شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [35]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

لا زلنا نتدارس وخز الجن، ألا وهو الطاعون الذي يطعن به من يطعن من بني الإنس وهو لهم شهادة عند الله جل وعلا.

وتقدم معنا أنني سأذكر تعريف الطاعون، ثم سأذكر فضل الإصابة به، وبعد ذلك أسباب الطاعون، وآخر الأمور كما قلت أدب نبوي أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام وينبغي أن نحافظ عليه في البلدة التي ينتشر فيها الطاعون إذا كنا فيها، أو كنا في بلدة أخرى وأردنا أن ندخل بلدةً انتشر فيها الطاعون.

تقدم معنا تعريف الطاعون وأنه باختصار: وخز الجن، وتظهر أعراضه على الإنسان، وقد ذكرت بعضها وأكملها في أول هذا المبحث إن شاء الله، ثم انتقل إلى فضل الإصابة بالطاعون، وأن من أصيب به فله أجر الشهادة عند الحي القيوم.

الاستغناء بشهرة الراوي عن تعديل أئمة الجرح والتعديل له

أحب أن أنبه إلى أمر ختمت به الكلام على المبحث السابق ألا وهو ما يتعلق بترجمة فقيه الملة سيدنا أبي حنيفة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وتقدم معنا أنه ثقة عدل ضابط، بل من فضول القول أن يقول الإنسان عن هذا الإمام وعن أمثاله: إنه من الثقات العدول الضابطين.

من له لسان صدق في هذه الأمة هذا أعلى من أن يعدل أو يوثق، كما قال أئمتنا:

وصححوا استغناء بالشهرة عن تزكية كمالك نجم السنن

فمن شهره الله في هذه الأمة بالخير والصلاح، والديانة والعلم، والصدق والأمانة والحفظ، هذا كالشمس في رابعة النهار، وإذا أراد الإنسان أن يقيم برهاناً على طلوع الشمس في رابعة النهار فهذه حماقة، وحماقة تزيد على هذه ألا وهي إذا أراد إنسان أن يحجب نور الشمس وضياءها بنفخه عليها، فبدأ ينفخ إلى الشمس من أجل أن يحجب حرارتها وضياءها عن الناس فهذه حماقة، ولذلك دندنة من دندن حول هذا الإمام المبارك في القديم والحديث: لا وزن لها ولا اعتبار، نعم نجل أئمتنا الذين تكلموا كما قلت: إما بتأويل أو بغير ذلك من الاعتبارات التي عندهم فهذا الكلام لا ينقص من قدرهم عندنا، ولا ينقص من قدر أبي حنيفة ولا غيره رضي الله عنهم أجمعين، وإذا أراد الإنسان أن يشتغل بهذه الأمور في العصور المتأخرة، وأن ينبش كما يقال ما في الكتب فهذا من علامات الزيغ والضلال في الإنسان.

أعظم ما نعده للقاء ربنا أمران:

الأمر الأول: توحيده جل وعلا. والثاني: حبنا لعلمائنا حملة الشريعة المطهرة، فلا بد من أن نعي هذين الأمرين وهما: توحيد لله ومحبة للصالحين، ولا نعني أننا لو أحببنا الصالحين فإنهم لا يخطئون، أو أننا نقول: إنهم معصومون، لا ثم لا، وكفى بالمرء نبلاً أن تعدى معايبه، والكريم من عد سقطه، ثم أكثر ذلك السقط وتلك المعايب التي تذكر وتحد وتقيد أكثرها هي من باب ما تختلف فيه الأنظار، فأنت ترى أن هذه معيبة، وذاك يراها أنها فضيلة، فلذلك لا بد من أن يقف كل واحد عند حده، كما تقدم معنا فيما يتعلق بالإرجاء، وكما تقدم معنا فيما يتعلق بالقياس واستعمال الآراء والاجتهادات، قد يظن أن هذه معيبة، لكنه لعدم علمه بحقيقة ذلك الأمر فهو معذور، وذاك على هدى والكل مأجور عند العزيز الغفور سبحانه وتعالى.

ينبغي أن نعي هذا، وإذا جرى كلام من إنسان في حق إمامٍ من أئمتنا فلنضبط ألسنتنا، ولذلك كان أئمتنا الكرام يعتبرون الكلام الذي حصل من بعض العلماء في بعضهم داءً للدين، ومن اشتغل به فهو من الزائغين الضالين.

يقول يحيى بن عمار وقد توفي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة للهجرة، ترجمته الطيبة في سير أعلام النبلاء وهو أبو زكريا شيخ سجستان في زمانه، كان كما يقول الإمام الذهبي : متحرقاً على المبتدعة، أي: يزيد في الرد عليهم كأنه نار تحرقهم، يقول: بحيث إنه أحياناً يتجاوز طريقة السلف في معاملتهم من شدة غيظه عليهم، وكان من كبار العلماء المذكورين، وكان يقول: العلوم خمسة:

أولها: علم به حياة الدين، وهو توحيد رب العالمين، فتعلموا علم التوحيد، فبذلك يحيا الدين، وتحصل في هذه الحياة على البهجة والنور والسرور.

ثانياً: علم يحصل به قوت الدين، وهو غذاء وهو علم العظة والتذكير أو علم الوعظ وترقيق القلوب، أو المواعظ أخبار الرقائق، هذه كما قلت قوت الدين، فالأول: حياة الدين، وهنا قوت الدين.

ثالثاً: علم هو دواء الدين، وهو علم الفقه، الذي جمعه أئمتنا الفقهاء رحمة الله عليهم أجمعين.

رابعاً: علم هو داء الدين، وهو أخبار ما وقع من الخصومات والمخالفات بين سلفنا الطيبين، فيحكي في كل موعظة وفي كل مجلس يذكر، وبعد ذلك لا بد أن يختار إما إلى هنا، وإما إلى هنا، هذا في الحقيقة علة في الدين، وهذا مرض في دين الإنسان، وهذا يضعف الدين أمام عباد الله الموحدين، ويأتيك بعد ذلك من يقول: إذا جرى هذا مع سلفنا فنحن من باب أولى أن نزيد عليهم، ولا يعلم أن ما جرى منهم قطرة فقط في بحر حسناتهم، فأخذ هذه القطرة وجعلها مسلكه في الحياة، وترك بعد ذلك الفضائل والكمالات التي كانوا عليها، هذا علم يضعف الدين.

خامساً: وأشنع العلوم علم يحصل به هلاك الدين وهو علم الكلام، قال الإمام الذهبي : ويلحق به علم الأوائل، يعني الفلسفة التي رمي بها من رمي، واشتغل بها من اشتغل، ولذلك الاشتغال بما جرى بين أئمتنا الأبرار، هذا في الحقيقة مرض للدين، وينشر الشك عند المسلمين.

ولذلك ما ينشر من كلام في هذه الأيام حول أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه، هذا من علامة هدم الدين، فينبغي أن نحذر هذا غاية الحذر، والفلسفة التي يقولها من يقول: إنه في ديانته عدل، لكن في حفظه لا يعول عليه فهو ضعيف، قلت: وهذا كلام باطل كما تقدم معنا ولا قيمة له ولا اعتبار؛ لأنه يترتب على تضعيفه كما تقدم معنا رد أحاديث مروية من طريق هذا الإمام، وجميعها سترد إذا كان ضعيفاً، فهذه في الحقيقة بلية، وأما كما قلت من تكلم فيه من المتقدمين فلهم عذرهم، ونستغفر الله لهم جميعاً، لكن لا يجوز أن نأخذ بقول واحد منهم في حق هذا الإمام المبارك، وإذا أخذنا بقول واحد في حق هذا الإمام فلنأخذ أيضاً قول الآخر بحق إمام آخر، كالإمام الشافعي كما تقدم معنا وبهذا لن يبق معنا عالم في هذه الأمة ولا إمام، فلنتق الله في ألسنتنا، ولنقف عند حدنا.

