شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [26]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد تحدثنا سابقاً عن الأدلة القرآنية الدالة على إمكان المناكحة بين الإنس والجن، أما الدليل الثاني: فهو شهادة الآثار بذلك، فالآثار المنقولة عن سلفنا الأبرار وعن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه تقرر هذا وهو أن التناكح ممكن بين الجن والإنس وواقع.

من هذه الآثار أثر مجاهد الذي تقدم معنا، وهو: أن الشيطان ينطوي على إحليل المجامع إذا لم يسم ويجامع معه.

أثر ابن عباس في أن المخنثين أولاد الجن

ومن الآثار ما رواه الإمام الطرطوشي في كتاب تحريم الفواحش كما في آكام المرجان صفحة سبع وسبعين، ولقط المرجان صفحة ثلاثين، وليس عندي خبر عن كتاب تحريم الفواحش للطرطوشي ، وهو من أئمة المالكية، بوب باباً في هذا الكتاب فقال: باب من أي شيء يكون المخنث؟ ثم نقل بسنده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المخنثون هم أولاد الجن، قالوا: وكيف؟ فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (إن الله ورسوله نهيا أن يأتي الرجل امرأته وهي حائض، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] ، فإذا باشر الرجل امرأته وهي حائض -والمراد بالمباشرة هنا الإفضاء والجماع وليس ما عدا ذلك- سبقه الشيطان فحملت، فجاءت بالمخنث). فالمخنثون هم أولاد الجن، فيأتي بعد ذلك هذا المخنث الذي هو من نسل الشيطان فيتشبه بالنساء ولا يمتنع من فعل الفاحشة به؛ لأن والده في الأصل أساء إليه، ولم يبذر بذراً نافعاً في مكان طاهر، فبذر الجني قبله بذراً في مكان فيه ما فيه في ذلك الوقت.

الإمام ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر يحكي عن بعض الناس أنه كان يباشر زوجته وهي حائض، فابتلاه الله بالحيض، فعلق المعلق على هذا الكلام قال: هذا سخف، وهل يمكن أن يحيض الرجل؟ وكنت قد أوقفت شيخنا الشيخ العلَّامة الشيخ عبد الرحمن زين العابدين عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين على هذا الكلام، وقلت له: هل هذا التعليق مقبول من الإمام ابن الجوزي ؟ وأنا حينها دون العشرين، وهذا نشر كتابه في ذاك الوقت في التعليق على صيد الخاطر وهو من له شأن، ويقول: مستحيل هذه خرافة كيف يحيض الرجل؟ فقال لي: هذا لا يعرف الحقيقة، ولو عرف الحقيقة لما تكلم بهذا، والمراد أنه يخرج منه دم كدم الحيض، عاقبه الله بسيلان الدم من عضوه معاقبةً له؛ لأنه يأتي زوجه في حال حيضها، وليس المعنى أن هذا الذي يخرج منه حيض وأنه يعامل معاملة المرأة الحائض بعد ذلك وهو رجل، المقصود أنه بدأ يخرج منه دم من هذا المكان، والله على كل شيء قدير، وقد أخبرني مرةً بعض الشباب في بعض البلاد، وهو دون الثلاثين قطعاً وجزماً، أخبرني أنه تزوج ولا يستطيع أن يقترب من زوجته، وهو يقول عن نفسه: أنا أعرف السبب، كنت أذهب وأفعل وأفعل وأفعل، وما هتكت من الأعراض يزيد ليس على عدد شعر رأسي بل على عدد ذرات جسمي، وأنا أوقن أن هذه عقوبة من الله لي، يقول: أذهب للبحث عن الأصل والسبب فيقولون: لا يوجد شيء، عاقبه الله فأذهب عنه هذه اللذة الحلال عندما تعجلها عن طريق حرام، قال: ما الحل؟ قلت: الحل أن تتوب إلى الله عز وجل، وأن تصلح حالك، والله على كل شيء قدير، وهو بعباده خبير بصير، لا حل لك إلا هذا، فإذا أورد العلماء أمراً واطلعوا عليه وحكوه فلا نأتي ونعترض عليه بعقولنا، فمثل هذا يقع بكثرة. نسأل الله حسن الخاتمة.

حديث أبي هريرة: (كان أحد أبوي بلقيس جنياً)

أثر ثالث روي مرفوعاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام وفي إسناده ضعف ولا يصل إلى درجة من الترك والنكارة والوضع بحال، والحديث رواه الطبري في تفسيره في الجزء التاسع عشر صفحة ست ومائة في قصة ملكة سبأ التي تقدمت معنا في حال تصرف نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام بالجان، عند هذه القصة أورد الإمام الطبري هذا الحديث في تفسيره، وأورده أبو الشيخ في كتاب العظمة في تسعين وأربعمائة، ورواه ابن مردويه في تفسيره وابن عساكر في تاريخه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان أحد أبوي بلقيس جنياً)، وفي رواية (كان أحد والديها) يعني بلقيس ملكة سبأ (كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنياً).

