شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فقد كنا نتدارس الباب الرابع عشر من جامع أبي عيسى الترمذي، وهو من كتاب الطهارة، وبوب عليه الترمذي فقال: باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به، ثم ساق الحديث بسنده من طريق شيخه هناد بن السري ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن).

قال أبو عيسى : وفي الباب عن أبي هريرة ، وسلمان ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

وقد تقدمت معنا ثلاثة مباحث فيما مضى فيما يتعلق بترجمة رجال الإسناد، وفيما يتعلق بتخريج الحديث، وفيما يتعلق بتخريج الروايات التي أشار إليها الترمذي في الباب.

ودخلنا في المباحث السابقة في فقه الحديث، وفقه الحديث يدور على أمور ثلاثة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام في ظاهر الحديث أخبرنا: ( أن الجن إخوانٌ لنا، وأن طعامهم يختلف عن طعامنا).

فلذلك لا بد من البحث في هذه القضية؛ لنكون على علم بهؤلاء الذين هم إخوان لنا في التكليف، وهم يقابلوننا فهم خلقٌ ونحن خلقٌ، فلا بد من التعرف على أحوالهم كما قلت في ثلاثة أمور:

أولها: فيما يتعلق بتاريخهم وخلقهم، وقد انتهينا من هذا في المباحث الماضية.

والثانية: وهو ما سنتدارسه في هذا المبحث إن شاء الله: في تكليفهم وجزائهم عند ربهم.

والثالثة: وهي ضرورية، وهي التي تتعلق بفقه الحديث أصالة: فيما بيننا وبينهم من أمور نختلف بها عنهم.

ما هي الأمور التي نخالفهم فيها ويخالفوننا فيها؟ وما هي أوجه الخلاف بيننا وبينهم؟ وفي أي شيء يختلف الإنس مع الجن؟

هذا المبحث الثالث نتدارسه بعد الانتهاء من المبحث الثاني في فقه الحديث إن شاء الله.

تقدم معنا ما يتعلق بتعريفهم ووجودهم، وقلت: إن وجودهم ثابت حقيقة، ومن أنكر ذلك فلا شك في كفره، وهكذا من أوَّل وجودهم تأويلاً يخرجهم بتأويله عن حقيقة وجودهم، كما تقدم معنا؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وقد ثبتت آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث عنهم.

وكما تقدم معنا أجمع على ذلك أئمتنا الكرام، فالذي يخالف ذلك إما أنه ينكرهم رأساً، وإما أنه يؤولهم بما يؤدي تأويله إلى إنكارهم، فيقول: هم نوازع الشر في النفس البشرية، وكل هذا كفر كما نص عليه أئمتنا الكرام.

وقد حكى ابن حزم الإجماع في كتابه مراتب الإجماع في صفحة (174) على هذا الأمر، فقال: اتفقوا على أن وجودهم حق ثابت، وهذا في المسائل المجمع عليها، وتعقبه ابن تيمية رحمه الله وعلّق على هذا الكتاب، وذكر ما وهم فيه ابن حزم في كتابه الإجماع، ولا إجماع في المسألة، ثم ذكر أنهم اتفقوا أن إبليس عاصٍ لله كافر منذ أبى السجود لآدم واستخف به، وهذا محل إجماع ولا خلاف فيه.

وحكى ابن الجوزي في كتاب الحمقى والمغفلين عن أحدهم: أنه كان يتورع عن ذكر أحد بشر، فقيل له: ما تقول في إبليس؟ هل هو شرير خبيث؟ وهل تسكت عنه؟ قال: أسمع عنه كلاماً كثيراً والله أعلم بسره، وهذا كلام باطل، وهذا هو الورع الزائد؛ لأنه قد نص الله على كفره ولعنه، فهذا لا يريد أن يلعنه كما لعنه رب العالمين سبحانه وتعالى.

وتأويل الجن بالقوى الشريرة في النفس البشرية: هذا كفر، وهكذا نص ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الرابع، صفحة ( 346 ) يقول: قال الملاحدة والمتفلسفة: إن المراد بالجن... إلخ.

