يا أهل الجزيرة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، نبينا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم أجمعين.

ثم أسلم عليكم جميعاً بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيا الله وجوهكم بالسلام، وأكرم وفادتكم يوم تفدون عليه في ذلك الموقف العظيم.

أيها الإخوة: كنت وما زلت حريصاً على أن يكون هذا اللقاء بعيداً عن أي روتين أو إلزام لي أو لكم، ومن هذا المنطلق كنت أحرص على ألا أجهز موضوعاً وأتعب في أعداده وتحضيره، كي لا أشق على نفسي أولاً، وحتى تعذروني من أي تقصير في إعداد الموضوع، أو تقديمه، أو استكمال جوانبه ثانياً، ولكني وجدت أن حضوركم وحرصكم وإلحاحكم وتكاثركم، -كثركم الله وبارك فيكم- يضغط علي شيئاً فشيئاً، ومع أني ما زلت متمسكاً برأيي إلا أنني وجدت أن البحث عن موضوع يلائم طرحه أنه يشغل ذهني جزءاً غير قليل من الأسبوع.

فطيلة هذا الأسبوع كنت متردداً بين عدد من الموضوعات كلها مهم وجدير، وكل واحد منها يدلي بحجته ليكون هو الأولى بالتقديم، وكان في ذهني أن أحدثكم هذه الليلة عن موضوع بعنوان (العُقد) وكنت سأتحدث فيه عن بعض ما أعتبره عُقَداً في التفكير تؤثر علينا من حيث نشعر أولا نشعر، مثل عقدة المؤامرة، ومثل عقدة الاستعلاء والفوقية، وسجلت رءوس أقلام في وريقة صغيرة معي، ثم وجدت أنه منذ أمس هجم علي موضوع هجوماً شديداً، وأحاط بي من كل جانب.

ووجدت نفسي منساقاً إلى أن أحدثكم عنه حديثاً عابراً، والموضوع الذي هجم علي عنوانه هو (يا أهل الجزيرة!) وأنتم تعرفون أنه أيام الغزو العراقي، وأحداث الكويت، وأحداث الخليج، كان هناك محاضرة ضمن سلسلة الدروس العلمية التي كنت ألقيها، كان عنوانها (يا أهل الكويت!) يعالج جراحهم، ويحاول أن يستفيد من الحدث لصالح الاستقامة والالتزام بشريعة الله تعالى وتصحيح الأوضاع والأخطاء التي لا بد أنها أفرزت ذلك الواقع الذي عشناه.

ثم بعد ذلك ربما بسنوات ألقيت درساً آخر ضمن الدروس العلمية كان عنوانه (يا أهيل الحرم!) وكان يتحدث عن بعض القضايا، لكن على سبيل الخصوص بمناسبة الحج، فكان له طابع الخصوصية.

أما اليوم فالموضوع الذي هجم عليّ أحدثكم عنه هو (يا أهل الجزيرة!) وأنتم على فضلكم إن شاء الله، وجلالة أقداركم عند الله بحوله وقوته إلا أنكم حفنة قليلة من أهل الجزيرة، فأحدث أهل الجزيرة من خلال حديثي إياكم، وأحدث العرب والمسلمين قريبهم وبعيدهم من خلال هذا العنوان.

إذ ليس في الإسلام عنصريات، ولا إقليميات، ولا تميز، فالمسلم بعيداً كان أو قريباً، من الجزيرة، أو من الشام، أو من العراق، أو من مصر، من بلاد العرب، أو العجم، أو الفرس، أو من أي أرض كان، المسلم الحق هو أخونا، وتعليم الله تعالى لنا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].

ما بيننا عربٌ ولا عجم     مهلاً يد التقوى هي العليا

خلوا خيوط العنكبوت لمن     هم كالذباب تطايروا عميا

وطني كبير لا حدود له     كالشمس تملأ هذه الدنيا

في إندونيسيا وفوق إيران     في الهند في روسيا وتركيا

آسيا ستصهل فوقها خيلي      وأحطم القيد الحديديا

إذاً: الإسلام ليس له لون خاص، ولا عرق خاص، ولا جنسية خاصة، بل هو الدين الذي ذابت فيه جميع الفروق، وتكوَّن ذلك المجتمع المسلم ولو نظرت قائمة بأسماء الأوائل من أبطال الإسلام لوجدت فيهم العربي، والرومي، والكردي، والحبشي، ومن كل الأجناس والألوان، لأنه أنـزل يوم أنـزل رحمة للعالمين.

خصوصية المخاطبين أمر سائغ

لكن لا يمنع أن نحدث أهل الجزيرة العربية اليوم حديثاً يخصهم، والله تعالى خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم خطاباًخاصاً في القرآن الكريم بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الطلاق:1] مع أن المقصود الأمة كلها من ورائه، كما في قوله عز وجل مثلاً: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1] فاستفتح بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ثم خاطب الأمة كلها بقوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) ومثله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] إلى غير ذلك من المواضع.

ويحضرني في هذا المقام قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، اليهودي الذي أسلم، وقال الله فيه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10] لما اعتدى الناس في عهد عثمان رضي الله عنه على أمير المؤمنين، ونشأت بينهم ناشئة الفرقة والفتنة، والاختلاف والتباغض، رأى بوادر هذه الفتنة، فقام على قدمه، كما في كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد وعهدي به قديم، وإسناده فيما أذكر صحيح، وقال: [[يا أهل المدينة: لإن أحدثتم فيها حدثاً لا تساكنكم فيها الملائكة أبداً]].

