شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فكنا شرعنا في الموعظة الماضية في مدارسة الباب العاشر والبابين بعده من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهذه الأبواب الثلاثة دارت حول ثلاثة أمور، أولها: الاستتار عند قضاء الحاجة، وثانيها: كراهة الاستنجاء باليمين، وثالثها: الاستنجاء بالحجارة وهو الاستجمار، وكما هي عادتنا إخوتي الكرام بعد سرد الأحاديث الواردة في الأبواب التي يوردها الإمام الترمذي نتدارس أولاً ما يتعلق بأسانيد الأحاديث، ثم نتدارس فقه الأحاديث، ثم بعد ذلك نستعرض تخريج الأحاديث وبيان درجتها، ونختم الكلام بالإشارة إلى الروايات التي ذكرها الإمام الترمذي في الباب.

وكنا نتدارس المبحث الأول من هذه المباحث الأربعة في الموعظة الماضية في ترجمة رجال الأسانيد لهذه الأحاديث، وانتهينا من ذلك، وشرعنا في ترجمة مفصلة موجزة لـسلمان الخير ابن الإسلام حكيم هذه الأمة رضي الله عنه وأرضاه.

وقلت: سنتدارس ترجمته ضمن ثلاثة أمور:

أولها: فيما يتعلق بإسلامه وقد مضى الكلام عليه، وبينت أحواله، وأنه على المعتمد عاش خمسين ومائتي سنة على أقل التقدير، نعم اختلف أئمتنا فيما زاد على ذلك، وذكرت وفاق الإمام الذهبي للجمهور في هذا القول، ثم كيف خالفهم بلا مستند كما وضحت هذا وقررته فيما مضى.

وأما المبحث الثاني في منزلة سلمان الإسلام رضي الله عنه وأرضاه فتقدم معنا أنه هو سابق الفرس، كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو سابق العرب، وبينت أنه من أهل البيت رضي الله عنه وأرضاه، وذكرت الروايات الواردة في ذلك، وقلت: فيها ضعف مرفوعةً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن يشهد لها ما ثبت بإسناد صحيح كالشمس عن أمير المؤمنين رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بأن: سلمان منا أهل البيت، وأنه حكيم هذه الأمة، أدرك العلم الأول والآخر، وقرأ الكتاب الأول والآخر، وهو منا أهل البيت وبحر لا يدرك قعره، كما تقدم معنا أثر علي رضي الله عنه، وقلت: رواه يعقوب الفسوي في كتاب المعرفة والتاريخ، كما رواه أبو نعيم في الحلية وأحمد بن منيع في مسنده، ورواه الطبراني في معجمه الكبير كما في المطالب العالية، وابن سعد في الطبقات، وقلت: إن إسناد الأثر صحيح عندما سئل عن أصحابه ومنهم سلمان رضوان الله عليهم أجمعين، فقال: عن لقمان الحكيم تسألوني، أدرك العلم الأول والآخر، وقرأ الكتاب الأول والآخر، هو منا أهل البيت بحر لا يدرك قعره، وقلت: هذا بمعنى الرواية المرفوعة وفي إسنادها ضعف عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (سلمان منا أهل البيت).

وقلت: جرى من نبينا عليه الصلاة والسلام هذا الكلام تطييباً لثلاثة أصناف من المسلمين الكرام، تطييباً لنفوس المهاجرين والأنصار ولنفس سلمان ؛ لأنه عندما ادعاه المهاجرون وادعاه الأنصار فلو نسبه إلى واحد من هاتين الفرقتين القليلتين ينكسر خاطر الفرقة الثانية والقليلة الثانية، وإذا قال له: أنت عدادك لست من المهاجرين ولا من الأنصار ينكسر خاطره، فلا بد إذاً من إرضاء الجميع بحل، الكل يفرح به، فقال: (سلمان منا أهل البيت).

وختمت الأمر الثاني بما ثبت في صحيح مسلم وغيره من قول نبينا عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر : (إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك)، وذكرت الحديث مفصلاً وقلت: إنه صحيح مروي في المسند وفي صحيح مسلم وغير ذلك، فهذا يدل على منزلة سلمان في الإسلام، سابق الفرس، من أهل البيت، حكيم هذه الأمة، ولقمان هذه الأمة، إذا أغضبه الإنسان فقد أغضب ذا الجلال والإكرام.

إن حال سلمان كما تقدم معنا أنه قرأ الكتاب الأول والآخر، وعلم العلم الأول والآخر، فكان سلمان رضي الله عنه يحدثنا عما وقع في الأمم السابقة، وقد اطلع ورأى وقرأ وسمع ما جرى فيهم، فمن ذلك:

ما ثبت في حلية الأولياء لـأبي نعيم في الجزء الأول في صفحة ست ومائتين عن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: قال سلمان رضي الله عنه: كانت امرأة فرعون تعذب وتظلها الملائكة، وكانت ترى بيتها في الجنة، تعذب لكن عندها ما يسليها، الملائكة تظللها، وترى أيضاً بيتها في الجنة الذي سألته من ربها: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11].

فإن قيل: إذا بلغت زوجة فرعون تلك المنزلة التي ترى فيها منزلها والملائكة تظللها، هلاَّ رفع الله البلاء عنها؟

فنقول: لا تعترض على قدر الله جل وعلا، فهذه الدنيا من أولها لآخرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وإذا أهين فيها أهل الإيمان وعذبوا فلا منقصة عليهم، لكن الخسارة هي التي تقع في الآخرة، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] ، أما أن يخسر الإنسان الدنيا وأن يعذب وأن يمتهن وأن يسجن وأن يفترى عليه، فلا ضير عليه، (وأشد الناس بلاءً في هذه الحياة -كما تقدم معنا- الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).

