يدور على سبعة أمور، والثاني يدور على ثمانية أمور، وكنا نتدارس الأمر الأول، وكان في الحسبان كما ذكرت أن ننتهي من آخر أمور الأمر الأول في الموعظة الماضية، لكن امتد معنا البحث إلى جزئية نتدارسها في هذه الموعظة بعون الله وتوفيقه.

والأمور السبعة التي في الأمر الأول كما تقدم سردها مراراً هي:

أولها: حفظ الخطرات، وثانيها: حفظ اللحظات، وثالثها: حفظ اللفظات، ورابعها: حفظ الخطوات، وخامسها: حفظ السمع الذي هو آلة المسموعات، وسادسها: حفظ البطن التي هي منبع الشهوات، وسابعها: حفظ الفرج الذي هو أيضاً منبع الآفات والزلات نسأل الله العافية من كل دنس.

تقدم معنا أنه يراد بحفظ الفرج أمران: حفظ العورة ستراً واستعمالاً، فلا نكشفها ولا نستعملها فيما حرم الله عز وجل، وتقدم معنا أن الاستعمال له صور متعددة فينبغي أن نصون فروجنا عن الزنا واللواط ووطء المرأة في دبرها والسحاق بين النساء والمباشرة في ما دون السبيلين والاستمناء وفعل الفاحشة مع البهائم ووطء المرأة في قبلها حال حيضها، والأمر التاسع ما يصلح أن يراه كل من الزوجين من صاحبه، ثم ختمتها بأمر عاشر ألا وهو عورة كل من الذكور والإناث.

وبعد أن تدارسنا ما يتعلق بعورة الصنفين تفصيلاً وتدليلاً ذكرت أيضاً تسع مسائل وبدأنا بالعاشرة وهي التي سنتدارسها في هذه الموعظة.

أولها: ما يحل للزوج أن ينظره من زوجته، وثانيها كما تقدم معنا: ما يحل للمحارم أن ينظروه من المرأة، وثالثها: ما يحل للأجنبي أن يراه من المرأة، ورابعها: ما يحل للمرأة أن تراه من المرأة، وخامسها: ما يحل للمرأة أن تراه من الرجل الأجنبي، وسادسها: ما يحل للمرأة أن تراه من محارمها من الرجال، والمسألة السابعة التي تدارسناها وهي طويلة في موضوع عورة الأمة في بداية الموعظة المتقدمة، هذه سبع مسائل، والثامنة: في ما يتعلق بنظر غير أولي الإربة من الرجال، والتاسعة: في نظر الطفل إلى النساء، والعاشرة هي التي سنتدارسها: في حكم النظر إلى الأمرد.

إخوتي الكرام! كما هي العادة في بداية الموعظة نتدارس مقدمة تدور حول موضوعنا، وهذه المقدمات الماضية كانت تدور فيما يتعلق بحفظ الفرج ومنزلة حفظه، وما يتعلق بسرد بعض القصص عن سلفنا رضوان الله عليهم أجمعين في ذلك، أما هذه المقدمة فلها شأن آخر، تقدم معنا أن غالب ما يقع فيه الإخلال بهذا الأمر السابع نحو الفرج ما يقع سراً استعمالاً أو نظراً، الإنسان ينظر ولا نستطيع أن نعلم هل نظر أم لا؟ خائنة الأعين، وهكذا يستعمل الفرج ولا نعلم، بخلاف الكلام وشرب الخمر كما تقدم معنا فتلك معاصٍ ظاهرة وهذه باطنة، إذا كان الأمر كذلك فحقيقة ينبغي أن نختم هذه الموعظة بمقدمة تنفعنا نحو هذا الأمر ألا وهو مراقبة ربنا سبحانه وتعالى.

فهذ المعصية التي تتعلق بالفرج كما قلت نظراً واستعمالاً، في الغالب لا تظهر للناس، لكن لا تخفى على رب الناس الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فينبغي أن نراقب الله في جميع أحوالنا، وأفضل الطاعات مراقبة من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماوات في جميع الأوقات سبحانه وتعالى، فهذا خلق المراقبة، وهو درجة الإحسان في الإسلام.

المراقبة: أن نراقب الله في جميع أحوالنا كأننا نراه، فإذا لم نصل إلى هذا فلا بد من استحضار واستشعار أنه يرانا في جميع أحوالنا.