لكن لا يمنع أن نحدث أهل الجزيرة العربية اليوم حديثاً يخصهم، والله تعالى خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم خطاباًخاصاً في القرآن الكريم بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الطلاق:1] مع أن المقصود الأمة كلها من ورائه، كما في قوله عز وجل مثلاً: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1] فاستفتح بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ثم خاطب الأمة كلها بقوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) ومثله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] إلى غير ذلك من المواضع.

ويحضرني في هذا المقام قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، اليهودي الذي أسلم، وقال الله فيه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10] لما اعتدى الناس في عهد عثمان رضي الله عنه على أمير المؤمنين، ونشأت بينهم ناشئة الفرقة والفتنة، والاختلاف والتباغض، رأى بوادر هذه الفتنة، فقام على قدمه، كما في كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد وعهدي به قديم، وإسناده فيما أذكر صحيح، وقال: [[يا أهل المدينة: لإن أحدثتم فيها حدثاً لا تساكنكم فيها الملائكة أبداً]].

من هذا المنطلق أحدثكم يا أهل الجزيرة! وأذكركم بأول وأعظم النعم، وهي أن الله تعالى اختص أرضكم وبلادكم لينـزل في أرضها القرآن، ويبعث في أرضها الرسول عليه الصلاة والسلام، فأرض مكة والمدينة وطئتها أقدام النبي المختار عليه الصلاة والسلام، وشهدت تحركاته، وتحركات أصحابه، وأزواجه، وأتباعه، في مكة أولاً، ثم في المدينة، ثم في أنحاء الجزيرة كلها.

وحين تقرءون تاريخ الإسلام تجدون تلك الأسماء العظيمة الخالدة، بل حين تقرءون القرآن، وتقرءون السنة تجدون هذه الأسماء اللامعة، مكة المكرمة مثلاً: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين:3] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً [آل عمران:96] بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح:24].

وهكذا في السنة النبوية تجدون في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قائمة طويلة بأسماء تلك البقاع التي شرفها الله تعالى واختارها، أما في السيرة فطول الجزيرة وعرضها كان ميداناً لحركة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولعلكم تعرفون أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم، حتى بعث بعثاً إلى تبوك، بل إلى مؤتة من أرض الشام، فشملت تحركات الجيش النبوي، والأمة المختارة أنحاء الجزيرة كلها، شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً.

وانطلقت من تلك المدينة جحافل الإسلام تدمر الظلام وتنشر النور.

لا تجدون في تاريخ الإسلام، ولا في كتاب الإسلام، ولا في السنة النبوية ذكراً لتلك العواصم الكبرى التي نسمعها اليوم في نشرات الأخبار، ونتداولها ويعرفها الكبار والصغار، والجهال والأميون وغيرهم، لا تجدون فيها ذكراً لـواشنطن، أو لندن، أو باريس، أو موسكو، أو غيرها من العواصم التي أصبحت اليوم كما قال الشاعر:

نسجوه في بلدٍ يشع حضارةً     وتضاء منه مشاعل العرفان

أو هكذا زعموا وجيء به إلى     بلدي الجريح على يد الأعوان

بلاد ودول وأقاليم ومدن، يسمونها مدناً متحضرة، وهي كذلك من بعض الجوانب، فنحن لا نغالط الحقيقة، لكننا نعتبر قمة الحضارة هو التدين الصحيح المعصوم الذي جاء في القرآن الكريم، وكل حضارة تخطئ ذلك، فإنها تتخبط في دياجير الظلمات، قد تحصل على علوم دنيوية، وقد تغزو الفضاء، وقد تحتل وتستعمر رقاعاً واسعة من الأرض، وقد تصل إلى أسرار خطيرة في العلوم، وتفجر الذرة، وتكتشف أدق التفاصيل، كل ذلك قد تفعله، لكنها تفشل في معرفة قيمة الإنسان.

وكل حضارة ليس للإنسان فيها قيمة حقيقة؛ فإنها ليست بحضارة، فليست الحضارة هي البناء، ولا العمران، ولا التقدم العلمي والتكنولوجي فحسب، وإنما أساس الحضارة هو احترام الإنسان، وإعطاء الإنسان قيمته، وشرفه، ومكانته، وهذا لا يتم حقيقة إلا بالدين، وإلا بالإسلام الذي جعله الله تعالى خاتماً للأديان، وجعل رسالة نبيه عليه الصلاة والسلام خاتمة للرسالات كلها قال الله تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].

نعم! البلاد التي حفل بها القرآن والحديث وأخبار السيرة هي هذه البلاد التي خصها الله واصطفاها، وفي مثلها وقريب منها يقول دعبل الخزاعي في قصيدته المشهورة في آل البيت:

مدارس آيات خلت من تلاوة     ومنـزل وحي مقفر العرصاتِ

وقد كان منهم بـالحجاز وأهلها     مغاوير نحارون في السنوات

إذا فخروا يوماً أتوا بمحمدٍ     وجبريل والقرآن ذي السورات

فليس فخرهم بآباء وأجداد هم حطب جهنم، ولا فخرهم بالدرهم، والريال، والدولار، ولا فخرهم بالمكانة الدنيوية، وإنما إذا افتخر وأتى كل أناس بساداتهم وأبطالهم وتاريخهم، أتينا نحن بذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر جبريل عليه السلام، وذكر القرآن الذي قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:44].

ملامك في أهل الجزيرة إنهم     أحباي ما عاشوا وأهل ثقات

تخيرتهم رشداً لأمري إنهم     على كل حال خيرة الخيرات

فيا رب زدني في يقيني بصيرة     وزد حبهم يا رب في حسناتي

وإنما عنيت من أهل الجزيرة أهل "لا إله إلا الله" أهل التوحيد، الذين ولدوا عليه، وعاشوا في ظلاله، ويموتون في سبيله.