ضبط الإمام أبي حنيفة

الذي وقع في أبي حنيفة له عذره والله يغفر لنا وله، وتقدم معنا أن من تلك الوقيعة ما شملت ديانته كما شملت ضبطه وحفظه، وأول حكم استدل به من استدل في هذه الأوقات المعاصرة بكلام البخاري ، ماذا قال فيه؟ قال: سكتوا عنه، ما معنى سكتوا عنه؟ أي: أنه قارب الوضاع، أو أن حديثه لا يكتب، ولا يلتفت إليه ولا يعتبر به، ولا يعول عليه، وهو من أشنع ألفاظ الجرح أن تقول: سكتوا عنه؛ لأن بعده كذاب، وبعده وضاع، فحديثه ساقط الاعتبار ومنكر، وهذا كلام لا يقال في حق هذا الإمام، من قاله بعد ذلك هذا أو غيره يرد عليه، ونقف نحن عند الحد، ونتقي الله عز وجل في كلامنا.

على أن بعض الإخوة المعاصرين في هذه الأيام بحث فيما يشار من كلام حول ضبط أبي حنيفة ، وقدم في ذلك رسالة علمية في جامعة أم القرى في ضبط أبي حنيفة وهل هو ضابط أم لا؟ أما البحث في عدالته فلا يبحث في هذا إلا سفيه في نظري، لكن البحث في الضبط هل هو ضابط أم لا؟ فأخذ مجموعة من أحاديثه، وكيف نعرف الراوي هل هو ضابط أو لا؟ بعرض حديثه على أحاديث الثقات الحافظين الضابطين، فإن وافقهم تماماً فهو ضابط، وإن خالفهم وخص بالمخالفة فهو خفيف الضبط حديثه حسن، وإن فحش في المخالفة فهو سيئ الحفظ حديثه مردود، فهذا الباحث أخذ مائة حديث من أحاديث أبي حنيفة ، ثم عرضها على أحاديث الحفاظ المتقنين الذين شاركوه في هذه الأحاديث، ولا أستحضر الآن النسبة الدقيقة لكن هذا فيما أتصوره وفيما حكاه لي بعض الإخوة عن ملخص هذه الرسالة، وخلاصة الكلام والتحقيق أنه قال: دعونا من الكلام، فلا ينبغي أن نعول على كلام فلان وفلان، هذه مائة حديث من مسند أبي حنيفة ، قارنها مع الحفاظ المتقنين الذين شاركوه في هذه الأحاديث من طرق أخرى، ثم ننظر بأي شيء اختلفوا؟ وبعد الاختلاف نحقق من ترجح روايته لمشاركة رواة آخرين له، بحيث يتبين لنا أن هذا هو الذي ضبط، وهذا الذي أخطأ، ففي ثلاثة من مائة ضبطوا وأخطأ أبو حنيفة، وفي اثنين من مائة ضبط أبو حنيفة وأولئك على خطأ، ثم في البقية الكل حديثهم سواءً بسواء، إذا كان الأمر كذلك فهو ضابط لروايته كما تقدم معنا مقطوع بها وعدالته، فهو إذاً: عدل ضابط، رغم أنف الكبير والصغير، وما جرى بعد ذلك من أئمتنا يبقى أنه من باب كلام الأقران، نحيل شيئاً، ونؤول شيئاً، ولا نقع في المتكلم، نستغفر للجميع، وحال أئمتنا عندنا كحال الرسل تماماً، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285] ، ونحن لا نفرق بين أئمة الإسلام؛ أبو حنيفة إمام، الشافعي إمام، ومالك إمام، وأحمد بن حنبل إمام، والبخاري إمام، وسائر أئمتنا أئمة على العين والرأس.

موقف أصحاب الحديث من أبي حنيفة

وهذا كلام كنت نقلت بعضه من كتاب جامع بيان العلم وفضله لـابن عبد البر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا حافظ المغرب وهو مالكي المذهب، ليس كما يقول المعاصرون: حنفي متعصب، هذا الآن ليس حنفياً ولا متعصباً، يقول أبو عمر ، وهو ابن عبد البر : أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة ، وتجاوزوا الحد في ذلك، والسبب والموجب لذلك عندهم إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما، وكذلك رده أخبار الآحاد بتأويل محتمل، تقدم معنا رد مالك الذي قال فيه الذهبي ؟ هو معذور ومأجور في رده لهذا ولغيره؛ لأنه ما رده بناءً على هوى، أو بناءً على معارضة لأشياء عنده ثابتة.

ثم تأمل قول ابن عبد البر : وكان رده بما رد من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، فلماذا لا تشنع إلا عن أبي حنيفة فقط؟ هذا التأويل قال به من سبقه من الأئمة الكرام، يقول: وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي، وجل ما يوجد له من ذلك ما كان اتباعاً لأهل بلده كـإبراهيم النخعي ، وأصحاب ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، إلا أنه أغرق وأفرط في فرض النوازل هو وأصحابه، والجواب فيه برأيهم واستنباطهم، فأتى منه في ذلك خلاف كبير للسلف، وسمع هو عندما قال: فيهم بدع، وما أعلم أحداً من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب سنةً أخرى بتأويل ثالث، أو ادعاء النسخ، إلا أن لـأبي حنيفة من ذلك كثير، وهو يوجد لغيره قليل.

ثم قال أبو عمر : ليس لأحد من علماء الأمة أن يثبت حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله، أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته فضلاً عن أن يتخذ إماماً ولزمه إثم الفسق، هذا كان يرد الأحاديث دون وجود معارض لها من نص أو إجماع أو قاعدة شرعية لصار هذا صدقاً في حقه والأئمة برآء من ذلك.

يقول: ونقموا أيضاً على أبي حنيفة الإرجاء.

إذاً المسألة الأولى: أنه يجتهد ويقيس، والثانية: أنه مرجئ، ومن أهل العلم من ينسب إلى الإرجاء كثيرا، ولم يعن أحد بنقل قبيح ما كما عنوا بذلك في أبي حنيفة ، لماذا؟ لو قلت: هو كان مرجئا، قلنا: وغيره كان يقول بهذا فلماذا أنتم تنقلون الإرجاء عن أبي حنيفة فقط؟ استمع ماذا يقول، قال: لإمامته، وكان أيضاً مع هذا يحسب وينسب إليه ما ليس فيه، ويختلق عليه ما لا يليق، وقد أثنى عليه جماعة من العلماء وفضلوه، ولعلنا إن وجدنا نشطة أن نجمع من فضائله، وفضائل مالك ، والشافعي ، والثوري ، والأوزاعي ، كتاباً أملنا جمعه قديماً في أخبار أئمة الأمصار إن شاء الله.

على كل حال هذه الأمنية حققها ابن عبد البر فألف كتابه الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، ولم يدخل أحمد في الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين؛ لأنه تغلب عليه النزعة الحديثية رضي الله عنهم أجمعين.

ثم ساق ابن عبد البر الإسناد مباشرةً عن ابن معين فقال: يقول أصحابنا يفرطون في أبي حنيفة وأصحابه، فقيل لهم: أكان أبو حنيفة يكذب؟ فقال: كان أنبل من ذلك. ونقل عن ابن معين أنه قال: ما رأيت أحداً أقدمه على وكيع ، وكان -يعني وكيع - يفتي برأي أبي حنيفة ، وكان يحفظ حديثه كل يوم، وتقدم معنا أن عبد الله بن المبارك كان يأخذ برأي وفقه أبي حنيفة ، قال: وكان قد سمع من أبي حنيفة من هو؟ وكيع بن الجراح ، وكان قد سمع من أبي حنيفة حديثاً كثيراً، قال: وقيل لـيحيى بن معين : يا أبا زكريا ! أبو حنيفة كان يصدق في الحديث؟ قال: نعم صدوق، قيل له: والشافعي كان يصدق؟ قال: ما أحب حديثه ولا ذكره، طيب غفر الله لك، يعني جئت من ناحية أطلقت ومن ناحية ثانية نسأل الله أن يغفر لك، وقيل له: والشافعي كان يكذب؟ قال: ما أحب حديثه ولا ذكره، قال: وقلنا لـيحيى بن معين : أيهما أحب إليك أبو حنيفة أو الشافعي أو أبو يوسف القاضي ؟ قال: أما الشافعي فلا أحب حديثه، وأما أبو حنيفة فقد حدث عنه قوم صالحون، وأبو حنيفة لم يكن من أهل الكذب وكان صدوقاً، ولكن ليست أرى حديثه يجزي.

وقال الحسن بن علي الحلواني: قال لي شبابة بن سوار : كان شعبة حسن الرأي في أبي حنيفة .

ثم نقل عن علي بن المديني قال: أبو حنيفة روى عنه الثوري ، وابن المبارك ، وحماد بن زيد ، وهشيم ، ووكيع بن الجراح ، وعباد بن العوام ، وجعفر بن عون ، وهو ثقة لا بأس به.

