شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلا زلنا نتدارس الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي ، وعنوان هذا الباب كما تقدم معنا في المواعظ السابقة: باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به، وأورد الترمذي في هذا الباب حديثاً واحداً من طريق شيخه هناد بن السري إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم، فإنه زاد إخوانكم من الجن).

قال أبو عيسى عليه رحمة الله: وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وكما هي عادتنا في مدارسة الحديث نتكلم على تراجم رجال الإسناد، وعلى تخريج الحديث وبيان درجته، وعلى تخريج الروايات التي أشار إليها الترمذي وفي الباب، وقد مضى الكلام على هذه المباحث الثلاثة، وشرعنا في مدارسة المبحث الرابع ألا وهو فقه الحديث، وقلت: إن الحديث أثبت أن الجن إخوان لنا، وأن طعامهم يختلف عن طعامنا، ولذلك نهينا عن الاستنجاء بطعامهم، وإذا نهينا عن الاستنجاء بطعام الجن فنحن منهيون عن الاستنجاء بطعام الإنس من باب أولى كما سيأتينا في المبحث الثالث من فقه الحديث إن شاء الله.

وقلت: هذا الأمر لا بد له من تفصيل ضمن ثلاثة مباحث:

أولها: في خلق الجن ووجودهم، وقد تقدم الكلام معنا في ذلك مفصلاً بأدلته، وخلاصة ما تقدم: أن الجن موجودون مخلقون، كما هو الحال فينا، خلقهم الله جل وعلا وأوجدهم، وخلقتهم تختلف عن خلقتنا، وقلت: من أنكر وجودهم، أو أول وجودهم بما يؤدي إلى إنكار وجودهم فقد أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وبالتالي لا شك في كفره.

والمبحث الثاني: في تكليفهم وجزائهم، وقد انتهينا من مدارسته فيما مضى أيضاً، وخلاصة ما تقدم: أن الجن مكلفون بالإجماع، كما كلفنا نحن، إلا ما قام عليه دليل التخصيص فيما يخالفوننا فيه أو نخالفهم فيه، وقلت: نتج عن هذا التكليف انقسامهم إلى موحد وكافر ملحد، والموحدون أيضاً إلى طائعين وإلى عاصين كما هو الحال فينا تماماً، وقلت: هذا لا خلاف فيه، وهو معلوم من الدين بالضرورة.

والشق الثاني من المبحث الثاني: جزاؤهم، فقلت: عندنا محل إجماع واتفاق ألا وهو فيما يتعلق بكافر الجن فهو في النار بالاتفاق، وأما طائع الجن فقد اختلف العلماء في ذلك إلى ستة أقوال أرجحها وأولها: أن طائعهم كطائع الإنس، فكما أن العاتي من الجن يدخل نار الجحيم، فالمطيع الموحد من الجن ينعم في جنات النعيم، وقلت: هذا هو الذي دلت عليه خمسة أدلة قررتها فيما مضى: العمومات، والعقل، وآثار الصحابة، ونصوص خاصة من آيات القرآن المجيد، واستقراء الشرع المطهر يدل على هذه القضية، فمن استقرأ النصوص الشرعية لم يرتب بأن موحد الجن في الجنة، كما أن كافرهم في النار.

والأقوال الأخرى ذكرتها وبينت قيمة كل قول منها، وانتهينا من هذين المبحثين، ووصلنا إلى المبحث الثالث ألا وهو وجوه الاختلاف بيننا وبينهم، وفي أي شيء يتفق الإنس مع الجن؟ والبحث سار فيه شيء من الطول، فهم أمةٌ وعالم نبحث فيهم ولعل عددهم يزيد على عددنا، فلا بد من أن نأخذ فكرةً مفصلةً بعض الشيء عنهم، لا سيما في المبحث الثالث وتفاصيله التي تأتي معنا؛ لأنه يجري كثير من الكلام حولهم دون بينة ولا برهان، فلا بد من أن نكون على علم بهذه القضية.