أيها الأحبة: يا أهل الجزيرة! فضلكم الله تعالى بهذا الوحي الذي أنـزله على بلادكم، فهل غزوتم عالمكم اليوم بالقرآن؟

إننا نجد أن أمريكا -مثلاً- كدولة كبيرة ممكنة تحاول أن تغزو العالم بثقافتها من خلال شريط الفيديو، أو البث الإعلامي، أو المجلة، أو الكتاب، والوسائل الكثيرة التي يستخدمونها الآن، حتى إن الدول الغربية نفسها تعلن حالة الطوارئ -كما يقال- خوفاً من الثقافة الأمريكية.

في فرنسا -مثلاً- يخافون من الثقافة الأمريكية، وفي روسيا يخافون منها، بل وحتى في بريطانيا يخافون من الغزو الثقافي الأمريكي، الذي يغزو مسارحهم، ويغزو شاشاتهم، ويغزو عقولهم في النهاية.

وهم ماذا يملكون! فرنسا -مثلاً- على أي شيء تخاف من الثقافة الأمريكية؟! كل ما تملكه أو أكثر ما يميز الثقافة الفرنسية، والإعلام الفرنسي والتاريخ الفرنسي -وخاصة الحديث- أن يفتخروا بأشياء على أقل تقدير أن من بينها العري، فيرون المحافظة على تاريخهم، وخصوصياتهم، وتراثهم حتى ولو كانت هي العري! فضلاً عن التراث، فضلاً عن اللغة، فضلاً عما يعتبرونه هم أمجاداً أو ثورات مختلفة قدموها لشعوبهم أو للبشرية.

حتى العري في إعلامهم، وفي مجلاتهم، وفي مسلسلاتهم، يعتبرونه ميزة، وخصوصية لأمتهم يجب أن يحافظوا عليها في سبيل الغزو الأمريكي.

وفي ظل ذلك: أفيجدر بمن يقولون: إنهم يملكون سر الحياة، وسر الوجود، وسر الحقيقة، وهو كذلك، هذا القرآن الكريم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أفيجدر بهم أن يبيعوا ما لديهم بثمن بخس؟!

وأن يتخلوا عن علمهم، ودينهم، وثقافتهم، وحضارتهم، وتاريخهم، وتراثهم العظيم، وتميزهم، وأن يتقبلوا ما يأتيهم من أمم الشرق والغرب، فيفتحوا له نوافذ البلاد، ونوافذ الشاشات، ونوافذ الإعلام، وبالتالي يفتحون له نوافذ العقول، حتى تتشكل القلوب والعقول على ذلك؟!

وسلمني أمس أحد الشباب مجموعة من اللقطات التي صورها من بعض الشوارع في الرياض، فأجد فيها كلمات إنجليزية، وكلمات عربية، كلها ذات بعد ثقافي غربي، تنطلق من مسلسلات غربية، أو من برامج غربية، أو من أبطال -كما يسمونهم في بعض الأفلام- يشاهدونهم، أو من تاريخ وثقافة غريبة وأجنبية، فإذا كان الشاب المراهق الذي هو في الشارع ليس لديه ثقافة ولا خلفية، ولم يدرس هناك، ولم يتخرج من جامعاتهم...

إذا كانت هذه ثقافته التي يفرغها في مجلته أو صحيفته التي هي عبارة عن سور في الشارع، أو في دورة مياه -أكرمكم الله- أو ما شابه ذلك، فما بالك بمن يعكفون على مثل هذه الثقافة، ويتلقون ويأخذون عنها؟!

أمة هذا تراثها، وهذا تاريخها، وهذا قرآنها، لماذا تتخلى عن ذلك وتذهب لتأخذ فكر الشرق والغرب، وثقافة الأمريكان أو غيرهم؟!

بل وتتخلى عن رسالتها التي ميزها الله تبارك وتعالى بها؟!

فأي شيء هذا يا أهل الجزيرة؟!

جزيرة العرب! جزيرة الإسلام! جزيرة الأمجاد! جزيرة الحضارات! أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].

عتاب يا أهل الجزيرة

يا أهل الجزيرة! لننظر في حياتنا، ولا أقول في حياتكم، لأني أخاطبكم وأنا واحد منكم، لننظر في حياتنا المساجد موجودة، والمصاحف موجودة وحتى مطبوعة في هذه البلاد ذاتها، لكن أليس من الصد عن سبيل الله تعالى أن يكون عامة الناس في بلاد الدنيا كلها يعرفون الإسلام من خلال الرجل العربي الذي يلبس الثياب العربية، أو ما يسمونه بالثياب الخليجية.

فبمجرد ما يشاهدون في التلفاز أو في الجريدة، أو حتى في الشارع، رجلاً يلبس ثوباً عربياً، فضلاً عن أن يلبس غترةً، فإنهم يعتبرون هذا رمز الإسلام، وهو عندهم تلقائياً -ولا تؤاخذوني- رمز التخلف والجهل والإرهاب والعنف والضعف بكل صوره وأشكاله، اللهم إلا أن يكون الجانب المتعلق بالعلاقة مع الأنثى، فهم يعتبرونه في هذا الجانب بالذات رمز القوة والقدرة، فهو الذي يتعاطى مع عدد من النساء ليس فقط بالحلال، في نظر هؤلاء الغربيين، بل وفيما فوق ذلك، وهذا كله بدون شك نتيجة تأثير الإعلام الغربي، لكن هل نستطيع أن نخرج أنفسنا من مسئولية ذلك؟ كلا! فنحن جزءٌ من واقع مرير، يساهم بالصد عن سبيل الله عز وجل.