ونقل أيضاً سلمان عن أخبار الأمم السابقة، كما في حلية الأولياء، قال: وجوع لإبراهيم خليل الرحمن على نبينا وعليه الصلاة والسلام أسدان ضاريان فأرسلا عليه، فبدآ يلحسانه ويسجدان له- والله على كل شيء قدير- أرسلا عليه من قبل العاتي في ذلك الزمن النمرود ، فحفظه الله من شرهما، فبدآ يلحسانه ويتبركان به، ويسجدان له.

وثبت أيضاً في حلية الأولياء في الجزء الأول صفحة ثلاث ومائتين عن طارق بن شهاب البجلي ، وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام كما قال أبو داود ، فله شرف الصحبة، لكن لم يثبت سماعه منه ولم يرو عنه فهو صحيح، وقد توفي سنة ثلاث وثمانين للهجرة، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب، قالوا: وكيف؟ قال: مر رجلان على قوم عندهم صنم يعبدونه، فقالوا لهذين الرجلين: قربا لهذا الصنم شيئاً، فقال أحدهما: ما عندي شيء أقربه لصنمكم، قالوا: قرب له ذباباً، فاصطاد ذبابةً وقربها إلى الصنم فخلوا سبيله فدخل النار -لأنه عظم طاغوتاً من الطواغيت، وصرف حق الله جل وعلا لغيره، هذا هو شرك، ولا يشترط أن تسجد له وأن تموت في سبيله، بل إذا كان في قلبك تعظيم لغير الله جل وعلا، فهذا هو الشرك- وأما الآخر فقال: ما كنت لأقرب لغير الله شيئاً، فضربت رقبته، فدخل الجنة.

والأثر -كما قلت- في حلية الأولياء بإسناد صحيح عن طارق بن شهاب البجلي عن سلمان الفارسي رضي الله عنهما، وقد رواه الإمام أحمد في الزهد في صفحة خمس عشرة، لكن وقع في الطبعة المطبوعة وما عندي غيرها، وما أعلم إذا طبع كتاب الزهد للإمام أحمد طبعةً أخرى، طبعة ليست محققة فيها بدل سلمان سليمان ، وهذا خطأ إنما هو سلمان ويراد به الفارسي كما هو في حلية الأولياء.

وقد روى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد حديث الذبابة، ونسبه إلى نبينا المجيد عليه الصلاة والسلام، فقال: روى طارق بن شهاب البجلي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب)، وقال بعد ذلك: رواه الإمام أحمد ، وهذا وهمٌ من ناحيتين:

لم يروه الإمام أحمد في المسند، وإذا أطلق أنه رواه الإمام أحمد فيراد المسند، وليس كذلك فليس في المسند.

والأمر الثاني: أن الأثر ليس من رواية طارق عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو من رواية طارق عن سلمان ، والشيخ وهم في الأمرين، والذين حققوا بعد ذلك كتبه في الأسبوع الذي سموه بأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب حافظوا على الوهم في هاتين القضيتين، وما حققوا الكلام في ذلك، وهذا خطأ، ولذلك ينبغي أن تنتبهوا لذلك، وإذا قرأ أحد كتاب التوحيد فليعلم أن هذا الأثر ليس في المسند، وليس من رواية طارق بن شهاب عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وإنما هو من رواية طارق بن شهاب عن سلمان رضي الله عنهما، والأثر أيضاً في الحلية كما وضحت لكم فكونوا على علم بذلك، والعلم عند الله عز وجل.

هذا كله كما قلت يتعلق بالأمر الثاني في منزلة سلمان في الإسلام، وله هذه المكانة، وكان أيضاً ينقل لنا عن الكتب السابقة وعما فيها من أخبارٍ وفوائد وفرائد.

الأمر الثالث في ترجمة سلمان -كما قلت- عبادته وجده وبصيرته وحكمته.

كان رضي الله عنه أواباً منيباً، خاشعاً قانتاً، وجلاً خائفاً من ربه عز وجل، وهو من الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.

ثبت في كتاب الزهد للإمام أحمد -ليس في المسند- وعند ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، والطبراني في معجمه الكبير، وهو في طبقات ابن سعد ، وحلية الأولياء لـأبي نعيم ، وإسناد الأثر صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: اشتكى سلمان رضي الله عنه وأرضاه، فزاره نفر من الصحابة الكرام، عيادة للمريض، منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود ، فبكى سلمان فقال له سعد : علام تبكي يا سلمان ؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ يعدد عليه مناقبه وفضائله، فقال سلمان : والله ما أبكي واحدةً من اثنتين: ما أبكي ضناً على الدنيا وبخلاً بها وحرصاً عليها، ولا كراهيةً للقاء الله، ولكن أبكي لأن النبي عليه الصلاة والسلام عهد إلينا عهداً ما أراني إلا قد ضيعته، قالوا: وما هو؟ قال: عهد إلينا عهداً فقال: (ليكن زاد أحدكم في الدنيا كزاد الراكب)، والراكب عندما يسافر يأخذ بمقدار حاجته وسفره، ولا يحمل سيارته ودابته ما يحتاجه إلى سنوات كثيرة، إنما ما يكفيه في سفره؛ لئلا يتعب نفسه، ولئلا يتعب دابته، فالنبي عليه الصلاة والسلام عهد إلينا هذا فما أراني إلا قد فرطت وتعديت، ثم التفت إلى سعد وقال: وأنت يا سعد اتق الله في حكمك إذا حكمت، وفي همك إذا هممت، وفي قسمك إذا قسمت، وإنما ذكره بذلك لأنه كان أميراً على بلاد العراق، فيذكره سلمان بما ينبغي أن يقوم به نحو رعيته، ما ذكره سلمان رضي الله عنه وأرضاه حتى اتهم نفسه بأنه تعدى.

