شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [5]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

لا زلنا نتدارس الباب الخامس من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي : باب ما يقول إذا خرج من الخلاء.

وتقدم معنا أن الإمام الترمذي روى في هذا الباب حديثاً عن أمير المؤمنين أبي عبد الله البخاري، ثم ساق السند حتى أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك)، قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ غريب، ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد انتهينا من دراسة رجال الإسناد ووصلنا إلى ترجمة أمنا الصديقة بنت الصديق ، حبيبة حبيبنا على نبينا وآله وأزواجه وصحبه صلوات الله وسلامه.

وقلت: سنتدارس ترجمة أمنا العطرة ضمن ستة أمور معتبرة:

أولها: فيما يتعلق بفضلها وأفضليتها على غيرها.

ثانيها: فيما يتعلق بحب نبينا صلى الله عليه وسلم لها حباً خاصاً زاد على غيرها.

ثالثها: في أسباب حبها.

رابعها: في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

خامسها: في قيام أمنا بأمور الدين حسبما يستطيع الإنسان من تعظيمٍ للرحمن، وشفقةٍ على بني الإنسان.

وآخر الأمور وهو سادسها: حب الله لأمنا عائشة وغيرته عليها ودفاعه عنها.

كنا نتدارس الأمر الخامس في قيام أمنا عائشة رضي الله عنها بأمور الدين على وجه التمام حسبما في وسع الإنسان من تعظيمٍ للرحمن، وشفقةٍ على بني الإنسان، فتقدم معنا شيءٌ من حالها مع ربها وعبادتها لله عز وجل، فكانت تصوم الدهر، وكانت تقوم الليل، وتكثر من قراءة القرآن، وهي شديدة الخوف والوجل من الله عز وجل كما تقدم معنا أخبارها في ذلك.

ثم انتقلنا إلى مدارسة ما يتعلق بحالها مع عباد الله، من إحسانها إليهم، وشفقتها عليهم، وذكرت قصصاً كثيرةً ثابثةً عنها رضي الله عنها في مساعدتها للخلق، وإحسانها إليهم، ثم ختمت الأمر الخامس هذا بأمرٍ قلت: ينبغي أن نعيه تمام الوعي، ألا وهو: شدة حيائها، ومحافظتها على عفتها وعرضها رضي الله عنها وأرضاها، وأجمل ما يزين المرأة الحياء، وقلت: هذا الخلق ينبغي أن يستفيده نساؤنا من أمنا رضي الله عنها، فتقدم معنا أنها كانت تتحجب من الأموات والأحياء، من المبصرين والعميان على حدٍ سواء، وذكرت أخبارها في ذلك.

بعد هذا كنا نتدارس تعليقاً يتعلق بحجاب المرأة، وما ينبغي أن تكون عليه المرأة المسلمة في حجابها وحيائها وعفافها، وبينت الحكم الشرعي، وأن الوجه ينبغي أن يستر، ثم تعرضت لأربعة سفهاء ذكرت كلام ثلاثة منهم، ثم قدر الله أن تنتهي الموعظة وقلت: أرجئ الكلام إلى هذا اليوم.

وأحب أن أقدم بين يدي ردنا عليهم واستعراض كلامهم قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30] أحب أن أقدم مقدمةً ينبغي أن نعيها تمام الوعي في هذا الأمر، فانتبهوا لها:

أولها: ستر وجه المرأة هو شيمة النساء الصالحات، وهو خلق العفيفات، وهذا هو لباس الفاضلات، وهو شأن الطاهرات الحييات في جميع الأوقات.

عنوان حياء المرأة وعفتها وطهارتها وفضلها سترها لوجهها مع التزامها بالحجاب الشرعي في سائر جسدها، مع أن هذا الوجه هو أول ما ينبغي أن يستر من هذه المرأة الطاهرة الحيية العفيفة ولا يجوز أن يظهر، وقد تقدم معنا إخوتي الكرام أخبارٌ كثيرةٌ تقرر هذا، فكيف كانت أمنا عائشة مع أمهاتنا أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام، مع الصحابيات الطاهرات، وهنّ في أعظم العبادات في الأشهر الحرم، في الأماكن المعظمة المباركة، في أداء نسك الحج إذا مر بهن الرجال الركبان سدلن على وجوههن، فإذا جاوزهن الرجال كشفن عن وجوههن رضوان الله عليهن أجمعين.