قال الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في مدارج السالكين في الجزء الثاني صفحة خمس وستين في بيان معنى مراقبة العبد لربه، قال: المراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الله على ظاهره وباطنه. أن تعلم دائماً، وأن تتيقن جازماً في جميع أحوالك بأن الله مطلع على ظاهرك وعلى باطنك سبحانه وتعالى، وهذا المعنى للمراقبة ينبغي أن نستحضره في جميع أحوالنا.

معنى المراقبة في القرآن الكريم

هذا المعنى ما خلت منه ورقة من ورقات المصحف الشريف كما ذكر ذلك شيخنا عليه رحمة الله في أول تفسير سورة نبي الله هود في الجزء الثالث صفحة عشرة، يقول: لا تخلو ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى. يعني أن الله يعلم سرنا وجهرنا، علانيتنا وسرنا، وجميع أحوالنا، مطلع علينا.

قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وقال جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، وقال جل وعلا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

ويقول الله جل وعلا في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، فراقب الله فهو يراقبك في جميع الأحوال سبحانه وتعالى.

وهذا المعنى الذي لا تخلو منه ورقة من ورقات المصحف الشريف، هو أعظم واعظ وأبلغ زاجر أنزله الله من السماء إلى الأرض، إعلاماً منه لعباده بأنه يعلم جميع أحوالهم، ما أسروه وما أعلنوه، ووجه ذلك كما قرر أئمتنا أنه لو قدر أن إنساناً أخذ إلى حضرة ومجلس أمير ظالم سفاك للدماء يبطش لأدنى الأسباب، أخذ هذا لمجلسه للمباحثة معه في قضية من القضايا، والسياف واقف والسيف بيده، واستدعي هذا الإنسان، وبدأ الأمير يكلمه فيما اتهم به، لو برز في هذا الوقت بعض محارم الأمير من بناته وأخواته، هل ينظر هذا المتهم في حضرة الأمير إلى حريم الأمير؟! ولو بدت منه نظرة لطارت رقبته، لكنه مشغول عن النظر، والله جل وعلا أقوى من عباده سبحانه وتعالى، وهو أعلم بما في نفوسهم، فاستحي منه يا عبد الله، إذا كنت تخاف من بطش الأمير فتغض عن محارمه إذا كنت في حضرته، فما حرمه الله علينا ينبغي أن نغض الطرف عنه، فالله أعظم عقوبة من عباده، وحرم علينا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو عليم بذات الصدور.

معنى المراقبة في السنة النبوية

ومراقبة الرحمن على الدوام هي درجة الإحسان التي ينبغي أن يتصف بها أهل الإيمان، كما أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الطويل الذي يسمى بأم السنة كما نعته بذلك الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه المفهم في شرح صحيح مسلم ، وهو المعروف بحديث جبريل الطويل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

والحديث في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبى داود من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهو في المسند وصحيح البخاري من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وهو في سنن النسائي وابن ماجه من رواية سيدنا عمر وسيدنا أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وروى الحديث عن سيدنا أنس وسيدنا عبد الله بن عباس وسيدنا عبد الله بن عمر وسيدنا ابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك وسيدنا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم أجمعين.

انظروا هذه الروايات في مجمع الزوائد في الروايات المتأخرة في الجزء الأول صفحة ثمان وثلاثين إلى الصفحة واحدة وأربعين، والرواية الأخيرة رواية جرير رواها الإمام الآجري في كتاب الشريعة، فهو من رواية عدة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومن رواية عمر وأبي هريرة وأنس وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك ومن رواية جرير رضي الله عنهم أجمعين، وفيه سؤال جبريل لنبينا الجليل على نبينا وأنبياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه عن الإسلام والإيمان؟ ثم قال له: ما الإحسان؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك لم تكن تراه فإنه يراك)، درجة المراقبة ودرجة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، كأنك تتراءى الحق سبحانه وتعالى، وهذا كان سلفنا يلاحظونه في نفوسهم ويعبرون عنه بألسنتهم.

هذا المعنى ما خلت منه ورقة من ورقات المصحف الشريف كما ذكر ذلك شيخنا عليه رحمة الله في أول تفسير سورة نبي الله هود في الجزء الثالث صفحة عشرة، يقول: لا تخلو ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى. يعني أن الله يعلم سرنا وجهرنا، علانيتنا وسرنا، وجميع أحوالنا، مطلع علينا.

قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وقال جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، وقال جل وعلا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

ويقول الله جل وعلا في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، فراقب الله فهو يراقبك في جميع الأحوال سبحانه وتعالى.

وهذا المعنى الذي لا تخلو منه ورقة من ورقات المصحف الشريف، هو أعظم واعظ وأبلغ زاجر أنزله الله من السماء إلى الأرض، إعلاماً منه لعباده بأنه يعلم جميع أحوالهم، ما أسروه وما أعلنوه، ووجه ذلك كما قرر أئمتنا أنه لو قدر أن إنساناً أخذ إلى حضرة ومجلس أمير ظالم سفاك للدماء يبطش لأدنى الأسباب، أخذ هذا لمجلسه للمباحثة معه في قضية من القضايا، والسياف واقف والسيف بيده، واستدعي هذا الإنسان، وبدأ الأمير يكلمه فيما اتهم به، لو برز في هذا الوقت بعض محارم الأمير من بناته وأخواته، هل ينظر هذا المتهم في حضرة الأمير إلى حريم الأمير؟! ولو بدت منه نظرة لطارت رقبته، لكنه مشغول عن النظر، والله جل وعلا أقوى من عباده سبحانه وتعالى، وهو أعلم بما في نفوسهم، فاستحي منه يا عبد الله، إذا كنت تخاف من بطش الأمير فتغض عن محارمه إذا كنت في حضرته، فما حرمه الله علينا ينبغي أن نغض الطرف عنه، فالله أعظم عقوبة من عباده، وحرم علينا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو عليم بذات الصدور.

ومراقبة الرحمن على الدوام هي درجة الإحسان التي ينبغي أن يتصف بها أهل الإيمان، كما أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الطويل الذي يسمى بأم السنة كما نعته بذلك الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه المفهم في شرح صحيح مسلم ، وهو المعروف بحديث جبريل الطويل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

والحديث في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبى داود من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهو في المسند وصحيح البخاري من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وهو في سنن النسائي وابن ماجه من رواية سيدنا عمر وسيدنا أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وروى الحديث عن سيدنا أنس وسيدنا عبد الله بن عباس وسيدنا عبد الله بن عمر وسيدنا ابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك وسيدنا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم أجمعين.

انظروا هذه الروايات في مجمع الزوائد في الروايات المتأخرة في الجزء الأول صفحة ثمان وثلاثين إلى الصفحة واحدة وأربعين، والرواية الأخيرة رواية جرير رواها الإمام الآجري في كتاب الشريعة، فهو من رواية عدة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومن رواية عمر وأبي هريرة وأنس وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وابن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك ومن رواية جرير رضي الله عنهم أجمعين، وفيه سؤال جبريل لنبينا الجليل على نبينا وأنبياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه عن الإسلام والإيمان؟ ثم قال له: ما الإحسان؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك لم تكن تراه فإنه يراك)، درجة المراقبة ودرجة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، كأنك تتراءى الحق سبحانه وتعالى، وهذا كان سلفنا يلاحظونه في نفوسهم ويعبرون عنه بألسنتهم.

مراقبة ابن عمر لربه في الطواف

روى الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الرابع صفحة سبع وستين ومائة، والأثر في الحلية في الجزء الأول صفحة تسع وثلاثمائة، وانظروه في السير في الجزء الثالث صفحة سبع وثلاثين ومائتين وفي الجزء الرابع صفحة اثنتين وأربعمائة عن العبد الصالح التابعي الجليل عروة بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين قال: لقيت أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه في الطواف، فتقدمت إليه، فلما صرت بجواره قلت: أبا عبد الرحمن ألا تزوجني سودة؟ وهما يطوفان، قال: فنظر إلي ولم يكلمني، فقلت.. القائل عروة رضي الله عنه وأرضاه: لو رضي بي لأجابني، فانتهينا من الطواف وتفرقنا، قال: ثم ذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه قبلي، فلما انتهيت أنا أيضاً من نسكي ذهبت إلى المدينة فقلت: أسلم على أبي عبد الرحمن وأقوم بحقه، فذهبت وسلمت عليه، فلما سلمت عليه قال: لا زلت على رغبتك في سودة؟ فقلت: أنا أحرص ما كنت عليها قبل، الآن عندي حرص عليها أشد مما كان سابقاً، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: كلمتني في الطواف ونحن نتخايل الله بين أعيننا -ونحن نتراءى الله بأعيننا، كأننا ننظر إليه، كأننا نتراءاه، وأنت تكلمني في الطواف، وإسناد الحديث ثابت- فما أجبتك، فنحن في وقت مراقبة لله واستحضار وخشوع وسكينة، نطوف حول البيت العتيق، وأنت تريد أن أزوجك في ذلك الوقت يعني أجل البحث في هذه القضية بعد الطواف، فعقد له في نفس المجلس قبل أن يذهب عروة إلى بيته رضي الله عنهم أجمعين.