الأثر أورده الإمام الذهبي أيضاً في الميزان في الجزء الثاني صفحة تسع وعشرين ومائة، وانظروه في الدر المنثور في الجزء الخامس صفحة خمس ومائة، في إسناده راويان تكلم عليهما: الأول وهو الآفة في تضعيف الحديث لا في الوصول إلى درجة الترك أو النكارة ومن باب أولى إلى الوضع، وله شواهد يتقوى بها في الجملة؛ لأنه وقع التناكح بين الإنس والجن، وحصل بعد ذلك ذرية بواسطة هذا التناكح. فيه سعيد بن بشير الأزدي وهو ضعيف كما حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب، وقد توفي سنة ثمان وستين ومائة، وقيل: تسع وستين ومائة وهو من رجال السنن الأربعة.

قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الثالث صفحة اثنتي عشرة وفي الجزء الرابع صفحة ثلاث وسبعين ومائتين: ضعيف، لكن وثقه جماعة.

وقال الإمام الذهبي في الكاشف: قال البخاري : يتكلمون في حفظه وهو محتمل، يعني: ممكن أن يقبل أمره، فليس هو بالساقط الذي يرد خبره ولا يعتبر ولا يستشهد به، والكلام في حفظه لا في ديانته وعدالته.

قال الإمام الذهبي : وقد وثقه دحيم وقال: كان مشيختنا يوثقونه.

ونعته الإمام الذهبي في السير في الجزء السابع صفحة أربع وثلاثمائة بقوله: هو الإمام المحدث الصدوق الحافظ.

الراوي الثاني بشير بن نهيك ، بفتح النون اعتبره بعض العلماء علة في إسناد هذا الحديث وتكلم على الحديث بسببه كما ستسمعون، ولا علة للحديث بسبب بشير بن نهيك على الإطلاق، فهو ثقة من رجال الكتب الستة، خرج حديثه الشيخان وأهل السنن الأربعة، ولذلك حكم عليه الحافظ في التقريب، واستمع للتساهل الذي يحكى في كتب المتأخرين، قال الإمام المناوي في فيض القدير في الجزء الأول صفحة ست وثمانين ومائة في شرح هذا الحديث؛ لأنه بلفظ (كان أحد أبوي ملكة سبأ جنياً) فأورده في حرف الهمزة (أحد أبوي ملكة سبأ كان جنياً)، يقول المناوي : أورده الذهبي في الضعفاء، وقال أبو حاتم : لا يحتج به، رجعت للمغني في الضعفاء فإذا الذهبي يقول: بشير بن نهيك ثقة، وقال أبو حاتم وحده: لا يحتج به، فهذا حذف (وحده) وحذف (ثقة)، فأساء غاية الإساءة، وهو من رجال الصحيحين، انظر حكم الذهبي عليه فكأنه يريد أن يقول: أوردته لكلام ابن أبي حاتم ، فما تكلم عليه إلا أبو حاتم وكلامه لا يعول عليه.

وشيخنا رحمة الله ورضوانه عليه وغفر الله له في أضواء البيان في الجزء الثالث صفحة تسع عشرة وثلاثمائة، نقل كلام الإمام المناوي على علاته، ولم يرجع إلى الأصل ليصحح الكلام، واعتبر أن بشير بن نهيك هو علة في إسناد الحديث كـسعيد بن بشير الأزدي وهذا خطأ، بسبب تقليد المناوي ، وآفة الآفات التقليد، ولذلك أوصيكم إخوتي الكرام بالرجوع إلى المصادر الأصلية على الدوام.

ومما يعجبني قول بعض الإخوة الكرام الحاضرين عندما رد على بعض المشوشين، وقال: لو لم يكن إلا فائدة استفدناها من هذه الدروس لكفت، قالوا: وما هي؟ قال: أن نتحقق من النصوص من مراجعها، وأن نرجع إليها لنتحقق منها ونكون على بصيرة، يتبين لنا القول من قال به، ثم بعد ذلك أنت وما تختار وما تتولى فستئول إلى ربك المولى، وحقيقةً الذي ينظر في فيض القدير ويحكم على بشير بن نهيك بكلام المناوي يكون قد أجحف، والذي ينظر في أضواء البيان ويحكم على بشير بن نهيك بما في أضواء البيان يكون قد أجحف، فلا بد من الرجوع، وأنا أعجب من أنه إذا كان من رجال الكتب الستة وعلى الخصوص من رجال الصحيحين، كيف لا نرجع إلى ترجمته لنتأمل الكلام فيه! ولذلك بناءً على هاتين العلتين في سعيد بن بشير الأزدي وفي بشير بن نهيك أنه أورد في الضعفاء وقال أبو حاتم فيه: لا يحتج به، قال شيخنا هذا الحكم وهو غير مسلم له، قال: الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنياً ضعيف، لم؟ يعني كما قلت: علة وعلة، العلة الأولى مسلمة، والعلة الثانية مردودة قطعاً وجزماً، يقول: ضعيف وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت.