وتقدم معنا هذا الفعل وحكايته عن أحوال النساء من حديث أمنا عائشة ، قلت: روي أيضاً عن أمنا أم سلمة ، وروي عن أسماء بنت أبي بكر ، وروي عن فاطمة بنت المنذر ، والأخبار في ذلك صحيحةٌ كما تقدم معنا تخريجها وبيانها.

اقتداء المؤمنات بأمهاتهن أزواج رسول الله في تغطية الوجه

إن المؤمنات اقتدين بأمهاتهن أزواج نبينا على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه، ثم النساء الصالحات في زمن التابعين ومن جاء بعدهم إلى يوم الدين اقتدين ويقتدين في حجابهن وتغطية وجوههن بأمهات المؤمنين، ولذلك كان من أشنع ما قيل عن الحجاب قول سفيه من السفهاء ضال مضل: غطاء الوجه عادةٌ تركية جاءتنا من الأتراك والمماليك، وما كان يعرف نساء المسلمات الأول غطاء الوجه، يقول: هذا كله جاء من نظام الحريم عند الأتراك وعند الاستعمار العثماني، أما أنه يوجد حجابٌ للوجه في الإسلام فلا.

أيها المخذول الضال! أنت إذا أنصفت قل: إن المؤمنات اقتدين بحجابهن بأمهاتهن؛ لأن إلزام أمهات المؤمنين بالحجاب هذا منصوصٌ عليه في كلام الكريم الوهاب، وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، فإذاً المؤمنات اقتدين بأمهاتهن في حجابهن وستر وجوههن، ولم يقتدين بأتراك، ولا بمماليك، ولا جاءت هذه الخصلة الطيبة المباركة للنساء تأثراً بأحدٍ إلا بأمهاتهن رضي الله عنهن وأرضاهن.

هذا الأمر لا بد من وعيه، فنحن عندما نقول: لا بد على النساء أن يتحجبن، لو لم يكن معنا دليل على إلزام النساء المؤمنات بالحجاب إلا هذا الدليل -أعني: اقتداؤهن بأمهات المؤمنين- لكفى، مع أن الأدلة ما أكثرها! كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله.

وهذا الحجاب -أعني: ستر المرأة لبدنها وعلى الخصوص وجهها- لا يستثنى منه امرأةٌ، سواءٌ كانت شابةً أو هرمةً بلغت مائة سنة، من حيائها وفضلها أن تحجب وجهها، نعم يجوز للهرمة والمسنة القاعد كما في الآية، لكن الأكمل والأفضل الذي هو محل اتفاق بين أئمتنا ما ذكرناه، ولا يخالف في ذلك إلا من غضب الله عليه ولعنه.

ثم إن غطاء الوجه فضيلةٌ وعلامة طهرٍ وحياء وكرامةٍ في المرأة، لا خلاف في ذلك، لكن هل هو بعد ذلك واجبٌ أو لا؟ الجواب عن هذا سيأتينا ضمن مراحل البحث عندما نقرر المسألة الأولى، لكن ما ذكرنا من ستر المرأة وجهها هو علامة على فضل المرأة، وعلى كمال حيائها، وكرامتها، وتقاها، وعفتها، وهو خيرٌ لها، لا خلاف بين أئمتنا في ذلك، ومن خالف هذا فهو مفترٍ على هذه الشريعة، ولم يسبقه إلى قوله إلا إبليس، وهو من أتباعه، وأما أن يقال: إن غطاء الوجه فيه منقصة أو هو مردود... إلى غير هذا، فإنه لم يقل ذلك أحدٌ إلا سفهاء هذا العصر.

قصة في حرص الصالحات من القواعد على ستر الوجه

واسمع لهذه القصة التي يرويها سعيد بن منصور في سننه وابن المنذر في تفسيره، والبيهقي في السنن الكبرى، وإسنادها صحيح، عن عاصم بن سليمان الأحول وهو أبو عبد الرحمن ، ثقةٌ، حديثه مخرجٌ في الكتب الستة، تابعي، توفي سنة أربعين ومائةٍ للهجرة، عاصم بن سليمان الأحول ، قال هذا العبد الصالح: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين ، وهي أم الهذيل الفقيهة العابدة، مكثت ثلاثين سنةً لم تخرج من مصلاها، وقال إياس بن معاوية : ما أدركت أحداً في البصرة نفضله على حفصة بنت سيرين ، فقيل له: ولا أخوها محمد بن سيرين ولا الحسن البصري ؟ قال: أما أنا فلا أقدم على حفصة أحداً، هي أفضل من الحسن البصري ، وهي أفضل من محمد بن سيرين في العلم، والتقى، والعبادة، والورع، حسب ما يقول هذا العبد الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وقلت: حديثها في الكتب الستة، ثقةٌ، فقيهةٌ، عالمةٌ، عابدة، هذا كلام أئمتنا قاطبة في ترجمتها.

