اليقظة من رقدة الغفلة
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
اليقظة من رقدة الغفلةالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالغفلة عن طاعة الله، والاستعداد للحياة الآخرة، داءٌ وقع فيه كثيرٌ من الناس؛ قال الله جل وعلا: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودُنوِّها، وأن الناس في غفلة عنها؛ أي: لا يعملون لها، ولا يستعدُّون من أجلها.
وهذه الغفلة عاقبتها الندم عند الموت؛ ولكنه ندم بعد فوات الأوان لا ينفع صاحبه؛ قال عز وجل: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: اعلم أن الإنسان ما دام يُؤمِّلُ الحياة، فإنه لا يقطع أمَلَه من الدنيا، وقد لا تسمحُ نفسُه بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويُرجِّيه الشيطان التوبة في آخر عُمُره، فإذا تيقَّن الموت، وأيس من الحياة، أفاق من سَكْرَتِه بشهوات الدُّنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكادُ يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا؛ ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يُجابُ إلى شيءٍ من ذلك، فيجتمع عليه سكرةُ الموت مع حسرة الفَوْت.
وقال العلامة السعدي رحمه الله: يُخبر تعالى عن حال من حضره الموت، من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله.
من أراد ألا يندم عند الموت، فينبغي له ألَّا يغفل أثناء الحياة، والغفلة داءٌ يُداوى باليقظة، من خلال الأخذ بأمور:
أولها: استشعار الخوف من الله جل جلاله:
الخوف من الله جل جلاله بداية اليقظة، وكم أيقظ الخوف من الله أناسًا عاشوا طول أعمارهم معرضين عن طاعة الله، منتهكين لحرماته! فكان توقُّد الخوف من الله في قلوبهم بداية يقظتهم، ومفتاح سعادتهم، فكانت نهايتهم طيبة، وخاتمتهم حَسنة.
الكثيرون يقولون: أنهم يخافون الله؛ لكن العبرة بالأفعال وليس بالأقوال، فالخائف حقًّا من الله من كفِّ نفسه عن المعاصي، ولزم الطاعات، وقد قيل: ليس الخائف من بكى وعصر عينيه؛ وإنما الخائف من ترك ما يُعذَّب عليه.
إنَّ مما يعين على استشعار الخوف من الله جل جلاله أمور:
منها: شهود عظمته سبحانه تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]، ومن شهد قلبه ذلك حقًّا أوجب له الخوف والخشية من الله.
ومنها: معرفة أن عقوبة الله للعاصين شديدة؛ قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ [البروج: 12]، وأن أخذه للظالمين شديد؛ قال الله جل وعلا: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾[هود: 102، 103]، فليحذر العبد من عذاب الله وعقابه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 28]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي يُخوِّفكم عقابه.
ومنها: إيمان العبد أن للساعة أهوالًا عظيمة، وأن الناس يحصل لهم رعب وفزع وخوف حتى تذهل المرضعة لهول ما ترى عن رضيعها، وتَضَع كُلُّ ذات حَمْلٍ حملها قبل تمامه؛ لشدَّة الهول، والناس قد دهشت عقولهم، وغابت أذهانهم حتى كأنهم سُكارى وما هم بسُكارى؛ ولكن عذاب الله شديد؛ قال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾[الحج: 1، 2].
ثانيها: محاسبة النفس:
إذا نزل الخوف من الله جل جلاله بقلب العبد، فإنه يبدأ في محاسبة نفسه؛ قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله [بتصرُّف يسير]: فينظر إلى بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه، وينظر إلى حلمه سبحانه تعالى في إمهاله، ولو شاء لعاجله بالعقوبة؛ ولكنه الحليم الذي لا يعجل، ويقايس بين ما من الله وما منه، فحينئذٍ يظهر له التفاوتُ، ويعلمُ أنه ليس إلا عفوه ورحمتهُ، أو الهلاك والعطب، وفي هذه المقايسة يعلم تفرُّد الربِّ بالكمال والإفضال، وأن كلَّ نعمة منه فضل، وكلَّ نقمة منه عدل، وأنه قبل هذه المقايسة جاهلٌ بحقيقة نفسه وبربوبية فاطرها وخالقها، فإذا قايس ظهر له أنها منبع كلِّ شرٍّ، وأساس كل نقص، وأن حدَّها الجاهلة الظالمة، وأنه لولا فضلُ الله ورحمته بتزكيته سبحانه ما زكت أبدًا، ولولا هُداه ما اهتدَتْ، ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى الخير البتة، وينظر إلى ما سلف منه من الإساءة، ويعلم أنه على خطر عظيم فيها، مشرف على الهلاك، فيشمر لاستدراك الفارط بالعلم والعمل، وليتخلَّص من رقِّ الجناية بالاستغفار والندم.
