الغزو المغولي على الدولة الخوارزمية - راغب السرجاني
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
خطة جنكيز خان لغزو العالم الإسلاميفكر جنكيزخان في أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولًا في منطقة أفغانستان وأوزبكستان؛ لأن المسافة ضخمة بين الصين والعراق، ولا بد من وجود قواعد إمداد ثابتة للجيوش التترية في منطقة متوسطة بين العراق والصين.
كما أن هذه المنطقة التي تعرف بالقوقاز غنية بثرواتها الزراعية والاقتصادية.
وكانت من حواضر الإسلام المشهورة، وكنوزها كثيرة.
وأموالها وفيرة، هذا بالإضافة إلى أنه لا يستطيع تكتيكيًا أن يحارب العراق وفي ظهره شعوب مسلمة قد تحاربه أو تقطع عليه خطوط الإمداد.
كل هذه العوامل جعلت جنكيزخان يفكر أولًا في خوض حروب متتالية مع هذه المنطقة الشرقية من الدولة الإسلامية، والتي تعرف في ذلك الوقت بالدولة الخوارزمية.
وكانت تضم بين طياتها عدة أقاليم إسلامية هامة مثل: أفغانستان وأوزبكستان والتركمنستان وكازاخستان وطاجكستان وباكستان وأجزاء من إيران.
وكانت عاصمة هذه الدولة الشاسعة هي مدينة "أورجندة" -في تركمنستان حاليًّا-.
وكان جنكيزخان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم محمد بن خوارزم شاه على حسن الجوار، ومع ذلك فلم يكن جنكيزخان من أولئك الذين يهتمون بعقودهم، أو يحترمون اتفاقياتهم، ولكنه عقد هذا الاتفاق مع ملك خوارزم ليؤمّن ظهره إلى أن يستتب له الأمر في شرق آسيا، أما وقد استقرت الأوضاع في منطقة الصين ومنغوليا، فقد حان وقت التوسع غربًا في أملاك الدولة الإسلامية!
ولا مانع -طبعًا- من نقض العهد، وتمزيق الاتفاقيات السابقة.
وهي سنة في أهل الباطل:
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة من الآية:100].
ولكن؛ حتى تكون الحرب مقنعة لكِلا الطرفين، لابد من وجود سبب يدعو إلى الحرب، وإلى الادعاء بأن الاتفاقيات لم تعد سارية، وقد بحث جنكيزخان عن سبب مناسب، ولكنه لم يجد.
قتل تجار التتار وإعلان الحرب
ولكن -سبحان الله- لقد حدث أمر مفاجئ بغير إعداد من جنكيزخان! وهذا الأمر المفاجئ يصلح أن يكون سببًا مقنعًا للحرب.
نعم؛ لقد جاء هذا السبب مبكرًا بالنسبة لإعداد جنكيزخان ولرغبته، ولكن لا مانع من استغلاله.
ولا مانع أيضًا من تقديم بعض الخطوات في خطة الحرب، وتأخير بعض الخطوات الأخرى.
ما هي الذريعة التي دخل بها جنكيزخان أرض خوارزم شاه؟!
لقد ذهبت مجموعة من تجار المغول إلى مدينة "أوترار" الإسلامية في مملكة خوارزم شاه، ولما رآهم حاكم المدينة المسلم، أمسك بهم وقتلهم!
أما عن سبب قتلهم.
فقد اختلف المؤرخون في تفسير هذه الحادثة:
فمنهم من يقول: إن هؤلاء ما كانوا إلا جواسيس أرسلهم جنكيزخان للتجسس على الدولة الإسلامية أو لاستفزازها، ولذلك قتلهم حاكم مدينة أوترار.
ومنهم من يقول: إن هذا كان عمدًا كنوع من الرد على عمليات للسلب والنهب قام بها التتار في بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد خوارزمية مسلمة.
ومنهم من يقول: إن هذا كان فعلًا متعمدًا بقصد استثارة التتار للحرب، ليدخل خوارزم شاه بعد ذلك منطقة تركستان، والتي هي في ملك التتار آنذاك.
وإن كان هذا الرأي مستبعدًا؛ لأن "محمد بن خوارزم شاه" لم تكن له أطماع تذكر في أرض التتار.
وكل ما كان يريده هو العهد على بقاء كل فريق في مملكته دون تعدٍ على الآخر.
وليس من المعقول أن يستثير التتار وهو يعلم أعدادهم وجيشهم، وليس من المعقول أيضًا أنه لم يكن يدري عن قوتهم شيئًا وهم الملاصقون له تمامًا، وقد ذاع صيت زعيمهم "جنكيزخان" في كل مكان.
ومن المؤرخين أيضًا من يقول: إنما أرسل جنكيزخان بعضًا من رجاله إلى أرض المسلمين ليقتلوا تجار التتار هناك حتى يكون ذلك سببًا في غزو البلاد المسلمة، وإن كان هذا الرأي لا يقوم عليه دليل.
ومنهم من قال: إن خوارزم شاه طمع في أموال التجار فقتلهم لأجلها.
كل هذه احتمالات واردة، لكن المهم في النهاية أن التجار أو الجواسيس قد قُتلوا.
ووصل النبأ إلى جنكيزخان، فأرسل رسالة إلى محمد بن خوارزم شاه يطلب منه تسليم القتلة إليه حتى يحاكمهم بنفسه، ولكن محمد بن خوارزم شاه اعتبر ذلك تعديًا على سيادة البلاد المسلمة؛ فهو لا يسلم مجرمًا مسلمًا ليحاكم في بلدة أخرى بشريعة أخرى، غير أنه قال: إنه سيحاكمهم في بلاده.