و سعيد بن بشير الأزدي إنما ضعف بسبب ضعف في حفظه، ووهم في ذاكرته، فهذا إذا وجد ما يشهد له من أقوال الصحابة والتابعين التي تقرر أن أحد أبوي بَلقيس كان جنياً فيعتبر بقوله وينجبر هذا الضعف اليسير ويتقوى الحديث ويثبت والعلم عند الله جل وعلا، على أنه سيأتينا أيضاً حديث ضعيف آخر ضعفه قريب محتمل في موضوع حصول الوطء بين الجن والإنس، فيأتي بعد ذلك ذرية يقال عنهم: المغرِّبون والمغرَّبون وهم الغرباء الذين لا يحملون طبيعة الإنس على الدوام، سيأتينا هذا من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في سنن أبي داود وسكت عنه، وما فيه إلا تابعية روى عنها واحد فقط، فهي مجهولة وأمرها يسير لم ينقل فيها تجريح ولا كلام في شأنها إن شاء الله كما سيأتينا عند خطوات البحث بعون الله.

إخوتي الكرام! هذا الحديث ليس فيه إلا سعيد بن بشير الأزدي ، وهذا الضعف فيما يبدو لي والعلم عند الله ينجبر بورود هذا المعنى عن عدد من أئمة السلف منهم قتادة ، أخرج أثره وقوله الطبري في تفسيره، كما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد في مسنده، وابن أبي حاتم في تفسيره، وانظروا الأثر في تفسير الطبري في الجزء التاسع عشر صفحة خمس وتسعين في تفسير الآية المتقدمة، وانظروه في الدر في الجزء الخامس صفحة خمس ومائة قال قتادة : بلغنيه أن أحد أبويها كان جنياً.

آثار أخرى تقوي ما جاء من أن أحد أبوي بلقيس كان جنياً

الأثر الثاني عن الحسن البصري رواه ابن عساكر .

الأثر الثالث عن مجاهد أن أحد أبوي بلقيس كان جنياً. رواه الطبري في تفسيره في المكان المشار إليه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وابن المنذر في تفسيره.

الأثر الرابع أثر عثمان بن حاضر وهو أبو حاضر القاص ، صدوق من رجال أبي داود وسنن ابن ماجه ، أخرج أثره ابن مردويه في تفسير الحكيم الترمذي كما في الدر.

والأثر الخامس أثر زهير بن محمد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.

فهذه خمسة آثار عن سلفنا الأبرار تقرر أن أحد أبوي ملكة سبأ كان جنياً. وهذا الذي ذكره الإمام السيوطي في لقط المرجان واعتمده، وذكره الإمام القرطبي في تفسيره في الجزء الثالث عشر صفحة إحدى عشرة ومائتين.

وسبب تزوج والدها بجنية ثم ولادة بلقيس من والدها الإنسي وأمها الجنية، قيل: إن جدها ولد أربعين ولداً كلهم كانوا يملكون اليمن منهم أبوها، وهو السرح بن الهداهد ، كان والدها من ملوك الأشراف في اليمن ولم يتزوج، فعرضوا عليه الزواج فقال للملوك وللأمراء الذين في زمنه: ما أرى أحداً منكم يكافئني لأتزوج ابنته، سأبقى بلا امرأة، فظهر له، قال: فزوجوه امرأةً من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقمة وهي بِلقيس بَلقيس ولم يكن له ولد غيرها.

قال أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان أحد أبويها جنياً)، ثم مات أبوها واختلف قومها فرقتين ولم يخلف أبوها ذكراً، هل يولون بلقيس عليهم أم يولون رجلاً؟ فوقع رأي الأكثر على تولية رجل فولوه، فأساء السيرة، وفجر بنساء الرعية، وكان إذا بلغ هذا الأمير الخبيث الخسيس عن امرأة وضاءةٌ وحسنٌ ذهب إليها وفجر بها على رغم أنف زوجها وأبيها وولي أمرها، فعرضت بلقيس نفسها على هذا الذي حكم بعد والدها لتتخلص منه وتخلص الرعية من شره، فقال لها: ما منعني من التقدم إليك إلا أنني دونك وأنك تأبين يعني الاقتراب مني وإلا فهذه أمنيتي، فلما دخل عليها سقته الخمر وحزت رأسه فقطعته، ثم دعت بالجيش ورمت الرأس إليهم، وقالت لهم: أما فيكم من يغار على عرضه ومحارمه، يعني: هذا يفجر بنساء الرعية ولا أحد يغار، فلما رأوا عقلها وحصافة رأيها ولوها عليهم بعد ذلك وأجمعوا على توليتها، فهذا كما يقال: سبب أول لتزوج والدها بجنية يقال لها: ريحانة .