ثالثها: العزم الجاد على بداية حياة جديدة:
بعد أن يُحاسِبَ العبدُ نفسَه، ويعرف تقصيره في حقِّ ربِّه وظُلْمه لنفسه، ويرى أهل البلاء، وما هم فيه من غفلة عن الله، فتعظم نعمةُ الله عليه في هدايته، فيشكره الله عليها، ويعزم عزمًا جادًّا على ترك حياته السابقة والبداية في حياة جديدة، مستعينًا بالله متوكِّلًا عليه؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾[آل عمران: 159]، فيصدق في عزمه، ويحذر من التسويف والتهاوُن، ويتجنَّب السين وسوف، وهي شجرة ثمرها الحسرات والندامات.
رابعها: التوبة والندم على ما مضى من تقصير وتهاوُن:
بعد عزم العبد على بداية حياة جديدة، فإن خير بداية لها: التوبة والندم على ما مضى من تقصير وتهاوُن، والتوبة لها علامات؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات:
منها: أن يكون بعد التوبة خيرًا ممَّا كان قبل الخطيئة.
ومنها: أنه لا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمن طرفة عين، فخوفُه مستمرٌّ إلى أن يسمع قول الرُّسُل لقبض روحه: ﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30] فهناك يزول الخوف.
ومنها: انخلاع قلبه، وتقطُّعه ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عِظَمِ الجناية وصغرها، ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يُوجب انصداع القلب وانخلاعه، وهذا حقيقة التوبة؛ لأنه يتقطَّع قلبُه حسرةً على ما فرط منه، وخوفًا من سوء عاقبته، فمن لم يتقطَّع قلبُه في الدُّنيا على ما فرط حسرةً وخوفًا، تقطَّع في الآخرة إذا حقَّت الحقائق، وعاين ثواب المطيعين، وعقاب العاصين، فلا بُدَّ من تقطُّع القلب إمَّا في الدُّنيا وإمَّا في الآخرة.
ومنها: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء، تكسر القلب كسرةً تامَّةً قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربِّه طريحًا ذليلًا خاشِعًا، فلله ما أحلى قوله في هذا الحال: أسألك بعزِّك وذُلِّي لك إلا رحمتني، أسألك بقوَّتِكَ وضعفي، وبغناك وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثيرٌ، وليس لي سيِّدٌ سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير سؤال من خضعت لك رقبتُه، ورغم لك أنفُه، وفاضَتْ لكَ عيناه، وذلَّ لك قلبُه.
فهذا من آثار التوبة المقبولة..
خامسها: دوام المراقبة:
بعد التوبة الصادقة إلى الله، والندم على الذنوب والمعاصي يديم العبد مراقبة نفسه؛ لأنه لا يأمن على نفسه من العودة للذنب، فينظر بعين البصيرة إلى مصدر المعصية ومحله، فيجد أن مصدره نفسه الأمَّارة بالسوء، فيرغب إلى خالقه أن يقيَه شرَّها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر: ((قل: اللهم ألهمني رُشْدي، وقني شرَّ نفسي))؛ [أخرجه الترمذي] كما يسأله أن يؤتيها تقواها، ويُزكِّيها، فهو خيرُ مَنْ زكَّاها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهُمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَنْ زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها))؛ [أخرجه مسلم].
وينظر فيجد أن الآمر له بالمعصية، المزيِّنَ له فعلها، الحاضَّ له عليها، هو شيطانه الموكَّل به، فيفيده ذلك اتخاذه عدوًّا؛ قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾[فاطر: 6]، وإذا اتخذَه عدوًّا أخذ كمال الاحتراز منه والتحفُّظ واليقظة والانتباه لما يريده منه، وهو لا يشعُر.
وهذه المراقبة للنفس ستكون بعون الله مانعةً لله من العودة والانتكاس لحياته السابقة.
فمن وُفِّق لهذه الأمور الخمسة، فقد استيقظ من رقدته، فليبشر بالحياة الطيبة الخالية من ضيق الصدر والهموم والأحزان، والبعيدة عن المخاوف التي كانت تعتريه في دُنْياه؛ في نفسه، وماله، وبدنه، وأهله، حيث سيهرب من ذلك كله إلى سعة فضاء الثقة بالله، وصدق التوكُّل عليه، وحسن الرجاء لجميل صُنْعه به، وتوقُّع المرجوِّ من لُطْفه وبرِّه، نسأل الله الكريم من فضله وجوده وإحسانه.
ومن وفق لليقظة من رقدته، فعليه أن يشكر الله عز وجل على ذلك، أسأل الله عز وجل يقظةً تامَّةً تصرف عنا رقاد الغفلات، فقد حذَّرْتُ من الداء وأنا من أهله، ووصفت دواء، قصرت عن أخذه.