شرح زاد المستقنع - كتاب الجنايات [1]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[كتاب الجنايات.

وهي عمدٌ يختص القود به بشرط القصد، وشبه عمدٍ، وخطأ، فالعمد أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به، مثل أن يجرحه بما له مور في البدن، أو يضربه بحجر كبير ونحوه، أو يلقي عليه حائطاً، أو يلقيه من شاهق، أو في نار، أو ماء يغرقه، ولا يمكنه التخلص منهما، أو يخنقه، أو يحبسه ويمنعه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً، أو يقتله بسحر، أو سم، أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله ونحو ذلك.

وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً ولم يجرحه بها، كمن ضربه في غير مقتل بسوط أو عصاً صغيرة، أو لكزه ونحوه.

والخطأ أن يفعل ما له فعله، مثل أن يرمي صيداً أو غرضاً أو شخصاً فيصيب آدمياً لم يقصده، وعمد الصبي والمجنون. فصل: تقتل الجماعة بواحد].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (كتاب الجنايات).

بدأ المؤلف رحمه الله تعالى مؤلفه بأحكام العبادات، ثم ما يتعلق بأحكام المعاملات وأحكام التبرعات، ثم بعد ذلك ما يتعلق بأحكام الأنكحة، ثم بعد أحكام الأنكحة شرع رحمه الله تعالى في أحكام الجنايات، وهكذا العلماء رحمهم الله تعالى يُرتبون تآليفهم ومصنفاتهم في الجملة.

وتقدم لنا ما يتعلق بمناسبة هذا الترتيب، فالمؤلف رحمه الله تعالى أخر كتاب الجنايات لأمرين:

الأمر الأول: أن الأصل في المسلم عدم الجناية والاعتداء على أحد.

والأمر الثاني: أن الجناية إنما تكون عند حصول البطر والأشر، فعندما يبيع ويشتري ويأكل تحصل شهوة البطن، وإذا نكح حصلت شهوة الفرج، فإذا حصلت له الشهوتان ربما حمله ذلك على الأشر والبطر والتعدي، فناسب أن تُذكر أحكام الجنايات بعد أحكام المعاملات وبعد أحكام الأنكحة.

الجنايات جمع جناية، وهي لغة: التعدي على البدن أو العِرض أو المال.

فالتعدي على البدن جناية، والتعدي على المال جناية، والتعدي على العِرض أيضاً جناية.

وأما في الاصطلاح فالمراد بها التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً أو مالاً. ويبحث العلماء رحمهم الله في هذا الباب عن أحكام التعدي على الأبدان في النفس وفيما دون النفس.

أما التعدي على الأموال فلا يبحثونه هنا، وإن كان جناية بالمعنى العام لكنه ليس جناية بالمعنى الخاص، فالتعدي على المال يبحثونه في باب الغصب، وكذلك أيضاً فيما يتعلق بحد قطع السرقة، وفي حد قطاع الطريق، وفي الإتلافات ونحو ذلك، وأما التعدي على الأعراض فيبحثونه في باب حد الزنا وفي باب حد القتل ونحو ذلك.

فنفهم أن قوله هنا: كتاب الجنايات. أن المراد به التعدي على الأبدان فقط، أما التعدي على الأموال أو على الأعراض وإن كانت جناية بالمعنى العام إلا أنها لا تُبحث هنا.

قال رحمه الله تعالى: (وهي عمدٌ يختص القود به بشرط القصد).

الجناية على النفس تنقسم إلى ثلاثة أقسام عند الشافعية والحنابلة: عمد وشبه عمد وخطأ.

وأما المالكية فإنهم يقسمونها قسمين: عمدٌ وخطأ، وليس عندهم شبه العمد.

وأما الحنفية فيقولون: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وما يجري مجري الخطأ، وسيأتينا إن شاء الله.

وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (عمدٌ يختص القود به)، يؤخذ منه أن من أضرب الجناية قتل العمد، وسيأتي بيان ضابطه، وذكر أن القود -يعني: القصاص- خاص بالعمد، وهذا ما دل عليه القرآن في قول الله عز وجل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178]، ودلت عليه السنة وسيأتينا إن شاء الله.

وقوله: (يختص القود به).