وكما تشعر أنت بالخوف بمجرد أن ترى أسداً أو ذئباً، فإن كبارهم وجهالهم وأطفالهم ونساءهم يشعرون بالخوف والرعب بمجرد أن يشاهدوا هذه الصورة، هكذا رسم إعلامهم، وهكذا ساهمنا نحن سواء من خلال سكوتنا، أو من خلال عدم قدرتنا على تقديم الصورة الإسلامية الصحيحة لهم، أو عدم قدرتنا على تمثل الإسلام في واقع حياتنا، فلماذا نلوم الآخرين دائماً ولا نلوم أنفسنا؟

لا تلوموا الصورة يا أهل الجزيرة! فالحقيقة أحق باللوم!

هل واقعنا يحكي الإسلام، أو يمثل الإسلام بجملته وتفصيله، أفراداً وجماعات، دولاً وحكومات؟!

أقول بملء فمي: لا. ولا أعتقد أن أحداً في الدنيا كلها يمكن أن يخالف في ذلك.

يا أهل الجزيرة العربية! يا أهل جزيرة الإسلام! أين هداية القرآن الذي تحملونه، ونـزل بلغتكم وفي أرضكم، وبه تفتخرون، وإليه ترجعون فيما تزعمون؟!

أين هداية القرآن عن علاقاتنا الاجتماعية التي أصابها خلل كبير، فلم تعد رابطة الإيمان هي الرابطة الحقيقية بيننا؟!

بل عملت روابط أخرى كثيرة منها: رابطة النسب، أو القبيلة، أو الأسرة، أو المكانة، ولكن رابطة الإسلام ربما كانت من آخر ما نفكر فيه أحياناً.

أين هداية القرآن عن علاقاتنا الخارجية مع غيرنا من الناس، أعداءً كانوا أو أصدقاء، مسلمين أو كفاراً، قريبين أو بعيدين؟

كيف اختلت هذه العلاقات؟

فجعلنا العدو صديقاً، والصديق عدواً، وقربنا البعيد، وأبعدنا القريب، واختلت عندنا الموازين، حتى أصبحنا نخشى ألا نجد يوماً من الأيام من يغضب لغضبنا، أو يرضى لرضانا، أو يستجيب لصيحتنا، أو يتعاطف مع مصابنا؟!

أين هداية القرآن عن الإعلام الذي افترضوا فيه أن يكون الصدق بعينه، وأن يكون توجيهاً للعقول والقلوب، وتنويراً للأبصار، وحفظاً للأمم؟!

فما بالنا أصبحنا نتلمس الصدق والحقيقة في إعلام بعيد، يكون في لندن، أو واشنطن، أو حتى في إسرائيل؟!

لكن لا تكاد تجد من يثق بالإعلام العربي في تناوله للأحداث، فضلاً عن قدرته على صياغة العقول والقلوب والمجتمعات صياغة حقيقية!!

أين هداية القرآن عن الاقتصاد؟

وهو -أعني القرآن- الكتاب الذي جاء بإعلان الحرب الصريحة على الربا.

يا أهل الجزيرة العربية! هذا قرآنكم، وقرآن المسلمين يخاطبكم بالآية الكبيرة البينة، والحجة الواضحة على من كانوا قبلكم: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:160-161] الظلم يضرب بجرانه في كل مكان، والصد عن سبيل الله من خلال أحوالنا، وأقوالنا، وسلوكنا الشخصي الفردي، والاجتماعي العام والخاص وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161].

من هو الذي لم يأكل من أموال الناس شيئاً بالباطل، أو لم يتدنس جوفه أو جيبه بالربا، والله تعالى ذكر أنه عاقب الذين هادوا، بأن حرمهم شرعاً من طيبات كانت حلالاً لهم بهذه الذنوب، أفلا يحرمنا الله تعالى قضاءً وقدراً -فإن شرع الله لا يتغير- من بعض ما أنعم به علينا بسبب هذه الذنوب؟!

وَضَرَبَ اللَّهُ مثلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].

التفكك الاجتماعي في الجزيرة

أليس غريباً يا أهل القرآن! ويا حملة الرسالة! ويا ورثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في علمه ودينه وشريعته، أن يكون الدين الذي نـزل بـمكة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [التكوير:27] أن يكون على مسافة كيلو مترات يسيرة من مكةً نفسها، وبعد مضي ألف وأربعمائة سنة، وفي عصر التطور الإعلامي، وانفجار الاتصالات أن يوجد على مسافة كيلو مترات من مكة، من البلد الأمين من لا يفقهون من أمر دينهم شيئاً قل أو كثر؟!

حتى حدثنا من زاروهم وجلسوا معهم من الدعاة، أنهم لا يتقنون سورة الفاتحة، ولا أن يصلوا، أما عن أوضاعهم المادية فحدث ولا حرج، لا تظن أنهم يعيشون في بيوت من الخشب -مثلاً- أو في منازل من الطين مهدمة، أو حتى في ظلال من الشجر، كل ذلك ليس موجوداً، وإنما الذي تعتبر حياته حياة جيدة، هو من يملك برميلين يضع فوقهما شيئاً يظلله، وبناته وزوجته وأطفاله من أذى الحر، فأين هداية القرآن عن ذلك؟

الذين يفترض أن يحملوا نور الهداية، ومشعل الهداية، والعدالة الاجتماعية، والإنصاف والتكريم، أن يحملوه إلى الشرق وإلى الغرب وإلى أمم الدنيا كلها، ما بالهم قعدوا وأقبلوا على قضيتهم الخاصة الشخصية، بل حتى لم يحسنوا الدفاع عن قضيتهم الشخصية، وتركوا دين الله تعالى، تركوه لمن؟

من سيدافع عن دين الله؟!

ومن سيحمله؟!

ومن سيدعو إليه؟!

ومن سيبصر الناس به؟!

هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى جواب.

