شرح الترمذي - باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:

فكنا مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه يقول عند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) وتكلمنا حول الحديث، وأهمية هذا الدعاء، والآن لنستكمل ما يتعلق بالاستعاذة ومعناها والأحاديث التي فيها صيغ الاستعاذة عند دخول الخلاء.

الفرق بين الاستعاذة واللياذة

قال ابن كثير عليه رحمات ربنا الجليل في أول تفسيره عند تفسير الاستعاذة: الاستعاذة تكون لدفع الضر، بخلاف اللياذة فتكون لجلب نفع، فالاستعاذة لدفع مضرة، واللياذة لجلب منفعة، فإذا أردت أن تطلب منفعةً من غيرك تقول له: لذت بك، وألوذ بك، وإذا أردت أن تطلب دفع مضرة تقول: أعوذ بك وأستعين بك، فهنا نحن نطلب دفع مضرة، وهو أننا نريد تحصين أنفسنا من عدونا، ثم نريد بعد ذلك إخراج هذه الفضلات التي هي في بطوننا، فالذي يناسب الاستعاذة لا اللياذة، فاللياذة لجلب منفعة، والعياذة لدفع مضرة، قال ابن كثير : وهذا كما قال المتنبي :

يا من ألوذ به فيما أؤمله! ومن أعوذ به مما أحاذره!

لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره

يهيضون بمعنى يكسرون.

والشاهد هنا: يا من ألوذ به فيما أؤمله! ففي جانب الأمل وطلب المنفعة ذكر الفعل: ألوذ، وبالمقابل: ويا من أعوذ به مما أحاذره!

معنى الاستعاذة الواردة من الشيطان

قال أئمتنا: حقيقة الاستعاذة الهروب من شيءٍ تخافه إلى من يعصمك منه، ولا يجوز للإنسان أن يستعيذ من الشيطان إلا بذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن تتحصن من الشيطان إلا بالله، بأسمائه، بصفاته سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يقدر على دفع هذا الضر عنك إلا الله جل وعلا، ولا يجوز للإنسان أن يستعيذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أحتمي بالله، وألتجئ إلى الله، أعتصم بالله، وأتحصن بالله من الشيطان الرجيم.

لفظ رواية الصحيحين بل الكتب الستة: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث).

معنى الخبث والخبائث

والخبُث -بضم الباء- جمع خبيث، وقد تسكن الباء تخفيفاً فيقال: الخبْث، قال الإمام الخطابي : عامة المحدثين يسكنون الباء، فيقولون: الخبث والخبائث، ثم قال: وهذا غلط، والصواب الضم، وقد رد عليه أئمتنا الكرام كالإمام النووي وغيره وقالوا: هذا ليس بغلط، بل إنكار تسكين الباء غلطٌ في الرواية وفي اللغة، والتسكين في هذا اللفظ وفيما يشبهه جائزٌ بلا خلاف، وكل كلمةٍ كانت ثلاثة أحرف، وضم فيها الحرف الأول والثاني يجوز أن تسكن الثاني من باب التخفيف، مثل عُنُق، فتقول: عُنْق، كُتُب كُتْب، رُسُل رُسْل، وقال: هذا فصيحٌ في اللغة، ومشهور عند العرب، فلا داعي للقول: بأن ضبط الخبث بإسكان الباء غلطٌ كما عليه عامة المحدثين من تغليط هذا هو الغلط، والرواية واردةٌ بذلك، نعم واردةٌ بالأصل -بالضم- وهي (الخبث والخبائث).

والخبث: جمع خبيث، وهم كما قال أئمتنا: ذكران الشياطين.

والخبائث: جمع خبيثة، وهن إناث الشياطين، والمعنى (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، أي: من ذكران الشياطين وإناثهم، أحصن نفسي بك من كل شيطانٍ وشيطانةٍ يكونان في هذا المكان، وهذا المعنى هو الذي عليه جمهور المحدثين، وبعضهم ذكر معنىً آخر للخبث والخبائث فقال: الخبث هو الشر والكفر والشيطان، والخبائث هي المعاصي بأسرها، ثم نقلوا عن ابن الأعرابي أنه قال: الخبيث في كلام العرب هو المكروه، فإن كان في الكلام فهو الشتم، وإن كان في الملل فهو الكفر، وإن كان في الطعام فهو الحرام، وإن كان في الشراب فهو الضار، نعم الخبيث كما ذكرتم فهذا من معناه، لكن المراد هنا أننا نحصن أنفسنا من أشياء تحضر في هذه المكان كما أشار إليها نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذه الحشوش محتضرة، فلا دخل الآن لموضوع المعاصي ولا لشرٍ ولا لكفر، بل نحصن أنفسنا من هؤلاء الجن حتى لا يرون عوراتنا، ولا يصيبونا بعد ذلك بأذى وضرٍ.