وسبب ثان قيل: إن والدها السرح كان وزيراً عند ملك عاتٍ لا يبلغه عن امرأة شيء من الحسن إلا فجر بها واعتدى عليها، فكان هذا الوزير وهو والد بلقيس بلقمة عنده عفة وغيرة، فما كان يتزوج خشية أن يتزوج فيفجر الملك بزوجته فيكون هذا منقصة في حقه، قال: فبينا هو في طريق يمشي منفرداً صحبه رجل فعرض عليه الزواج وقال: لا أريد أن أتزوج، وأنا وضعي كذا لكنني مبتلى بملك جبار يفجر بالنساء، فقال: أنا أزوجك امرأةً لا يستطيع الملك أن يقترب منها، قال: وكيف؟ قال: من الجن، من أجمل نساء الجن، أزوجك إياها فلا يعلم هذا الملك بها، وإذا علم تختفي، وعليه فتزوج فلا داعي لأن تبقى بلا زواج، فتزوجها، ثم علم الملك بعد ذلك بزواج وزيره وأن عنده هذه المرأة الوضيئة الجميلة الحسناء.

فاستدعاه وقال: تعلم ميلي ورغبتي في النساء، وعندك فلانة وتكتم عني، فأودعه السجن وخلده فيه، فلما علم بالأمر دعته ابنته التي هي بلقيس وهي ابنة السرح وقالت: تعال أنا ابنة هذا الوزير، وهي أيضاً جميلة، ويقال: إن أمها ماتت في ذاك الوقت وخلفت هذه البنت، وقالت: أنا أجيبك إلى ما تريد، فلما جاء إليها ومعه خدمه وحراسه، وقفت الجنيات الوضيئات على بابها، وقلن لهذا الملك: لا تدخل مع جنودك هؤلاء إلى هذه الجميلة الحسناء فتفزع منهم، فينبغي أن تدخل بمفردك، فلما دخل بمفرده سقته الخمر ثم ضربته بالنعال تحقيراً له حتى مات، ثم حزت رقبته وألقته بعد ذلك على من معه وقالت: هذا هو ملككم، ألا فيكم من يغار على عرضه؟ فولوها بعد ذلك، فكان أحد أبويها جنياً تزوج والدها ريحانة فولدت له بلقمة بلقيس، والسبب أنه قال: لا يكافئني أحد من ملوك الأطراف، وإما أن الملك كان يعتدي على النساء، وهذا من أخبار أهل الكتاب والعلم عند الله.

ويروى كما في بعض الأخبار أيضاً أنه لما أراد أن يتزوج الجنية شرط والدها عليه فقال له: إذا طلبت منك شيئاً واعترضت عليها فهي طالق، فقال: لك ما تريد من أجل أن يتخلص من معرة الملك، وألا يعتدي على زوجه، يقول: فولد له ولد قبل بلقمة ، وهو ولد ذكر، فأحبه وتعلق به، فذبحته أمه بعد فترة، فاغتم واستاء ولم يستطع أن يسألها؛ لأنها تطلق وتبين منه، ثم ولدت له بعد ذلك بلقمة بلقيس فحزن واغتم فطارت فرحاً، ولم يمكنه أن يمسك نفسه، فقال: جاءني الولد فذبحتيه، وجاءت هذه الأنثى ففرحت بها، قالت: هذا جزائي منك؟

وهذا كان قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكان يمكن أن يسترق شيء من أخبار الغيب من جهة الكهان، وبإجماع أئمتنا يقولون: كانت الكهانة على ثلاثة أقسام منها: اطلاع على شيء من المغيبات حسبما يسترقون السمع، يقولون: وهذا انقطع بمبعث نبينا عليه الصلاة والسلام، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9].

يقولون: سمع الجن في بعض ما اختطفوه من أخبار السماء، أن هذا الولد لو عاش، وهذا ليس القضاء المبرم والقضاء قضاء يتبدل ويتغير بين صحف الملائكة، وقضاء مبرم لا يتغير وهو في اللوح المحفوظ، يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، لو قدر أنه عاش لكان هلاك السرح على يدي ولده، فقالت: أنا ذبحته من أجلك، وهو قطعة مني، وأنت بعد ذلك تعترض علي، وأما هذه فعلمت أن خلاصك وسعادتك ستكون على يديها فمن أجل ذلك فرحت بها، ثم أنت تعترض علي، هذا فراق بيني وبينك، فاختفت عنه ريحانة ، فبقيت عنده بلقمة بلقيس فحصل منها ما حصل.

إنكار الماوردي أن تكون أم بلقيس جنية ورد القرطبي عليه

وما قاله الماوردي في هذا الشأن نقله عنه الإمام القرطبي في تفسيره في الجزء الثالث عشر صفحة ثلاث عشرة ومائتين، أشار فيه القرطبي إلى رده، ونعم ما فعل، قال الماوردي: والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين، واختلاف الطبعين، وتفارق الحسين -وفي بعض الطبعات: الجسمين- لأن الآدمي جثماني، والجن روحاني، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، ويمنع الامتزاج مع هذا التباين، ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف، هذا كله كلام الماوردي .