وقد كان الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه كثيراً ما ينشد كما في إتحاف السادة المتقين في الجزء العاشر صفحة ثمان وتسعين، قيل: هذه الأبيات للإمام الشافعي، وقيل لغيره رضي الله عنه وأرضاه:

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب وأن غداً للناظرين قريب

لابد من استحضار هذا المعنى، كأننا نرى الله في جميع شؤون حياتنا، فإذا نزلنا عن هذه الرتبة فلا أقل من أن نعلم أن الله مطلع على جميع أحوالنا، ولذلك لما قال رجل للإمام أبي القاسم الجنيد بن محمد القواريري رضي الله عنه وأرضاه، قال: بم أستعين على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه. إذا علمت أن نظر الله إليك لا ينقطع، وأن نظره إليك أسبق من نظرك إلى من ستنظر إليه فستستحي من الله وتغض طرفك، إذا علمت أنه يراك، فكما تقدم معنا أنه إذا كان الإنسان في حضرة الأمير الجبار والسيوف مصلتة يغض طرفه لو خرجت نساء عاريات، فالله جل وعلا أقوى بطشاً وقوة من الأمير، وعنده نار السعير، وينبغي أن نستحي منه فهو ربنا الجليل سبحانه وتعالى.

قصة امرأة شهقت خشية لله فماتت

ذكر الإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه ذم الهوى في صفحة سبع وسبعين ومائتين، والقصة نقلها الإمام ابن القيم في كتابه روضة المحبين صفحة ست وستين وأربعمائة، حاصلها أن امرأة من العابدات القانتات الجميلات المصونات كانت في بلاد الكوفة، وكانت تخطب من قبل الخطاب فتمتنع من الزواج، وحتماً هذا تقصير منها، لكن لعلها رأت أن هذا أصلح لها، وما أعرضت عن هذه السنة امتهاناً لها، والإنسان أدرى بشئون نفسه، فعلقها بعض الأثرياء الأغنياء، فاحتال عليها، فاكترى هذا الإنسان ثلاثمائة راحلة وقال للناس: من أراد أن يسجل الحج عندي بثمن بخس من العباد والمساكين الذين ليس عندهم أجرة الحج بكاملها، فسآخذ منه أجرة رمزية طلباً للثواب، وهو يريد أن تحج هذه العابدة القانتة، وأرسل إليها من النساء من يرغبها في الحج، فسجلت في هذه الحملة، ونساء كثر تريد أن تترخص من أجل حجة الفريضة مع النساء بلا محرم، فلما جاوزوا مراحل ومراحل، والجيش مستريح في الليل، جاء إليها عندما علم بمكانها وقال: لا بد من الإجابة، إن شئت راضية، وإن شئت مكرهة، يعني: لا سلامة في هذه الليلة، فقالت: ويحك! نحن في طريقنا إلى الحج، استحي من الله، قال: لا بد، أنا ما جئت رغبة في الحج، ولا عملت ما عملت طلباً للثواب، لا أريد فقط إلا أنت، هذا العمل كله من أجلك، فانظري في نفسك، قالت: نخشى أن يكون بعض الحجاج مستيقظاً يفضحنا، جئنا للحج نزني، قال: كلهم ناموا، قالت: اذهب فتأكد، فذهب وقال: كلهم ناموا ولا يوجد أحد عينه تتحرك، قالت: هل نام رب العالمين؟! وشهقت شهقة فماتت من خشية الله عز وجل، هل نام رب العالمين سبحانه وتعالى، فرجع المسكين يولول يقول: يا ويحي قتلت نفساً أرادت أن تحج، وما حصلت شهوتي!