يقول عاصم بن سليمان الأحول : كنا ندخل عليها، فإذا دخلنا عليها تحجبت، وتلبس جلبابها، فنقول لها: أليس قد قال الله في كتابه: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، أي: أنت امرأة كبيرة جاوزت السبعين، وفقيهة عابدة، لا تخرجين من مصلاك، وإذا جئنا لنتلقى العلم عنك لبست الجلباب وحدثتنا من وراء حجاب، فلم تفعلين ذلك ولك رخصة؟ وأنت قاعد بنص القرآن، فيجوز أن تخلعي الجلباب وأن تقابلي الرجال بالملابس الطويلة التي تستر البدن، وأنت كاشفة الوجه، واليدين؛ لأنك كبيرة، والله نص على استثنائك ورخص لك في كتابه فقال: وَالْقَوَاعِدُ [النور:60]، وهي جمع قاعد، أي: قعد سنها عن طلب النكاح وتطلع الرجال إليها، فإذا رأيتها تغض بصرك طبيعةً لا ديانةً، يعني أنت عندما تراها طبيعتك تنكسر لا خشيةً من الله؛ بل لأن وجهها صار ثلاثين طبقة، وظهرها متقوس، وليس بعد ذلك في فمها سنٌ ولا ضرس، وأحياناً لعابها يسيل، هذه هي القاعد، فإذا بلغت المرأة هذا السن لا حرج عليها أن تظهر وجهها وكفيها، وألا تلبس جلبابها الواسع، تقوم بملابس طويلة أمام الرجال لمصلحةٍ شرعية، فكانت تقول حفصة بنت سيرين : اقرءوا ما بعدها، أكملوا الآية ولا تقفوا، وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، يشترط هذا الشرط، يعني: تقوم بلا غطاءٍ في الوجه، ولا جلبابٍ فضفاض بدون أن يكون هناك زينة وتطلع للشهوة الإنسانية، هذه قالت: اقرءوا ما بعدها: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]، يعني: أن تجعل الشيخة نفسها كأنها شابةٌ لا أقول: بنت عشرين، بل بنت أربع عشرة، فتحتاط في لباسها، ولا تظهر شيئاً من بدنها، لا من ظفر ولا من وجه، فهذا خيرٌ لها بنص القرآن، هذا بالنسبة للقاعد التي زادت على السبعين وانقطع أمل الرجال فيها في كل حين، فهذه إذا استعفت وسترت وجهها وقابلت الناس بجلبابها الواسع الفضفاض فهذا خيرٌ لها بنص القرآن، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

هذه حفصة بنت سيرين الفقيهة العابدة الحيية التقية الورعة رضي الله عنها وأرضاها، وتوفيت بعد سنة مائةٍ للهجرة، تفعل هذا الفعل، تلقت هذا حتماً من بيت النبوة؛ لأن مولاها أنس بن مالك رضي الله عنه، ووالدها سيرين كان عبداً عند أنس ، وأنس خادم النبي عليه الصلاة والسلام، فإشعاعات النبوة ونور النبوة في هذا البيت الطاهر عند حفصة بنت سيرين .

إذا كانت أمنا عائشة تتحجب من الأعمى كما تقدم معنا، وتتحجب من الميت، فكيف هذه لا تتحجب من الحي الذي يبصر؟! لا يمكن هذا أبداً، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

إثبات أن عادة النساء على مر العصور تغطية الوجه

إخوتي الكرام! وهذا الخلق، أعني ستر وجه المرأة هو الذي سار عليه عمل النساء الصالحات في سائر العصور حتى في هذا العصر الحالي، لا تتحجب إلا من كانت حييةً صالحةً طاهرة، ولا تكشف امرأةٌ عن وجهها إلا لريبةٍ فيها وخيانةٍ في نفسها، فستر الوجه علامة الحياء، وهذا ينبغي أن يصاحب المرأة في كل وقت، ولذلك قرر الإمام الغزالي في الإحياء، وانظروا كلامه في الجزء الثالث، صفحة ثمانٍ وأربعين إلى تسعٍ وأربعين عندما بحث في موضوع خروج المرأة إلى المسجد في كتاب النكاح من كتابه الإحياء، يقول: الأصوب الآن المنع إلا للعجائز، والذي يظهر والعلم عند الله أن الحكم الشرعي يبقى جائزاً للعجائز وللصبايا بالضوابط الشرعية التي رخص فيها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فيخرجن إلى المسجد وهن تفلات، أي: تاركات للطيب وللزينة، متحجباتٍ مستورات.