زهد سلمان الفارسي

ثبت في سنن ابن ماجه عن ثابت قال: بلغني أن سلمان ما ترك إلا بضعةً وعشرين درهماً.

وفي كتاب صحيح ابن حبان وحلية الأولياء قال: جمع مال سلمان بعد موته، فبلغ خمسة عشر درهماً.

والجمع بين الروايتين والعلم عند الله أنه ترك دراهم بمقدار خمسة عشر درهماً، وترك أمتعةً إذا ضمت إلى الدراهم صارت مجموع التركة بضعةً وعشرين درهماً، حسناً: وأنت تعديت بهذا؟!

لا إله إلا الله، كان يأكل من عمل يده، وكان أميراً على المدائن من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد استعفاه مراراً فلم يعفه، إنما جعله أميراً على المدائن رغم أنفه وبغير اختياره، ويقول: أعفني من ذلك.

يقول: أنت الأمير، يخبرنا هو عن نفسه وكان يلي ثلاثة آلاف في المدائن وهو أميرهم رضي الله عنه وأرضاه، وعطاؤه في السنة خمسة آلاف درهم، وما أكل من عطائه درهماً واحداً، إذا أخذ عطاءه وزعه، وكان يشتري نسجاً -أو صوفاً غزلاً- بدرهم فيغزله ثم يبيعه بثلاثة دراهم، فيدفع درهماً ثمنه، ودرهماً يأكل به، ودرهماً يتصدق به، وكان يقول: هذا ديدني والله لو نهاني عمر عن ذلك لما انتهيت، يعني: ألزمني بالإمرة فسمعاً وطاعة ماذا أعمل، أما أنني أنتفع بالعطاء من بيت المال وأنكف عن هذا العمل فلا، بل يشتري صوفاً يغزله ثم يبيعه، اشتراه بدرهم -أيضاً- نسيئة وما عنده ثمن، فلما غزله وباعه بثلاثة دراهم رد الدرهم وأكل بدرهم وتصدق بدرهم، ثم أخذ أيضاً غزلاً آخر بدرهم وهكذا، هذه حياته رضي الله عنه وأرضاه.

ولما ذهب إلى المدائن لم يكن عنده بيت يسكنه، فكان ينام في المسجد، وعند القائلة يستظل بظلال الجدران، وهو أمير المدائن كما ثبت هذا في مصنف عبد الرزاق، وطبقات ابن سعد، وحلية الأولياء، والاستيعاب للإمام ابن عبد البر ، فقال له أهل المدائن: نبني لك بيتاً لتسكنها وأنت أميرنا، قال: لا بأس، فلما ولى العارض عليه بناء بيت، قال: كيف ستبني البيت الذي سيسكنه سلمان ؟

قال: أبني لك بيتاً إن قمت أصاب رأسك، وإن مددت رجليك أصبت الجدار، قال: أحسنت كأنك في نفسي، يعني: أنا ظننت أنك ستبني لي بيتاً كبيوت الناس لا أريد ذلك، ولكن أريد بيتاً إذا قمت ينال السقف، وإذا مددت رجلي ينال الجدار. هذا حال سلمان ، ومع ذلك يقول: ما أراني إلا قد تعديت، فإذا اطلع علينا ماذا سيقول؟!

حقيقةً لو رأونا لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب، ولو رأيناهم لقلنا: هؤلاء ما عندهم عقول، يعني هؤلاء حالتهم كحالة المدنيين، هذا أمير المدائن بيته بهذه الصورة والشاكلة، وكان إذا سافر رضي الله عنه وأرضاه يستظل بظل الشجر كما هي العادة، وأحياناً يترك ظل الشجر وينام في الشمس تواضعاً لله عز وجل.

وفي إحدى أسفاره -كما في حلية الأولياء- لما اقترب من مكة اضطجع في العراء ولم يستظل بشجرها الذي في ذلك المكان، فمر به جرير بن عبد الله البجلي مع أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وما عرفه جرير لما رأى إنساناً مضطجعاً، فقال لأصحابه: ظللوه، فظللوه وما عرفوه ولا انتبهوا له، ثم صحا وإذا هو سلمان ، فقال: يا سلمان ! أتنام في حر الشمس؟ قال: يا جرير ! تواضع لله، يوشك أن ندخل داراً لو حرصت أن تجد فيها عوداً يابساً لما وجدته، قال: وماذا؟ قال: الجنة، قال: فأين أشجارها؟ قال: أما بلغك أن ساق الشجر من لؤلؤ وذهب، لا تجد هناك عوداً يابساً، فدعنا الآن نتقشف ونقاسي ما نقاسي في هذه الحياة، هذا حال سلمان رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك انظر لخشيته وخوفه يقول: ما أراني إلا قد تعديت، وقد ترك بضعةً وعشرين درهماً من دراهم نقد ومن أمتعة يملكها رضي الله عنه وأرضاه، وعن سائر الصحابة الكرام.