الأمر الأول: ما نستوي فيه معهم فسأذكر أربعة أمور فقط:

أولها: نستوي معهم في الخلق والموت، فنحن مخلوقون وهم كذلك، ونحن نموت وهم كذلك.

والثاني: نستوي معهم في التكليف ويستوون معنا في ذلك.

والثالث: نستوي معهم ويستوون معنا في انقسام المكلفين إلى موحدين وملحدين، وطائعين وعاصين.

ونستوي معهم ويستوون معنا في دخول العصاة منا نار الجحيم ومنهم كذلك، ودخول الطائعين منا جنات النعيم ومنهم كذلك.

هذه أربعة أمور سأقررها وأتكلم عليها، وما مضى الكلام عليه لا داعي للكلام فيه، وإنما أذكرها واحدةً تلو الأخرى.

والأمر الثاني: ما نختلف فيه عنهم، ويختلفون فيه عنا سأذكر أربعة أمور أيضاً:

أولها: عنصر خلقهم، فهم مخلوقون ونحن مخلوقون، لكن مادة خلقهم وعنصر خلقهم يختلف عن عنصر خلقنا، وترتب على هذا أمر ثان يختلفون فيه عنا ألا وهو: رؤيتهم لنا دون رؤيتنا لهم.

والأمر الثالث: قدرتهم على التشكل حسبما جعل الله في طبيعتهم، فيتشكلون بأشكال مختلفة، وليس هذا في وسعنا.

ورابع الأمور: طعامهم وشرابهم يختلف عن طعامنا وشرابنا كما سيأتينا.

الأمر الثالث: صلتنا بهم وصلتهم بنا، سأقتصر أيضاً على أربعة أمور، وكما قلت: هذا اثنا عشر أمراً لا بد من الكلام عليها.

أول هذه الأمور التي تتعلق بصلتنا بهم قلت: استعانتنا بهم، هل يجوز أن نستعين بالجن في أمور مباحة، وأن نطلب منهم المعونة؟

وثاني الأمور: مناكحتهم، أقصد مناكحة الإنسي للجني والعكس، دون حصول المناكحة فيما بينهم فهذا متفق عليه كما سيأتينا ضمن مراحل البحث.

والأمر الثالث: تلبسهم بالإنسي، وصرعهم له، هل هذا يقع؟ وما هو الحكم في ذلك؟.

وآخر الأمور: بم نتحصن من العاتي المارد العفريت الشرير الشيطان من الجن؟ أختم مبحث الجن بهذا إن شاء الله.

فلنتدارس هذه الأمور إخوتي الكرام على الترتيب.

أولها كما قلت: خلقهم وموتهم.

الجن مخلوقون مربوبون، كما أننا مخلوقون مربوبون، بل كل من عدا الله مخلوق، وإنما ذكرت هذا وهو معلوم بداهةً، لأبين أن هذا الصنف من العالم فقير إلى الله الجليل كما هو الحال فينا، وكما هو الحال في العجماوات، وكما هو الحال في الجمادات، فكل من عدا الله إليه فقير، ولا يوجد أحد يتصف بصفة الغنى الذاتي إلا الله جل وعلا، كما أن كل من عداه يتصف بصفة الفقر الذاتي، فالجن مخلوقون مربوبون، لا يملكون لأنفسهم -فضلاً عن غيرهم نفعاً ولا ضراً- والله هو الغني سبحانه وتعالى عن العالمين، وأخص وصف في الإله: الغنى، كما أن أخص وصف في المخلوق: الفقر، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]؛ ولذلك فالعلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه من عرشه إلى فرشه فقر العالم، واحتياج الفقير إلى الغني، وليست العلة خلقهم، وليست العلة إمكان خلقهم، أي: حدوثهم أو إمكان الحدوث، كما يقول الفلاسفة والمتكلمون، وقررت هذا مراراً، إنما العلة في احتياج المخلوقات بأسرها إلى فاطرها أنها فقيرة والله غني، والفقير لا بد من أن يأوي إلى الغني، والحدوث هو الخلق.