وقال يحيى بن سعيد وهو القطان : ربما استحسنا شيئاً يقول به أبو حنيفة فنأخذ به، وتقدم معنا: ما سمعنا رأياً أحسن من أبي حنيفة ، نحن لا نكذب الله، يعني: نحن لا نكذب الله ولا يعلم الله منا الكذب أننا نجحد مكانة أبي حنيفة ، ونحن لا نكذبه في أنه جعله آيةً وإماماً لهذه الأمة، لا نكذبه ولا نكذبه، إنما يتكلم بالصدق وهو إمام هذه الأمة.

قال أبو عمر : الذين رووا عن أبي حنيفة ووثقوه وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث وأكثر ما عابوا عليه إغراقه في الرأي والقياس والإرجاء، وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه، قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه هلك فيه فئتان: محب أفرط، ومبغض أفرط. هذا أفرط في الحب، وهذا أفرط في البغض، وقد جاء في الحديث (أنه يهلك فيه رجلان محب مطر ومبغض مفتر)، وهذه صفة أهل النباهة ومن بلغ في الدين والفضل الغاية والله أعلم.

تخريج حديث: (إن فيك مثلاً من عيسى...)

الحديث الذي أشار إليه عبد الله رواه أحمد في المسند، وهو من زيادات عبد الله في مسند زوائد المسند، ورواه البزار ، وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة ثلاث وثلاثين ومائة، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث، صفحة ثلاثة وعشرين ومائة، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال لـعلي : (يا علي ! إن فيك مثلاً من عيسى بن مريم، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وقالوا: إنه ابن كذا وكذا، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به)، قال علي رضي الله عنه: ألا وإنه يهلك في اثنان: محب مفرط يقربني ويقول في ما ليس في، ومبغض مفرط يحمله شنآنه على أن يبهتني. ثم قال: ألا وإني لست بنبي، ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق الله عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم، وأن هذا طاعة لربكم جل وعلا .

والحديث روي بإسنادين: الإسناد الأول من طريق عبد الله ولد أحمد في زياداته على المسند، وفي مسند أبي يعلى ، والحاكم رواها من طريق الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف، كما قال الهيثمي في المجمع.

وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: وهاه ابن معين ، والبزار من طريق محمد بن كثير القرشي الكوفي وهو ضعيف أيضاً، وقد روى أحمد بن منيع في مسنده بسند رجاله ثقات كما في المطالب العالية للحافظ ابن حجر في الجزء الرابع صفحة خمس وستين ومائة أنه قال: -أي علي رضي الله عنه وأرضاه، والكلام موقوف عليه - هلك في رجلان: محب مفرط، ومبغض مكذب. والأثر إسناده ثقات، محب مفرط يتجاوز الحد فيرفعه إلى درجة العصمة والنبوة، ومبغض مفرط يتكلم عليه ويقول فيه ما ليس فيه.

ابن عبد البر يقول: حال أبي حنيفة يشبه حال علي رضي الله عنه وأرضاه، وما أشبهنا به يعني في حبه، فأناس قدموه على غيره وتركوا سواه فهذا في الحقيقة أيضاً شطط، وأناس وقعوا فيه وقالوا: إما ضعيف في حفظه، وإما ساقط في عدالته، هذا وذاك كلاهما ضلال، ودين الله بين الغالي والجافي.

الحافظ ابن عساكر رد على بعض شيوخه الذين تلقى عنهم عندما أطلق لسانه في الأئمة المتقدمين، وقالوا له: نحترمك ما احترمت أئمة الإسلام، ولذلك ينبغي أن يعلم الكبير والصغير أن أهل الأرض قاطبةً عندنا لو وضعوا في كفة ووضع أبو حنيفة في كفة لرجح بهم، فليعرف كل واحد قدره، وليقف عند حده، ونحن نحترم المعاصرين وغيرهم ما احترموا أنفسهم، فإذا جاءني أحد ليعرض بأئمتنا -لا ليصرح- فلن نسكت عنه، ونحن إذا لم نحترم أئمتنا فلا خير فينا، فانظر للإمام ابن عساكر ورده على الحافظ العبدري ، وذاك حافظ -كما قلت- يملي من صدره، فهو حافظ الدنيا في زمنه، ومن تلاميذه ابن عساكر ، فاستمعوا لهذه المناظرة التي جرت بينهما يوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء التاسع عشر، صفحة تسع وسبعين وخمسمائة: العبدري الشيخ الإمام الحافظ الناقد الأوحد أبو عامر محمد بن سعدون ، ثم قال: مولده بقرطبة وكان من بحور العلم لولا تجسيم فيه، نسأل الله السلامة، ثم ذكر من سمع منه ومن أخذوا عنه، ثم جاء لمحل الشاهد الذي أريد أن أذكره.

فقال الحافظ ابن عساكر : كان العبدري أحفظ شيخ لقيته، وكان فقيهاً داودياً على مذهب داود الظاهري ، ذكر أنه دخل دمشق حياة أبي القاسم بن أبي العلاء وسمعته وقد ذكر مالك أمام الحافظ العبدري فقال: جلف جاف، ولا بد من أمر نقف عند حدنا ونوقفك عند حدك، قال: ضرب هشام بن عمار بالدرة؟

هشام بن عمار رحمه الله هو من القراء الكبار، والسبب في ضربه أنه جاء وطلب من مالك أن يحدثه وغالب ظني أنه ما كان في وجهه ولا شعرةً، ومالك لا يحدث من ليس في وجهه شعرة، هذا سبب.

سبب ثاني: أنه جاء وألح عليه بالسؤال فقال مالك : لمن يشرف على حلقة كذا، خذوه فاضربوه كذا وكذا درة، فيقال: إنهم ضربوه خمس عشرة جلدة بالدرة، فجاء فقال له مالك : ما كفارة ضربك؟ قال: أن تحدثني بكل درة حديثاً، فحدثه وكان صغيراً، وكان مالك لا يحدث الأحداث، فقال: يا إمام! اضربني بالدرة وزدني تحديثاً، إذا كانت الدرة بحديث، اضربني أنت درة ما أبالي، وزدني حديثاً فأنا أفتخر أنني حدثت عنك، ولا تظن أنه جلده كأنه يقيم عليه الحد.

فهذا العبدري يقول: جلف جاف ضرب هشام بن عمار بالدرة، قال: وقرأت عليه كتاب الأموال لـأبي عبيد ، فقال وقد مر قول لـأبي عبيد : ما كان إلا مغفلاً، لا يعرف الفقه، وقيل لي عنه: إنه قال في إبراهيم النخعي : أعور رجل سوء كما تقدم معنا سابقاً عن إبراهيم النخعي ، قال: كنت معه يوما عند ابن السمرقندي في قراءة كتاب الكامل، فجاء فيه وقال السعدي : كذا، فقال: يكذب ابن عدي ، يعني: الحافظ العبدري يقول: يكذب إنما ذا قول إبراهيم الجوزجاني ، فقلت له: فهو السعدي ، فإلى كم نحتمل منك سوء الأدب، تقول في إبراهيم : كذا وكذا أعور رجل سوء، وتقول في مالك كذا وكذا، وتقول في أبي عبيد ، قال: فغضب وأخذته الرعدة فقال: كان ابن القاضي ، والبرداني وغيرهما من التلاميذ يخافونني فآل الأمر إلى أن تقول في هذا؟ يقول هذا لتلميذه الحافظ ابن عساكر، فقال له ابن السمرقندي : هذا بذاك، يعني كما أنك تتطاول على الأئمة فقف عند حدك، وقلت وهنا القائل ابن عساكر : إنما نحترمك ما احترمت الأئمة، فقال: والله لقد علمت من علم الحديث ما لم يعلمه غيري ممن تقدم، وإني لأعلم من صحيح البخاري ومسلم ما لم يعلماه، فقلت مستهزئاً: فعلمك إلهام إذن، من أين نزل عليك هذا العلم؟ يقول: وهجرته، وكان سيئ الاعتقاد، فقد كان يعتقد التجسيم، ثم تكلم عنه بعد ذلك بما فيه من تجسيم، وقد تقدم كلام الذهبي عنه بأنه من بحور العلم لولا تجسيم فيه.