وحقيقة بمثل هؤلاء تحيا الدنيا وتتنور، ولا خير في الحياة إذا لم يكن فيها أمثالهم، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت هذه أمنيته، وقد رزقه الله ما أراد، وحقق له أمنيته عندما كان يستعمل حذيفة وسلمان وأبا عبيدة وغيرهم من الصحابة الكرام الذين هم على شاكلتهم، وتقدم معنا في ترجمة حذيفة لما أرسله إلى الكوفة ثم اختبأ له في الطريق، ورآه على حالته، فبدأ يبكي عمر ، وبعد أن دخل حذيفة المدينة دخل عمر وراءه بعد أن نصب له كميناً على الطريق؛ لينظر كيف سيعود أمير الكوفة بمتاع ومواشي وخدم وحشم، ثم جاء عمر وجمع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وقال: تمنوا، فبدأ كل واحد يتمنى شيئاً من أمور الخير، هذا يقول: يا ليت لي بيتاً من ذهب أنفقه في سبيل الله، وهذا يقول: ليتني أقتل في سبيل الله، وهذا.. وهذا..

قال عمر : لكني أتمنى رجالاً كـحذيفة وسلمان وأبي عبيدة أستعملهم في طاعة الله.

هؤلاء هم أعمدة الحياة.

بعض من حكم سلمان وأقواله السديدة

هذا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه من حكمه وأقواله السديدة الصائبة كما في الحلية وغيره قال: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه -يقول: هذا يضحك، ويؤمل في الدنيا، ويتمنى أن يعيش ولو يعمر ألف سنة فأكثر والموت يطلبه، فهو بصدد لقاء الموت في كل نفس يتنفسه- وغافل ولا يغفل عنه، وضاحك بملء فيه ولا يدري أساخط عليه رب العالمين أم راض. يقول: هؤلاء الثلاثة في الحقيقة الإنسان يضحك منهم ومن حماقتهم، هذا أمله في الدنيا طويل طويل، ويأتيه الأجل وهو ما بلغ معشار عمره، وذاك غافل لكن لا يغفل عنه، والثالث يضحك بملء فيه ولا يعلم هل الله راض عنه أم ساخط، فهذه من حماقة الإنسان، وإذا ضحك الإنسان فليكن ضحكاً بتبسمه، أو بضحك لا يصل إلى درجة القهقهة، وضحك المؤمن غفلة من قلبه، ومن غلب ضحكه على بكائه فلا شك في نفاقه، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:82]، هذه الأمور الثلاثة أضحكته رضي الله عنه وأرضاه.

يقول: وأبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وصحبه، عليه وعلى أصحابه وأهل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، فراق الأحبة، يقول: هذا يبكيني كلما أتذكر النبي عليه الصلاة والسلام، وأتذكر أبا بكر ، وأتذكر عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقد مات هؤلاء قبله، وهكذا أبو عبيدة وحمزة وغيرهم من الصحابة ممن سبقوا سلمان بالموت، -تقدم معنا أن سلمان توفي سنة ثلاث وثلاثين أو أربع وثلاثين أو ست وثلاثين للهجرة رضي الله عنه وأرضاه- وهول المطلع، بضم الميم وتشديد الطاء بالطاء المثقلة المفتوحة، المطلع: مكان الاطلاع من مكان عال، ويريد منه هول الموقف، لا يدري هل ينصرف منه إلى جنة أو إلى نار، فكأنه في الموقف يطلع على الدارين، ويعتريه من الفزع ما يعتريه، يقول: ما أعلم ماذا سيكون حالي في هول المطلع في هول الموقف.

ويمكن أن يراد به كما قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: المطلع ما يصرف به الإنسان على أمور الآخرة، وهو ما يكون عقب الموت، فكأنه يريد أن يقول: هول المطلع ما ألاقيه بعد الموت؛ لأن ما يجده الإنسان بعد موته دلالة على فوزه أو خسرانه، وهل سيبشر بجنة أو بنار.

فكأنه على مكان عال يطلع على مستقره ومصيره، هذا أبكاه.

والثالث يقول: الوقوف بين يدي الله، ولا أدري هل أنصرف إلى جنة أو إلى نار.

حقيقةً من استحضر هذه الأمور الثلاثة يبكى، فراق النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام، وهول المطلع وما سيعانيه ويقاسيه بعد الموت، وبأي شيء بعد ذلك سيبشر، والوقوف بين يدي الله، ولا يعلم هل سينصرف إلى جنة أو إلى نار؟

هذا كله مما يدل على حكمته وبصيرته وطهارة قلبه وصدق لسانه رضي الله عنه وأرضاه.

نصائح سلمان لأبي الدرداء في القصد في العبادة

ومن حسن نظره وبصيرته اقتصاده رضي الله عنه في عبادته، فكان يعبد الله قصداً، فلا يتكبد ولا يزيد بحيث تمل النفس البشرية، ولا يقصر بحيث يعتبر كأنه بعيد وجافٍ عمن العبادة، وخير الأمور الوسط، وهذا ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وجمهور الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

وانظر لهذا الحديث مع صاحب له كيف أرشده إلى وضع الأمور في مواضعها، وإعطاء كل ذي حق حقه، وألا يغلب حقاً على حق فيعتبر مفرطاً مقصراً.

ثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي ، وعند ابن خزيمة في صحيحه والدارقطني في سننه وأبو نعيم في حلية الأولياء، وبوب عليه البخاري في كتاب الصوم باباً عجيباً غريباً، ولم يورده في فضائل سلمان وكما قلنا: فقه البخاري في تراجم أبوابه، وقلت: إنه جمع كتابه أصالةً ليقرر به فقهه واستنباطه واجتهاده، فدلل بالأحاديث على ما يذهب إليه، ويراه في أحكام الشرع رضي الله عنه وأرضاه، فانظر لهذه الترجمة ولهذا الفقه الذي استنبطه من هذا الحديث الذي جرى من سلمان مع أخ له من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

قال الإمام البخاري : من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاءً إذا كان أوفق له. أي قام قيام تطوع نافلة، فأقسم عليه أخوه أن يفطر فلم ير عليه قضاءً إذا كان أوفق له، أي: هذا أفضل لحاله، وألا يغلّب حقاً على حق، والحكمة وضع الشيء في موضعه، فلله عليك حق فأعطه حقه، ولزوجك عليك حق فأعطها حقها، ولضيفك عليك حق فأعطه حقه، وضع كل شيء في موضعه هذه هي الحكمة، وهذه هي البصيرة، وأما أن تغلب حقاً على سائر الحقوق فهذا ليس من الحكمة، فاستمعوا لهذا الحديث:

عن أبي جحيفة -هو وهب بن عبد الله السوائي ، يقال له: وهب الخير ، وكان على شرطة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، أي: قائد الشرطة، لكن قائد شرطة يتبرك به- قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلةً -أي: تلبس ثياب البذلة كالوجنة لفظاً، ومعنى بذلة: مهنة، يعني ما عليها أثر الزينة، فرأى زوجة أخيه أبي الدرداء متبذلة، ولعل هذا قبل أن يفرض الحجاب، والعلم عند ربنا الوهاب سبحانه وتعالى- فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا في النهار صائم، وفي الليل قائم هذا حال أبي الدرداء ، يعني كأنها تقول: ألبس ثياباً جميلة لمن؟- قال: فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل، -يعني: سلمان يقول لـأبي الدرداء: كل معي- قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل -حاله: أنا ضيفك ولا آكل حتى تأكل أنت، حقيقةً أبو الدرداء يريد الصيام، لكن الآن لئلا ينكسر خاطر أخيه وقلبه أفطر- قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم قال: نم، فنام، فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن، قال: فصليا، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك- والذي جاء هو أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ربح سلمان )، وفي بعض روايات الحديث كما في سنن الدارقطني وغيره قال: ثم خرجا إلى الصلاة يعني مع النبي عليه الصلاة والسلام، فدنا أبو الدرداء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فالله أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام قبل أن يخبره أبو الدرداء بالذي قال له سلمان ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أبا الدرداء ! إن لجسدك عليك حقاً..)، الحديث بمعناه وبمثل كلام سلمان الذي قاله لـأبي الدرداء .

فالجمع بين الروايتين: أن أبا الدرداء رضي الله عنه وأرضاه عندما ذهب مع أخيه سلمان وصليا الفجر مع النبي عليه الصلاة والسلام اقترب ليخبره بما قال له أخوه سلمان هل هذا حق؟ وهل من حقه أنه أفطرني ومنعني من القيام، ثم بعد ذلك صلينا ما تيسر قبيل الفجر، ثم أعطاني هذا الكلام: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط لكل ذي حق حقه، هل هذا حق؟ وكلام سلمان آخذ به؟ فلما اقترب من النبي عليه الصلاة والسلام ليخبره أخبره النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام، فقال أبو الدرداء : يا رسول الله! أنا جئت عن هذا أسأل، سلمان قال لي هذا الكلام في هذه الليلة فقال: (صدق سلمان ، عويمر ! سلمان أفقه منك)، وعويمر هو أبو الدرداء ، والمعنى: أن سلمان أفقه منك كيف خفي عليك هذا؟ هذه حقوق كلها ينبغي أن تقوم بها، أنت تزوجت المرأة وجعلتها معلقة لا مزوجة ولا مطلقة ما تقترب منها، تلبس ثياب البذلة ولا تشعر بما يشعر به غيرها، هذا في الحقيقة إجحافٌ في حقها، فأعط كل ذي حقٍ حقه.

ذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله: أن من كان متنفلاً فهو أمير نفسه، إن شاء أن يقطع النفل فلا إثم عليه، نعم ضيع الأجر وليس عليه القضاء، وقد روي هذا عن عدة من الصحابة الكرام كما في مصنف عبد الرزاق وغيره، وقال: مثال هذا كمثال رجل خرج بصدقة يتصدق بها، ثم رجع ولم يتصدق فهل عليه إثم؟ وضع في جيبه عشرة ريالات وقال: إذا قابلت فقيراً سأتصدق بها عليه، ثم رجع وقال: لا أريد أن أتصدق ضيع على نفسه الأجر، أما أنه آثم وعليه القضاء فليس كذلك، وهكذا إذا شرع في صيام نافلة أو في صلاة نافلة وقطعها ضيع على نفسه الأجر ولا قضاء عليه ولا إثم عليه.

وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: هو آثم في قطعه النافلة التي شرع فيها إن قطعها بغير عذر، وعليه القضاء، وإن قطعها بعذر لا بد من القضاء، لكن لا إثم عليه، كما لو شرع في الصيام ومرض مثلاً، فيفطر وما يفقد صيام الفريضة، لكن عليه القضاء لا بد منه.

وتوسط الإمام مالك فقال: إن أفطر لعذر فلا إثم عليه ولا قضاء، وإن أفطر لغير عذر فعليه الإثم والقضاء.

وتحقيق الكلام في هذه الأقوال يأتي معنا -إن شاء الله- ضمن مباحث الصوم من سنن الترمذي ، إنما الآن من باب تحقيق المسألة، وهل هذا القول قال به أحد من الأئمة؟

نعم، الذي وافق البخاري على هذا الإمام الشافعي والإمام أحمد ، من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له، وهذه حكمة سلمان رضي الله عنه وأرضاه، وقد أقره على هذا الكلام نبينا عليه الصلاة والسلام (صدق سلمان ، عويمر ! سلمان أفقه منك).

أقسام الناس في ليلهم عند سلمان

وقد كان رضي الله عنه في عبادته -كما قلت- مقتصداً، فانظر لعبادته في ليله، وكيف كان يذكر أحوال الناس في الليل رحمه الله ورضي الله عنه.

ثبت في معجم الطبراني الكبير كما في المجمع في الجزء الأول صفحة ثلاثمائة بسند رجاله موثقون، والأثر رواه عبد الرزاق في المصنف، وأبو نعيم في الحلية، ويمكن للطالب أن يكتب أسماء الكتب برموز خاصة فمثلاً: المجمع لو رمزت له بـ(ج)، والحلية بـ ح، فاجعل لنفسك اصطلاحاً حيث تختصر أسماء الكتب؛ لأن هذا يتعبك، فما تكتبه في عشر صفحات يأتي في صفحة واحدة بهذه الرموز، وهذه استعملها أئمتنا، كما في كتاب التقريب، ولولا هذه الرموز لاحتاج الكتاب إلى أربعة أضعافه، فالأمر لا بد يا إخوتي الكرام من ضبط هذا، الإنسان يضع رموزاً لنفسه خاصة إن أراد ألا يتقيد برموز المتقدمين، وكان أئمتنا يراقبون هذه الاصطلاحات ويعتنون بها، وكان بعض أئمتنا يحمل في كمه عشرة أجزاء، في كل جزء ألف حديث، عشرة آلاف حديث في كتابة دقيقة عن طريق الرموز، كـابن خزيمة وابن الصلاح ، يحمل أحدهم ديواناً في السنة بشيء مختصر صغير عن طريق الرموز التي يصير بها إلى كلام يعرفه عن طريق الرموز، فهذه من بديهات الحديث، والباقي معروف عنده، هذا كله لو ضبط من قبل الإنسان لسهل على نفسه الوقت واختصره كثيراً.

إذاً: الأثر في معجم الطبراني الكبير ومصنف عبد الرزاق وحلية الأولياء لـأبي نعيم عن طارق بن شهاب البجلي -وهذا كان يروي عن سلمان بكثرة، وقلت: ثبتت رؤيته لنبينا عليه الصلاة والسلام، وتوفي سنة ثلاث وثمانين للهجرة، وحديثه في الكتب الستة، وهو الذي روى عنه الأثر المتقدم عن الكتب السابقة أنه دخل رجل الجنة في ذباب- عن سلمان أنه قال: إذا كان الليل كان الناس منه على ثلاثة أقسام، وعلى ثلاث منازل، المنزلة الأولى: من يكون الليل له لا عليه، ودونها منزلتان: من يكون عليه لا له، ومنهم من يكون الليل لا عليه ولا له، أما الذي له فرجل اغتنم غفلة الناس.

الناس ما بين قسمين: ما بين نائم وما بين ساهر لاهٍ، ما بين أمرين: إما في لهو، وإما في نوم، فاغتنم غفلة الناس فعبد ربه فيه، هذا الليل له لأنه اغتنمه، والذي عليه لأنه اغتنم غفلة الناس فعصى الله فيه، ولذلك تكثر المعاصي في الليل عنها في النهار، وإذا جاء الليل تزداد وتتضاعف المعاصي والآثام، فالذي يريد الحرام يبحث عنه في الليل؛ لأنه أستر له وأخفى، فينتشر الفساد، وقطاع الطريق، واللصوص، ومن يريد هتك الأعراض، ومن يسعى للفساد وشرب الخمر، هذا في الليل يتوسع الناس فيه، ويسهرون ويسهرون حتى إذا دخل ثلث الليل الأخير ناموا كأنهم من فصيلة الحمير والخنازير، بعد أن قضوا ثلثي الليل في معصية الله جل وعلا، وإذا كان موظفاً استيقظ الساعة السابعة والنصف أو الثامنة وما حصل منه تشهد قبل ذلك، يذهب يعرك عينيه في وظيفته، وإذا لم يكن عنده وظيفة انسحب -كما يقال- النوم إلى وقت لا يعلمه إلا الله جل وعلا.

وأما الذي لا له ولا عليه، فهو من نام من أول ليله، فإذا جاء الفجر ذهب إلى صلاة الفجر، وهذه نعمة، يعني: إذا لم تطع فلا تعص، وهنيئاً للإنسان الذي ينام بعد العشاء، وما يجلس على المسلسلات التي تسلسله في أسفل الدركات.

قال لي بعض الإخوة: إن الأمة تنحط إلى هذا الوقت، يقول لي: مباريات كرة يوجد الآن في الدولة الملعونة أمريكا، ويستثنى من هذه اللعنة من فيها من المؤمنين قطعاً وجزماً، في هذه الدولة الخبيثة الملعونة تخصيص مباريات وكذا، وليس عندي علم الأخبار، لا مرئية ولا مسموعة ولا مقروءة، فالحمد لله الذي حفظنا من هذه البلايا الثلاث، لكن أحياناً بعض الناس يبلغني فيما يتعلق بأمر مفاجئ.

ومرةً أخبرني بعض الإخوة الكرام يهنئ الوالد لأن أولاده يصلون الفجر، قال: يا شيخ! يصلون لسبب، يسهرون إلى الفجر على المباراة، فإذا حان الأذان يقول: تعالوا معي إلى الصلاة، لولا المباراة لما قاموا وصلوا، لكن الآن ألزمهم بالصلاة، يقول: سهرتم الليل كاملاً تعالوا الآن صلوا الفجر. إن أمة -حقيقةً- تسهر الليل بكامله في النظر إلى عورات، وإلى من نظرتهم تقسي القلب، وأئمتنا كانوا يقولون: النظرة إلى الأحمق خطيئة مقصودة، النظرة إلى الظالم مقصودة، فأنت عندما تنظر إلى هذه الوجوه المنكرة التي (عليها غبرة) (ترهقها قترة) (أولئك هم الكفرة الفجرة)، يعني: تتلذذ بالنظر إلى من لعنهم الله وغضب عليهم، سوآت مكشوفة، هل هذا الآن تتلذذ فيه؟

شيء بهذه الأشكال القبيحة تتقزز منه النفس. هذا لو لم يكن حراماً، فكيف وهو حرام؟

والعجب يزداد لا من أهل الفساد -دعنا منهم- إنما ممن يدعون أنهم من أهل الرشاد، إذا حضر عندك في الموعظة وأخذك ساعة يقول: يا شيخ! هذا نفرنا عن دين الله ساعة، وأعجب أن أهل الفساد يمكثون ساعات ويستقصرونها، وأنت ساعة في طاعة الله تستكثرها.

واليوم أخبرني بعض الإخوة الكرام، يقول: بالنسبة لموضوع خطبة الجمعة وهي في الغالب تأخذ بحدود الساعة أو أزيد بقليل، يقول: بعض الناس إذا كان عنده موعظة يقول: نتقابل في صلاة الجمعة؟ ثم يقول: لا، صلاة الجمعة ما أصليها؛ لأنها طويلة! يريد صلاة جمعة بحدود ربع ساعة أو نحوها، قلت: لا حرج عليه، لكن دون أن يقول هذا، قال: قد يتحمل ويجلس.

ووالله لو ربطه بشجرة لقلعها، ولو ربطه بسيارة لسحبها، ومع ذلك يقول: لا أستطيع أن أجلس، يقول: في ربع ساعة.

قلت: قل له: أما تستطيع أن تجلس في بيت الله ساعة؟ قال: ما أستطيع، وهو يجلس الساعات الطوال في القيل والقال، وأحياناً يبقى حتى الفجر في قيل وقال، وإذا أراد صاحبه أن يذهب قبل الفجر يقول: لا زال الوقت مبكراً، وساعة في المسجد تقول: هي طويلة وما أتحمل، الله أكبر، ماذا -يا إخوتي الكرام- أصيبت هذه الأمة في هذا الحين، ينبغي أن نلوم أنفسنا، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

الإمام أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي -توفي سنة واحدة وثلاثمائة للهجرة- لما ذهب إلى بغداد استقبله من طلبة العلم فضلاً عن المسلمين الآخرين، استقبله ثلاثون ألف طالب بأيديهم الدفاتر والمحابر، حقيقةً: هذه أمة يمكن لها، وكان إذا جلس في المسجد ليعظ يجتمع عشرة آلاف على أقل تقدير إلى خمسة عشر ألفاً.

حقيقةً: هذه الأمة هي أمةٌ تعي واجبها في هذه الحياة، أما ساعة يستكثرها وبقية الساعات كلها في لغط وقيل وقال، ولو كان مستغنياً عنها لقلنا: يا جماعة! هو فقيه الزمان، وفارس الميدان، لكن ماذا يقول الإنسان في وصفه وفي بيان حاله؟! نسأل الله حسن الختام، هذه هي حال الأمة الآن، ساعة في طاعة الله نستكثرها، ورضي الله عن علي رضي الله عنه عندما يقول: واعجباً من جد هؤلاء في باطلهم، وعجزكم عن حقكم.

وفي ترجمة بعض الراقصات السفيهات الساقطات في هذه الأيام، وهي عجوز شمطاء زادت على الستين عندما تقف لترقص وتغني على خشبات المسرح -كما يقال- تمكث ست ساعات واقفة على رجليها، وعمرها يزيد على الستين، سبحان ربي العظيم! والجمهور يصفق ويصفر ويضرب رأسه ويحرك رجليه، ولما تنتهي الحفلة يقول: لم ما أطالت؟ والفجر قد طلع والليل انتهى، يقول: واصلي إلى الظهر ما يضرنا، ست ساعات في مسرح وعجوز شمطاء ترقص وتغني، وبعد ذلك في بيوت الله من صلاة التراويح وغيرها ساعة فقط، لو أطال الإمام ساعة وقرأ كل ليلة جزءاً ربما حصبه الناس بالحجارة، لا إله إلا الله.