هذا من الفروق بين قتل العمد، وبين شبه العمد والخطأ، فالعمد وشبه العمد يتفقان في أشياء ويختلفان في أشياء، يتفقان على قصد الجناية، هذا الأمر الأول الذي يتفقان فيه.

الأمر الثاني: مما يتفقان فيه: الإثم، وأن في كل منهما إثماً، وتجب التوبة، وإن كان الإثم يختلف.

الأمر الثالث: أن الدية في كل منهما مغلظة، فالدية في العمد -إذا لم يكن هناك قصاص- مغلظة، وكذلك أيضاً الدية في شبه العمد مغلظة.

ويختلفان في أمور: الأمر الأول: أن العمد يختص به القود، فالقصاص إنما يكون في قتل العمد وأما شبه العمد فإنه لا قصاص فيه.

الأمر الثاني: أن الجناية في العمد تقتل غالباً، وأما في شبه العمد فإنها لا تقتل غالباً.

الأمر الثالث: أن العمد لا كفارة فيه، وأما شبه العمد فإن الكفارة فيه واجبة.

الأمر الرابع: أن الدية في القتل العمد على القاتل نفسه فلا تتحملها العاقلة، وأما الدية في شبه العمد فإنها على عاقلة الجاني.

كذلك أيضاً شبه العمد والخطأ يتفقان في أمور ويختلفان في أمور، فأما الأمور التي يتفقان فيها فهي:

الأمر الأول: أنه لا قصاص فيهما.

الأمر الثاني: وجوب الكفارة فيهما، فالكفارة واجبة في قتل الخطأ وكذلك أيضاً في شبه العمد.

الأمر الثالث: أن الدية على العاقلة في كل منهما.

ويختلفان في أمور هي:

الأمر الأول: أن الدية في شبه العمد مغلظة، وأما الدية في الخطأ فغير مغلظة.

الأمر الثاني: أن الجناية في شبه العمد مقصودة، وأما الجناية في الخطأ فغير مقصودة.

الأمر الثالث: أن الجاني في شبه العمد آثم، وعليه التوبة، وأما الجاني في الخطأ فإنه غير آثم.

قال رحمه الله: (وهي عمد يختص القود به بشرط القصد، فالعمد أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به مثل أن يجرحه) ... إلخ.

حكم القتل وبيان خطورته

القتل العمد محرم ولا يجوز، وهو من كبائر الذنوب، والله عز وجل توعد القاتل بقوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعمداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93].

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً).

قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لزوال الكعبة أهون على الله عز وجل من إراقة دم المسلم.

وهل توبته مقبولة أو غير مقبولة؟

مذهب أهل السنة والجماعة أن من أتى كبيرة من كبائر الذنوب وتاب فإن توبته مقبولة، وإذا مات ولم يتب فإنه تحت المشيئة إن شاء الله عز وجل غفر له وإن شاء عذبه بقدر جنايته. ولا يخرج من الإسلام بفعل الكبيرة خلافاً لما عليه الخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج يرون أنه خالد مخلد في النار، وأنه خرج من الإسلام ودخل في الكفر، والمعتزلة يرون أنه في منزلة بين المنزلتين، وهو في الآخرة في النار.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: القاتل تتعلق به ثلاثة حقوق:

الحق الأول: حق الله عز وجل وهذا يسقط بالتوبة.

الحق الثاني: حق أولياء الدم وهذا يسقط بتسليم نفسه لأولياء الدم، فإذا سلم نفسه لأولياء الدم فإنه يسقط حقهم، إما أن يقتصوا وإما أن يأخذوا الدية.

والحق الثالث: حق المقتول وهذا يبقى في الآخرة، لكن إذا تاب وحسُنت توبته فإن الله سبحانه وتعالى يتحمل عنه.

ضابط القتل العمد

عرف المؤلف رحمه الله تعالى العمد بقوله: (أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به، مثل أن يجرحه بما له مور في البدن، أو يضربه بحجر كبير ونحوه).

يؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه يكون عمداً إذا توفر فيه أمران، وهذا هو ضابط العمد.

الأمر الأول: قصد الجناية، قال: (أن يقصد).

الأمر الثاني: أن (يقتله بما يغلب على الظن موته به).