يقول الذهبي ، وختم ترجمته بذلك: توفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة، قلت: ما ثبت عنه مما قيل من التشبيه وإن صح فبعداً له وسحقاً، الحافظ العبدري حافظ الدنيا في زمانه، وابن عساكر الذي هو حافظ الدنيا يقول: ما لقيت أحداً من الشيوخ أحفظ منه، ومع ذلك نحترمه ما احترم الأئمة.

سبب عدم ذكر الذهبي لأبي حنيفة في ميزان الاعتدال

انظر للذهبي الذي هو ذهب خالص، عندما ألف كتاب الميزان وتكلم فيمن تكلم فيهم، وقد يكون فيهم ثقة، وذكر بعضهم وقد يكون ثقة ليدافع عنه، وانظر لاحتياطه واحتراسه ماذا يقول في مقدمة كتابه في الجزء الأول، صفحة عشرين، يقول: وكذا لا أذكر في الكتاب من الأئمة المتبوعين في الفروع أحد لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم فيه، ففي هذا الكتاب لا يمكن أن ترى مالكاً أو الشافعي أو غيرهم من أئمة الإسلام، ثم قال: فإن ذكرت أحداً منهم فسأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس، إذاً: إنما يضر الإنسان الكذب والإصرار على كثرة الخطأ، والتجري على التدليس بالباطل، فإنه خيانة وجناية، والمرء المسلم يطبع على كل شيء إلا الخيانة والكذب.

إذاً: الذهبي لم يذكر أحداً من الأئمة المتبوعين في الفقه لجلالة قدرهم، وهذه الأمة تلقت أمرهم بالقبول والتسليم، فهذا الذي اتفقت عليه الأمة نأتي نحن الآن نخدشه، لا ثم لا، وكما قلت لكم: لن تجدوا أحداً من الأئمة لم يتكلم فيه، كل إنسان يجد أحياناً من يتكلم عليه من أقرانه ومن نظرائه بحق أو بغير حق، فإذا جرى الكلام من الأئمة كما تقدم نطرح هذا الكلام، وإذا جرى ممن دونهم نوقفه عند حده ونحاسبه، وهذه الإمامة لا تتزحزح أبداً، لا بد من وعي هذا.

أحب أن أنبه إلى أمر ختمت به الكلام على المبحث السابق ألا وهو ما يتعلق بترجمة فقيه الملة سيدنا أبي حنيفة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وتقدم معنا أنه ثقة عدل ضابط، بل من فضول القول أن يقول الإنسان عن هذا الإمام وعن أمثاله: إنه من الثقات العدول الضابطين.

من له لسان صدق في هذه الأمة هذا أعلى من أن يعدل أو يوثق، كما قال أئمتنا:

وصححوا استغناء بالشهرة عن تزكية كمالك نجم السنن

فمن شهره الله في هذه الأمة بالخير والصلاح، والديانة والعلم، والصدق والأمانة والحفظ، هذا كالشمس في رابعة النهار، وإذا أراد الإنسان أن يقيم برهاناً على طلوع الشمس في رابعة النهار فهذه حماقة، وحماقة تزيد على هذه ألا وهي إذا أراد إنسان أن يحجب نور الشمس وضياءها بنفخه عليها، فبدأ ينفخ إلى الشمس من أجل أن يحجب حرارتها وضياءها عن الناس فهذه حماقة، ولذلك دندنة من دندن حول هذا الإمام المبارك في القديم والحديث: لا وزن لها ولا اعتبار، نعم نجل أئمتنا الذين تكلموا كما قلت: إما بتأويل أو بغير ذلك من الاعتبارات التي عندهم فهذا الكلام لا ينقص من قدرهم عندنا، ولا ينقص من قدر أبي حنيفة ولا غيره رضي الله عنهم أجمعين، وإذا أراد الإنسان أن يشتغل بهذه الأمور في العصور المتأخرة، وأن ينبش كما يقال ما في الكتب فهذا من علامات الزيغ والضلال في الإنسان.

أعظم ما نعده للقاء ربنا أمران:

الأمر الأول: توحيده جل وعلا. والثاني: حبنا لعلمائنا حملة الشريعة المطهرة، فلا بد من أن نعي هذين الأمرين وهما: توحيد لله ومحبة للصالحين، ولا نعني أننا لو أحببنا الصالحين فإنهم لا يخطئون، أو أننا نقول: إنهم معصومون، لا ثم لا، وكفى بالمرء نبلاً أن تعدى معايبه، والكريم من عد سقطه، ثم أكثر ذلك السقط وتلك المعايب التي تذكر وتحد وتقيد أكثرها هي من باب ما تختلف فيه الأنظار، فأنت ترى أن هذه معيبة، وذاك يراها أنها فضيلة، فلذلك لا بد من أن يقف كل واحد عند حده، كما تقدم معنا فيما يتعلق بالإرجاء، وكما تقدم معنا فيما يتعلق بالقياس واستعمال الآراء والاجتهادات، قد يظن أن هذه معيبة، لكنه لعدم علمه بحقيقة ذلك الأمر فهو معذور، وذاك على هدى والكل مأجور عند العزيز الغفور سبحانه وتعالى.

ينبغي أن نعي هذا، وإذا جرى كلام من إنسان في حق إمامٍ من أئمتنا فلنضبط ألسنتنا، ولذلك كان أئمتنا الكرام يعتبرون الكلام الذي حصل من بعض العلماء في بعضهم داءً للدين، ومن اشتغل به فهو من الزائغين الضالين.

يقول يحيى بن عمار وقد توفي سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة للهجرة، ترجمته الطيبة في سير أعلام النبلاء وهو أبو زكريا شيخ سجستان في زمانه، كان كما يقول الإمام الذهبي : متحرقاً على المبتدعة، أي: يزيد في الرد عليهم كأنه نار تحرقهم، يقول: بحيث إنه أحياناً يتجاوز طريقة السلف في معاملتهم من شدة غيظه عليهم، وكان من كبار العلماء المذكورين، وكان يقول: العلوم خمسة:

أولها: علم به حياة الدين، وهو توحيد رب العالمين، فتعلموا علم التوحيد، فبذلك يحيا الدين، وتحصل في هذه الحياة على البهجة والنور والسرور.

ثانياً: علم يحصل به قوت الدين، وهو غذاء وهو علم العظة والتذكير أو علم الوعظ وترقيق القلوب، أو المواعظ أخبار الرقائق، هذه كما قلت قوت الدين، فالأول: حياة الدين، وهنا قوت الدين.

ثالثاً: علم هو دواء الدين، وهو علم الفقه، الذي جمعه أئمتنا الفقهاء رحمة الله عليهم أجمعين.

رابعاً: علم هو داء الدين، وهو أخبار ما وقع من الخصومات والمخالفات بين سلفنا الطيبين، فيحكي في كل موعظة وفي كل مجلس يذكر، وبعد ذلك لا بد أن يختار إما إلى هنا، وإما إلى هنا، هذا في الحقيقة علة في الدين، وهذا مرض في دين الإنسان، وهذا يضعف الدين أمام عباد الله الموحدين، ويأتيك بعد ذلك من يقول: إذا جرى هذا مع سلفنا فنحن من باب أولى أن نزيد عليهم، ولا يعلم أن ما جرى منهم قطرة فقط في بحر حسناتهم، فأخذ هذه القطرة وجعلها مسلكه في الحياة، وترك بعد ذلك الفضائل والكمالات التي كانوا عليها، هذا علم يضعف الدين.

خامساً: وأشنع العلوم علم يحصل به هلاك الدين وهو علم الكلام، قال الإمام الذهبي : ويلحق به علم الأوائل، يعني الفلسفة التي رمي بها من رمي، واشتغل بها من اشتغل، ولذلك الاشتغال بما جرى بين أئمتنا الأبرار، هذا في الحقيقة مرض للدين، وينشر الشك عند المسلمين.