ثم قال الغزالي -وهذا محل الشاهد الذي أريده-: ولم يزل الرجال على ممر الأزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، يقول: على مر العصور، والغزالي من القرن السادس للهجرة، توفي سنة خمسمائة وخمسة، ومعنى كلامه أن: عادة النساء على ممر العصور منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى القرن السادس للهجرة أن النساء يخرجن منتقبات، وأما الرجال فيكشفون عن وجوههم، فالمرأة هي التي تستر؛ لأنها عرضٌ يصان، وتلازم البيت، والرجل عمله خارج البيت، فلو أمر بالحجاب كما أمرت المرأة لشق ذلك عليه، فلا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل، لكن المرأة خروجها من البيت قليل، ثم بعد ذلك هي مستورة تغض طرفها، وعليه لم يؤمر الرجل بالنقاب، وأمرت به المرأة، ولم يزل النساء يخرجن منتقبات على ممر الزمان من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى عهدنا.

وهذا الكلام نقله عنه أيضاً الإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، وأقره عليه، ونقله قبله الحافظ ابن حجر في الفتح، في الجزء التاسع صفحة سبعٍ وثلاثين وثلاثمائة، وعلق عليه بما يفيد إقراره له، فقال: استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال.

حاصل كلامه هذا هو: أن عمل المسلمين جرى على أن يخرج نِساؤهم في كل مصر وفي كل بلد وفي كل قطر وفي كل قرية وهن منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال. ‏

تغطية وجه المرأة في الإحرام

أما الحج الذي لا تنتقب فيه المرأة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في المسند وصحيح البخاري ، ورواه أهل السنن الثلاثة: أبو داود والنسائي والترمذي وقرره في صحيحه، فهو حديثٌ صحيحٌ كالشمس، لكن اختلف في رفعه وفي وقفه على ابن عمر ، والمعتمد أنه مرفوعٌ من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وإن رجح الحافظ في الفتح أنه موقوفٌ على ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين)، والنقاب الذي منعت منه المحرمة هو اللباس الخاص بالوجه وهو البرقع الذي يكون بحجم العضو، فهذا نهيت عنه، كما تقدم معنا في كلام أمنا عائشة : لا أتلثم، لكن أسدل، وهنا لا تلبس البرقع، أي: لا تتلثم، ولا تلبس شيئاً يحيط بالوجه كالقفازين يحيط بالكفين، إنما تستر يديها بشيءٍ تسدله على يديها، وتستر وجهها بشيءٍ تسدله على وجهها أيضاً دون أن تلبس البرقع، دون أن تتلثم كما تقدم معنا.

ففي الحج المرأة التي نهيت في الأصل عن النقاب لحكمةٍ يعلمها الله ولا نعلمها، كما أنه نهي الرجل عن لبس السراويل وعن لبس المخيط لحكمةٍ يعلمها الله ولا نعلمها، وهذه ليست من باب العقوبة في هذا التكليف، فما كلفنا الله بشيءٍ يعاقبنا عليه، والتكليف الجزائي مرفوعٌ عن هذه الأمة، فرفع الله عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، نعم قد نكلف بما فيه امتحانٌ للعبودية، وتحقيقٌ للتوحيد الخالص، وأنت عبد فلا بد أن تلتزم، وهكذا المرأة التي تلتزم بالبرقع وتلبس لباساً خاصاً في وجهها، فإنها في الحج تزيله وتسدل من ثوبها على وجهها، وهكذا الرجل الذي يستر رأسه بعمةٍ، وهذا يعني أن بعض الملابس والزينة نهي عنها في الإحرام؛ تذللاً لله جل وعلا، وكما قلت: فهذا التكليف ليس من باب التكليف الجزائي للمعاقبة كما حرم الله على بني إسرائيل ما حرم عليهم بظلمٍ منهم، وغاية ما يقال: العلة فيه: امتحان العباد، وإظهار مدى صدقهم في توحيد ربهم جل وعلا، وهنا كذلك منعت المرأة عن لبس هذا اللباس الخاص في وجهها وفي كفيها، أعني: القفازين والبرقع واللثام، وما عدا هذا ينبغي أن تستر وجهها في الإحرام.

يقول الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح في الجزء الثالث صفحة ستٍ وأربعمائة، حاكياً الإجماع عن شيخ الإسلام وإمام المسلمين في زمنه محمد بن المنذر ، وهو من علماء القرن الرابع للهجرة.

فيقول: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله، والرجل منهيٌ عن لبس المخيط، والخفاف، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها، إلا وجهها، فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال.

إذاً: هذا قول أئمة الإسلام قاطبةً، لا يستثنى من ذلك إمامٌ من الأئمة، أجمع أئمة الإسلام على حق المرأة في الإحرام أن تلبس المخيط، والخفاف، وتستر شعرها، وتسدل على وجهها من ثوبها لكي تستتر به عن نظر الرجال، هذا وهي محرمة، قال: ولا تخمره، والتخمير: هو أن تشد الخرقة والثوب والغطاء والخمار على وجهها، ولا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر ، تقدم معنا حديثها في الموطأ بسندٍ صحيحٍ كالشمس: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر )، رضي الله عنهن أجمعين.

ثم قال ابن المنذر : ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً كما جاء عن أمنا عائشة ، وهذا الاحتمال هو المراد من تخمير فاطمة والمؤمنات في ذلك الوقت لوجوههن رضي الله عنهن، (نخمر وجوهنا)، أي: نستر، والخمار: هو الشيء الساتر وليس المراد اللثام أو البرقع، فيقول: أجمع المسلمون على أن المرأة تسدل شيئاً على وجهها، تستر وجهها عن نظر الرجال، ولا تخمر الوجه ببرقع أو شيء يلاصق، وقوله: (إلا ما روي عن فاطمة) يعني: أن هذا ليس فيه إجماع، ثم قال: ولعل ما روي عن فاطمة هو من باب السدل أيضاً.

خلاصة الكلام: أن ستر الوجه تطالب به المرأة حتى في الإحرام وهي حول بيت الله الحرام، وكل من قال: إن المرأة ينبغي أن تظهر وجهها في الإحرام كما يظهر الرجل رأسه فهو واهمٌ غافل، لا يعي الحكم الشرعي، ولا يعرف مقصود الشارع من كلامه.

بيان ابن القيم لمسألة تغطية وجه المرأة في الإحرام

وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد، في الجزء الثالث صفحة اثنتين وأربعين ومائة إلى هذه القضية، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لها كشف الوجه في الإحرام ولا غيره؛ لكن الناس من حديث: (لا تنتقب المحرمة) فهموا خلاف ما يريده النبي عليه الصلاة والسلام، فانتبه للتعليل الشرعي: إنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصةً كما جاء بالنهي عن القفازين، وجاء بالنهي عن لبس القميص والسراويل، بمعنى أن الرجل نهي عن لبس السراويل التي تواري العورة فهل في الإحرام يكشف عورته؟ الجواب: أنه يسترها لكن بغير السراويل، كذلك المرأة لا تلبس البرقع، فليس المعنى أن تكشف الوجه، ومعلومٌ أن نهيه عن لبس هذه الأشياء لم يرد أن تكون الأعضاء مكشوفةً لا تستر البتة، بل قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها، وأن الرجل يستر بدنه بالرداء وأسافله بالإزار، مع أن مخرج النهي عن النقاب والقفازين والقميص والسراويل واحد، وكيف يزاد على موجب النص، ويفهم منه أنه شرع لها كشف وجهها بين الملأ جهاراً، فأي مفهوم اقتضى هذا؟ أو أي عموم، أو قياسٍ، أو مصلحة؟ بل وجه المرأة المحرمة كبدن الرجل، يحرم ستره بالمفصل على قدره، وهو البرقع، كما يحرم عليك حال إحرامك أن تلبس قميصك، أما أن تلبس إزاراً ورداءً فلا حرج، كذلك المرأة يحرم أن تستر وجهها وهي محرمة بالنقاب والبرقع، ويدها بالقفاز وأما سترها بالكم، وستر الوجه بالملاءة والخمار والثوب فلم ينه عنه البتة، ومن قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه بذلك نصٌ ولا عموم، ولا يصح قياسه على رأس المحرم، لما جعل الله بينهما من الفرق.

وقول من قال من السلف: إحرام المرأة بوجهها إنما أراد به هذا المعنى، أي: لا يلزمها اجتناب اللباس كما يلزم الرجل، بل يلزمها اجتناب النقاب، فيكون وجهها كبدن الرجل، ولو قدر أنه أراد أنها تكشفه فقوله ليس بحجةٍ ما لم يسبق عن صاحب الشرع أنه قال ذلك، وأراد به وجوب كشف الوجه، ولا سبيل إلى واحدٍ من الأمرين.

وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كنا إذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا الجلباب على وجهها)، وأمهات المؤمنين ونساء الصحابة هن أعلم الناس بحكم ما يتعلق بهن، وبالحديث الذي وجه إليهن: (لا تنتقب المحرمة)، ولم تكن إحداهن تتخذ عوداً تجعله بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعض الفقهاء، ولا يعرف هذا عن امرأةٍ من نساء الصحابة، ولا أمهات المؤمنين البتة، لا عملاً ولا فتوى، ومستحيلٌ أن يكون هذا من شعار الإحرام، ولا يكون ظاهراً مشهوراً بينهن، يعرفه الخاص والعام، ومن آثر الإنصاف وسلك سبيل العلم والعدل تبين له راجح المذاهب من مرجوحها، وفاسدها من صحيحها، والله الموفق والهادي.

هذا الأمر الذي قرره ابن القيم هو ما تتابع عليه أئمتنا، يقول الإمام الصنعاني في سبل السلام: يحرم عليها -يعني: على المحرمة- النقاب والبرقع، وهو المفصل على قدر ستر الوجه؛ لأنه ورد به النص، كما ورد بالنهي عن القميص للرجل، مع جواز ستر الرجل لبدنه بغيره بالاتفاق، يعني: بغير القميص، فكذلك المحرمة تستر وجهها بغير ما ذكر، كالخمار والثوب، ومن قال: وجهها كرأس الرجل المحرم فلا دليل معه.

ثم تعرض الصنعاني أيضاً للوجه قبل ذلك في سبل السلام، عند أحكام العورة وما ينبغي أن تستره المرأة من بدنها في الصلاة، في الجزء الأول صفحة ستٍ وسبعين ومائة، فقال: يباح كشف وجهها، أي: عند صلاتها ومناجاتها لربها، حيث لم يأت دليلٌ بتغطيته -انتبه- والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة.

والإمام ابن القيم في إعلام الموقعين، في الجزء الثاني صفحة إحدى وستين ذكر نحو هذا الكلام، وأن المرأة ينبغي أن تحجب وجهها، وأن تستره في إحرامٍ أو في غيره، لكنها في غير الإحرام تستره عن طريق السدل أو عن طريق البرقع وفوقه سدل، أو عن طريق اللثام وفوقه سدل، وإذا لبست الحجاب والاحتياط فلها ذلك، وإن أرادت أن تستره بسدلٍ فقط فلها ذلك، أما في الإحرام فلا يجوز لها تغطية الوجه إلا بسدلٍ، فلا تلبس البرقع، ولا تتلثم كما تقدم معنا في الروايات الدالة على ذلك.

إن المؤمنات اقتدين بأمهاتهن أزواج نبينا على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه، ثم النساء الصالحات في زمن التابعين ومن جاء بعدهم إلى يوم الدين اقتدين ويقتدين في حجابهن وتغطية وجوههن بأمهات المؤمنين، ولذلك كان من أشنع ما قيل عن الحجاب قول سفيه من السفهاء ضال مضل: غطاء الوجه عادةٌ تركية جاءتنا من الأتراك والمماليك، وما كان يعرف نساء المسلمات الأول غطاء الوجه، يقول: هذا كله جاء من نظام الحريم عند الأتراك وعند الاستعمار العثماني، أما أنه يوجد حجابٌ للوجه في الإسلام فلا.

أيها المخذول الضال! أنت إذا أنصفت قل: إن المؤمنات اقتدين بحجابهن بأمهاتهن؛ لأن إلزام أمهات المؤمنين بالحجاب هذا منصوصٌ عليه في كلام الكريم الوهاب، وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، فإذاً المؤمنات اقتدين بأمهاتهن في حجابهن وستر وجوههن، ولم يقتدين بأتراك، ولا بمماليك، ولا جاءت هذه الخصلة الطيبة المباركة للنساء تأثراً بأحدٍ إلا بأمهاتهن رضي الله عنهن وأرضاهن.