قال الإمام القرطبي : قد مضى القول في هذا، والعقل لا يحيله مع ما جاء من الخبر في ذلك، وإذا نظر في أصل الخلقة فأصله (من مارج من نار) لكن هذا في أصل خلقته، ولذلك سيعذب في النار، ونحن من طين، ولو ضربت الإنسان بطين لشققت رأسه، هذا أصل الخلقة، فالجن خلق أبوهم من مارج من نار، والإنس خلق أبوهم من طين، فهذا أصل للأبوين.

يقول: فأصله النار، ولا بعد في ذلك والله أعلم، وفي التنزيل: وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الإسراء:64]، وقد تقدم ذلك، وقال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، كما سيأتي في تفسير سورة الرحمن.

وما قاله الإمام الماوردي وهو علي بن محمد بن حبيب أبي الحسن ، توفي سنة خمسين وأربعمائة، وهو من أئمة الشافعية الكبار، وله كتاب في التفسير سماه العيون والنكت في التفسير، وهو من الأئمة الصالحين لكن فيه لوثة الاعتزال، وهذا القول من مشرب المعتزلة ، وهذا ما أشار إليه أئمتنا قاطبةً في ترجمة الإمام الماوردي ، وأنا أعجب لشيخنا عليه رحمة الله وغفر الله له نقل هذا عن الماوردي ولم يتعقل ويرده، وهذا القول مبني على أصل المعتزلة لا على أصول أهل السنة، فهو واقع وممكن عند أهل السنة، وأما حكمه فهذه قضية ثانية.

في طبقات الشافعية الكبرى في الجزء الخامس صفحة سبعين ومائتين تحت عنوان ذكر البحث عما رمي به الماوردي من الاعتزال، ثم نقل عن الإمام ابن الصلاح قوله: الماوردي عفا الله عنه متهم بالاعتزال، وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه وأتأول له وأعتذر عنه لكونه يورد في تفسير الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير في تفسيره تفسير أهل السنة وتفسير المعتزلة غير متعرض لبيان ما هو الحق منها، وأقول: لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق أو باطل، ثم قال: ولهذا يورد أقوالاً مشبهة.. إلى آخره، يقول: حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة وما بنوه على أصولهم الفاسدة ومن ذلك، ثم قال ابن الصلاح : وتفسيره عظيم الضرر؛ لكونه مشحوناً بتأويلات أهل الباطل تلبيساً وتدسيساً على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة، بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق، ثم ختم كلامه بقوله: إن الماوردي ليس معتزلياً مطلقاً، فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرآن.. إلى آخر كلامه في ذلك.

ولذلك يقول الإمام الذهبي في ترجمته في الميزان في الجزء السادس صفحة خمس وخمسين ومائة: صدوق في نفسه، لكنه معتزلي، والإمام ابن حجر في اللسان في الجزء الرابع صفحة ستين ومائتين قال: لا ينبغي أن يطلق عليه اسم الاعتزال، وهذا هو الحق، إنما يقال: فيه لوثة الاعتزال، وتابعهم في بعض أنواع الضلال، وهو مع ذلك من أئمة الخير والصلاح، نسأل الله أن يغفر له ولنا وللمسلمين أجمعين.

ومن صلاحه الذي فاق فيه أكثر علماء زمانه وقوع قضية في زمانه ترخص فيها إمام حنبلي وشافعي وحنفي، وهم شيوخ العلماء والمسلمين في زمانه وثبت هو، فاستمع لهذا الموقف الجري، والصدع بالحق وعدم المبالاة بما يترتب على ذلك.

يقول الإمام السبكي : شرح حال الفتيا الواقعة في زمان الماوردي فيمن لقب بـشاهٍ شاه، يقول: وهي من محاسن الماوردي ، وقد ساقها الشيخ محمد بن الشيخ أبو الفضل عبد الملك إلى آخر كلامه، يقول: وحاصلها: أنه في سنة تسع وعشرين وأربعمائة في شهر رمضان أمر الخليفة أن يزاد في ألقاب جلال الدولة، وهو من أمرائه البارزين في عصر بني بويه شاه الأعظم، ملك الملوك، وخطب له بذلك فأفتى بعض الفقهاء بالمنع، وأنه لا يقال: ملك الملوك إلا لله عز وجل، وتبعهم العوام ورموا الخطباء الذين يقولون على المنبر: شاه شاه الأعظم بالآجر، ونعم ما فعلوا؛ لأنه إذا اشتط الإنسان وخرج عن حدود الرحمن فلا بد من أن يوقف عند حده، فكتب بعد ذلك للفقهاء ليدلي كلٌ برأيه في هذه القضية، فكتب الصيمري أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري وهو من أئمة الحنفية، وتوفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة للهجرة، كتب يقول: إن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية، وهذا كلام من لم يقف على الدليل الشرعي، وإذا ورد نهي فلا يبقى بعد ذلك في هذه القضية نية أو مقصد حسن، انتهى.