ولذلك ما ينشر من كلام في هذه الأيام حول أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه، هذا من علامة هدم الدين، فينبغي أن نحذر هذا غاية الحذر، والفلسفة التي يقولها من يقول: إنه في ديانته عدل، لكن في حفظه لا يعول عليه فهو ضعيف، قلت: وهذا كلام باطل كما تقدم معنا ولا قيمة له ولا اعتبار؛ لأنه يترتب على تضعيفه كما تقدم معنا رد أحاديث مروية من طريق هذا الإمام، وجميعها سترد إذا كان ضعيفاً، فهذه في الحقيقة بلية، وأما كما قلت من تكلم فيه من المتقدمين فلهم عذرهم، ونستغفر الله لهم جميعاً، لكن لا يجوز أن نأخذ بقول واحد منهم في حق هذا الإمام المبارك، وإذا أخذنا بقول واحد في حق هذا الإمام فلنأخذ أيضاً قول الآخر بحق إمام آخر، كالإمام الشافعي كما تقدم معنا وبهذا لن يبق معنا عالم في هذه الأمة ولا إمام، فلنتق الله في ألسنتنا، ولنقف عند حدنا.

الذي وقع في أبي حنيفة له عذره والله يغفر لنا وله، وتقدم معنا أن من تلك الوقيعة ما شملت ديانته كما شملت ضبطه وحفظه، وأول حكم استدل به من استدل في هذه الأوقات المعاصرة بكلام البخاري ، ماذا قال فيه؟ قال: سكتوا عنه، ما معنى سكتوا عنه؟ أي: أنه قارب الوضاع، أو أن حديثه لا يكتب، ولا يلتفت إليه ولا يعتبر به، ولا يعول عليه، وهو من أشنع ألفاظ الجرح أن تقول: سكتوا عنه؛ لأن بعده كذاب، وبعده وضاع، فحديثه ساقط الاعتبار ومنكر، وهذا كلام لا يقال في حق هذا الإمام، من قاله بعد ذلك هذا أو غيره يرد عليه، ونقف نحن عند الحد، ونتقي الله عز وجل في كلامنا.

على أن بعض الإخوة المعاصرين في هذه الأيام بحث فيما يشار من كلام حول ضبط أبي حنيفة ، وقدم في ذلك رسالة علمية في جامعة أم القرى في ضبط أبي حنيفة وهل هو ضابط أم لا؟ أما البحث في عدالته فلا يبحث في هذا إلا سفيه في نظري، لكن البحث في الضبط هل هو ضابط أم لا؟ فأخذ مجموعة من أحاديثه، وكيف نعرف الراوي هل هو ضابط أو لا؟ بعرض حديثه على أحاديث الثقات الحافظين الضابطين، فإن وافقهم تماماً فهو ضابط، وإن خالفهم وخص بالمخالفة فهو خفيف الضبط حديثه حسن، وإن فحش في المخالفة فهو سيئ الحفظ حديثه مردود، فهذا الباحث أخذ مائة حديث من أحاديث أبي حنيفة ، ثم عرضها على أحاديث الحفاظ المتقنين الذين شاركوه في هذه الأحاديث، ولا أستحضر الآن النسبة الدقيقة لكن هذا فيما أتصوره وفيما حكاه لي بعض الإخوة عن ملخص هذه الرسالة، وخلاصة الكلام والتحقيق أنه قال: دعونا من الكلام، فلا ينبغي أن نعول على كلام فلان وفلان، هذه مائة حديث من مسند أبي حنيفة ، قارنها مع الحفاظ المتقنين الذين شاركوه في هذه الأحاديث من طرق أخرى، ثم ننظر بأي شيء اختلفوا؟ وبعد الاختلاف نحقق من ترجح روايته لمشاركة رواة آخرين له، بحيث يتبين لنا أن هذا هو الذي ضبط، وهذا الذي أخطأ، ففي ثلاثة من مائة ضبطوا وأخطأ أبو حنيفة، وفي اثنين من مائة ضبط أبو حنيفة وأولئك على خطأ، ثم في البقية الكل حديثهم سواءً بسواء، إذا كان الأمر كذلك فهو ضابط لروايته كما تقدم معنا مقطوع بها وعدالته، فهو إذاً: عدل ضابط، رغم أنف الكبير والصغير، وما جرى بعد ذلك من أئمتنا يبقى أنه من باب كلام الأقران، نحيل شيئاً، ونؤول شيئاً، ولا نقع في المتكلم، نستغفر للجميع، وحال أئمتنا عندنا كحال الرسل تماماً، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285] ، ونحن لا نفرق بين أئمة الإسلام؛ أبو حنيفة إمام، الشافعي إمام، ومالك إمام، وأحمد بن حنبل إمام، والبخاري إمام، وسائر أئمتنا أئمة على العين والرأس.

وهذا كلام كنت نقلت بعضه من كتاب جامع بيان العلم وفضله لـابن عبد البر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا حافظ المغرب وهو مالكي المذهب، ليس كما يقول المعاصرون: حنفي متعصب، هذا الآن ليس حنفياً ولا متعصباً، يقول أبو عمر ، وهو ابن عبد البر : أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة ، وتجاوزوا الحد في ذلك، والسبب والموجب لذلك عندهم إدخاله الرأي والقياس على الآثار واعتبارهما، وكذلك رده أخبار الآحاد بتأويل محتمل، تقدم معنا رد مالك الذي قال فيه الذهبي ؟ هو معذور ومأجور في رده لهذا ولغيره؛ لأنه ما رده بناءً على هوى، أو بناءً على معارضة لأشياء عنده ثابتة.

ثم تأمل قول ابن عبد البر : وكان رده بما رد من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، فلماذا لا تشنع إلا عن أبي حنيفة فقط؟ هذا التأويل قال به من سبقه من الأئمة الكرام، يقول: وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي، وجل ما يوجد له من ذلك ما كان اتباعاً لأهل بلده كـإبراهيم النخعي ، وأصحاب ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، إلا أنه أغرق وأفرط في فرض النوازل هو وأصحابه، والجواب فيه برأيهم واستنباطهم، فأتى منه في ذلك خلاف كبير للسلف، وسمع هو عندما قال: فيهم بدع، وما أعلم أحداً من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب سنةً أخرى بتأويل ثالث، أو ادعاء النسخ، إلا أن لـأبي حنيفة من ذلك كثير، وهو يوجد لغيره قليل.

ثم قال أبو عمر : ليس لأحد من علماء الأمة أن يثبت حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله، أو بإجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته فضلاً عن أن يتخذ إماماً ولزمه إثم الفسق، هذا كان يرد الأحاديث دون وجود معارض لها من نص أو إجماع أو قاعدة شرعية لصار هذا صدقاً في حقه والأئمة برآء من ذلك.

يقول: ونقموا أيضاً على أبي حنيفة الإرجاء.

إذاً المسألة الأولى: أنه يجتهد ويقيس، والثانية: أنه مرجئ، ومن أهل العلم من ينسب إلى الإرجاء كثيرا، ولم يعن أحد بنقل قبيح ما كما عنوا بذلك في أبي حنيفة ، لماذا؟ لو قلت: هو كان مرجئا، قلنا: وغيره كان يقول بهذا فلماذا أنتم تنقلون الإرجاء عن أبي حنيفة فقط؟ استمع ماذا يقول، قال: لإمامته، وكان أيضاً مع هذا يحسب وينسب إليه ما ليس فيه، ويختلق عليه ما لا يليق، وقد أثنى عليه جماعة من العلماء وفضلوه، ولعلنا إن وجدنا نشطة أن نجمع من فضائله، وفضائل مالك ، والشافعي ، والثوري ، والأوزاعي ، كتاباً أملنا جمعه قديماً في أخبار أئمة الأمصار إن شاء الله.

على كل حال هذه الأمنية حققها ابن عبد البر فألف كتابه الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، ولم يدخل أحمد في الأئمة الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين؛ لأنه تغلب عليه النزعة الحديثية رضي الله عنهم أجمعين.

ثم ساق ابن عبد البر الإسناد مباشرةً عن ابن معين فقال: يقول أصحابنا يفرطون في أبي حنيفة وأصحابه، فقيل لهم: أكان أبو حنيفة يكذب؟ فقال: كان أنبل من ذلك. ونقل عن ابن معين أنه قال: ما رأيت أحداً أقدمه على وكيع ، وكان -يعني وكيع - يفتي برأي أبي حنيفة ، وكان يحفظ حديثه كل يوم، وتقدم معنا أن عبد الله بن المبارك كان يأخذ برأي وفقه أبي حنيفة ، قال: وكان قد سمع من أبي حنيفة من هو؟ وكيع بن الجراح ، وكان قد سمع من أبي حنيفة حديثاً كثيراً، قال: وقيل لـيحيى بن معين : يا أبا زكريا ! أبو حنيفة كان يصدق في الحديث؟ قال: نعم صدوق، قيل له: والشافعي كان يصدق؟ قال: ما أحب حديثه ولا ذكره، طيب غفر الله لك، يعني جئت من ناحية أطلقت ومن ناحية ثانية نسأل الله أن يغفر لك، وقيل له: والشافعي كان يكذب؟ قال: ما أحب حديثه ولا ذكره، قال: وقلنا لـيحيى بن معين : أيهما أحب إليك أبو حنيفة أو الشافعي أو أبو يوسف القاضي ؟ قال: أما الشافعي فلا أحب حديثه، وأما أبو حنيفة فقد حدث عنه قوم صالحون، وأبو حنيفة لم يكن من أهل الكذب وكان صدوقاً، ولكن ليست أرى حديثه يجزي.