ويا أهل الجزيرة العربية! أرجو ألا تجرحكم هذه الكلمات، فوالله الذي لا إله غيره إنها ليست كلمات متشفٍ، ولا مبغض، ولا كاره، وإنما كلمات من يحب لكم الخير، ويفرح لكم به، ويكره لكم الشر، ويخاف عليكم منه، فنحن نرى هذه النعم التي أنعم الله بها علينا، ونخشى أن يأتي اليوم الذي نتذكرها فيه باعتبارها تاريخاً مضى، لأننا عندما نقرأ القرآن ونجد السنن الإلهية الموجودة فيه، نعرف أن السنن هذه لم يأت فيها نص في القرآن ولا في الحديث يستثني أمة من الأمم، ولا شعباً، ولا دولة، ولا قبيلة من قانون ومن طائلة السنن والنواميس الإلهية الموجودة في القرآن.

فالذي حق على بني إسرائيل، وعلى الأمم السابقة كلها من آدم عليه السلام، إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من بعد ذلك إلى يومنا هذا، لماذا لا يصيبنا؟

ولماذا نتوقع دائماً وأبداً أن ما نعيشه سرمدٌ لا يزول؟!

لماذا لا نستحضر احتمال أن نفقد هذه النعم كلها أو جلها؟!

خاصة ونحن نسمع الآن الكلام الكثير، والتقارير التي لم تعد سراً، بل أصبحت حديث وسائل الإعلام الغربية والشرقية، العربية والأجنبية عن الأزمة الاقتصادية التي تضرب بخناقها على العالم، وعلى الدول النامية، وعلى وجه الخصوص على دول الخليج والجزيرة العربية.

والمديونية الضخمة التي قد تختلف المؤسسات في تقدير أرقامها، لكنها لا تختلف في وجودها وضخامتها، أفلا يكفي هذا مؤشراً يهز عقولنا ورءوسنا، ويعيدنا إلى صوابنا، ويذكرنا بأن هذه بداية وليست نهاية، وأن هذا لون من ألوان التحذير الإلهي، الذي إذا لم نستجب له، ونصغ إليه، فإن له ما بعد؟!

فالسنة ماضية والناموس الإلهي الذي حق على الأمم كلها والله لا يستثنينا من ذلك أبداً!.

يا أهل الجزيرة العربية! أتوقف هنا لأقول كلمة، وأنا أخشى أن أؤذيكم ببعض كلماتي، أو أجرح مشاعركم بهذا، وقد قلت لكم ما قلت، الله تعالى يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].

والله إن دعاة الإسلام هم من أكثر الناس حرصاً على بلاد الإسلام، وعلى هذه البلاد، أن يصيبها سوء أو مكروه، وعلى أهل هذه البلاد الطيبين المباركين، أن يبتلوا بفقر، أو جوع، أو حرمان، أو خوف بسبب التقصير في أمر الله عز وجل، والبطء في القيام بشريعته عز وجل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ما تركه قوم إلا أحلوا بأنفسهم البوار.

أحسنوا كما أحسن الله إليكم

لقد ذقتم يا أهل الجزيرة يوماً من الأيام طعم الجوع والخوف، ثم فجر الله تعالى في أعماق بلادكم هذا الذهب الأسود السيال النفط الذي به دخلتم العالم، لم يكن العالم يعرف شيئاً عن هذه البلاد، ولا عن بلاد الخليج، ولا عن كثير من الدول العربية والإسلامية، يوم كانت دولاً عربية وإسلامية فحسب، وإنما عرفها من خلال هذه الثروة التي فجرها الله تعالى في أعماقها، وقد أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم {أذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي} ولذلك يجب أن نقف عند هذه النقطة.

ارتباط الجزيرة بالمسلمين

إن العالم الإسلامي يعيش في كثير من دوله حالات ما دون الفقر، وما دون الإعدام، في بنغلادش مثلاً، أو في الصومال، أو في السودان، أو في عموم القارة الأفريقية، وخاصة الدول الإسلامية منها، يعيشون مستوى ودون مستوى الإعواز، ودون مستوى الفقر، دون مستوى الإعدام، أوضاع لا تكاد تخطر لأحد على بال!!

وهؤلاء هم سندكم وعضدكم بعد الله عز وجل، ومن قبلُ وصل خيركم إلى غيركم، واستمتع بما أنتم فيه، وتنعم به كثير من الأبعدين حتى من عدوكم، من شيوعيين شرقيين أو غربيين أو علمانيين أو سواهم، فلماذا يخطئ خيركم إخوانكم المسلمين، سواء أكانوا من أقاربكم الموجودين بقربكم، والذين تحدثت عن نموذج منهم قبل قليل، أم من إخوانكم المسلمين الموجودين في القارة الأفريقية أو الأسيوية أو غيرها؟!

أتريدون أن يكون أمركم كما قال الأول:

كتاركة بيضها بالعراء     وملحفة بيض أخرى جناحا

يقولون: إن النعامة أحياناً تترك البيض الذي لها، وتأتي إلى بيض نعامة أخرى لتضع جناحها عليه، فتعير بذلك.

هل تريدون أن تكونوا جزيرة في بحر يُكِنُّ لها الكراهية والعداء؟

فحيثما تلتفت وجدت مجروحاً منا، هذا أسأنا إليه، وهذا حاربناه، وهذا حرمناه، وهذا تدخلنا في خصوصياته، وهذا وقفنا ضده، وهذا وهذا، هل تريدون أن يتحول العالم العربي والإسلامي من حولكم إلى بحر متلاطم يُكِنّ لكم الكراهية والعداء؟!

إن هذا شر لكم ولهم، فهو قطيعة بين أهل الإسلام، وأهل الكلمة الواحدة، وأهل لا إله إلا الله، ولا شك أن الذي فقد الأمل بالمسلمين سيبحث عن غيرهم.