وقبل أيام حادثة جرت مع إمام نعرفه في هذه البلدة، صلى الفجر، تدرون ماذا قرأ في صلاة الفجر؟

قرأ في الركعتين بسورة الجمعة، يعني إحدى عشرة آية أليس كذلك؟ وبعد أن انتهى قال أحدهم: يا شيخ! أنت نفرتنا عن المسجد وعن بيت الله، في الركعتين لصلاة الفجر بسورة الجمعة -أنا ما كنت حاضراً- قلت: يا عبد الله! ماذا تريد أن يقرأ في صلاة الفجر؟ تريد أن يقرأ (قل هو الله أحد)، و(إنا أعطيناك الكوثر)؟ قال: يقرأها، يعني ضروري سورة الجمعة، فقلت: يا عبد الله! بدأت الآن تخبط، لو قلت مثلاً: في صلاة المغرب لا يقرأ سورة الجمعة لقلت: ربما قيل: يا أخي! اقرأ من قصار السور، وأما في الفجر وجعل سورة الجمعة في ركعتين، وأنت بعد ذلك تستطيل الكلام، وكم أخذت الصلاة من أولها إلى آخرها؟ اضبط الساعة، من تكبيرة الإحرام إلى السلام، يا عبد الله! اتق الله في نفسك، إذا كان عندك سفاهة فاترك الأمة تعرف كيف تعبد ربها، يقرأ في كل ركعة خمس آيات من الآيات المتوسطة القصيرة، فسورة الجمعة كلها صفحة، أوليس كذلك؟ ثم يعترض عليه، سورة الجمعة في صلاة الفجر يستكثرها، ويجلس وما أعلم مسلسلاً ينتهي بربع ساعة، -نسأل الله أن يعافينا وألا يبتلينا- بل ساعة وساعات، وهنا عشر دقائق يستكثرها.

ولذلك إذا كنا من الصنف الثالث فهنيئاً لنا، لكن من يصلي الآن الفجر بنشاط؟

أنت انظر إليهم عند صلاة السنة وأنت جالس، وانتبه فتأمل مرة أحوال المصلين، أنا ما أعلم -هذا فيما أراقب- أنني نظرت إلى إنسان إلا يتثاءب كالبقر من انتهائه من السنة إلى الفريضة، يا عبد الله! أريد أن أعرف لم أنت في بيت الله بين يدي الله؟! إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، يشهده الله وملائكته الكرام، وهذا أفضل أوقات الصلوات وتتثاءب كالبقر.

حقيقةً: هذا الذي يسهر حتى الساعة الواحدة أو الثانية في معصية، ولو كان في طاعة لأعطاه الله نشاطاً وقوة، لكن الذي يسهر في المعصية هذا هو حاله، يا جماعة! هذا إذا قام لصلاة الفجر بنشاط فقد خُرقت العادة في حقه إذ ليس هذا من عادة البشر، هذا سيقوم كما قال الله: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، وأحياناً تراقب الحاضرين فتقام الصلاة وهو نائم، ويكبر الإمام تكبيرة الإحرام ولا زال نائماً، ما كبر، كأنه ركن من أركان المسجد وزاوية من زواياه اضطجع ونام، يا عبد الله! أنت أحدثت الآن، فقهاء الحنفية المتأخرين عندما بحثوا في النوم قاعداً قالوا: لا ينقض الوضوء إذا نام على هيئة المتمكن، قالوا: إلا في زماننا، لم؟

قالوا: لقوة الدفع وكثرة الأكل، من هذا لهذا، حقيقةً: الدافع عنده كأنه صواريخ، فهذا الآن يحدث وهو لا يشعر، وسيأتينا الكلام عليه عما قريب، وهو ثابت في موضوع الاستجمار والاستنجاء، قال: كنا نبعر بعرة، وأنتم تخلطون خلطة، آفات تكون ما بينكم، نحن يخرج منا غائط ما فيه لزوجة ولا ليونة كأننا نخرج بعض قطع من الحجر، ولذلك الآن لا يكفيكم استجمار فلا بد من أن تغسل هذا المحل الذي وسع الدائرة عندما خرج مائعاً منتشراً، فكم مرة أحدثت عندما أقيمت الصلاة وأنت نائم، ثم جئت وصليت، ثم بعد ذلك اعتراض على الإمام، ثم ستدخل الجنة من أبوابها الثمانية، يا عبد الله! والله إبليس ما صنع ذلك، وجبن عليه بالخسة والحقارة والانحطاط، فإذا سلم لنا ليلنا من المعصية فهنيئاً لنا، وأما الطاعة هذه فكانت في سلفنا.

مراقبة طارق بن شهاب لمدى اجتهاد سلمان في العبادة

الناس في ليلهم على ثلاثة أقسام أو على ثلاث منازل: المنزلة الأولى: له لا عليه، والمنزلة الثانية: عليه لا له، والمنزلة الثالثة: لا له ولا عليه، فإذا كنا من أهل هذه هنيئاً لنا، كذا كان يقول سلمان رضي الله عنه.

فلما سمع طارق بن شهاب قول سلمان قال: والله لأصحبن هذا، لأرى ماذا يعمل في ليله؟ يعني هل هو من الصنف الأول أو الثاني أو الثالث، يريد /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 172