وقال الحسن بن علي الحلواني: قال لي شبابة بن سوار : كان شعبة حسن الرأي في أبي حنيفة .

ثم نقل عن علي بن المديني قال: أبو حنيفة روى عنه الثوري ، وابن المبارك ، وحماد بن زيد ، وهشيم ، ووكيع بن الجراح ، وعباد بن العوام ، وجعفر بن عون ، وهو ثقة لا بأس به.

وقال يحيى بن سعيد وهو القطان : ربما استحسنا شيئاً يقول به أبو حنيفة فنأخذ به، وتقدم معنا: ما سمعنا رأياً أحسن من أبي حنيفة ، نحن لا نكذب الله، يعني: نحن لا نكذب الله ولا يعلم الله منا الكذب أننا نجحد مكانة أبي حنيفة ، ونحن لا نكذبه في أنه جعله آيةً وإماماً لهذه الأمة، لا نكذبه ولا نكذبه، إنما يتكلم بالصدق وهو إمام هذه الأمة.

قال أبو عمر : الذين رووا عن أبي حنيفة ووثقوه وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه، والذين تكلموا فيه من أهل الحديث وأكثر ما عابوا عليه إغراقه في الرأي والقياس والإرجاء، وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه، قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه هلك فيه فئتان: محب أفرط، ومبغض أفرط. هذا أفرط في الحب، وهذا أفرط في البغض، وقد جاء في الحديث (أنه يهلك فيه رجلان محب مطر ومبغض مفتر)، وهذه صفة أهل النباهة ومن بلغ في الدين والفضل الغاية والله أعلم.

الحديث الذي أشار إليه عبد الله رواه أحمد في المسند، وهو من زيادات عبد الله في مسند زوائد المسند، ورواه البزار ، وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة ثلاث وثلاثين ومائة، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث، صفحة ثلاثة وعشرين ومائة، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال لـعلي : (يا علي ! إن فيك مثلاً من عيسى بن مريم، أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه، وقالوا: إنه ابن كذا وكذا، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به)، قال علي رضي الله عنه: ألا وإنه يهلك في اثنان: محب مفرط يقربني ويقول في ما ليس في، ومبغض مفرط يحمله شنآنه على أن يبهتني. ثم قال: ألا وإني لست بنبي، ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق الله عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم، وأن هذا طاعة لربكم جل وعلا .

والحديث روي بإسنادين: الإسناد الأول من طريق عبد الله ولد أحمد في زياداته على المسند، وفي مسند أبي يعلى ، والحاكم رواها من طريق الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف، كما قال الهيثمي في المجمع.

وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: وهاه ابن معين ، والبزار من طريق محمد بن كثير القرشي الكوفي وهو ضعيف أيضاً، وقد روى أحمد بن منيع في مسنده بسند رجاله ثقات كما في المطالب العالية للحافظ ابن حجر في الجزء الرابع صفحة خمس وستين ومائة أنه قال: -أي علي رضي الله عنه وأرضاه، والكلام موقوف عليه - هلك في رجلان: محب مفرط، ومبغض مكذب. والأثر إسناده ثقات، محب مفرط يتجاوز الحد فيرفعه إلى درجة العصمة والنبوة، ومبغض مفرط يتكلم عليه ويقول فيه ما ليس فيه.

ابن عبد البر يقول: حال أبي حنيفة يشبه حال علي رضي الله عنه وأرضاه، وما أشبهنا به يعني في حبه، فأناس قدموه على غيره وتركوا سواه فهذا في الحقيقة أيضاً شطط، وأناس وقعوا فيه وقالوا: إما ضعيف في حفظه، وإما ساقط في عدالته، هذا وذاك كلاهما ضلال، ودين الله بين الغالي والجافي.

الحافظ ابن عساكر رد على بعض شيوخه الذين تلقى عنهم عندما أطلق لسانه في الأئمة المتقدمين، وقالوا له: نحترمك ما احترمت أئمة الإسلام، ولذلك ينبغي أن يعلم الكبير والصغير أن أهل الأرض قاطبةً عندنا لو وضعوا في كفة ووضع أبو حنيفة في كفة لرجح بهم، فليعرف كل واحد قدره، وليقف عند حده، ونحن نحترم المعاصرين وغيرهم ما احترموا أنفسهم، فإذا جاءني أحد ليعرض بأئمتنا -لا ليصرح- فلن نسكت عنه، ونحن إذا لم نحترم أئمتنا فلا خير فينا، فانظر للإمام ابن عساكر ورده على الحافظ العبدري ، وذاك حافظ -كما قلت- يملي من صدره، فهو حافظ الدنيا في زمنه، ومن تلاميذه ابن عساكر ، فاستمعوا لهذه المناظرة التي جرت بينهما يوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء التاسع عشر، صفحة تسع وسبعين وخمسمائة: العبدري الشيخ الإمام الحافظ الناقد الأوحد أبو عامر محمد بن سعدون ، ثم قال: مولده بقرطبة وكان من بحور العلم لولا تجسيم فيه، نسأل الله السلامة، ثم ذكر من سمع منه ومن أخذوا عنه، ثم جاء لمحل الشاهد الذي أريد أن أذكره.

فقال الحافظ ابن عساكر : كان العبدري أحفظ شيخ لقيته، وكان فقيهاً داودياً على مذهب داود الظاهري ، ذكر أنه دخل دمشق حياة أبي القاسم بن أبي العلاء وسمعته وقد ذكر مالك أمام الحافظ العبدري فقال: جلف جاف، ولا بد من أمر نقف عند حدنا ونوقفك عند حدك، قال: ضرب هشام بن عمار بالدرة؟

هشام بن عمار رحمه الله هو من القراء الكبار، والسبب في ضربه أنه جاء وطلب من مالك أن يحدثه وغالب ظني أنه ما كان في وجهه ولا شعرةً، ومالك لا يحدث من ليس في وجهه شعرة، هذا سبب.

سبب ثاني: أنه جاء وألح عليه بالسؤال فقال مالك : لمن يشرف على حلقة كذا، خذوه فاضربوه كذا وكذا درة، فيقال: إنهم ضربوه خمس عشرة جلدة بالدرة، فجاء فقال له مالك : ما كفارة ضربك؟ قال: أن تحدثني بكل درة حديثاً، فحدثه وكان صغيراً، وكان مالك لا يحدث الأحداث، فقال: يا إمام! اضربني بالدرة وزدني تحديثاً، إذا كانت الدرة بحديث، اضربني أنت درة ما أبالي، وزدني حديثاً فأنا أفتخر أنني حدثت عنك، ولا تظن أنه جلده كأنه يقيم عليه الحد.