وقبل أيام جاءتني رسالة مطولة من أمريكا تتكلم على سبيل المثال عن واقع الأكراد، وخاصة الذي يقيمون هناك، وقل مثلهم بالنسبة للمهاجرين من عراقيين، أو صوماليين، أو غيرهم، ممن اضطرتهم ظروف العيش، أو ظروف الحرب، أو غيرها، إلى السفر إلى هناك، فوجدوا عند النصارى مع الأسف الشديد التكريم، والاحترام لإنسانيتهم، بل والاحترام لدينهم على الأقل ظاهراً، وإعادتهم إلى محاكم إسلامية تحكم في شئونهم الخاصة، وإلى مراكز إسلامية تتولى مشكلاتهم، ويعطونهم ما يسمى ببدل البطالة، ويعطونهم الجنسيات في أحيان كثيرة، ويحترمون متخصصيهم ومثقفيهم والأكاديميين منهم، فيجعلونهم في الرتب التي يستحقونها، ثم يعملون على دعوتهم إلى النصرانية، وخاصة دعوة الصغار من خلال الإغراء والهدية والجائزة والأمور المادية والرفاهية التي يغدقونها عليهم.

فشر للمسلمين أن يختلفوا ويتباغضوا فيما بينهم، وهو شر لكم أنتم أيضاً من بينهم، لأن المسلم إذا ألمت به ملمة، أو نـزلت به نازلة، فإنما يستصرخ إخوانه المسلمين، أما أعداؤه من الكفار، أياً كانت ألوانهم، وجنسياتهم وبلادهم، وأياً كانت الأسباب التي يمتون بها إليك، فإن هؤلاء الأعداء وإن ظهروا بجلود لينة، إلا أن قلوبهم قلوب الذئاب.

فهم أعداؤكم حقيقة ولو تظاهروا بالصداقة لكم، ولو كتموا هذه العداوة وقتاً من الأوقات، وإذا جد الجد، ظهرت حقائقهم:

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها      عند التقلب في أنيابها العطبُ

فلا تغتروا بعدوكم ولو أظهر لكم ما أظهر، واعلموا أن سندكم وعضدكم وعونكم بعد رب العالمين إنما هم إخوانكم المسلمون، سواء أكانوا بين أظهركم من أهل هذه البلاد، أم كانوا نازلين عليكم من بلاد أخرى، أم كانوا مسلمين في ديارهم، فصححوا ما بينكم وبينهم، ووثقوا معهم العلائق، واربطوا معهم الروابط، وأزيلوا ما في قلوبهم من الضغائن والإحن والبغضاء، وأشعروهم أنكم إخوانهم، وأنه عفا الله عما سلف، وأنتم أولاد اليوم، وتوبوا إلى الله تعالى من كل عمل، أو قولٍ، أو فعل، أو تصرف، أو قرار أورثكم بغض إخوانكم المسلمين الأقربين منهم والأبعدين.

عواقب التفكك الطبقي الكبير في المجتمع

ثم يا أهل الجزيرة! يا أهل الخيرات والبركات! يا من أنعم الله تعالى عليهم بنعمة المال! أتظنون أن وجود الثراء الفاحش بينكم إلى جوار الفقر المدقع، مما يرضي الله تعالى، أليس هذا من أعظم المنكرات؟

بلى، إن ذلك خلل اجتماعي كبير، وأخشى أن يورث هذا الأحقاد والضغائن في داخلكم وفيما بينكم.

فإن الإنسان المحروم الذي يرى غيره يتمتع بالخيرات، والثروات، والأموال، والدور، والقصور، والسيارات الفارهة، وكل التسهيلات، ثم يرى نفسه محروماً من ذلك كله، قطعاً لا شك فيه أنه سيتولد لديه الحقد، ووالله! لو كان مؤمناً تقياً لكان الغالب أن يحدث منه ذلك، فكيف والإيمان ضعيف عند عامة الناس اليوم، ولا يوجد من الوسائل ما فيه تقوية لإيمان الناس؟!

فإذاً: هذا الخلل الاجتماعي، وهذا التفاوت الطبقي الكبير، لا شك أن عواقبه وخيمة، وينبغي أن نعلم أن هذا من أسباب العقاب، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كما في صحيح البخاري {هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم واستنصارهم} فيجب أن نعلم أن من معنى الحديث أننا قد نمنع الرزق والنصر والأمن، ونحرم من الخيرات بضعفائنا أيضاً، بسبب دعائهم على من تسبب في حرمانهم مما يستحقون من مال، أو وظيفة، أو منصب، أو أي تسهيل كانوا به جديرين وله مستحقين.

يا أهل الجزيرة! هذا كتاب الله ينطق بيننا بالحق، يقول الله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45] أي: وأهلكنا أهلها (بئر معطلة) لأن أهلها أهلكوا (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أهلك الله تعالى من فيه، وأبقى القصر علامةً وآيةً على ما أجرى الله تعالى لأهل هذا القصر الظالمي أنفسهم (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي: أهلك الله أهله، فهو خاوٍ على عروشه ليس فيه ديَّار ولا سائل ولا مجيب.

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] أين الذين يسمعون؟!

ثم ممن يسمعون؟!

أين الذين يعقلون؟!

ويتأملون؟

ويدركون أن هذا ليس كلاماً فارغاً، هذه سنن الله تبارك وتعالى جارية عليك وعلى غيرك، شئت أم أبيت، اليوم أو غداً، ولا تقل: لماذا أبطأنا؟

لم نرَ شيئاً، والأمور طيبة؟!

لا! لأن الله تعالى استدرك هذا المعنى الذي قد يخطر في بالك، وذكره تعالى في نفس السياق أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج:46-48].