وللحدوث علامتان وأمارتان ودلالتان على الفقر، وليستا بعلتين لاحتياج العالم إلى خالقه، فالخلق حادث مخلوق ليس بأول أزلي، وليس بأبدي، فهذا دليل على فقره.

فإن كان الحدوث فيه تصور وجوده وعدمه، فهذا دليل على فقره، أما الغني سبحانه وتعالى فلا يتصور عدمه جل وعلا، وهو الله جل وعلا خالق كل شيء.

إذاً: الجن حالهم كحالنا مخلوقون مربوبون، وقد تقدم معنا شيء من تقرير هذا فيما مضى، وذكرت بعض الآيات التي تدل على ذلك، قال الله جل وعلا في سورة الحجر: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:26-27]، فنحن مخلوقون وهم مخلقون.

وقال جل وعلا في سورة الرحمن: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:14-15].

وتقدم معنا الحديث الثابت في المسند وصحيح مسلم وغير ذلك، وكنت قد بينت تخريجه فيما مضى من رواية عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)، أي: من طين ومن صلصال كالفخار.

دخول الجن في معنى العالمين

نعم: الجن عالم، كما أن الإنس عالم، والله جل وعلا هو رب العالمين وسيدهم ومالكهم وخالقهم، فهو الذي يدبر شئونهم، فالحمد لله رب العالمين سبحانه وتعالى.

والعالمين جمع عالم، وسمي بهذا الاسم لأنه مأخوذ من العلامة؛ فهو علامة على خالقه وموجده وفاطره، فلا يستغني بنفسه عن خالقه طرفة عين، ولذلك هذه المخلوقات تدل على خالقها وموجدها، ورحمة الله على أبي العتاهية عندما يقول:

فيا عجباً كيف يعصي الإله؟! أم كيف يجحده الجاحد؟!

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

إذاً: العالمين جمع عالم، والعالم كما قال النووي في شرح بداية كلام مسلم : الحمد لله رب العالمين، قال: المختار عند الجماهير من أهل التفسير والأصول وغيرهم أن العالم اسم للمخلوقات كلها، فلا يوجد مخلوق إلا ودخل في لفظ العالم، فإذا كان كذلك، فلم جمع العالمين؟ جمع باعتبار تعدد أنواع العوالم، والعوالم كثيرة، الإنس عالم، والجن عالم، وهما الثقلان كما تقدم معنا، سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31].

وعوالم الله ومخلوقات الله كثيرة تصل إلى ألف عالم، ستمائة عالم منها في البحر، وأربعمائة عالم منها في البر، فعوالم البحر أكثر من عوالم البر، وقد روي هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام وفي الإسناد شيء من الضعف، رواه أبو يعلى في مسنده كما في مجمع الزوائد في الجزء السابع صفحة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.

ولفظ الحديث من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قل الجراد في سنة من سني عمر )، أيام خلافته قل الجراد في المدينة المنورة وفي جزيرة العرب وبلاد الحجاز (قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه، فأرسل ثلاثةً من الصحابة إلى ثلاث جهات يبحثون هل يوجد جراد أو انقطع من العالم، واحد إلى الشام، وواحد إلى اليمن، وواحد إلى العراق، فعاد رجلان ممن ذهب، وهما اللذان ذهبا إلى الشام والعراق، فقالا: لم نجد الجراد يا أمير المؤمنين، انقطع في بلاد الشام وفي العراق كما انقطع في بلاد الحجاز، وجاء الرجل الذي أرسله إلى اليمن بحفنة من جراد في ثوبه، فنثرها بين يدي عمر رضي الله عنه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله خلق ألف عالم، ألف أمة، ستمائة منها في البحر، وأربعمائة منها في البر، وأولها هلاكاً الجراد، فإذا هلك بعضها تتابعت كالنظام إذا قطع سلكه)، والنظام هو العقد، إذا قطعت خيطة السبحة فالحبة الأولى تسقط مباشرةً والبقية تتبعها، فحقيقةً الجراد على وجه الخصوص من العوالم قل، مع أنه كان كثيراً كثيراً كثيراً، وسبع غزوات غزا فيها الصحابة ليس لهم طعام إلا الجراد، فالجراد الآن قل وكان الجراد أيضاً يأتي كبيراً بحجم العصفور، فلو أكله إنسان يشبع، لو أكل عشر جرادات كأنه أكل طعاماً كثيراً من الطعام الذي نأكله، وهو لذيذ طيب عند من اعتاد عليه، وسألت كثيراً من الشيبان الذين يعيشون الآن وكانوا يأكلونه، فيقول: يا شيخ ما ألذه لما يأتي، (وأحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالسمك والجراد)، سمك وجراد لا يشترط له تذكية، (وأما الدمان فالكبد والطحال).