هذا الأمر لا بد من وعيه، فنحن عندما نقول: لا بد على النساء أن يتحجبن، لو لم يكن معنا دليل على إلزام النساء المؤمنات بالحجاب إلا هذا الدليل -أعني: اقتداؤهن بأمهات المؤمنين- لكفى، مع أن الأدلة ما أكثرها! كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله.

وهذا الحجاب -أعني: ستر المرأة لبدنها وعلى الخصوص وجهها- لا يستثنى منه امرأةٌ، سواءٌ كانت شابةً أو هرمةً بلغت مائة سنة، من حيائها وفضلها أن تحجب وجهها، نعم يجوز للهرمة والمسنة القاعد كما في الآية، لكن الأكمل والأفضل الذي هو محل اتفاق بين أئمتنا ما ذكرناه، ولا يخالف في ذلك إلا من غضب الله عليه ولعنه.

ثم إن غطاء الوجه فضيلةٌ وعلامة طهرٍ وحياء وكرامةٍ في المرأة، لا خلاف في ذلك، لكن هل هو بعد ذلك واجبٌ أو لا؟ الجواب عن هذا سيأتينا ضمن مراحل البحث عندما نقرر المسألة الأولى، لكن ما ذكرنا من ستر المرأة وجهها هو علامة على فضل المرأة، وعلى كمال حيائها، وكرامتها، وتقاها، وعفتها، وهو خيرٌ لها، لا خلاف بين أئمتنا في ذلك، ومن خالف هذا فهو مفترٍ على هذه الشريعة، ولم يسبقه إلى قوله إلا إبليس، وهو من أتباعه، وأما أن يقال: إن غطاء الوجه فيه منقصة أو هو مردود... إلى غير هذا، فإنه لم يقل ذلك أحدٌ إلا سفهاء هذا العصر.

واسمع لهذه القصة التي يرويها سعيد بن منصور في سننه وابن المنذر في تفسيره، والبيهقي في السنن الكبرى، وإسنادها صحيح، عن عاصم بن سليمان الأحول وهو أبو عبد الرحمن ، ثقةٌ، حديثه مخرجٌ في الكتب الستة، تابعي، توفي سنة أربعين ومائةٍ للهجرة، عاصم بن سليمان الأحول ، قال هذا العبد الصالح: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين ، وهي أم الهذيل الفقيهة العابدة، مكثت ثلاثين سنةً لم تخرج من مصلاها، وقال إياس بن معاوية : ما أدركت أحداً في البصرة نفضله على حفصة بنت سيرين ، فقيل له: ولا أخوها محمد بن سيرين ولا الحسن البصري ؟ قال: أما أنا فلا أقدم على حفصة أحداً، هي أفضل من الحسن البصري ، وهي أفضل من محمد بن سيرين في العلم، والتقى، والعبادة، والورع، حسب ما يقول هذا العبد الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وقلت: حديثها في الكتب الستة، ثقةٌ، فقيهةٌ، عالمةٌ، عابدة، هذا كلام أئمتنا قاطبة في ترجمتها.

يقول عاصم بن سليمان الأحول : كنا ندخل عليها، فإذا دخلنا عليها تحجبت، وتلبس جلبابها، فنقول لها: أليس قد قال الله في كتابه: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، أي: أنت امرأة كبيرة جاوزت السبعين، وفقيهة عابدة، لا تخرجين من مصلاك، وإذا جئنا لنتلقى العلم عنك لبست الجلباب وحدثتنا من وراء حجاب، فلم تفعلين ذلك ولك رخصة؟ وأنت قاعد بنص القرآن، فيجوز أن تخلعي الجلباب وأن تقابلي الرجال بالملابس الطويلة التي تستر البدن، وأنت كاشفة الوجه، واليدين؛ لأنك كبيرة، والله نص على استثنائك ورخص لك في كتابه فقال: وَالْقَوَاعِدُ [النور:60]، وهي جمع قاعد، أي: قعد سنها عن طلب النكاح وتطلع الرجال إليها، فإذا رأيتها تغض بصرك طبيعةً لا ديانةً، يعني أنت عندما تراها طبيعتك تنكسر لا خشيةً من الله؛ بل لأن وجهها صار ثلاثين طبقة، وظهرها متقوس، وليس بعد ذلك في فمها سنٌ ولا ضرس، وأحياناً لعابها يسيل، هذه هي القاعد، فإذا بلغت المرأة هذا السن لا حرج عليها أن تظهر وجهها وكفيها، وألا تلبس جلبابها الواسع، تقوم بملابس طويلة أمام الرجال لمصلحةٍ شرعية، فكانت تقول حفصة بنت سيرين : اقرءوا ما بعدها، أكملوا الآية ولا تقفوا، وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ [النور:60]، يشترط هذا الشرط، يعني: تقوم بلا غطاءٍ في الوجه، ولا جلبابٍ فضفاض بدون أن يكون هناك زينة وتطلع للشهوة الإنسانية، هذه قالت: اقرءوا ما بعدها: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ [النور:60]، يعني: أن تجعل الشيخة نفسها كأنها شابةٌ لا أقول: بنت عشرين، بل بنت أربع عشرة، فتحتاط في لباسها، ولا تظهر شيئاً من بدنها، لا من ظفر ولا من وجه، فهذا خيرٌ لها بنص القرآن، هذا بالنسبة للقاعد التي زادت على السبعين وانقطع أمل الرجال فيها في كل حين، فهذه إذا استعفت وسترت وجهها وقابلت الناس بجلبابها الواسع الفضفاض فهذا خيرٌ لها بنص القرآن، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