وقد ذكر المؤلف رحمه الله جملة من الصور، وإنما ذكر هذه الصور؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يخالف في ذلك، فيقول: العمد لابد أن يكون في حديد، أو ما يقوم مقام الحديد في تفريق البدن، كخشب له حد بحيث أنه يُفرق البدن.

ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله: إذا أغرقه أو حرقه بالنار أو ألقى عليه حائطاً، أو جرحه بما له مور في البدن. أي: له دخول في البدن.

كسكين أو إبرة أو مسمار أو نحو ذلك فإن هذا ينقسم إلى قسمين.

القسم الأول: أن يكون ذلك في مقتل، كالخصية أو القلب، فهذا عمد.

القسم الثاني: أن يكون في غير مقتل مثل الكتف أو الفخذ، فإن لم يمت في الحال فمكث يومين أو ثلاثة أيام ولم يمت فهذا ليس عمداً، والظاهر أنه عمد؛ لأنه مات من هذه الإصابة.

وإن مات في الحال فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فمن أهل العلم من يرى أنه عمد، ومنهم من يرى أنه ليس عمداً، والذي يظهر والله أعلم أن هذه الأشياء يُرجع فيها إلى الطب، وسؤال المختصين، هل هذا له أثر في القتل أو لا؟

قال المؤلف رحمه الله: (أو يضربه بحجر كبير ونحوه)، إذا ضربه بحجر كبير فهذا مما يقتل غالباً فإنه عمد.

ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا ضربه بحجر صغير لا يكون عمداً، وإنما يكون شبه عمد؛ لأن الضرب بالحجر الصغير لا يقتل غالباً فيكون شبه عمد، ويدل لذلك حديث أنس رضي الله عنه (أن يهودياً رض جارية على أوضاح حُلي من الدراهم بحجر، فرض النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين) مما يدل على أنه عمد.

قال رحمه الله: (ونحوه) كسندان أو غير ذلك.

قال: (أو يُلقي عليه حائطاً).

إذا ألقى عليه حائطاً فإن القتل يكون عمداً؛ لأن هذا مما يقتل غالباً خلافاً للحنفية، (أو يلقيه من شاهق)، كذلك إذا ألقاه من مكان عالٍ عمداً فإنه عمد؛ لأن هذا مما يقتل في الغالب أيضاً.

ويؤخذ من كلام المؤلف أنه إذا ألقاه من مكان غير شاهق كما لو ألقاه من فوق طاولة فليس بعمد، ويكون شبه عمد؛ لأن شبه العمد لا يقتل غالباً، وأما العمد فإنه يقتل غالباً.

قال رحمه الله: (أو في نار). إذا ألقاه في نار عمداً فإنه عمد؛ لأن هذا مما يقتل غالباً، (أو ماء يغرقه)، يعني: ماء كثيرا، أما إذا ألقاه في ماء قليل فهذا شبه عمد وليس عمداً.

قال رحمه الله: (ولا يمكنه التخلص منهما). ويؤخذ من كلام المؤلف أنه إذا ألقاه في ماء ويمكنه أن يتخلص منه، أو ألقاه في نار ويمكنه أن يتخلص من هذه النار أنه ليس عمداً، وإنما هو شبه عمد.

قال رحمه الله: (أو يخنقه)، الخنق هو أن يمنع خروج نفس المجني عليه كأن يخنقه بثوب أو حبل ونحو ذلك فهذا عمد؛ لأن هذا مما يقتل غالباً.

قال رحمه الله: (أو يحبسه ويمنع عنه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً).

إذا حبسه ومنع منه الطعام أو الشراب مدة يموت منها غالباً، كثلاثة أيام أو أربعة أيام فالغالب أنه يموت، لكن لو جلس ساعتين، أو ثلاث ساعات، أو عشر ساعات فهذه لا تقتل غالباً.

إذاً فالحبس عن الطعام لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يمنعه الطعام والشراب مدة يموت فيها غالباً فهذا عمد.

والقسم الثاني: أن يمنعه الطعام والشراب مدة لا يموت فيها غالباً فليس بعمد وإنما هو من شبه العمد لوجود قصد الجناية.

قال رحمه الله: (أو يقتله بسحر).

إذا قتله بسحر وكان هذا السحر عند العارفين بمثل هذه الأشياء يقتل فإنه عمد؛ لأنه كما تقدم لنا في ضابط قتل العمد أن يقتله بما يغلب على الظن موته به.

قال رحمه الله: (أو سم)، إذا قتله بسم، سقاه سماً، أو دس له سماً في طعام أو شراب ونحو ذلك فهذا مما يقتل غالباً، فإنه عمد.

قال رحمه الله: (أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله ونحو ذلك)، يعني: إذا شهدت بينة بما يوجب قتله، كشاهدة شاهدين أن هذا الرجل ارتد عن دين الإسلام، ثم أُقيم عليه عقوبة المرتد، ثم رجعوا وقالوا: تعمدنا قتله، أو شهد أربعة على هذا الشخص أنه زنى، وأنه مُحصن ثم رُجم، ثم رجعوا وذكروا أنهم تعمدوا قتله، فنقول: هذا عمد؛ لأنه مما يقتل غالباً.

ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري : (أن رجلين شهدا على رجل أنه سرق عند علي رضي الله عنه، فأخذه علي وقطع يده، ثم رجعا وقالا: أخطأنا! فقال علي رضي الله عنه: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما)، أي: لو أعلم أنكما تعمدتما الشهادة عليه وكذبتما وقُطع لقطعتكما.

القتل العمد محرم ولا يجوز، وهو من كبائر الذنوب، والله عز وجل توعد القاتل بقوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعمداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93].

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً).

قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لزوال الكعبة أهون على الله عز وجل من إراقة دم المسلم.

وهل توبته مقبولة أو غير مقبولة؟

مذهب أهل السنة والجماعة أن من أتى كبيرة من كبائر الذنوب وتاب فإن توبته مقبولة، وإذا مات ولم يتب فإنه تحت المشيئة إن شاء الله عز وجل غفر له وإن شاء عذبه بقدر جنايته. ولا يخرج من الإسلام بفعل الكبيرة خلافاً لما عليه الخوارج والمعتزلة، فإن الخوارج يرون أنه خالد مخلد في النار، وأنه خرج من الإسلام ودخل في الكفر، والمعتزلة يرون أنه في منزلة بين المنزلتين، وهو في الآخرة في النار.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: القاتل تتعلق به ثلاثة حقوق:

الحق الأول: حق الله عز وجل وهذا يسقط بالتوبة.

الحق الثاني: حق أولياء الدم وهذا يسقط بتسليم نفسه لأولياء الدم، فإذا سلم نفسه لأولياء الدم فإنه يسقط حقهم، إما أن يقتصوا وإما أن يأخذوا الدية.

والحق الثالث: حق المقتول وهذا يبقى في الآخرة، لكن إذا تاب وحسُنت توبته فإن الله سبحانه وتعالى يتحمل عنه.

عرف المؤلف رحمه الله تعالى العمد بقوله: (أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به، مثل أن يجرحه بما له مور في البدن، أو يضربه بحجر كبير ونحوه).

يؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه يكون عمداً إذا توفر فيه أمران، وهذا هو ضابط العمد.

الأمر الأول: قصد الجناية، قال: (أن يقصد).

الأمر الثاني: أن (يقتله بما يغلب على الظن موته به).

وقد ذكر المؤلف رحمه الله جملة من الصور، وإنما ذكر هذه الصور؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يخالف في ذلك، فيقول: العمد لابد أن يكون في حديد، أو ما يقوم مقام الحديد في تفريق البدن، كخشب له حد بحيث أنه يُفرق البدن.

ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله: إذا أغرقه أو حرقه بالنار أو ألقى عليه حائطاً، أو جرحه بما له مور في البدن. أي: له دخول في البدن.

كسكين أو إبرة أو مسمار أو نحو ذلك فإن هذا ينقسم إلى قسمين.

القسم الأول: أن يكون ذلك في مقتل، كالخصية أو القلب، فهذا عمد.

القسم الثاني: أن يكون في غير مقتل مثل الكتف أو الفخذ، فإن لم يمت في الحال فمكث يومين أو ثلاثة أيام ولم يمت فهذا ليس عمداً، والظاهر أنه عمد؛ لأنه مات من هذه الإصابة.

وإن مات في الحال فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فمن أهل العلم من يرى أنه عمد، ومنهم من يرى أنه ليس عمداً، والذي يظهر والله أعلم أن هذه الأشياء يُرجع فيها إلى الطب، وسؤال المختصين، هل هذا له أثر في القتل أو لا؟

قال المؤلف رحمه الله: (أو يضربه بحجر كبير ونحوه)، إذا ضربه بحجر كبير فهذا مما يقتل غالباً فإنه عمد.

ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله أنه إذا ضربه بحجر صغير لا يكون عمداً، وإنما يكون شبه عمد؛ لأن الضرب بالحجر الصغير لا يقتل غالباً فيكون شبه عمد، ويدل لذلك حديث أنس رضي الله عنه (أن يهودياً رض جارية على أوضاح حُلي من الدراهم بحجر، فرض النبي صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين) مما يدل على أنه عمد.

قال رحمه الله: (ونحوه) كسندان أو غير ذلك.

قال: (أو يُلقي عليه حائطاً).

إذا ألقى عليه حائطاً فإن القتل يكون عمداً؛ لأن هذا مما يقتل غالباً خلافاً للحنفية، (أو يلقيه من شاهق)، كذلك إذا ألقاه من مكان عالٍ عمداً فإنه عمد؛ لأن هذا مما يقتل في الغالب أيضاً.

ويؤخذ من كلام المؤلف أنه إذا ألقاه من مكان غير شاهق كما لو ألقاه من فوق طاولة فليس بعمد، ويكون شبه عمد؛ لأن شبه العمد لا يقتل غالباً، وأما العمد فإنه يقتل غالباً.

قال رحمه الله: (أو في نار). إذا ألقاه في نار عمداً فإنه عمد؛ لأن هذا مما يقتل غالباً، (أو ماء يغرقه)، يعني: ماء كثيرا، أما إذا ألقاه في ماء قليل فهذا شبه عمد وليس عمداً.

قال رحمه الله: (ولا يمكنه التخلص منهما). ويؤخذ من كلام المؤلف أنه إذا ألقاه في ماء ويمكنه أن يتخلص منه، أو ألقاه في نار ويمكنه أن يتخلص من هذه النار أنه ليس عمداً، وإنما هو شبه عمد.

قال رحمه الله: (أو يخنقه)، الخنق هو أن يمنع خروج نفس المجني عليه كأن يخنقه بثوب أو حبل ونحو ذلك فهذا عمد؛ لأن هذا مما يقتل غالباً.

قال رحمه الله: (أو يحبسه ويمنع عنه الطعام أو الشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً).

إذا حبسه ومنع منه الطعام أو الشراب مدة يموت منها غالباً، كثلاثة أيام أو أربعة أيام فالغالب أنه يموت، لكن لو جلس ساعتين، أو ثلاث ساعات، أو عشر ساعات فهذه لا تقتل غالباً.

إذاً فالحبس عن الطعام لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يمنعه الطعام والشراب مدة يموت فيها غالباً فهذا عمد.

والقسم الثاني: أن يمنعه الطعام والشراب مدة لا يموت فيها غالباً فليس بعمد وإنما هو من شبه العمد لوجود قصد الجناية.

قال رحمه الله: (أو يقتله بسحر).

إذا قتله بسحر وكان هذا السحر عند العارفين بمثل هذه الأشياء يقتل فإنه عمد؛ لأنه كما تقدم لنا في ضابط قتل العمد أن يقتله بما يغلب على الظن موته به.

قال رحمه الله: (أو سم)، إذا قتله بسم، سقاه سماً، أو دس له سماً في طعام أو شراب ونحو ذلك فهذا مما يقتل غالباً، فإنه عمد.

قال رحمه الله: (أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله ونحو ذلك)، يعني: إذا شهدت بينة بما يوجب قتله، كشاهدة شاهدين أن هذا الرجل ارتد عن دين الإسلام، ثم أُقيم عليه عقوبة المرتد، ثم رجعوا وقالوا: تعمدنا قتله، أو شهد أربعة على هذا الشخص أنه زنى، وأنه مُحصن ثم رُجم، ثم رجعوا وذكروا أنهم تعمدوا قتله، فنقول: هذا عمد؛ لأنه مما يقتل غالباً.

ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري : (أن رجلين شهدا على رجل أنه سرق عند علي رضي الله عنه، فأخذه علي وقطع يده، ثم رجعا وقالا: أخطأنا! فقال علي رضي الله عنه: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما)، أي: لو أعلم أنكما تعمدتما الشهادة عليه وكذبتما وقُطع لقطعتكما.

قال رحمه الله: (وشبه العمد أن يقصد جناية لا تقتل غالباً ولم يجرحه بها).

تقدم لنا العمد، وعرفنا أن الضابط فيه أمران:

الأمر الأول: قصد الجناية.

والأمر الثاني: أن يقتله بما يغلب على الظن موته به.‏

اختلاف العلماء في ثبوت القتل شبه العمد من عدمه

وأما شبه العمد -وقبل أن نذكر ضابطه- فهل هو ثابت أو ليس بثابت؟ فالمشهور عند الشافعية والحنابلة أن شبه العمد ثابت، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص في سنن أبي داود وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن في قتيل الخطأ وشبه العمد مائة من الإبل، أربعون منها أولادها في بطونها)، وهذا الحديث صححه ابن القطان وابن حبان وغيرهما.

وأيضاً يدل لذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين (في قصة المرأتين اللتين اقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بالفسطاط -عمود الخيمة- فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدية على العاقلة، ولم يقض بالقصاص)، مما يدل على أن هذا من قبيل شبه العمد، ولو كان من قبيل العمد لقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص، ولم يقض بالدية على العاقلة.

الرأي الثاني: رأي المالكية والظاهرية وهو أضيق المذاهب في القتل، قالوا: أنواع القتل: عمد وخطأ فقط، واستدلوا على ذلك بظاهر القرآن؛ فالقرآن إنما ورد فيه العمد والخطأ، ولم يرد فيه شبه العمد: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92]، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعمداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء:93].

والجواب على هذا الاستدلال أن نقول: نعم هاتان الآيتان دلتا على نوعين، والسنة دلت على نوع ثالث وهو شبه العمد.

وأيضاً: النظر يقتضي إثبات شبه العمد؛ لأنه قد يجني جناية لكن هذه الجناية نعرف أنها ليست عمداً؛ لأنها لا تقتل غالباً كما لو صفعه على رأسه ثم سقط ميتاً، أو لكزه ثم سقط ميتاً فهذا ليس بعمد؛ لأن هذه الجناية لا تقتل غالباً.

وأما الحنفية فهم يثبتون العمد والخطأ وشبه العمد، ويضيفون ما جرى مجرى الخطأ، وما جرى مجرى الخطأ عندهم هو القتل بلا قصد ولا إرادة، كما لو انقلب نائم على شخص، كالمرأة أو الأم إذا انقلبت على ابنها وتوفي بسبب ذلك فيقولون: هذا من الجاري مجرى الخطأ، وعند الحنابلة والشافعية يجعلون هذا من قبيل الخطأ.

ضابط شبه العمد

تقدم لنا ضابط العمد أنه ما جمع أمرين: القصد، وبما يغلب على الظن موته به، وأما ضابط شبه العمد فقال المؤلف رحمه الله: (أن يقصد جناية لا تقتل غالباً ولم يجرحه بها).

لكي يكون شبه عمد لابد من أمرين:

الأمر الأول: أن يقصد جناية لا تقتل غالباً، كما لو لكزه، أو صفعه أو ضربه بسوط ونحو ذلك ثم سقط ميتاً.

الأمر الثاني: ألا يجرحه، فإن جرحه ففيه تفصيل تقدم لنا، فإذا جرحه بسكين أو إبرة أو نحو ذلك فلا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون في مقتل فهذا عمد، الأمر الثاني: أن يكون في غير مقتل فإن لم يمت مباشرة فهذا عمد، وإن مات مباشرة فهذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله هل هو عمد أو ليس بعمد؟

قال رحمه الله: (كمن ضربه في غير مقتل بسوط أو عصاً صغيرة أو لكزه ونحوه) هذه صور لشبه العمد، والضابط في ذلك أن يقصد جناية لا تقتل غالباً. وقيده المؤلف رحمه الله بقوله: (ضربه في غير مقتل بسوط أو بعصاً ونحو ذلك). الضابط الثاني: ألا يجرحه بها، فإن جرحه فكما تقدم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2816 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2730 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2676 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2643 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2638 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2556 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2553 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2526 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2520 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2497 استماع