هذا الحديث رواه أبو يعلى ، وفي إسناده كما قال الهيثمي في المجمع عبيد بن واقد القيسي ، وهو ضعيف، وعبيد بن واقد من رجال الترمذي ولم يخرج له أحدٌ من أهل الكتب الستة إلا الترمذي ؛ ولذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب بأنه ضعيف، وفي إسناد الحديث أيضاً شيخ عبيد ، وهو محمد بن عيسى الهلالي ، وهو ضعيف أيضاً، وما أشار إلى ذلك الهيثمي ، لكن أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره، فكل واحد تكلم على واحد، والتلميذ وشيخه ضعيفان من حيث الرواية.

قال ابن كثير في تفسيره في الجزء الأول صفحة أربع وعشرين: في إسناده محمد بن عيسى الهلالي وهو ضعيف، انظر ترجمة محمد بن عيسى الهلالي في ميزان الاعتدال في الجزء الثالث صفحة واحدة وثلاثين ومائة حيث نقل عن ابن عدي أنه أنكر عليه أحاديث منها هذا الحديث، وهذا الحديث يرويه عبيد بن واقد القيسي عن شيخه محمد بن عيسى الهلالي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله .. إلى آخره.

دخول الجن في مسمى الأشياء التي خلقها الله

إذاً: الجن عالم من العوالم، وأمة من الأمم، كما أن الإنس أمة، والله خالق الأمم بأسرها، وهو رب المخلوقات كلها، فالحمد لله رب العالمين، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، ومن هذا لا يخرج شيء على الإطلاق، فكل ما هو شيء فهو مخلوق.

ومن باب تحريك الأذهان لو قيل: إن القرآن شيء، كما قال سفهاء المعتزلة: فيلزم أن يكون مخلوقاً بنص الآية: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، وهذا مما استدلوا به على مخلوقية القرآن، وأنه مخلوق كسائر الكلام، وهذا من عمى قلوبهم وانطماس بصيرتهم، ومن تتبعهم للمتشابه وتركهم للمحكم، لكن إذا أوردوا شبهةً فليس يعني ذلك أن تروج علينا وما عندنا إزالةً لها.

والجواب أننا نقول لهم: الله خالق أو مخلوق؟ إذا قالوا: مخلوق كفروا؛ لأنه لا إشكال في ذلك، وبأي شيء تتحقق ألوهيته وربوبيته؟ ولا يمكن وجود ذات مجردة عن صفاتها، فهذا لا يعقل، إذاً: من صفاته جل وعلا أنه خالق كل شيء، وصفات الله دخلت في لفظ الله، فالله تعالى بصفاته خالق كل شيء، فعندما نقول: فعل هذا مجرداً من صفاته، مجرداً من يديه، مجرداً من رجليه، مجرداً من سمعه، مجرداً من بصره، هل هذا يمكن؟ أو أن فعل هذا اسم مجموع له بجميع ذاته وصفاته.