فهذا العبدري يقول: جلف جاف ضرب هشام بن عمار بالدرة، قال: وقرأت عليه كتاب الأموال لـأبي عبيد ، فقال وقد مر قول لـأبي عبيد : ما كان إلا مغفلاً، لا يعرف الفقه، وقيل لي عنه: إنه قال في إبراهيم النخعي : أعور رجل سوء كما تقدم معنا سابقاً عن إبراهيم النخعي ، قال: كنت معه يوما عند ابن السمرقندي في قراءة كتاب الكامل، فجاء فيه وقال السعدي : كذا، فقال: يكذب ابن عدي ، يعني: الحافظ العبدري يقول: يكذب إنما ذا قول إبراهيم الجوزجاني ، فقلت له: فهو السعدي ، فإلى كم نحتمل منك سوء الأدب، تقول في إبراهيم : كذا وكذا أعور رجل سوء، وتقول في مالك كذا وكذا، وتقول في أبي عبيد ، قال: فغضب وأخذته الرعدة فقال: كان ابن القاضي ، والبرداني وغيرهما من التلاميذ يخافونني فآل الأمر إلى أن تقول في هذا؟ يقول هذا لتلميذه الحافظ ابن عساكر، فقال له ابن السمرقندي : هذا بذاك، يعني كما أنك تتطاول على الأئمة فقف عند حدك، وقلت وهنا القائل ابن عساكر : إنما نحترمك ما احترمت الأئمة، فقال: والله لقد علمت من علم الحديث ما لم يعلمه غيري ممن تقدم، وإني لأعلم من صحيح البخاري ومسلم ما لم يعلماه، فقلت مستهزئاً: فعلمك إلهام إذن، من أين نزل عليك هذا العلم؟ يقول: وهجرته، وكان سيئ الاعتقاد، فقد كان يعتقد التجسيم، ثم تكلم عنه بعد ذلك بما فيه من تجسيم، وقد تقدم كلام الذهبي عنه بأنه من بحور العلم لولا تجسيم فيه.

يقول الذهبي ، وختم ترجمته بذلك: توفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة، قلت: ما ثبت عنه مما قيل من التشبيه وإن صح فبعداً له وسحقاً، الحافظ العبدري حافظ الدنيا في زمانه، وابن عساكر الذي هو حافظ الدنيا يقول: ما لقيت أحداً من الشيوخ أحفظ منه، ومع ذلك نحترمه ما احترم الأئمة.

انظر للذهبي الذي هو ذهب خالص، عندما ألف كتاب الميزان وتكلم فيمن تكلم فيهم، وقد يكون فيهم ثقة، وذكر بعضهم وقد يكون ثقة ليدافع عنه، وانظر لاحتياطه واحتراسه ماذا يقول في مقدمة كتابه في الجزء الأول، صفحة عشرين، يقول: وكذا لا أذكر في الكتاب من الأئمة المتبوعين في الفروع أحد لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم فيه، ففي هذا الكتاب لا يمكن أن ترى مالكاً أو الشافعي أو غيرهم من أئمة الإسلام، ثم قال: فإن ذكرت أحداً منهم فسأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس، إذاً: إنما يضر الإنسان الكذب والإصرار على كثرة الخطأ، والتجري على التدليس بالباطل، فإنه خيانة وجناية، والمرء المسلم يطبع على كل شيء إلا الخيانة والكذب.

إذاً: الذهبي لم يذكر أحداً من الأئمة المتبوعين في الفقه لجلالة قدرهم، وهذه الأمة تلقت أمرهم بالقبول والتسليم، فهذا الذي اتفقت عليه الأمة نأتي نحن الآن نخدشه، لا ثم لا، وكما قلت لكم: لن تجدوا أحداً من الأئمة لم يتكلم فيه، كل إنسان يجد أحياناً من يتكلم عليه من أقرانه ومن نظرائه بحق أو بغير حق، فإذا جرى الكلام من الأئمة كما تقدم نطرح هذا الكلام، وإذا جرى ممن دونهم نوقفه عند حده ونحاسبه، وهذه الإمامة لا تتزحزح أبداً، لا بد من وعي هذا.

الإمام أحمد على جلالة قدره ومكانته ونبله تكلم في قراءة حمزة، وقراءة حمزة متواترة، عندنا من أنكر حرفاً منها نحز رقبته؛ لأنه ينكر كلام الرحمن، لكن نلتمس للإمام أحمد العذر ونقول: إنه لم يدرك قراءته رحمة الله.

يقول ابن قدامة محقق المذهب الحنبلي في الجزء الأول، صفحة خمس وثلاثين وخمسمائة من المغني مع الشرح الكبير، يقول: كان أحمد يختار قراءة نافع ، فإن لم تثبت فقراءة عاصم ، وأثنى على قراءة أبي عمرو بن العلاء ، يقول: ولم يكره قراءة أحد من العشرة إلا قراءة حمزة ، والكسائي ، فقيل له: أبا عبد الله -والقائل هو الأثرم - هل نصلي وراء من يقرأ بقراءة حمزة ؟ وإذا صلينا وراءه نعيد الصلاة؟ قال: لا يبلغ به هذا كله ولكنها لا تعجبني، يعني إعادة الصلاة لا داعي لها، لكن أنا أكرهها.

وهذا الكلام لا يؤثر في حمزة لا من قريب ولا من بعيد، ونقول: هو معذور فيما قال، نسأل الله أن يغفر لنا وله وانتهى الأمر، وما سقطت مكانة الإمام أحمد عندنا عندما قال هذا الكلام.

موقف ابن قتيبة من حمزة الزيات

يوجد في هذا الوقت أحد المعاصرين يشبه الألباني في كلامه على أبي حنيفة ، لكن هذا كلامه في أحمد بن حنبل ، والألباني من بلاد الشام وهذا من بلاد مصر، وكأن الأمة الإسلامية ابتليت بما يسمى هذه الأيام بالبحث والتحقيق العلمي، وخدمة التراث، لوثوا تراث سلفنا باسم خدمة السنة والفقه والآثار المتقدمة، استمع إلى هذا البلاء الذي هنا في صفحة تسع وخمسين في تأويل مشكل القرآن، يقول هنا المعلق وهو أحمد الثقفي من مصر ودرس فترة طويلة في جامعة أم القرى، وفي غالب ظني أنه توفي من قريب عليه وعلى المسلمين أجمعين رحمة رب العالمين.

يقول معلقاً على كلام ابن قتيبة ، يقول: ومن عجب أن يقول ابن مطرف في كتاب القرطين، وابن مطرف جمع كتابين في كتاب واحد: كتاب غريب القرآن لـابن قتيبة ، وتأويل مشكل القرآن لـابن قتيبة ، جمع الكتابين في كتاب واحد وهو كتاب القرطين، يقول: ومن عجبٍ أن يقول ابن مطرف في كتاب القرطين: وباقي الباب لم أكتبه لما فيه من الطعن على حمزة ، وكان أورع أهل زمانه، مع خلو باقي الباب من الفائدة.

ابن قتيبة هنا عرض بـحمزة في تأويل مختلف الحديث، قال ابن مطرف : أنا سأحذف ذاك الباب ما فيه فائدة، وفيه طعن على حمزة ، وكان أورع أهل زمانه، فهل سيقرأ كلام الله على غير ما أنزله؟ لعنة الله على الورع إذا كنا سنتلاعب بكلام الله جل وعلا، يقول: حمزة ما قرأ حرفاً إلا بأثر، وهو أورع أهل زمانه، وفي كلام ابن قتيبة تعريض بـحمزة ، فلما جمع بين الكتابين حذف كلام ابن قتيبة .

ومن كلام ابن قتيبة قوله: وكذلك لحن اللاحنين من القراء المتأخرين لا يجعل حجةً على الكتاب، وقد كان الناس قديماً يقرءون بلغاتهم كما أعلمتك، ثم خلف قوم بعد قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة ولا علم التكلف، فهفوا في كثير من الحروف، وزلوا، وقرءوا بالشاذ وأخلوا، ومنهم رجل شكر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقربه من القلوب بالدين.. إلى آخره، يقول هذا الرجل: وحمزة بن حبيب الزيات أبو عمارة الكوفي أحد القراء السبعة، وقد توفي رحمه الله سنة ثمان وخمسين وقيل: ست وخمسين بعد المائة، يعني بعد أبي حنيفة بست، أو ثمان سنين.

وبعد ذلك يذكر كل ما قيل في حمزة من طعن ولا يذكر تعديلاً له وثناءً من إمام من الأئمة.

يقول: هكذا قال ابن مطرف وهو قول يدل على عصبية مضلة، كقول الألباني تتعصبون لـأبي حنيفة عندما نقول: هؤلاء أئمة ونحن نهتدي بأقوالهم؛ لأن الموضوع موضوع إمام من أئمتنا ونحن نهتدي بأقوال الأئمة وهنا كذلك، يقول وهو قول يدل على عصبية مضلة، فيقول: إن الإمام ابن مطرف يتعصب لـحمزة ، يقول: يدل على عصبية مضلة، وغفلة عن قيمة الحقائق العلمية، وأي فائدة أعظم من أن يبين ابن قتيبة في باقي الباب أوهام القراء التي وهموا فيها، وسجلها عليهم العلماء الأثبات، وبينوا خطأهم فيها، وهل طعن ابن قتيبة في حمزة بغير حق؟ إي والله طعن فيه بغير الحق، لكنه معذور فيما قال. انتهى.