وكتب القاضي أبو الطيب الطبري ، وهو من أئمة الشافعية، طاهر بن عبد الله ، توفي سنة خمسين وأربعمائة، في السنة التي توفي فيها الماوردي ، كتب فقال: إطلاق ملك الملوك جائز، ومعناه: ملك ملوك الأرض، وقال: إذا جاز أن يقال: قاضي القضاة جاز أن يقال: ملك الملوك، ووافقه التميمي من الحنابلة وهو أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب ، توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة للهجرة، حنفي وشافعي وحنبلي أفتوا بالجواز، وأفتى الماوردي بالمنع وشدد في ذلك، وكان الماوردي من خواص جلال الدولة، فلما أفتى بالمنع انقطع عنه وتوارى ولم يستطع أن يقابله، فطلبه جلال الدولة فمضى إليه على وجل شديد، فلما دخل قال له: أنا أتحقق أنك لو حابيت أحداً لحابيتني، لما بيننا من الصلة الزائدة، وما حملك إلا الدين فزاد بذلك محلك عندي.

قال الإمام السبكي معلقاً على هذه القصة: وما ذكره القاضي أبو الطيب هو قياس الفقه، فكما يجوز قاضي القضاة يجوز ملك الملوك، إلا أن كلام الماوردي يدل له حديث ابن عميرة عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الأملاك)، رواه الإمام أحمد ، وقال: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع فقال: أوضع، وملك الأملاك يعني: ملك الملوك، يقول سفيان بن عيينة في تفسيره: يقال له: شاه شاه ملك الملوك، شاه شاه معناها عند العجم يساوي ملك الملوك عند العرب.

وهذا الحديث في المسند والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي ، رواه البخاري في الأدب المفرد والإمام الحميدي في مسنده، والحاكم في مستدركه وقال: على شرطهما، فقال الذهبي : قلت: قد أخرجاه، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، والطحاوي في مشكل الآثار، وهو حديث في أعلى درجات الصحة، (أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل يسمى ملك الأملاك، رجل تسمى ملك الأملاك)، لا مالك إلا الله عز وجل سبحانه وتعالى.

الإمام الماوردي مع ما فيه من صلاح وهو من أهل السنة لكن عنده لوثة اعتزال، وإنكاره وقوع الوطء بين الإنس والجن، مبني على أصول المعتزلة لا على مذهب أهل السنة، نعم هو صالح ويذكرون من كراماته عند موته أيضاً أن بعض كتبه التي ألفها لم ينشرها، ثم قال لأحد أصحابه لخواصه: إذا أنا مت وبسطت يدي فاعلم أن الله قد قبلني وغفر لي فانشر الكتب فإن شاء الله أنه أريد بها وجه الله، وإذا قبضت يدي فاعلم أن الله لم يقبلني، وأن هذه الكتب لا يراد منها وجه الله، فهذه أمانة في عنقك فانظر إلى حالي، يقول: فلما قبض الماوردي بسط يديه وهو يبتسم، فنشر ذاك كتبه بعد موته عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

إذاً الأثر عن أبي هريرة رضي الله عنه في أحد أبوي ملكة سبأ مرفوع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وفيه ضعف يتقوى بآثار منقولة عن التابعين رضي الله عنهم أجمعين.

وتقدم معنا أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب تحريم الفواحش وأثر مجاهد ، والأثر الرابع أختم به الكلام على هذه القضية الثانية، وهي في إمكان حصول الوطء والتزاوج بين الإنس والجن.

حديث عائشة: (إن فيكم مغربين...)

الأثر الرابع في هذه القضية أيضاً حديث روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام، رواه الإمام الطرطوشي في كتاب تحريم الفواحش كما في آكام المرجان صفحة سبع وسبعين، ولقط المرجان صفحة ثلاثين، وليس عندي خبر عن كتاب تحريم الفواحش للطرطوشي ، وهو من أئمة المالكية، بوب باباً في هذا الكتاب فقال: باب من أي شيء يكون المخنث؟ ثم نقل بسنده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المخنثون هم أولاد الجن، قالوا: وكيف؟ فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (إن الله ورسوله نهيا أن يأتي الرجل امرأته وهي حائض، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] ، فإذا باشر الرجل امرأته وهي حائض -والمراد بالمباشرة هنا الإفضاء والجماع وليس ما عدا ذلك- سبقه الشيطان فحملت، فجاءت بالمخنث). فالمخنثون هم أولاد الجن، فيأتي بعد ذلك هذا المخنث الذي هو من نسل الشيطان فيتشبه بالنساء ولا يمتنع من فعل الفاحشة به؛ لأن والده في الأصل أساء إليه، ولم يبذر بذراً نافعاً في مكان طاهر، فبذر الجني قبله بذراً في مكان فيه ما فيه في ذلك الوقت.