وعندما قال الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، لفظ (العبد) مقول على جميع ما في ذلك المخلوق من صفات وذات فدخلت الروح، ودخل اليدان، ومن قال: الإسراء بالروح فقط فنقول له: أنت تتلاعب بكلام الله؛ لأن معنى العبد ليس خاصاً بالروح، فالعبد بروحه وبدنه من رأسه لرجليه، أوليس كذلك؟ وهنا لِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] الله لفظ الجلالة دخلت ذات الله وصفاته، ولا تعقل ذات من غير صفة.

وعليه (الله خالق)، إذاً الله الخالق، (كل شيء)، يعني: من عدا الله من شيء، ولم يستثن شيء على الإطلاق، فلا يجوز أن نقول: تدمر كل شيء واستثني ما لا يدمر، والآية باقية على إطلاقها وعمومها ولا يخرج شيء منها، فكل من عدا الله مخلوق، وكان الله ولا شيء معه سبحانه وتعالى، فإن قيل: صفات الله دخلت، نقول: أنت لا تعي الكلام؛ لأن صفات الله دخلت في لفظ (الله) وليس في لفظ (كل)؛ لأنه لا يعقل أن يكون خالق ذات بلا صفات.

وهذا جواب الإمام ابن عقيل الحنبلي الذي كان من المعتزلة ثم هداه الله وقصم رءوسهم عندما كان يناظرهم، ونقل عنه هذا الجواب ابن القيم في آخر كتابه بدائع الفوائد وقال: فائدة عزيزة الوجود، وهي أن صفات ربنا المعبود تدخل في لفظ الجلالة الله، وعليه لا إشكال في الآية على الإطلاق، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، كما أن قدرة الله ليست مخلوقة، وأن علم الله ليس بمخلوق، وأن سمع الله ليس بمخلوق، لأن هذه صفات قائمة في هذا الموصوف، ولا يعقل في الأصل ذات من غير صفة، ولذلك من أنكر الصفات يؤدي إنكارهم إلى تعطيل الذات، وتقدم معنا حالهم كما قال حماد بن زيد : حالهم كحال رجل قال: في بيتنا نخلة، فقيل له: لها ساق؟ قال: لا، قيل له: لها أغصان؟ قال: لا، قيل له: لها أقناء؟ قال: لا، لها ثمر؟ لا، لها أوراق؟ لا، قيل: ما في بيتكم نخلة، فنخلة ليس لها ساق، وليس لها أغصان، وليس لها أوراق، وليس لها ثمر، ليست نخلة، وإذا وجدت نخلة فلا بد من أن يكون لها ساق وأغصان وثمر وفروع، وهنا يقال لهذا المعطل: الله جل وعلا له يدان؟ يقول: لا، له سمع؟ نقول: لا، له كلام؟ يقول: لا، نقول: إذاً على كلامك لا وجود لله من نفيك للصفات، كمن يقول: عندنا نخلة نظرية وليست حقيقية، تعالى الله عما يقول المعطلون علواً كبيراً.

إذاً: الله -لفظ الجلالة- بذاته وصفاته جل وعلا؛ لأنه يدخل في هذا اللفظ كمالات الله سبحانه وتعالى، فهو علم على الإله المعبود بحق الذي يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقصان، هذا معنى اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، من عداه فهو مخلوق لا يستثنى من هذا أحد، وائتنا بشيء وقل: ليس بمخلوق فإننا نقول لك: لا يمكن، أما أن تأتي وتقول: القرآن كلام الله وأنت لا تدري، فقد بدأت تخبط وتدخل صفات الله التي دخلت في لفظ (الله)، تريد أن تدخلها في لفظ (كل)، وهذا لا يصح، فالله خالق وهذا مخلوق، فكلام الله دخل في لفظ الله، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62].

هذه فائدة استطرادية كما يقال، وإلا نحن في مبحث خلق الجن، فهم مخلوقون بالإجماع، وكل من عدا الله فهو مخلوق، وكل من عدا الله علامة على موجده وخالقه سبحانه وتعالى؛ كما قلت: أخص وصف في المخلوق الفقر، فهو فقير لا يستغني عن الله طرفة عين، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

وذكرت سابقاً أبياتاً للإمام ابن تيمية عليه رحمة الله، من أحسن ما قيل في بيان حقيقة العبد وحقيقة الرب، وقد نظمها عندما كان في السجن، وما سجن إلا من أجل الله، أرسل قاعدةً في ذلك إلى تلميذه ابن القيم وهو في السجن وفيها:

والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له آتي

فمن بغى مطلباً من غير خالقه فهو الظلوم الجهول المشرك العاتي

وغالب ظني هي في مدارج السالكين في الجزء الأول في حدود صفحة خمسمائة وخمس وعشرين.

نعم: الجن عالم، كما أن الإنس عالم، والله جل وعلا هو رب العالمين وسيدهم ومالكهم وخالقهم، فهو الذي يدبر شئونهم، فالحمد لله رب العالمين سبحانه وتعالى.

والعالمين جمع عالم، وسمي بهذا الاسم لأنه مأخوذ من العلامة؛ فهو علامة على خالقه وموجده وفاطره، فلا يستغني بنفسه عن خالقه طرفة عين، ولذلك هذه المخلوقات تدل على خالقها وموجدها، ورحمة الله على أبي العتاهية عندما يقول:

فيا عجباً كيف يعصي الإله؟! أم كيف يجحده الجاحد؟!

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

إذاً: العالمين جمع عالم، والعالم كما قال النووي في شرح بداية كلام مسلم : الحمد لله رب العالمين، قال: المختار عند الجماهير من أهل التفسير والأصول وغيرهم أن العالم اسم للمخلوقات كلها، فلا يوجد مخلوق إلا ودخل في لفظ العالم، فإذا كان كذلك، فلم جمع العالمين؟ جمع باعتبار تعدد أنواع العوالم، والعوالم كثيرة، الإنس عالم، والجن عالم، وهما الثقلان كما تقدم معنا، سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31].

وعوالم الله ومخلوقات الله كثيرة تصل إلى ألف عالم، ستمائة عالم منها في البحر، وأربعمائة عالم منها في البر، فعوالم البحر أكثر من عوالم البر، وقد روي هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام وفي الإسناد شيء من الضعف، رواه أبو يعلى في مسنده كما في مجمع الزوائد في الجزء السابع صفحة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.

ولفظ الحديث من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قل الجراد في سنة من سني عمر )، أيام خلافته قل الجراد في المدينة المنورة وفي جزيرة العرب وبلاد الحجاز (قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه، فأرسل ثلاثةً من الصحابة إلى ثلاث جهات يبحثون هل يوجد جراد أو انقطع من العالم، واحد إلى الشام، وواحد إلى اليمن، وواحد إلى العراق، فعاد رجلان ممن ذهب، وهما اللذان ذهبا إلى الشام والعراق، فقالا: لم نجد الجراد يا أمير المؤمنين، انقطع في بلاد الشام وفي العراق كما انقطع في بلاد الحجاز، وجاء الرجل الذي أرسله إلى اليمن بحفنة من جراد في ثوبه، فنثرها بين يدي عمر رضي الله عنه، فقال: الله أكبر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله خلق ألف عالم، ألف أمة، ستمائة منها في البحر، وأربعمائة منها في البر، وأولها هلاكاً الجراد، فإذا هلك بعضها تتابعت كالنظام إذا قطع سلكه)، والنظام هو العقد، إذا قطعت خيطة السبحة فالحبة الأولى تسقط مباشرةً والبقية تتبعها، فحقيقةً الجراد على وجه الخصوص من العوالم قل، مع أنه كان كثيراً كثيراً كثيراً، وسبع غزوات غزا فيها الصحابة ليس لهم طعام إلا الجراد، فالجراد الآن قل وكان الجراد أيضاً يأتي كبيراً بحجم العصفور، فلو أكله إنسان يشبع، لو أكل عشر جرادات كأنه أكل طعاماً كثيراً من الطعام الذي نأكله، وهو لذيذ طيب عند من اعتاد عليه، وسألت كثيراً من الشيبان الذين يعيشون الآن وكانوا يأكلونه، فيقول: يا شيخ ما ألذه لما يأتي، (وأحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالسمك والجراد)، سمك وجراد لا يشترط له تذكية، (وأما الدمان فالكبد والطحال).