هذه حفصة بنت سيرين الفقيهة العابدة الحيية التقية الورعة رضي الله عنها وأرضاها، وتوفيت بعد سنة مائةٍ للهجرة، تفعل هذا الفعل، تلقت هذا حتماً من بيت النبوة؛ لأن مولاها أنس بن مالك رضي الله عنه، ووالدها سيرين كان عبداً عند أنس ، وأنس خادم النبي عليه الصلاة والسلام، فإشعاعات النبوة ونور النبوة في هذا البيت الطاهر عند حفصة بنت سيرين .

إذا كانت أمنا عائشة تتحجب من الأعمى كما تقدم معنا، وتتحجب من الميت، فكيف هذه لا تتحجب من الحي الذي يبصر؟! لا يمكن هذا أبداً، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60].

إخوتي الكرام! وهذا الخلق، أعني ستر وجه المرأة هو الذي سار عليه عمل النساء الصالحات في سائر العصور حتى في هذا العصر الحالي، لا تتحجب إلا من كانت حييةً صالحةً طاهرة، ولا تكشف امرأةٌ عن وجهها إلا لريبةٍ فيها وخيانةٍ في نفسها، فستر الوجه علامة الحياء، وهذا ينبغي أن يصاحب المرأة في كل وقت، ولذلك قرر الإمام الغزالي في الإحياء، وانظروا كلامه في الجزء الثالث، صفحة ثمانٍ وأربعين إلى تسعٍ وأربعين عندما بحث في موضوع خروج المرأة إلى المسجد في كتاب النكاح من كتابه الإحياء، يقول: الأصوب الآن المنع إلا للعجائز، والذي يظهر والعلم عند الله أن الحكم الشرعي يبقى جائزاً للعجائز وللصبايا بالضوابط الشرعية التي رخص فيها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فيخرجن إلى المسجد وهن تفلات، أي: تاركات للطيب وللزينة، متحجباتٍ مستورات.

ثم قال الغزالي -وهذا محل الشاهد الذي أريده-: ولم يزل الرجال على ممر الأزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، يقول: على مر العصور، والغزالي من القرن السادس للهجرة، توفي سنة خمسمائة وخمسة، ومعنى كلامه أن: عادة النساء على ممر العصور منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى القرن السادس للهجرة أن النساء يخرجن منتقبات، وأما الرجال فيكشفون عن وجوههم، فالمرأة هي التي تستر؛ لأنها عرضٌ يصان، وتلازم البيت، والرجل عمله خارج البيت، فلو أمر بالحجاب كما أمرت المرأة لشق ذلك عليه، فلا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل، لكن المرأة خروجها من البيت قليل، ثم بعد ذلك هي مستورة تغض طرفها، وعليه لم يؤمر الرجل بالنقاب، وأمرت به المرأة، ولم يزل النساء يخرجن منتقبات على ممر الزمان من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى عهدنا.

وهذا الكلام نقله عنه أيضاً الإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، وأقره عليه، ونقله قبله الحافظ ابن حجر في الفتح، في الجزء التاسع صفحة سبعٍ وثلاثين وثلاثمائة، وعلق عليه بما يفيد إقراره له، فقال: استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال.

حاصل كلامه هذا هو: أن عمل المسلمين جرى على أن يخرج نِساؤهم في كل مصر وفي كل بلد وفي كل قطر وفي كل قرية وهن منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال. ‏


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4045 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3979 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3906 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3793 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3771 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3570 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3465 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3418 استماع