الإمام ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر يحكي عن بعض الناس أنه كان يباشر زوجته وهي حائض، فابتلاه الله بالحيض، فعلق المعلق على هذا الكلام قال: هذا سخف، وهل يمكن أن يحيض الرجل؟ وكنت قد أوقفت شيخنا الشيخ العلَّامة الشيخ عبد الرحمن زين العابدين عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين على هذا الكلام، وقلت له: هل هذا التعليق مقبول من الإمام ابن الجوزي ؟ وأنا حينها دون العشرين، وهذا نشر كتابه في ذاك الوقت في التعليق على صيد الخاطر وهو من له شأن، ويقول: مستحيل هذه خرافة كيف يحيض الرجل؟ فقال لي: هذا لا يعرف الحقيقة، ولو عرف الحقيقة لما تكلم بهذا، والمراد أنه يخرج منه دم كدم الحيض، عاقبه الله بسيلان الدم من عضوه معاقبةً له؛ لأنه يأتي زوجه في حال حيضها، وليس المعنى أن هذا الذي يخرج منه حيض وأنه يعامل معاملة المرأة الحائض بعد ذلك وهو رجل، المقصود أنه بدأ يخرج منه دم من هذا المكان، والله على كل شيء قدير، وقد أخبرني مرةً بعض الشباب في بعض البلاد، وهو دون الثلاثين قطعاً وجزماً، أخبرني أنه تزوج ولا يستطيع أن يقترب من زوجته، وهو يقول عن نفسه: أنا أعرف السبب، كنت أذهب وأفعل وأفعل وأفعل، وما هتكت من الأعراض يزيد ليس على عدد شعر رأسي بل على عدد ذرات جسمي، وأنا أوقن أن هذه عقوبة من الله لي، يقول: أذهب للبحث عن الأصل والسبب فيقولون: لا يوجد شيء، عاقبه الله فأذهب عنه هذه اللذة الحلال عندما تعجلها عن طريق حرام، قال: ما الحل؟ قلت: الحل أن تتوب إلى الله عز وجل، وأن تصلح حالك، والله على كل شيء قدير، وهو بعباده خبير بصير، لا حل لك إلا هذا، فإذا أورد العلماء أمراً واطلعوا عليه وحكوه فلا نأتي ونعترض عليه بعقولنا، فمثل هذا يقع بكثرة. نسأل الله حسن الخاتمة.

أثر ثالث روي مرفوعاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام وفي إسناده ضعف ولا يصل إلى درجة من الترك والنكارة والوضع بحال، والحديث رواه الطبري في تفسيره في الجزء التاسع عشر صفحة ست ومائة في قصة ملكة سبأ التي تقدمت معنا في حال تصرف نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام بالجان، عند هذه القصة أورد الإمام الطبري هذا الحديث في تفسيره، وأورده أبو الشيخ في كتاب العظمة في تسعين وأربعمائة، ورواه ابن مردويه في تفسيره وابن عساكر في تاريخه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان أحد أبوي بلقيس جنياً)، وفي رواية (كان أحد والديها) يعني بلقيس ملكة سبأ (كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنياً).

الأثر أورده الإمام الذهبي أيضاً في الميزان في الجزء الثاني صفحة تسع وعشرين ومائة، وانظروه في الدر المنثور في الجزء الخامس صفحة خمس ومائة، في إسناده راويان تكلم عليهما: الأول وهو الآفة في تضعيف الحديث لا في الوصول إلى درجة الترك أو النكارة ومن باب أولى إلى الوضع، وله شواهد يتقوى بها في الجملة؛ لأنه وقع التناكح بين الإنس والجن، وحصل بعد ذلك ذرية بواسطة هذا التناكح. فيه سعيد بن بشير الأزدي وهو ضعيف كما حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب، وقد توفي سنة ثمان وستين ومائة، وقيل: تسع وستين ومائة وهو من رجال السنن الأربعة.

قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الثالث صفحة اثنتي عشرة وفي الجزء الرابع صفحة ثلاث وسبعين ومائتين: ضعيف، لكن وثقه جماعة.

وقال الإمام الذهبي في الكاشف: قال البخاري : يتكلمون في حفظه وهو محتمل، يعني: ممكن أن يقبل أمره، فليس هو بالساقط الذي يرد خبره ولا يعتبر ولا يستشهد به، والكلام في حفظه لا في ديانته وعدالته.

قال الإمام الذهبي : وقد وثقه دحيم وقال: كان مشيختنا يوثقونه.

ونعته الإمام الذهبي في السير في الجزء السابع صفحة أربع وثلاثمائة بقوله: هو الإمام المحدث الصدوق الحافظ.

الراوي الثاني بشير بن نهيك ، بفتح النون اعتبره بعض العلماء علة في إسناد هذا الحديث وتكلم على الحديث بسببه كما ستسمعون، ولا علة للحديث بسبب بشير بن نهيك على الإطلاق، فهو ثقة من رجال الكتب الستة، خرج حديثه الشيخان وأهل السنن الأربعة، ولذلك حكم عليه الحافظ في التقريب، واستمع للتساهل الذي يحكى في كتب المتأخرين، قال الإمام المناوي في فيض القدير في الجزء الأول صفحة ست وثمانين ومائة في شرح هذا الحديث؛ لأنه بلفظ (كان أحد أبوي ملكة سبأ جنياً) فأورده في حرف الهمزة (أحد أبوي ملكة سبأ كان جنياً)، يقول المناوي : أورده الذهبي في الضعفاء، وقال أبو حاتم : لا يحتج به، رجعت للمغني في الضعفاء فإذا الذهبي يقول: بشير بن نهيك ثقة، وقال أبو حاتم وحده: لا يحتج به، فهذا حذف (وحده) وحذف (ثقة)، فأساء غاية الإساءة، وهو من رجال الصحيحين، انظر حكم الذهبي عليه فكأنه يريد أن يقول: أوردته لكلام ابن أبي حاتم ، فما تكلم عليه إلا أبو حاتم وكلامه لا يعول عليه.

وشيخنا رحمة الله ورضوانه عليه وغفر الله له في أضواء البيان في الجزء الثالث صفحة تسع عشرة وثلاثمائة، نقل كلام الإمام المناوي على علاته، ولم يرجع إلى الأصل ليصحح الكلام، واعتبر أن بشير بن نهيك هو علة في إسناد الحديث كـسعيد بن بشير الأزدي وهذا خطأ، بسبب تقليد المناوي ، وآفة الآفات التقليد، ولذلك أوصيكم إخوتي الكرام بالرجوع إلى المصادر الأصلية على الدوام.

ومما يعجبني قول بعض الإخوة الكرام الحاضرين عندما رد على بعض المشوشين، وقال: لو لم يكن إلا فائدة استفدناها من هذه الدروس لكفت، قالوا: وما هي؟ قال: أن نتحقق من النصوص من مراجعها، وأن نرجع إليها لنتحقق منها ونكون على بصيرة، يتبين لنا القول من قال به، ثم بعد ذلك أنت وما تختار وما تتولى فستئول إلى ربك المولى، وحقيقةً الذي ينظر في فيض القدير ويحكم على بشير بن نهيك بكلام المناوي يكون قد أجحف، والذي ينظر في أضواء البيان ويحكم على بشير بن نهيك بما في أضواء البيان يكون قد أجحف، فلا بد من الرجوع، وأنا أعجب من أنه إذا كان من رجال الكتب الستة وعلى الخصوص من رجال الصحيحين، كيف لا نرجع إلى ترجمته لنتأمل الكلام فيه! ولذلك بناءً على هاتين العلتين في سعيد بن بشير الأزدي وفي بشير بن نهيك أنه أورد في الضعفاء وقال أبو حاتم فيه: لا يحتج به، قال شيخنا هذا الحكم وهو غير مسلم له، قال: الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنياً ضعيف، لم؟ يعني كما قلت: علة وعلة، العلة الأولى مسلمة، والعلة الثانية مردودة قطعاً وجزماً، يقول: ضعيف وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت.

و سعيد بن بشير الأزدي إنما ضعف بسبب ضعف في حفظه، ووهم في ذاكرته، فهذا إذا وجد ما يشهد له من أقوال الصحابة والتابعين التي تقرر أن أحد أبوي بَلقيس كان جنياً فيعتبر بقوله وينجبر هذا الضعف اليسير ويتقوى الحديث ويثبت والعلم عند الله جل وعلا، على أنه سيأتينا أيضاً حديث ضعيف آخر ضعفه قريب محتمل في موضوع حصول الوطء بين الجن والإنس، فيأتي بعد ذلك ذرية يقال عنهم: المغرِّبون والمغرَّبون وهم الغرباء الذين لا يحملون طبيعة الإنس على الدوام، سيأتينا هذا من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في سنن أبي داود وسكت عنه، وما فيه إلا تابعية روى عنها واحد فقط، فهي مجهولة وأمرها يسير لم ينقل فيها تجريح ولا كلام في شأنها إن شاء الله كما سيأتينا عند خطوات البحث بعون الله.

إخوتي الكرام! هذا الحديث ليس فيه إلا سعيد بن بشير الأزدي ، وهذا الضعف فيما يبدو لي والعلم عند الله ينجبر بورود هذا المعنى عن عدد من أئمة السلف منهم قتادة ، أخرج أثره وقوله الطبري في تفسيره، كما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد في مسنده، وابن أبي حاتم في تفسيره، وانظروا الأثر في تفسير الطبري في الجزء التاسع عشر صفحة خمس وتسعين في تفسير الآية المتقدمة، وانظروه في الدر في الجزء الخامس صفحة خمس ومائة قال قتادة : بلغنيه أن أحد أبويها كان جنياً.