نعم -كما قلت- لفظ الخبيث معناه في الأصل وفي اللغة كما قال علماء اللغة في كتبهم: الخبيث هو ما يكره رداءةً وخساسةً، مكروهٌ لرداءته وخسته، قال أئمتنا: وسيشمل الاعتقاد الباطل، ويشمل الكذب في المقال، ويشمل القبيح في الأفعال، لكن المراد هنا خبيثٌ معين، وهو شيطانٌ وشيطانة، (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، من ذكران الشياطين وإناثهم.

لذلك في الروايات الأخرى التي مرت معنا في سنن ابن ماجه وغيره: (اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم)، فإذاً مما يبين على أننا نستعيذ بالله هنا من صنفٍ من أصناف الخبيثين، لا من خبثٍ في المقال، ولا من خبثٍ في الأفعال، إنما من خبثٍ من هذه الذوات الخبيثة وهم الشياطين ذكوراً وإناثاً، أما لفظ الخبيث يطلق على شيءٍ مكروه فيه -كما قلت- في الأقوال والأفعال وفي الاعتقاد وفي كل شيء.

ولذلك ثبت في سنن النسائي والبيهقي وإسناد الحديث صحيحٌ كالشمس موقوف على عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ورواه ابن حبان في صحيحه مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث)، أي: هي منبع الأشياء المكروهة الخسيسة المؤذية الضارة الشنيعة، والخبائث هنا ليس المراد منها ما ورد من الخبث والخبائث، بل المراد من الخبائث هنا المكروه كمثل المعاصي، ولذلك في تكملة الأثر عندما غَوَيتْ امرأةٌ عابداً من بني إسرائيل فأرسلت إليه غلاماً وقالت: ندعوك للشهادة، فلما دخل رأى امرأةً وضيئة، وعندها خمر وغلام، والغلام من الزنا، وهي بغي، ثم قالت: إما أن تقتل هذا الغلام وإما أن تقع علي وإما أن تشرب الخمر، قال: اسقيني كأساً، فهذا في تقديره أخف البلايا والرزايا، فلما أخذ الكأس قال: زيدوني، فوقع على المرأة بعد ذلك، وقتل الغلام، ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث) والأثر له حكم الرفع على كل حال.

إذاً قوله: (أم الخبائث)، أي: أم الأشياء المكروهة، ومنبع المعاصي والرذائل، فلفظ الخبيث لا يطلق فقط على خصوص العاتي المارد من الجن، وإنما يطلق على كل شيءٍ مكروه، لكن هنا يرد منه مكروهٌ خاص وهو ذكور الشياطين وإناثهم، نستعيذ بالله منهم جميعاً، وأما لفظ الخبيث فيطلق -كما قلت- على ما هو أوسع من ذلك.

وقد ثبت في المسند والكتب الستة إلا سنن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدةٍ مكانها: عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، خبيث، فإذاً هنا صار فيه كما قلنا صفة الرداءة وصفة الخسة، وصفة الكسل، وصفة الخمول، وتأمل هذا فيمن لم يستيقظ، لا أقول لصلاة الفجر بل قبل صلاة الفجر، فتأمل حالته، وانظر للكسل الذي يكون في جسمه وفي بدنه نسأل الله العافية، أصبح خبيث النفس كسلان، فالخبث -كما قلنا- يطلق على الشيء المكروه، ولكن هنا المراد منه خصوص خبثٍ معين يكون من الشياطين ذكوراً وإناثاً.

وقد ثبت في المسند والصحيحين وصحيح ابن حبان وسنن النسائي وابن ماجه عن أمنا زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلةً وهو فزع محمرٌ وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بين الإبهام والسبابة، فقالت رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)، أي: المكروهات، المنكرات، المعاصي، المهلكات، الموبقات، فهذا لفظ الخبث كما قلت عنه، لكن المراد منه عند الخلاء خصوص خبثٍ يكون في الشياطين ذكورهم وإناثهم.

إذاً (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). والروايات الأخرى نشرح معناها، وننتقل بعد ذلك إلى تخريج الحديث إن شاء الله.

معنى الرجس النجس

تقدمت معنا الروايات: (اللهم إني أعوذ بك من الرجس)، والرجس يطلق على الشيء القذر، سواءٌ كان حساً أو معنى، قذارة حسية فهو نجس نجاسة حسية كما قال الله جل وعلا عن لحم الخنزير: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145]، أي: نجس نجاسة لكن حسية، والنجس نجاسةً حسية فيه نجاسة معنوية، كذلك يطلق على النجاسة المعنوية فقط، ومنه قول الله جل وعلا في سورة التوبة براءة: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:124-125]، الرجس هنا قذر لكنه معنوي، (رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، ومعنى (اللهم إني أعوذ بك من الرجس)، أي: الشيطان النجس القذر، وقوله: (من الرجس النجس) زيادة توكيد وتقرير لنجاسته واتباع اللفظ بنظيره، والخبيث: شيءٌ مكروه لخسته وضره، والمخبث الذي ينشر الخبث، ويفسد بين الناس.