فذكر الله تعالى الظلم في البداية (أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) وقال في الأخير: (أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) وبين الله تعالى أن الظلم هو سبب خراب الدول والمجتمعات، وتدمير البلاد، والقضاء عليها، والظلم يورث الأحقاد والبغضاء والتشتت واختلاف العقول والقلوب.

وبالتالي يصبح المجتمع وإن كان في ظاهره مجتمعاً واحداً؛ إلا أنه في حقيقته أهواء شتى، واتجاهات مختلفة متصارعة متضاربة، يغذيها الظلم، ويؤججها الحقد الناتج عن التميز الطبقي، والخلل الاجتماعي، الذي يجعل طبقات من المجتمع تنعم بالخيرات، والأموال، والبركات، والتسهيلات، والفرص، والوظائف، وطبقات أخرى كثيرة جداً محرومة من ذلك كله، وهو جزء من استحقاقها.

يا أهل الجزيرة! لننظر في حياتنا، ولا أقول في حياتكم، لأني أخاطبكم وأنا واحد منكم، لننظر في حياتنا المساجد موجودة، والمصاحف موجودة وحتى مطبوعة في هذه البلاد ذاتها، لكن أليس من الصد عن سبيل الله تعالى أن يكون عامة الناس في بلاد الدنيا كلها يعرفون الإسلام من خلال الرجل العربي الذي يلبس الثياب العربية، أو ما يسمونه بالثياب الخليجية.

فبمجرد ما يشاهدون في التلفاز أو في الجريدة، أو حتى في الشارع، رجلاً يلبس ثوباً عربياً، فضلاً عن أن يلبس غترةً، فإنهم يعتبرون هذا رمز الإسلام، وهو عندهم تلقائياً -ولا تؤاخذوني- رمز التخلف والجهل والإرهاب والعنف والضعف بكل صوره وأشكاله، اللهم إلا أن يكون الجانب المتعلق بالعلاقة مع الأنثى، فهم يعتبرونه في هذا الجانب بالذات رمز القوة والقدرة، فهو الذي يتعاطى مع عدد من النساء ليس فقط بالحلال، في نظر هؤلاء الغربيين، بل وفيما فوق ذلك، وهذا كله بدون شك نتيجة تأثير الإعلام الغربي، لكن هل نستطيع أن نخرج أنفسنا من مسئولية ذلك؟ كلا! فنحن جزءٌ من واقع مرير، يساهم بالصد عن سبيل الله عز وجل.

وكما تشعر أنت بالخوف بمجرد أن ترى أسداً أو ذئباً، فإن كبارهم وجهالهم وأطفالهم ونساءهم يشعرون بالخوف والرعب بمجرد أن يشاهدوا هذه الصورة، هكذا رسم إعلامهم، وهكذا ساهمنا نحن سواء من خلال سكوتنا، أو من خلال عدم قدرتنا على تقديم الصورة الإسلامية الصحيحة لهم، أو عدم قدرتنا على تمثل الإسلام في واقع حياتنا، فلماذا نلوم الآخرين دائماً ولا نلوم أنفسنا؟

لا تلوموا الصورة يا أهل الجزيرة! فالحقيقة أحق باللوم!

هل واقعنا يحكي الإسلام، أو يمثل الإسلام بجملته وتفصيله، أفراداً وجماعات، دولاً وحكومات؟!

أقول بملء فمي: لا. ولا أعتقد أن أحداً في الدنيا كلها يمكن أن يخالف في ذلك.

يا أهل الجزيرة العربية! يا أهل جزيرة الإسلام! أين هداية القرآن الذي تحملونه، ونـزل بلغتكم وفي أرضكم، وبه تفتخرون، وإليه ترجعون فيما تزعمون؟!

أين هداية القرآن عن علاقاتنا الاجتماعية التي أصابها خلل كبير، فلم تعد رابطة الإيمان هي الرابطة الحقيقية بيننا؟!

بل عملت روابط أخرى كثيرة منها: رابطة النسب، أو القبيلة، أو الأسرة، أو المكانة، ولكن رابطة الإسلام ربما كانت من آخر ما نفكر فيه أحياناً.

أين هداية القرآن عن علاقاتنا الخارجية مع غيرنا من الناس، أعداءً كانوا أو أصدقاء، مسلمين أو كفاراً، قريبين أو بعيدين؟

كيف اختلت هذه العلاقات؟

فجعلنا العدو صديقاً، والصديق عدواً، وقربنا البعيد، وأبعدنا القريب، واختلت عندنا الموازين، حتى أصبحنا نخشى ألا نجد يوماً من الأيام من يغضب لغضبنا، أو يرضى لرضانا، أو يستجيب لصيحتنا، أو يتعاطف مع مصابنا؟!

أين هداية القرآن عن الإعلام الذي افترضوا فيه أن يكون الصدق بعينه، وأن يكون توجيهاً للعقول والقلوب، وتنويراً للأبصار، وحفظاً للأمم؟!

فما بالنا أصبحنا نتلمس الصدق والحقيقة في إعلام بعيد، يكون في لندن، أو واشنطن، أو حتى في إسرائيل؟!

لكن لا تكاد تجد من يثق بالإعلام العربي في تناوله للأحداث، فضلاً عن قدرته على صياغة العقول والقلوب والمجتمعات صياغة حقيقية!!

أين هداية القرآن عن الاقتصاد؟

وهو -أعني القرآن- الكتاب الذي جاء بإعلان الحرب الصريحة على الربا.

يا أهل الجزيرة العربية! هذا قرآنكم، وقرآن المسلمين يخاطبكم بالآية الكبيرة البينة، والحجة الواضحة على من كانوا قبلكم: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:160-161] الظلم يضرب بجرانه في كل مكان، والصد عن سبيل الله من خلال أحوالنا، وأقوالنا، وسلوكنا الشخصي الفردي، والاجتماعي العام والخاص وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161].

من هو الذي لم يأكل من أموال الناس شيئاً بالباطل، أو لم يتدنس جوفه أو جيبه بالربا، والله تعالى ذكر أنه عاقب الذين هادوا، بأن حرمهم شرعاً من طيبات كانت حلالاً لهم بهذه الذنوب، أفلا يحرمنا الله تعالى قضاءً وقدراً -فإن شرع الله لا يتغير- من بعض ما أنعم به علينا بسبب هذه الذنوب؟!

وَضَرَبَ اللَّهُ مثلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].

أليس غريباً يا أهل القرآن! ويا حملة الرسالة! ويا ورثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في علمه ودينه وشريعته، أن يكون الدين الذي نـزل بـمكة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [التكوير:27] أن يكون على مسافة كيلو مترات يسيرة من مكةً نفسها، وبعد مضي ألف وأربعمائة سنة، وفي عصر التطور الإعلامي، وانفجار الاتصالات أن يوجد على مسافة كيلو مترات من مكة، من البلد الأمين من لا يفقهون من أمر دينهم شيئاً قل أو كثر؟!

حتى حدثنا من زاروهم وجلسوا معهم من الدعاة، أنهم لا يتقنون سورة الفاتحة، ولا أن يصلوا، أما عن أوضاعهم المادية فحدث ولا حرج، لا تظن أنهم يعيشون في بيوت من الخشب -مثلاً- أو في منازل من الطين مهدمة، أو حتى في ظلال من الشجر، كل ذلك ليس موجوداً، وإنما الذي تعتبر حياته حياة جيدة، هو من يملك برميلين يضع فوقهما شيئاً يظلله، وبناته وزوجته وأطفاله من أذى الحر، فأين هداية القرآن عن ذلك؟

الذين يفترض أن يحملوا نور الهداية، ومشعل الهداية، والعدالة الاجتماعية، والإنصاف والتكريم، أن يحملوه إلى الشرق وإلى الغرب وإلى أمم الدنيا كلها، ما بالهم قعدوا وأقبلوا على قضيتهم الخاصة الشخصية، بل حتى لم يحسنوا الدفاع عن قضيتهم الشخصية، وتركوا دين الله تعالى، تركوه لمن؟

من سيدافع عن دين الله؟!

ومن سيحمله؟!

ومن سيدعو إليه؟!

ومن سيبصر الناس به؟!

هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى جواب.

ويا أهل الجزيرة العربية! أرجو ألا تجرحكم هذه الكلمات، فوالله الذي لا إله غيره إنها ليست كلمات متشفٍ، ولا مبغض، ولا كاره، وإنما كلمات من يحب لكم الخير، ويفرح لكم به، ويكره لكم الشر، ويخاف عليكم منه، فنحن نرى هذه النعم التي أنعم الله بها علينا، ونخشى أن يأتي اليوم الذي نتذكرها فيه باعتبارها تاريخاً مضى، لأننا عندما نقرأ القرآن ونجد السنن الإلهية الموجودة فيه، نعرف أن السنن هذه لم يأت فيها نص في القرآن ولا في الحديث يستثني أمة من الأمم، ولا شعباً، ولا دولة، ولا قبيلة من قانون ومن طائلة السنن والنواميس الإلهية الموجودة في القرآن.

فالذي حق على بني إسرائيل، وعلى الأمم السابقة كلها من آدم عليه السلام، إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من بعد ذلك إلى يومنا هذا، لماذا لا يصيبنا؟

ولماذا نتوقع دائماً وأبداً أن ما نعيشه سرمدٌ لا يزول؟!

لماذا لا نستحضر احتمال أن نفقد هذه النعم كلها أو جلها؟!

خاصة ونحن نسمع الآن الكلام الكثير، والتقارير التي لم تعد سراً، بل أصبحت حديث وسائل الإعلام الغربية والشرقية، العربية والأجنبية عن الأزمة الاقتصادية التي تضرب بخناقها على العالم، وعلى الدول النامية، وعلى وجه الخصوص على دول الخليج والجزيرة العربية.

والمديونية الضخمة التي قد تختلف المؤسسات في تقدير أرقامها، لكنها لا تختلف في وجودها وضخامتها، أفلا يكفي هذا مؤشراً يهز عقولنا ورءوسنا، ويعيدنا إلى صوابنا، ويذكرنا بأن هذه بداية وليست نهاية، وأن هذا لون من ألوان التحذير الإلهي، الذي إذا لم نستجب له، ونصغ إليه، فإن له ما بعد؟!

فالسنة ماضية والناموس الإلهي الذي حق على الأمم كلها والله لا يستثنينا من ذلك أبداً!.

يا أهل الجزيرة العربية! أتوقف هنا لأقول كلمة، وأنا أخشى أن أؤذيكم ببعض كلماتي، أو أجرح مشاعركم بهذا، وقد قلت لكم ما قلت، الله تعالى يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].

والله إن دعاة الإسلام هم من أكثر الناس حرصاً على بلاد الإسلام، وعلى هذه البلاد، أن يصيبها سوء أو مكروه، وعلى أهل هذه البلاد الطيبين المباركين، أن يبتلوا بفقر، أو جوع، أو حرمان، أو خوف بسبب التقصير في أمر الله عز وجل، والبطء في القيام بشريعته عز وجل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ما تركه قوم إلا أحلوا بأنفسهم البوار.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5007 استماع
حديث الهجرة 4966 استماع
تلك الرسل 4144 استماع
الصومال الجريح 4140 استماع
مصير المترفين 4078 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4043 استماع
وقفات مع سورة ق 3969 استماع
مقياس الربح والخسارة 3922 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3862 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3821 استماع