هذا الحديث رواه أبو يعلى ، وفي إسناده كما قال الهيثمي في المجمع عبيد بن واقد القيسي ، وهو ضعيف، وعبيد بن واقد من رجال الترمذي ولم يخرج له أحدٌ من أهل الكتب الستة إلا الترمذي ؛ ولذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب بأنه ضعيف، وفي إسناد الحديث أيضاً شيخ عبيد ، وهو محمد بن عيسى الهلالي ، وهو ضعيف أيضاً، وما أشار إلى ذلك الهيثمي ، لكن أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره، فكل واحد تكلم على واحد، والتلميذ وشيخه ضعيفان من حيث الرواية.

قال ابن كثير في تفسيره في الجزء الأول صفحة أربع وعشرين: في إسناده محمد بن عيسى الهلالي وهو ضعيف، انظر ترجمة محمد بن عيسى الهلالي في ميزان الاعتدال في الجزء الثالث صفحة واحدة وثلاثين ومائة حيث نقل عن ابن عدي أنه أنكر عليه أحاديث منها هذا الحديث، وهذا الحديث يرويه عبيد بن واقد القيسي عن شيخه محمد بن عيسى الهلالي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله .. إلى آخره.

إذاً: الجن عالم من العوالم، وأمة من الأمم، كما أن الإنس أمة، والله خالق الأمم بأسرها، وهو رب المخلوقات كلها، فالحمد لله رب العالمين، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، ومن هذا لا يخرج شيء على الإطلاق، فكل ما هو شيء فهو مخلوق.

ومن باب تحريك الأذهان لو قيل: إن القرآن شيء، كما قال سفهاء المعتزلة: فيلزم أن يكون مخلوقاً بنص الآية: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، وهذا مما استدلوا به على مخلوقية القرآن، وأنه مخلوق كسائر الكلام، وهذا من عمى قلوبهم وانطماس بصيرتهم، ومن تتبعهم للمتشابه وتركهم للمحكم، لكن إذا أوردوا شبهةً فليس يعني ذلك أن تروج علينا وما عندنا إزالةً لها.

والجواب أننا نقول لهم: الله خالق أو مخلوق؟ إذا قالوا: مخلوق كفروا؛ لأنه لا إشكال في ذلك، وبأي شيء تتحقق ألوهيته وربوبيته؟ ولا يمكن وجود ذات مجردة عن صفاتها، فهذا لا يعقل، إذاً: من صفاته جل وعلا أنه خالق كل شيء، وصفات الله دخلت في لفظ الله، فالله تعالى بصفاته خالق كل شيء، فعندما نقول: فعل هذا مجرداً من صفاته، مجرداً من يديه، مجرداً من رجليه، مجرداً من سمعه، مجرداً من بصره، هل هذا يمكن؟ أو أن فعل هذا اسم مجموع له بجميع ذاته وصفاته.

وعندما قال الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، لفظ (العبد) مقول على جميع ما في ذلك المخلوق من صفات وذات فدخلت الروح، ودخل اليدان، ومن قال: الإسراء بالروح فقط فنقول له: أنت تتلاعب بكلام الله؛ لأن معنى العبد ليس خاصاً بالروح، فالعبد بروحه وبدنه من رأسه لرجليه، أوليس كذلك؟ وهنا لِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60] الله لفظ الجلالة دخلت ذات الله وصفاته، ولا تعقل ذات من غير صفة.

وعليه (الله خالق)، إذاً الله الخالق، (كل شيء)، يعني: من عدا الله من شيء، ولم يستثن شيء على الإطلاق، فلا يجوز أن نقول: تدمر كل شيء واستثني ما لا يدمر، والآية باقية على إطلاقها وعمومها ولا يخرج شيء منها، فكل من عدا الله مخلوق، وكان الله ولا شيء معه سبحانه وتعالى، فإن قيل: صفات الله دخلت، نقول: أنت لا تعي الكلام؛ لأن صفات الله دخلت في لفظ (الله) وليس في لفظ (كل)؛ لأنه لا يعقل أن يكون خالق ذات بلا صفات.

وهذا جواب الإمام ابن عقيل الحنبلي الذي كان من المعتزلة ثم هداه الله وقصم رءوسهم عندما كان يناظرهم، ونقل عنه هذا الجواب ابن القيم في آخر كتابه بدائع الفوائد وقال: فائدة عزيزة الوجود، وهي أن صفات ربنا المعبود تدخل في لفظ الجلالة الله، وعليه لا إشكال في الآية على الإطلاق، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، كما أن قدرة الله ليست مخلوقة، وأن علم الله ليس بمخلوق، وأن سمع الله ليس بمخلوق، لأن هذه صفات قائمة في هذا الموصوف، ولا يعقل في الأصل ذات من غير صفة، ولذلك من أنكر الصفات يؤدي إنكارهم إلى تعطيل الذات، وتقدم معنا حالهم كما قال حماد بن زيد : حالهم كحال رجل قال: في بيتنا نخلة، فقيل له: لها ساق؟ قال: لا، قيل له: لها أغصان؟ قال: لا، قيل له: لها أقناء؟ قال: لا، لها ثمر؟ لا، لها أوراق؟ لا، قيل: ما في بيتكم نخلة، فنخلة ليس لها ساق، وليس لها أغصان، وليس لها أوراق، وليس لها ثمر، ليست نخلة، وإذا وجدت نخلة فلا بد من أن يكون لها ساق وأغصان وثمر وفروع، وهنا يقال لهذا المعطل: الله جل وعلا له يدان؟ يقول: لا، له سمع؟ نقول: لا، له كلام؟ يقول: لا، نقول: إذاً على كلامك لا وجود لله من نفيك للصفات، كمن يقول: عندنا نخلة نظرية وليست حقيقية، تعالى الله عما يقول المعطلون علواً كبيراً.

إذاً: الله -لفظ الجلالة- بذاته وصفاته جل وعلا؛ لأنه يدخل في هذا اللفظ كمالات الله سبحانه وتعالى، فهو علم على الإله المعبود بحق الذي يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقصان، هذا معنى اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، من عداه فهو مخلوق لا يستثنى من هذا أحد، وائتنا بشيء وقل: ليس بمخلوق فإننا نقول لك: لا يمكن، أما أن تأتي وتقول: القرآن كلام الله وأنت لا تدري، فقد بدأت تخبط وتدخل صفات الله التي دخلت في لفظ (الله)، تريد أن تدخلها في لفظ (كل)، وهذا لا يصح، فالله خالق وهذا مخلوق، فكلام الله دخل في لفظ الله، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62].

هذه فائدة استطرادية كما يقال، وإلا نحن في مبحث خلق الجن، فهم مخلوقون بالإجماع، وكل من عدا الله فهو مخلوق، وكل من عدا الله علامة على موجده وخالقه سبحانه وتعالى؛ كما قلت: أخص وصف في المخلوق الفقر، فهو فقير لا يستغني عن الله طرفة عين، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

وذكرت سابقاً أبياتاً للإمام ابن تيمية عليه رحمة الله، من أحسن ما قيل في بيان حقيقة العبد وحقيقة الرب، وقد نظمها عندما كان في السجن، وما سجن إلا من أجل الله، أرسل قاعدةً في ذلك إلى تلميذه ابن القيم وهو في السجن وفيها:

والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي

وهذه الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له آتي

فمن بغى مطلباً من غير خالقه فهو الظلوم الجهول المشرك العاتي

وغالب ظني هي في مدارج السالكين في الجزء الأول في حدود صفحة خمسمائة وخمس وعشرين.