وعليه ما حكي عن بعض الجائرين في هذا الجيل من تأويل الجن والشياطين بنوازع الشر بالنفس البشرية، هذا منقولٌ في الأصل عن الفلاسفة المتقدمين والملحدين، لكن البلية الآن في علماء عصره؛ لأنهم يأخذون قاذورات المتفلسفين ثم ينسبونها لشيخ الإسلام، ويكون هذا تفسير القرآن، وهذا هو الإصلاح والتجديد عندنا في هذا الزمان.

فلم ينقل شيء عن قوم ممن غضب الله عليهم في العصور المتقدمة إلا وتجد منهم من كساها بلباس الشريعة وأدخلوها في تأويل القرآن الكريم.

وعليه ينبغي أن نحذر نفيهم لوجود الجن، فمن نفى وجودهم فلا شك في كفره.

المبحث الثاني: في تكليف الجن وجزائهم:

الجن مكلفون كما أن الإنس مكلفون، ولا خلاف بين علمائنا الكرام في هذه القضية فهذا أمر مجمع عليه، وقد حكى الإجماع عليه عدد من أئمتنا منهم: الشبلي في آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجآن في صفحة (34)، والسيوطي في لقط المرجان صفحة (41)، وابن حجر في فتح الباري في الجزء السادس، صفحة (344)، والعيني في عمدة القاري في الجزء الخامس عشر، صفحة (184)، والنووي في شرح صحيح مسلم في الجزء الرابع، صفحة (169)، عليهم جميعاً رحمة الله، ونقلوا عن ابن عبد البر أنه قال: لا خلاف في تكليف الجن. يعني: لا خلاف في تكليفهم بتوحيد الله جل وعلا، وبأركان الإسلام.

وهذا الأمر كما قلت: قرره أئمتنا ولا خلاف بينهم في ذلك.

نوع التكليف المخاطب به الجن

يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى المجلد الرابع، صفحة (33): لا ريب أن الجن مأمورون بأعمال زائدة على التصديق، ومنهيون عن أعمال غير التكذيب، يعني: هم مأمورون أن يوحدوا الله وأن يؤمنوا به، ومأمورون بأعمال زائدة على ذلك من صلاة وصيام.

ومنهيون عن أعمال أخرى غير التكذيب كالزنا، وشرب الخمر، وقتل النفس وغير ذلك.

كما أننا نحن أُمرنا بالإيمان وبأن نوحد ربنا، وأمرنا بعد ذلك بعمل مع الإيمان وأن نطبق ونعمل، هم أيضاً أمروا بالتصديق وبالأعمال ونهوا عن التكذيب وعن المخالفة في العمل، وكل هذا مما لا خلاف فيه.

الجن لا يماثلون الإنس في الحد والحقيقة

قال: لا ريب أن الجن مأمورون بأعمال زائدة على التصديق، ومنهيون عن أعمال غير التكذيب، فهم مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم؛ فإنهم ليسوا مماثلي الإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أُمروا به -يعني: الجن- ونهوا عنه مساوياً لما عليه الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم.

قال ابن تيمية : وهذا ما لم أعلم فيه نزاعاً بين المسلمين.

والمعنى: أنهم مأمورون ومنهيون بأعمال زائدة في الفعل والترك مع توحيدهم وتكليفهم، لكنه قال: لو أمروا به -أي: فيما يتعلق بأمر العمل- فيختلف الحال فيهم عن حال الإنس، فهذا على حسب حالهم وبحسب ما بلغهم نبينا عليه الصلاة والسلام مما يعلمه الله ولا نعلمه، يقول: إن هذا على حسب حالهم هم؛ لأنهم لا يساوون الإنس في الحد والحقيقة حتى يكون تكليف الجن كتكليف الإنس.

والذي يبدو لي والعلم عند الله: أن الجن لا يجوز أن نقول: إن تكليفهم يختلف عن تكليف الإنس إلا فيما خصهم به الدليل الذي يدل على ذلك، والأصل أن نطلق القول بالتكليف، وأنهم كلّفوا كما كلّفنا كما نقول: المرأة مكلفة كما كُلِّف الرجل، ثم خصت بأمور، هذا أمر آخر، فلا بد من دليل على التخصيص.