حقيقة هل نام رب العالمين؟! يعني: أنت تراقب نظر العباد ونظر رب العباد لا تأبه به، ولا تستحي منه؟! لذلك إذا أرخى الإنسان ستره وفعل الفاحشة ناداه رب العالمين: أجعلتني أهون الناظرين إليك، استحييت من العباد، وما استحييت ممن لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى؟!

قصة رجل ذكر بمراقبة رب الكوكب له فانزجر عن الفاحشة

إخوتي الكرام! هذا المعنى ينبغي أن نستحضره في جميع أحوالنا، ينقل الإمام الغزالي في الإحياء أيضاً في الجزء الرابع صفحة خمس وثمانين وثلاثمائة، والقصة أيضاً في ذم الهوى في صفحة اثنتين وسبعين ومائتين، وفي روضة المحبين صفحة خمس وتسعين وثلاثمائة، وذكرها الإمام المناوي في فيض القدير في الجزء الأول صفحة واحدة وخمسين وخمسمائة، خلاصتها أن أعرابياً خرج في ليلة مقمرة، فرأى امرأة كالعلم، أي: كالجبل، يراد امرأة طويلة جميلة لها شأن بارز تلفت النظر في سواد الليل، فاقترب منها وراودها وطلب منها ما حرم الله على عباده، فقالت: ويحك! أما لك زاجر من عقل إن لم يكن لك ناه من دين، إذا ما نهاك دينك عن معصية الله، ما عندك عقل يردعك عن الفاحشة، وما تستحي أن تعتدي على أعراض العباد؟! فقال: وممن أستحي، ولا يرانا إلا الكواكب، ولا يوجد أحد في هذه البادية، فممن أستحي؟! فقالت: أين مكوكبها؟ أين ربها سبحانه وتعالى؟ فانزجر هذا الإنسان وانصرف.

حقيقة لا بد من استحضار خلق المراقبة في جميع أحوالنا، وأن نعلم أنه معنا أينما كنا، فبذلك يكرمنا ربنا ويعزنا في هذه الحياة، ويغدق علينا نعمه بعد الممات في نعيم الجنات.

قصة في مراقبة البشر بعضهم لبعض

يذكر الإمام القشيري في كتابه الرسالة صفحة تسعين ومائة، والقصة نقلها عنه أيضاً الإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين في الجزء العاشر صفحة تسع وتسعين، خلاصتها أن بعض الأمراء في الزمن القديم كان يكرم بعض أعوانه من حراسه وحجابه إكراماً زائداً، وكان في خلقته دمامة، فكأنه حسده أصحابه وقالوا للأمير: لم تميز هذا علينا؟ خلقته دوننا، وبعد ذلك نحن وهو في رتبة واحدة، بل لعلنا أعلى منه رتبة، قال: أريكم وضعه ووضعكم معي؟! انظروا إلى عاقبة المراقبة إذا كان البشر يكرم بشراً عندما يراقب حاله، فكيف سيكون حالنا مع الله، وسيكرمنا الله من باب أولى إذا راقبناه.

فخرج هذا الأمير مع أعوانه، فنظر وهو يمشي إلى جبل عليه ثلج، نظرة فقط، فهذا الذي مع الأمير ركب خيله وأسرع إلى جهة الجبل فقال لهم: أين ذهب صاحبكم؟ قالوا: لا ندري، فعاد بعد قليل ومعه شيء من الثلج، قال له الأمير: من أمرك بهذا؟ قال: أيها الأمير! أنت نظرت ناحية الجبل، والعقل لا ينظر عبثاً، وفي الجبل لا يوجد إلا ثلج، فكأن نفسك اشتهته، فأنا لما نظرت إليه عرفت المراد وراقبت نظرك، أنا أراقب أحوالك، أفهم ما تريد من حركاتك ومن إشاراتك، فقال لهم: انظروا لحاله كيف يراقب، وبالمراقبة يتصرف، وأنتم عندما توجه إليكم الأوامر والعبارات وأطلب منكم شيئاً تتثاقلون، وأما هذا فينظر إلى اللحظات.

وحقيقة كان سلفنا يغرسون دائماً في نفوس وأذهان أولادهم والطلبة: الله ناظري، الله شاهدي، الله معي سبحانه وتعالى، لا بد من أن نراقب ربنا سبحانه وتعالى في جميع أحوالنا.