كان شيخنا عليه رحمة الله محمد أبو الشيخ زين العابدين عندما يأتي لكلام ابن جرير في رد بعض القراءات يقول: هذه لحن.. هذا خطأ.. وهي من القراءات العشر المتواترة، فيقول شيخنا: ما لـابن جرير وللقراءة، كل واحد يقف عند حده، ولا ينال منه بسوء.

علماء كرهوا قراءة حمزة ودفاع الحافظ عنه

يقول هنا: ثم إنه لم ينفرد بالطعن فيه، فقد سبقه إلى ذلك أعلام العلماء، فقد كان يزيد بن هارون يكره قراءة حمزة كراهيةً شديدة، وأرسل إلى أبي الشعثاء : لا تقرئ في مسجدنا بقراءة حمزة ، اترك قراءة حمزة لا نريدها.

وقال عبد الرحمن بن مهدي : لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لأوجعت ظهره، وكذلك كان أحمد بن حنبل يكرهها، وكذلك كرهها ولم يقرأ بها عبد الله بن إدريس الأودي ، وقال أبو بكر بن عياش : قراءة حمزة بدعة، وعلق على ذلك الذهبي بقوله: يريد ما فيها من المد المفرط والسكت، وتغيير الهمزة في الوقف، والإمالة وغير ذلك.

وقال ابن جريج : إنني أشتهي أن يخرج من الكوفة قراءة حمزة .

وقال حماد بن زيد : لو صلى بي رجل فقرأ بقراءة حمزة لأعدت صلاتي.

وكان أحمد يكره أن يصلي خلف من يقرأ بقراءته، وكان الأزدي والساجي يتكلمون في قراءته.

هذه كلها طعون، وكلها مأخوذة من تهذيب التهذيب بالحرف، لكن ابن حجر ذكر ما قيل من طعن والتمس له مخرجاً، وذكر ما قيل من ثناء وقال: هذا هو الصواب، فإذا به حذف الثناء وأكثر من هذه الطعون، واختار فقط أرذلها، ممن يعذر فيما قاله، ثم يقول: ولكن الذهبي قال في ميزان الاعتدال: قد انعقد الإجماع بآخره على تلقي قراءة حمزة بالقبول، والإنكار على من تكلم فيها، فقد كان من بعض السلف في الصدر الأول فيها مقال، ويكفي حمزة شهادة مثل الإمام سفيان الثوري له، فإنه قال: ما قرأ حمزة حرفاً إلا بأثر.

هذا كلام الذهبي ينقله في الميزان، وينقله في معرفة القراء الكبار، فيرد على الذهبي ، وعجيب من الذهبي أن يكتفي بدعوى الإجماع وقول الثوري هذا، ويسكت عما قاله فيه السلف ولا يتعرض له بنقد.

ثم نقل الإجماع، فهل انعقد الإجماع بآخره على أنهم كانوا في نقدهم لـحمزة من الخاطئين؟ أقول: نعم، انعقد الإجماع على أنهم كانوا في نقدهم لـحمزة من الخاطئين، وأن من نقد حمزة كان مخطئاً الإمام أحمد أو غيره رضي الله عنهم أجمعين.

عندنا القراءات متواترة فرشاً وأصولاً، من شك في شيء منها أو جحده فقد كفر، وهل القرآن إلا القراءات؟ يعني قراءة حفص قرآن، وقراءة حمزة قرآن، وكم من أناس اعتادوا على أن يقرءوا في هذه البلاد بقراءة حفص عن عاصم ، أو ما اعتاده أناس يقرءون بقراءة قالون عن نافع ، أو ورش عن نافع هي هي، يعني كلام الله هو القراءات، فإذا كنت تشكك في شيء من القراءات فهذا طعن في كلام الرحمن جل وعلا، لكن إذا ما استوعب الإنسان الأمر، أو نقل له خلاف الواقع وهذا ما قاله ابن الجزري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في غاية النهاية في طبقات القراء في الجزء الأول، صفحة ثلاث وستين ومائتين، وينقله الذهبي في معرفة القراء الكبار في الجزء الأول، صفحة خمس وتسعين يقول: إن طعن أحمد وعبد الله بن إدريس الأودي وغيرهما من أئمة الحديث في القراءة، هذا الطعن على حسب نقل الناقل، جاء بعض الناس وبدأ يمطط ويطرب ويغني فقالوا لهم: قراءة من هذه؟ قالوا: قراءة حمزة قال ابن الجزري : وهل آفة الأخبار إلا رواتها، وحمزة يكره هذا، ولا يوجد عنده لا تمطيط، ولا تغني، ولا خروج عن قواعد التجويد.

إذاً الطعن، طعن معين، بقراءة معينة، لكن كان الأولى التحقق من هذا الذي حصل، فإذا كان كذلك فلا بد من تحقيق القضية، ثم إذا جئنا بمنقول عن أحد فالواجب على الإنسان أن ينقل ما قيل فيه، ويبين للناس بعد ذلك حقيقة أمره، انظر الآن في تهذيب التهذيب سأسقط كل ما نقله من طعن، واستمع الآن لمن أثنوا على حمزة ، وبأي شيء ختم الحافظ ابن حجر ترجمته.

توثيق حمزة بن حبيب الزيات في التهذيب

حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات القارئ أبو عمارة الكوفي .

الأول قال أبو بكر بن منجويه : كان حمزة من علماء زمانه بالقراءة، وكان من خيار عباد الله عبادةً وفضلاً وورعاً ونسكاً، وكان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان في بلاد مصر رضي الله عنه وأرضاه. هذا أول ثناء عليه في هذا الكتاب وتوثيق له، وذاك كيف جاء وأخذ هذه الطعون وترك الثناء.

الثاني: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال فيه مثل كلام ابن منظور سواء، يقول: ومنه أخذ ابن منظور وزاد ذكر وفاته، وأنه توفي سنة ست وخمسين أو ثمان وخمسين.

ثالثاً: وقال العجلي : ثقة رجل صالح.

رابعاً: قال ابن سعد : كان رجلاً صالحاً عنده أحاديث، وكان صدوقاً صاحب سنة.

خامساً: قال ابن فضيل : ما أحسب أن الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بـحمزة .

سادساً: ورآه الأعمش مقبلاً فقرأ: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ [الحج:34] .

سابعاً: قال حسين الجعفي : ربما عطش حمزة فلا يستسقي كراهة أن يخالف من قرأ عليه، يعني: لئلا يأخذ أجرة على كلام الله جل وعلا، يعطش فلا يستسقي خشية أن يسقيه أحد قرأ بقراءته، فيقول: هذه أجرة على كلام الله جل وعلا.

ثامناً: قال أبو حنيفة غلب حمزة الناس على القرآن والقراءة.

لماذا لم تذكر هذا؟ ثم قال الحافظ ابن حجر : -وهذا أعدل شيء في ترجمته- وقد ذمه جماعة من أهل الحديث في القراءة، وأبطل بعضهم الصلاة باختياره من قراءته وهذا من أهل الحديث، بعد أن أورد شيئاً مما قيل، قال: فكلام التاجي الذي تقدم معنا أن أحمد يكره أن يصلى خلف من يقرأ بقراءة حمزة يقول: وقد قرأت بخط الذهبي : قد انعقد الإجماع بآخره على تلقي قراءة حمزة بالقبول، ويكفي حمزة شهادة الثوري له، فإنه قال: ما قرأ حرفاً إلا بأثر، ثم قال: وذكر الذهبي أنه ولد سنة ثمانين إلى آخر كلامه.

هذه القاذورات والبليات تخرج للناس، تحت ستار البحث العلمي، والتحقيق العلمي، والله أنا أعجب غاية العجب كيف لهذه الكتب أن تنتشر في هذا الزمان، هناك في ترجمة إمام من أئمة الإسلام وهو فقيه هذه الملة وأول الفقهاء الأربعة، يأتي أحدهم في رسالة ضمنها ثلاثة أبحاث في السنة فيورد ترجمة مظلمة لـأبي حنيفة رضي الله عنه، وحشر فيها كلام من تكلم فيه ممن هو معذور، وخطؤه مغفور ليستدل به ويحتج به، وهذه بلية البلايا.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع