شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [20]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فكنا نتدارس مبحث صلتنا بالجن، وصلة الجن بنا، وهذا المبحث كما قلت يقوم على أربعة أمور:

أولها: حكم استعانة الإنس بالجن.

وثانيها: حكم المنافعة بين الإنس والجن.

وثالثها: تلبس الجني بالإنسي.

ورابعها: زواج الإنس من الجن.

وهذه الأمور كنا نتدارس أولها ألا وهي الاستعانة بالجن، وما حكم ذلك؟

وخلاصة الكلام في ذلك كما تقدم معنا: أن استعانة الإنس بالجن كاستعانة الإنس بالإنس تماماً، فالاستعانة بهم فيما هو مشروع مشروعة، والاستعانة بهم فيما هو ممنوع ممنوعة، وكنت أقرر بأن الله قد ذكر نموذجاً لاستعمال الجن من قبل الإنس في كتابه كما جرى لنبيه وعبده سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام عندما استعمل الجن، وقد سخرها الله له، فذكرت الآيات في سورة الأنبياء، وانتهينا من توضيح معناها ودلالتها، وكذلك الآيات التي في سورة النمل، وتقدم معنا أن الجن من جنود نبي الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومنهم أحد العفاريت الذي قال له: أَنَا آتِيكَ بِهِ [النمل:39] بالنسبة لعرش بلقيس قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39]، والموضع الثالث في سورة سبأ وانتهينا أيضاً من توضيح معناها ودلالتها وأن الجن كانوا يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] إلى آخر الآيات الكريمات.

المقصود بالمحاريب التي عملها الجن لسليمان

في هذه الآيات من سورة سبأ يضاف حكم شرعي ألا وهو ما يتعلق بالمحراب الذي يوجد في المساجد، في سورة سبأ يقول الله: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13] ، والمحاريب جمع محراب، والمراد منه القصور أو المساجد، فقد فسر بالأمرين، يعملون له مساجد واسعة، كما استعملهم في بناء المسجد الأقصى، ويبنون له القصور الشامخة المرتفعة، فالمحراب نسبة إلى هذا الأمر، وقلت: يطلق المحراب على العلية، كما يطلق على أعلى المجلس، وأحسن مكان فيه.

وأما المحراب الذي جرى عليه عرف الناس أعني المكان المخصوص الذي يكون في وسط المسجد علامةً على القبلة، فليس المراد من هذه الآية الكريمة، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13].

حكم المحاريب المتخذة في المساجد

وهنا سؤال: هذه المحاريب التي جعلت في المساجد ما حكمها؟

أولاً: لم يكن هناك محراب في مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، وإنما طرأ هذا المحراب في العصور المتأخرة في عهد بني أمية، ثم فشا بعد ذلك وجود المحاريب في المساجد، من أجل أن يكون علامةً على القبلة، لكن لم ينتبهوا إلى ما فيه من محظور التشبه بأهل الكتاب، فقد كانوا يزعمون أن في محراب دور العبادة طاقة يدخل فيه الإمام الذي يصلي بهم، وهم يأتمون به أن فيه مزية، فجعل ذلك في المساجد كما قلت في العصور المتأخرة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام علامةً على القبلة، وبإمكاننا أن نجعل علامةً على القبلة دون أن نجعل محراباً يدخل فيه الإمام، بإمكاننا أن نجعل في وسط المسجد طاقة يسيرة بحيث لا يدخل فيها الإمام ولا يمكن أن يدخل، تدل على أن جهة القبلة في هذا الاتجاه حتى لو دخل أحد غريب لا يعرف اتجاه القبلة فيعلم جهتها، أما ما يعمل في أيامنا من محراب يكون الإمام في وسطه ولا يرى عن يمينه ولا عن يساره، فهذا ممنوع والعلامة مطلوبة في المساجد حتى لا تشتبه جهة القبلة، لكن لا بد أن تكون بما هو مشروع لا بما هو ممنوع.

وأنا أخبركم عن نفسي عندما ذهبت إلى مصر ودخلت الجامع الأزهر، بمجرد أن دخلت إلى صحن المسجد بدأت مباشرةً بصلاة ركعتين، فصليت في الجهة المقابلة للقبلة تماماً وكان ظهري مقابلاً للقبلة، ووجهي للباب الذي دخلت منه، أظن أن القبلة في هذه الجهة على حسب تخيلي، وبينما أنا أصلي جاء بعض الإخوة فقال: يا مولانا أنت تصلي في الاتجاه المعاكس، فقطعت الصلاة، وقلت: أين اتجاه القبلة؟ فدلني عليها، فقلت: جزاك الله خيراً.

حقيقةً: لو أنني دخلت إلى باطن المسجد لعرفت القبلة بواسطة المنبر والمحراب الموجود.

إذاً: لو جعل محراب دون أن يكون فيه تشبه بأهل الكتاب لكان أولى.

ذكر الآثار التي تحذر من وجود المحاريب في المساجد

وردت الآثار عن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه، وعن الصحابة الأبرار في التحذير من وجود المحراب في المساجد.

من هذه الآثار ما رواه البيهقي في السنن الكبرى، في الجزء الثاني، صفحة تسع وثلاثين وأربعمائة، في كتاب الصلاة باب كيفية بناء المساجد، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، وقال عنه السيوطي في الرسالة التي سماها إعلام الأريب لحدوث بدعة المحاريب: إسناده ثابت، ولفظ الحديث من روايات عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا هذه المذابح) يعني: المحاريب، وأهل الكتاب كانوا يسمونها المذابح، يزعمون أن الإنسان يذبح فيها نفسه لربه؛ ليس ذبحاً حسياً، وإنما عن طريق المجاهدة، فإنه إذا دخل في المحراب يتخلى عن الدنيا ويذبح الشهوات والمغريات ويتفرغ لطاعة رب الأرض والسموات.

وقد روي موقوفاً -أيضاً- على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في مصنف ابن أبي شيبة في الجزء الثاني صفحة تسع وخمسين في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الطاقة، والطاقة هي فتحة كالمحراب، فهي مذابح وطاقة ومحراب.

وكان إبراهيم النخعي لا يقوم فيها، وروى هذا الأثر عن عبد الله بن مسعود رواه إبراهيم النخعي بلفظ: قال عبد الله بن مسعود : اتقوا هذه المذابح يعني: المحاريب.

تقدم معنا أن النخعي لم يلق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهنا يقول: قال عبد الله بن مسعود ، وتقدم معنا في ترجمته أنه عندما قال له الأعمش : سم لي من تروي عنهم عن عبد الله بن مسعود ، فقال: إذا ذكرت من حدثني عن عبد الله بن مسعود فهو الذي سميت، وإذا لم أذكر فقد حدثني عنه جماعة، ذكر هذا ابن رجب في كتابه العلل صفحة واحدة وثلاثين ومائتين، وتقدم معنا هذا عند الحديث السادس عشر في الباب الثاني عشر من أبواب الطهارة.

ثم قال ابن رجب : وهذا الأثر عن إبراهيم النخعي يقتضي ترجيح المرسل على المسند، لأنه يقول: إذا أسندت فهو من طريق واحد، وإذا لم أسند أي: أرسلت، فهذا حدثنيه جماعة، لكن فيما أرسله النخعي خاصةً عن عبد الله بن مسعود ، فإذا قال النخعي : عن عبد الله بن مسعود ولم يذكر الواسطة بينه وبين عبد الله بن مسعود فهذا أعلى مما يقال: حدثني فلان وفلان عن عبد الله بن مسعود ، وتقدم معنا أن الإمام أحمد صحح مراسيل النخعي بلا استثناء، وقال: مراسيله لا بأس بها، فإذا رفع النخعي الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام لا إلى صحابي لم يدركه فهو مقبول لجلالته ومكانته.

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب في الجزء الأول صفحة تسع وسبعين ومائة: وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى تصحيح مراسيل إبراهيم النخعي ، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن عبد الله بن مسعود خاصةً، وهذا مقبول بالاتفاق، لكن الكلام في غير ذلك، فجماعة من الأئمة قالوا: مراسيله أيضاً مقبولة وحجة، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل وقال البيهقي أيضاً: هذا خاص فقط في مراسيله عن عبد الله بن مسعود .

وخلاصة الكلام: فهذا الأثر من طريق النخعي عن عبد الله بن مسعود مقبول قطعاً وجزماً، وهو صحيح؛ لأنه رواه عن عبد الله بن مسعود بدون أن يذكر الواسطة فقد حدثه عنه جماعة، وهذا الأثر في حكم شرعي لا يمكن أن يقوله هذا الصحابي بناءً على رأي، ويشهد له ما تقدم من الأثر المرفوع، والعلم عند الله جل وعلا.

وأثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رواه البزار أيضاً كما في مجمع الزوائد في الجزء الثاني صفحة خمس عشرة بسند رجاله موثقون، وفي كشف الأستار في الجزء الأول صفحة عشر ومائتين روي عن علقمة ، وهو أبرز تلاميذ عبد الله بن مسعود ، قال: كره عبد الله بن مسعود الصلاة في المحراب، وقال: إنما كانت المحاريب للكنائس، فلا تشبهوا بأهل الكتاب.

إذاً: معنا أثر ابن مسعود الموقوف عليه، عند البزار وابن أبي شيبة وأثر عبد الله بن عمرو مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، هذان الأثران الصحيحان الثابتان يشهدان لأثر ثالث مرفوع رواه ابن أبي شيبة في مصنفه في المكان المشار إليه في الجزء الثاني صفحة تسع وخمسين، عن موسى بن عبد الله الجهني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال هذه الأمة -وفي رواية- لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا مذابح كمذابح النصارى)، يعني: محاريب كمحاريب النصارى.

وهذا الحديث إسناده صحيح لكنه منقطع في آخره، فـموسى بن عبد الله الجهني من أتباع التابعين، لم يرو عن أحد من الصحابة، نعم هو ثقة عابد، توفي سنة أربع وأربعين ومائة للهجرة، وحديثه في صحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود ، وعليه فحديثه لو كان تابعياً لكان مرسلاً، ولكن هو دون التابعين وسقط اثنان من السند على أقل تقدير، وإذا سقط راويان على التوالي فالحديث يقال له: معضل؛ لأنه أعضل الأمر فيه واشتد اللبس والخفاء في إسناده بذهاب راويين، إذا سقط راو واحد يشكل عليك أمر الإسناد وتتوقف فيه، فإذا ذهب راويان فبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعي وصحابي على أقل تقدير، وقد يكون أكثر من تابعي فالعلم عند الله، وهذا الأثر يمكن أن ينجبر، برواية عبد الله بن عمرو وأثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين؛ لأنه هنا لا يوجد عندنا ضعف بسبب كذب راوٍ، إنما بسبب الانقطاع وجهالة الراوي، فالأمر أيسر مما لو علم الراوي وكان متروكاً أي: روايته منكرة، أو كان كذاباً، فلا ينجبر بحال، وأما هنا فبسبب سقط راو، فإذاً: وجد ما يشهد له فينجبر إن شاء الله.

و موسى بن عبد الله الجهني يقول عنه مسعر بن كدام كما في تهذيب التهذيب: ما رأيته إلا وهو في اليوم الآتي خيراً منه في اليوم الماضي؛ ولذلك وصفه ابن حجر فقال: ثقة عابد -ينعته بالعبادة- من أئمة الخير والصلاح والزهاد العباد، فالرجل في اجتهاد دائم، وعبادة وتقدم، وهذا حال الأسياد رضي الله عنهم أجمعين.

وهناك آثار أخرى كثيرة بمعنى ما تقدم في مصنف عبد الرزاق في الجزء الثاني صفحة اثنتي عشرة وأربعمائة، ومصنف ابن أبي شيبة في الموضع المشار إليه آنفاً، منها أثر علي رضي الله عنه وإسناده ضعيف: أنه كره الصلاة في الطاقة أي: المحراب.

ومنها عن سالم بن أبي الجعد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدون أن من أشراط الساعة: أن تتخذ المذابح -يعني المحاريب- في المساجد.

ومنها أثر أبي ذر رضي الله عنه قال: من أشراط الساعة: أن تتخذ المذابح في المساجد.

قال موسى بن عبيدة : وقد رأيت مسجد أبي ذر -وكان في الربذة- فلم أر فيه محراباً، ولم أر فيه طاقة.

و موسى بن عبيدة قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في التقريب: ضعيف، وكان عابداً، وتوفي سنة ثلاث وخمسين ومائة، وهو من رجال الترمذي وابن ماجه ، وما ورد في سلسلة الأحاديث الضعيفة صفحة ثمان وأربعين وأربعمائة بعد أن ذكر قول موسى بن عبيدة : رأيت مسجد أبي ذر ، فلم أر فيه طاقة، ثم قال: هذا إسناده صحيح، فهو غير صحيح كما قلت لكم؛ لأن موسى بن عبيدة ضعيف، ولكن معنى الأثر ثابت كما تقدم معنا.

وممن كره المحاريب سالم بن أبي الجعد وهو ثقة من التابعين، توفي سنة سبع أو ثمان أو تسع وتسعين وقيل: سنة مائة ولم يجاوزها قال: لا تتخذوا المذابح في المساجد، أي: المحاريب.

ومنها عن إبراهيم النخعي : أنه كره المحراب في المسجد، وقال الثوري : ونحن نكرهه.

وفي مصنف عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان بن طرخان ، قال: رأيت الحسن البصري جاء إلى ثابت بن أسلم البناني فلما حضرت الصلاة قال الحسن لـثابت : تقدم فصل، قال: والله لا أتقدم عليك، بل تقدم أنت فصل، فتقدم الحسن فصلى واعتزل الطاقة. أي لم يدخل في المحراب، قال المعتمر : ورأيت أبي -وهو سليمان بن طرخان - وليث بن أبي سليم لا يصليان في الطاقة.

وروى أيضاً ابن أبي شيبة في مصنفه عن ليث عن الضحاك أنه قال: أول شرك كان في هذه الأمة: اتخاذ المحاريب في المساجد. يقصد: أول موافقة للمشركين، وليس الشرك الذي يخرج من الملة.

هذه آثار ستة مع الآثار الثلاثة المتقدمة وكلها تشهد على المنع من وجود المحراب في المسجد، ولا مانع من وضع علامة في المسجد كالطاقة بمقدار عشرة سنتي بحيث لا يتسع أن يدخل فيه قدم ولا رأس.

ذكر من قال بجواز المحاريب في المساجد

ثم إن ابن أبي شيبة بعد أن أورد هذه الآثار السابقة في المكان المتقدم أتبعه بباب آخر فقال: باب من رخص الصلاة في الطاقة، ثم نقل عن قيس بن أبي حازم أنه كان يصلي في الطاقة وهو المحراب.

وفي مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه كان يصلي في الطاقة أيضاً.

قال عبد الرزاق في مصنفه: ورأيت معمراً -وهو شيخ عبد الرزاق - إذا أمنا يصلي في طاق الإمام، أي يدخل في المحراب ويصلي.

وفي مصنف ابن أبي شيبة عن سويد بن غفلة ، وعن أبي رجاء العطاردي ، وعن البراء بن عازب من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أنهم صلوا في الطاق.

كيفية الجمع بين آثار الكارهين لاتخاذ المحاريب في المساجد والمجيزين لذلك

قد يقول قائل: فما وجه الجمع إذاً بين هذه الآثار؟

والجواب: كما قرر أئمتنا الفقهاء: أن الصلاة في الطاق مكروهة ومذمومة إلا لضرورة، ففي الفتاوى الهندية من فقه السادة الحنفية في الجزء الأول صفحة ثمان ومائة يقول الحنفية: يكره قيام الإمام وحده في الطاق وهو المحراب، ولا يكره سجوده فيه إذا كان قائماً خارج المحراب، وإذا ضاق المسجد بمن خلف الإمام فلا بأس بأن يقوم الإمام في الطاق، لأنه سيوفر على المصلين صفاً، وعليه فلعل من فعل ذلك من السلف فعله للضرورة، كأن يضيق المسجد فيتقدم في الطاق من أجل أن يتسع المسجد للمصلين.

وفي المغني لـابن قدامة في الجزء الثاني صفحة سبع وأربعين قال: ويكره أن يدخل الإمام في طاق القبلة إلا أن يكون المسجد ضيقاً.

الحكمة من كراهة المحاريب في المساجد

وعلة الكراهة عدة أمور:

أولها -وهو أشنعها- التشبه بأهل الكتاب.

ثانيها: تميز الإمام عن المأمومين، ولا يجوز أن يتميز عليهم بشيء، فلا يصل أعلى منهم، ولا أنزل منهم، ولا يتقدم عليهم بأن يدخل في هذه الطاق أي: في هذا المحراب.

والأمر الثالث: استتار الإمام عن المأمومين، فعندما يدخل في الطاق يستتر عنهم، فلا يراه من على يمينه، ومن على شماله -أيضاً-، فلو كان بارزاً لرآه أهل الصفوف خلفه.

الخلاصة في معنى المحاريب وحكمها

بناء على ما سبق فقول الله جل وعلا: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13]، ليس المراد منها محاريب المساجد، بل المقصود منها إما قصور عالية شاهقة، وإما مساجد عظيمة فخمة، ومنها المسجد الأقصى.

ومعنى المحراب في اللغة: العلية وصدر المجلس من الأرض، ويطلق على القصور والأبنية الشامخة المرتفعة.

وأما المحراب بالمعنى الاصطلاحي العرفي فهو حادث في مساجد المسلمين بعد عهد نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

ولو وجد من يحيي السنة ويميت هذه البدعة في المساجد لكان حسناً، لكن بدون تشويش وبدون ضوضاء؛ لأن المحراب صار عند الناس من عمدة المسجد، فلا يمكن أن يشيد مسجد بلا محراب، ولعله لو وجد مسجد بلا محراب لقالوا: هذا ليس بمسجد، وسبب ذلك تتابع الناس على التقليد الأعمى بلا بصيرة وبلا بينة، فلو منع وجوده من أول الأمر لكان أولى وأحسن، هذا ختام الكلام في هذا الباب والعلم عند الله عز وجل.

في هذه الآيات من سورة سبأ يضاف حكم شرعي ألا وهو ما يتعلق بالمحراب الذي يوجد في المساجد، في سورة سبأ يقول الله: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13] ، والمحاريب جمع محراب، والمراد منه القصور أو المساجد، فقد فسر بالأمرين، يعملون له مساجد واسعة، كما استعملهم في بناء المسجد الأقصى، ويبنون له القصور الشامخة المرتفعة، فالمحراب نسبة إلى هذا الأمر، وقلت: يطلق المحراب على العلية، كما يطلق على أعلى المجلس، وأحسن مكان فيه.

وأما المحراب الذي جرى عليه عرف الناس أعني المكان المخصوص الذي يكون في وسط المسجد علامةً على القبلة، فليس المراد من هذه الآية الكريمة، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ [سبأ:13].


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4045 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3979 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3906 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3793 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3771 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3570 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3465 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] 3417 استماع