معنى كلمة الشيطان

قال: (الشيطان الرجيم) لفظ الشيطان قال أئمتنا: صيغة فيعال مأخوذةٌ من شطن بمعنى بعد، وسمي الشيطان شيطاناً لأمرين: لبعد طبعه عن طباع البشر، ولبعده عن رحمة الله عز وجل، فالله طرده ولعنه وأخبر أن عليه اللعنة إلى يوم الدين، ثم بعد ذلك هو في النار من المخلدين، فطبعه بعيدٌ عن طباع البشر، وهو بعيدٌ عن رحمة الله عز وجل، بعيدٌ لصده عن كل خيرٍ وفضيلة، فقيل له: شيطان من شطن بمعنى بعد.

وهذا فيما يظهر -والعلم عند الله- غلط؛ لأنه يقال: تشيطن فلانٌ إذا فعل فعل الشياطين، ولا يقال: تشيط، والذين قالوا: إنه من شاط يشيط؛ لأنه خلق من النار ومآله إلى النار، وفيه الغضب وهو من طبيعة النار، هذا وإن وافق ما عليه الشيطان لكنه لا يشهد له الاشتقاق اللغوي كما قال أئمة اللغة، فهو من شطن لا من شاط، وشطن بمعنى بعد، فهو شيطان، ولذلك يقال: تشيطن، ولا يقال: تشيط، يقول أمية بن أبي الصلت في بيان ما أعطى الله لنبيه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام:

أيما شاطنٍ عصاه عكا ه ثم يلقى في السجن والأغلال

ولو كان من شاط لقال: أيما شائطٍ، وعكاه. عكاه، أي: أو ثقة وقيده وربطه ثم يلقى في السجن والأغلال.

إذاً فهو -كما قلت- صيغة فيعال من شطن، قال أئمتنا: وهذا الاسم يطلق لكل متمردٍ من الجن والإنس والحيوان، فالعاتي من الإنس يقال له: شيطان، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].

والخبيث من الجن يقال له: شيطان، والنافر النازح الشرس من الحيوانات يقال له: شيطان، إذاً: هو اسمٌ لكل عاتٍ متمرد من الإنس والجن والحيوان.

معنى كلمة الرجيم

قال: ( من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ) صيغة فعيل بمعنى مفعول أو فاعل، وإذا كانت بمعنى مفعول فسمي الشيطان رجيماً لأنه مطرودٌ من رحمة الله، مطرودٌ من الخير، وإذا حاول استراق السمع طرد ورمي وقذف بشهابٍ ثاقب.

وهو أيضاً بمعنى راجم فاعل يرجم الناس بالوساوس والإغواء، والأمران فيه، فهو مرجوم وهو راجم، نسأل الله أن يكفينا شره.

هذا فيما يتعلق بمعنى هذه الجملة المباركة التي نقولها عندما ندخل هذا المكان، وهذه الصيغة لا ينبغي أن نفرط فيها -التسمية مع الاستعاذة-، (باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث)، أو (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، اختر أيتهما شئت، وإن زدت بعد ذلك تزداد فضيلة، (اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم، يا ذا الجلال والإكرام).

قال ابن كثير عليه رحمات ربنا الجليل في أول تفسيره عند تفسير الاستعاذة: الاستعاذة تكون لدفع الضر، بخلاف اللياذة فتكون لجلب نفع، فالاستعاذة لدفع مضرة، واللياذة لجلب منفعة، فإذا أردت أن تطلب منفعةً من غيرك تقول له: لذت بك، وألوذ بك، وإذا أردت أن تطلب دفع مضرة تقول: أعوذ بك وأستعين بك، فهنا نحن نطلب دفع مضرة، وهو أننا نريد تحصين أنفسنا من عدونا، ثم نريد بعد ذلك إخراج هذه الفضلات التي هي في بطوننا، فالذي يناسب الاستعاذة لا اللياذة، فاللياذة لجلب منفعة، والعياذة لدفع مضرة، قال ابن كثير : وهذا كما قال المتنبي :

يا من ألوذ به فيما أؤمله! ومن أعوذ به مما أحاذره!

لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره

يهيضون بمعنى يكسرون.

والشاهد هنا: يا من ألوذ به فيما أؤمله! ففي جانب الأمل وطلب المنفعة ذكر الفعل: ألوذ، وبالمقابل: ويا من أعوذ به مما أحاذره!