نحن عندنا دليل على تكليف الجن فالأصل أنهم كلفوا بما كلفنا به، إلا إذا قام دليل على التخصيص، وهذا كما قلت: لا يعلمه إلا الله، لا نقول: إنهم لا يساوون الإنس في التكليف إلا إذا قام دليل على التخصيص، وكان هناك دليل خاص.

أما أن نقول: إن الجن لا يساوون الإنس في الحد والحقيقة، وبناءً على هذا لا يستوون معهم في التكليف، فهذا يحتاج إلى دليل، بل نقول: كلفوا بما كلفنا به، كما حكى على ذلك أئمتنا الإجماع دون أن يفصلوا، وإذا قام دليل على تخصيصهم ببعض الأمور التي تخصهم، فنخصهم به؛ لأن عندنا دليل على التخصيص.

عندنا الآن: ( لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ) فالعظام تكسى لحماً بإذن الله وهذا في حق الجن، ولا يكون هذا في حقنا، فهذا تكليف خاص بهم علموه بواسطة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا لا إشكال فيه كما أن المرأة كُلِّفت بأن تتحجب عن الرجل بدليل خاص ورد، مع أن الأصل أن نقول: هي كسائر الرجال في التكليف إلا ما قام عليه دليل التخصيص.

ولذلك أفردت لذلك مبحثاً وهو المبحث الثالث، في الأمور التي يختلف فيها الإنس عن الجن، وما عداها فهي مما يستوي الإنس مع الجن في التكليف، والعلم عند الله جل وعلا.

ولذلك نقل السيوطي في لقط المرجان في صفحة (59) عن السبكي عليه رحمة الله أنه قال: هل تقولون: إن الجن مكلفون بشريعة النبي عليه الصلاة والسلام في أصل الإيمان أو في كل شيء؟ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم فعلاً كما هو مرسل إلى الإنس فالدعوة عامة والشريعة عامة، فهو مرسلٌ إليهم في دعوتهم إلى الإيمان وفي أن يتبعوه في شريعته، فيلزمهم جميع التكاليف التي توجد أسبابها، إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعضها.

الأصل بما أن النبي عليه الصلاة والسلام أُمر أن يدعوهم إلى الإيمان، وأن يبلغهم الشريعة التي أنزلها عليه ربنا الرحمن، فما من شيء في التكليف إلا ويلزمهم، إلا ما قام عليه دليل التخصيص.

فقول السبكي : إنه يجب عليهم الصلاة والزكاة والحج، وصوم رمضان، وغيرها من الواجبات، ويحرم عليهم كل حرام في الشريعة بخلاف الملائكة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما أُمر أن يبلغ الملائكة شريعة الله وإن كان الملائكة موحدين لله جل وعلا ومؤمنين، لكن لهم عبادة فرضها الله عليهم ولم يؤمروا بهذه الشريعة التي فُرضت علينا، ولم يكن في فعلها الثواب وعلى تركها العقاب.

قال: فإنا لا نلتزم أن تكون هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قيل بعموم الرسالة إليهم، أي: لو قلنا لهم: نبينا عليه الصلاة والسلام مرسل إلى الإنس ومرسل إلى الجن، فيكلفون بما كُلِّف به الإنس.

فإن قلت: لو كانت الأحكام بجملتها لازمة للجن كما هي لازمة للإنس لكانوا يترددون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حتى ينقلوا هذه الأحكام إلى بعضهم ليتعلموها، ولم ينقل ذلك، يعني: لم يرد أن رسل الجن جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام باستمرار وسألوه عن أمور الشريعة، ولو أنهم فعلوا ذلك لنقل إلينا كما هو الحال في الإنس، فقد كانوا يسألونه ما بين الحين والحين.

قلت: لا يلزم من عدم النقل عدم اجتماعهم به، وكأن هذا ما نُقل، لا يلزم أنهم عندما كانوا يستمعون لنبينا عليه الصلاة والسلام أن ينقل هذا إلينا النبي عليه الصلاة والسلام كان يتصل بالملائكة، ويتصل بالجن على نبينا صلوات الله وسلامه، ولا يعني هذا: أننا سنشعر بما يحصل له على سبيل المثال وفد الجن جاءوا إليه وعلمهم عليه صلوات الله وسلامه، لا يلزم أن يخبر بكل مجيء منهم إليه.

وقيل: يلزم من عدم النقل عدم اجتماعهم به، وحضورهم مجلسه، وسماعهم كلامه؛ لأن أهل الإيمان لم يروهم والنبي عليه الصلاة والسلام لم يذكرهم للصحابة، ولا يلزم هذا.

إذاً لا يلزم عدم اجتماعهم به، ولا يلزم عدم حضورهم المجلس، لعلهم كانوا يبيتون معه؛ لأن الله يقول في نص القرآن: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].

من الذي أطلعكم على أنه ما ثبت اجتماعهم به، وهم عالم آخر لا يجوز أن نبحث في كنهه وحقيقته إلا بما أطلعنا عليه ربنا سبحانه وتعالى.

يقول هنا: وقد ورد في آثار كثيرة عن السلف أن جماعة من الجن كانوا يقرءون عليهم القرآن ويتعلمون العلم، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في المبحث الثالث إن شاء الله.

وذلك دليل عموم الأحكام في حقهم بالجملة، والتكليف شرطه العلة، وكل حكم من هذه الشريعة اتصل العلم به لزمهم إياه، هذا كلام السبكي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

ولذلك ينبغي أن تُطلق العبارة فيقال: الجن مكلفون بما كُلِّف به الإنس إلا ما قام عليه دليل التخصيص فيخصص كل منهما بما يخصه.

فالإنس قد يخصون بأحكام والجن قد يخصون بأحكام، ورد ذلك إلى ذي الجلال والإكرام، لكن إذا كانوا -كما قلت- مكلفين كالإنس فالأصل أن يستوي الثقلان في التكليف، إلا ما قام عليه دليل التخصيص، والعلم عند الله جل وعلا.

لا خلاف بين أئمتنا في أنهم مكلفون، وقد أطلق ابن القيم عليه رحمة الله القول بتكليفهم بجميع أمور الشريعة في طريق الهجرتين وباب السعادتين في صفحة (553) -وقد ختم هذا الكتاب بأحكام الجن بتكليفهم ومصيرهم في الآخرة عند ربهم- قال: الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام أنهم مأمورون، ومنهيون، ومكلفون بالشريعة الإسلامية، والأدلة على ذلك من القرآن والسنة أكثر من أن تحصى.

إذاً: لا خلاف في تكليفهم، كما لا خلاف في وجودهم، وهم مكلفون كما كُلِّفنا، وإذا خصوا بشيء فنحن أيضاً قد خصنا الله جل وعلا ببعض الأشياء.

وللإمام ابن تيمية رسالة في عموم بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إلى الثقلين الإنس والجن، كنت أشرت إليها في المباحث الماضية سماها: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين للإنس والجن، وهي موجودة ضمن مجموع الفتاوى وهي قرابة (55) صفحة في الجزء التاسع عشر من صفحة (9) إلى صفحة (65).

يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى المجلد الرابع، صفحة (33): لا ريب أن الجن مأمورون بأعمال زائدة على التصديق، ومنهيون عن أعمال غير التكذيب، يعني: هم مأمورون أن يوحدوا الله وأن يؤمنوا به، ومأمورون بأعمال زائدة على ذلك من صلاة وصيام.

ومنهيون عن أعمال أخرى غير التكذيب كالزنا، وشرب الخمر، وقتل النفس وغير ذلك.

كما أننا نحن أُمرنا بالإيمان وبأن نوحد ربنا، وأمرنا بعد ذلك بعمل مع الإيمان وأن نطبق ونعمل، هم أيضاً أمروا بالتصديق وبالأعمال ونهوا عن التكذيب وعن المخالفة في العمل، وكل هذا مما لا خلاف فيه.

قال: لا ريب أن الجن مأمورون بأعمال زائدة على التصديق، ومنهيون عن أعمال غير التكذيب، فهم مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم؛ فإنهم ليسوا مماثلي الإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أُمروا به -يعني: الجن- ونهوا عنه مساوياً لما عليه الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم.

قال ابن تيمية : وهذا ما لم أعلم فيه نزاعاً بين المسلمين.

والمعنى: أنهم مأمورون ومنهيون بأعمال زائدة في الفعل والترك مع توحيدهم وتكليفهم، لكنه قال: لو أمروا به -أي: فيما يتعلق بأمر العمل- فيختلف الحال فيهم عن حال الإنس، فهذا على حسب حالهم وبحسب ما بلغهم نبينا عليه الصلاة والسلام مما يعلمه الله ولا نعلمه، يقول: إن هذا على حسب حالهم هم؛ لأنهم لا يساوون الإنس في الحد والحقيقة حتى يكون تكليف الجن كتكليف الإنس.

والذي يبدو لي والعلم عند الله: أن الجن لا يجوز أن نقول: إن تكليفهم يختلف عن تكليف الإنس إلا فيما خصهم به الدليل الذي يدل على ذلك، والأصل أن نطلق القول بالتكليف، وأنهم كلّفوا كما كلّفنا كما نقول: المرأة مكلفة كما كُلِّف الرجل، ثم خصت بأمور، هذا أمر آخر، فلا بد من دليل على التخصيص.

نحن عندنا دليل على تكليف الجن فالأصل أنهم كلفوا بما كلفنا به، إلا إذا قام دليل على التخصيص، وهذا كما قلت: لا يعلمه إلا الله، لا نقول: إنهم لا يساوون الإنس في التكليف إلا إذا قام دليل على التخصيص، وكان هناك دليل خاص.

أما أن نقول: إن الجن لا يساوون الإنس في الحد والحقيقة، وبناءً على هذا لا يستوون معهم في التكليف، فهذا يحتاج إلى دليل، بل نقول: كلفوا بما كلفنا به، كما حكى على ذلك أئمتنا الإجماع دون أن يفصلوا، وإذا قام دليل على تخصيصهم ببعض الأمور التي تخصهم، فنخصهم به؛ لأن عندنا دليل على التخصيص.

عندنا الآن: ( لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ) فالعظام تكسى لحماً بإذن الله وهذا في حق الجن، ولا يكون هذا في حقنا، فهذا تكليف خاص بهم علموه بواسطة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا لا إشكال فيه كما أن المرأة كُلِّفت بأن تتحجب عن الرجل بدليل خاص ورد، مع أن الأصل أن نقول: هي كسائر الرجال في التكليف إلا ما قام عليه دليل التخصيص.

ولذلك أفردت لذلك مبحثاً وهو المبحث الثالث، في الأمور التي يختلف فيها الإنس عن الجن، وما عداها فهي مما يستوي الإنس مع الجن في التكليف، والعلم عند الله جل وعلا.

ولذلك نقل السيوطي في لقط المرجان في صفحة (59) عن السبكي عليه رحمة الله أنه قال: هل تقولون: إن الجن مكلفون بشريعة النبي عليه الصلاة والسلام في أصل الإيمان أو في كل شيء؟ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إليهم فعلاً كما هو مرسل إلى الإنس فالدعوة عامة والشريعة عامة، فهو مرسلٌ إليهم في دعوتهم إلى الإيمان وفي أن يتبعوه في شريعته، فيلزمهم جميع التكاليف التي توجد أسبابها، إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعضها.

الأصل بما أن النبي عليه الصلاة والسلام أُمر أن يدعوهم إلى الإيمان، وأن يبلغهم الشريعة التي أنزلها عليه ربنا الرحمن، فما من شيء في التكليف إلا ويلزمهم، إلا ما قام عليه دليل التخصيص.

فقول السبكي : إنه يجب عليهم الصلاة والزكاة والحج، وصوم رمضان، وغيرها من الواجبات، ويحرم عليهم كل حرام في الشريعة بخلاف الملائكة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما أُمر أن يبلغ الملائكة شريعة الله وإن كان الملائكة موحدين لله جل وعلا ومؤمنين، لكن لهم عبادة فرضها الله عليهم ولم يؤمروا بهذه الشريعة التي فُرضت علينا، ولم يكن في فعلها الثواب وعلى تركها العقاب.

قال: فإنا لا نلتزم أن تكون هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قيل بعموم الرسالة إليهم، أي: لو قلنا لهم: نبينا عليه الصلاة والسلام مرسل إلى الإنس ومرسل إلى الجن، فيكلفون بما كُلِّف به الإنس.

فإن قلت: لو كانت الأحكام بجملتها لازمة للجن كما هي لازمة للإنس لكانوا يترددون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حتى ينقلوا هذه الأحكام إلى بعضهم ليتعلموها، ولم ينقل ذلك، يعني: لم يرد أن رسل الجن جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام باستمرار وسألوه عن أمور الشريعة، ولو أنهم فعلوا ذلك لنقل إلينا كما هو الحال في الإنس، فقد كانوا يسألونه ما بين الحين والحين.

قلت: لا يلزم من عدم النقل عدم اجتماعهم به، وكأن هذا ما نُقل، لا يلزم أنهم عندما كانوا يستمعون لنبينا عليه الصلاة والسلام أن ينقل هذا إلينا النبي عليه الصلاة والسلام كان يتصل بالملائكة، ويتصل بالجن على نبينا صلوات الله وسلامه، ولا يعني هذا: أننا سنشعر بما يحصل له على سبيل المثال وفد الجن جاءوا إليه وعلمهم عليه صلوات الله وسلامه، لا يلزم أن يخبر بكل مجيء منهم إليه.

وقيل: يلزم من عدم النقل عدم اجتماعهم به، وحضورهم مجلسه، وسماعهم كلامه؛ لأن أهل الإيمان لم يروهم والنبي عليه الصلاة والسلام لم يذكرهم للصحابة، ولا يلزم هذا.

إذاً لا يلزم عدم اجتماعهم به، ولا يلزم عدم حضورهم المجلس، لعلهم كانوا يبيتون معه؛ لأن الله يقول في نص القرآن: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27].

من الذي أطلعكم على أنه ما ثبت اجتماعهم به، وهم عالم آخر لا يجوز أن نبحث في كنهه وحقيقته إلا بما أطلعنا عليه ربنا سبحانه وتعالى.

يقول هنا: وقد ورد في آثار كثيرة عن السلف أن جماعة من الجن كانوا يقرءون عليهم القرآن ويتعلمون العلم، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في المبحث الثالث إن شاء الله.

وذلك دليل عموم الأحكام في حقهم بالجملة، والتكليف شرطه العلة، وكل حكم من هذه الشريعة اتصل العلم به لزمهم إياه، هذا كلام السبكي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

ولذلك ينبغي أن تُطلق العبارة فيقال: الجن مكلفون بما كُلِّف به الإنس إلا ما قام عليه دليل التخصيص فيخصص كل منهما بما يخصه.

فالإنس قد يخصون بأحكام والجن قد يخصون بأحكام، ورد ذلك إلى ذي الجلال والإكرام، لكن إذا كانوا -كما قلت- مكلفين كالإنس فالأصل أن يستوي الثقلان في التكليف، إلا ما قام عليه دليل التخصيص، والعلم عند الله جل وعلا.

لا خلاف بين أئمتنا في أنهم مكلفون، وقد أطلق ابن القيم عليه رحمة الله القول بتكليفهم بجميع أمور الشريعة في طريق الهجرتين وباب السعادتين في صفحة (553) -وقد ختم هذا الكتاب بأحكام الجن بتكليفهم ومصيرهم في الآخرة عند ربهم- قال: الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام أنهم مأمورون، ومنهيون، ومكلفون بالشريعة الإسلامية، والأدلة على ذلك من القرآن والسنة أكثر من أن تحصى.

إذاً: لا خلاف في تكليفهم، كما لا خلاف في وجودهم، وهم مكلفون كما كُلِّفنا، وإذا خصوا بشيء فنحن أيضاً قد خصنا الله جل وعلا ببعض الأشياء.

وللإمام ابن تيمية رسالة في عموم بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إلى الثقلين الإنس والجن، كنت أشرت إليها في المباحث الماضية سماها: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين للإنس والجن، وهي موجودة ضمن مجموع الفتاوى وهي قرابة (55) صفحة في الجزء التاسع عشر من صفحة (9) إلى صفحة (65).