فإن ثبت بعد التحقيق أنهم مخطئون عاقبهم في بلاده بالقانون السائد فيها وهو الشريعة الإسلامية.
وهذا الكلام وإن كان منطقيًا ومقبولًا في كل بقاع الأرض إلا أنه بالطبع لم يكن مقنعًا لجنكيزخان.
أو قل: إن جنكيزخان لم يكن يرغب في الاقتناع؛ فليس المجال مجال حجة أو برهان أو دليل.
حقيقة الأمر أن جنكيزخان قد أعد لغزو بلاد المسلمين خططًا مسبقة.
ولن يعطلها شيء؛ وإنما كان يبحث فقط عن علة مناسبة، أو شبه مناسبة، وقد وجد في هذا الأمر العلة التي كان يريدها.
غزو التتار للدولة الخوارزمية
بدأت الهجمة التترية الأولى على دولة خوارزم شاه، وجاء جنكيزخان بجيشه الكبير لغزو خوارزم شاه، وخرج له محمد بن خوارزم شاه بجيشه أيضًا.
والتقى الفريقان في موقعة شنيعة استمرت أربعة أيام متصلة، وذلك شرق نهر سيحون -وهو يعرف الآن بنهر سرداريا، ويقع في دولة كازاخستان المسلمة-، وقتل من الفريقين خلق كثير.
لقد استُشهد من المسلمين في هذه الموقعة عشرون ألفًا، ومات من التتار أضعاف ذلك.
ثم تحاجز الفريقان، وانسحب محمد بن خوارزم شاه بجيشه لأنه وجد أن أعداد التتار هائلة.
وذهب ليُحصِّن مدنه الكبرى في مملكته الواسعة وخاصة العاصمة: أورجندة.
وكان هذا اللقاء الدامي في عام 616هـ.
انشغل محمد بن خوارزم شاه في تحضير الجيوش من أطراف دولته، ولكن لا ننسى أنه كان منفصلًا -بل معاديًا- للخلافة العباسية في العراق، ولغيرها من الممالك الإسلامية؛ فلم يكن على وِفاق مع الأتراك ولا مع السلاجقة ولا مع الدولة الغورية في الهند.
وهكذا كانت مملكة خوارزم شاه منعزلة عن بقية العالم الإسلامي، ووقفت وحيدة في مواجهة الغزو التتري المهول.
وهذه المملكة وإن كانت قوية وتمكنت من الثبات في أول اللقاءات، فإنها -ولا شك- لن تصمد بمفردها أمام الضربات التترية المتوالية.
وفي رأيي أنه مع قوة التتار وبأسهم وأعدادهم إلا أن سبب المأساة الإسلامية بعد ذلك لن يكون في الأساس بسبب هذه القوة، وإنما سيكون بسبب الفرقة والتشتت والتشرذم بين ممالك المسلمين.
وصدق الله إذ يقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال من الآية:46].
فجعل الله الفشل قرينًا للتنازع، والمسلمون كانوا في تنازع مستمر، وخلاف دائم...
وعندما كانت تحدث بعض فترات الهدنة في الحروب مع التتار -كما سنرى- كان المسلمون يغيرون على بعضهم، ويأسرون بعضهم، ويقتلون بعضهم! وقد عُلِم يقينًا أن من كانت هذه صفتهم، فلا يكتب لهم النصر أبدًا.
فعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإني سَأَلْتُ رَبِّى لأمتي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إني إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ وإني أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» (رواه مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هَلاَكُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ: [7440]).
فالمسلمون كانوا -في تلك الآونة- يهلك بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا..
فلا عجب إن غلب عليهم جيش التتار أو غير التتار.
وبالإضافة إلى داء الفرقة فإن هناك خطأ واضحًا في إعداد محمد بن خوارزم، وهو أنه مع اهتمامه بتحصين العاصمة أورجندة إلا أنه ترك كل المساحات الشرقية من دولته دون حماية كافية! ولكن؛ لماذا يقع قائد محنك خبير بالحروب في مثل هذا الخطأ الساذج؟!
الواقع أن الخطأ لم يكن تكتيكيًا في المقام الأول، ولكنه كان خطأ قلبيًا أخلاقيًّا في الأساس.
لقد اهتم محمد بن خوارزم بتأمين نفسه وأسرته ومقربيه، وتهاون جدًا في تأمين شعبه، وحافظ جدًا على كنوزه وكنوز آبائه، ولكنه أهمل الحفاظ على مقدرات وأملاك شعبه.
وعادةً ما يسقط أمثال هؤلاء القواد أمام الأزمات التي تعصف بأممهم.
وعادة ما تسقط أيضًا الشعوب التي تقبل بهذه الأوضاع المقلوبة دون إصلاح.
ولننظر ماذا تحمل الأيام لمحمد بن خوارزم وشعبه!
ماذا فعل جنكيزخان بعد هذه المعركة الأولى؟
تعالوا نتتبع خطواته في البلاد المسلمة!
اجتياح بخارى
لقد جهّز جنكيزخان جيشه من جديد، وأسرع إلى اختراق كل إقليم كازاخستان الكبير، ووصل في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة -في دولة أوزبكستان الآن-، وهي بلدة الإمام الجليل، والمحدث العظيم الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة في سنة 616هـ، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان محمد بن خوارزم شاه بعيدًا عن بخارى في ذلك الوقت.
فاحتار أهل بخارى: ماذا يفعلون؟ ثم ظهر رأيان:
الرأي الأول
وهو قتال التتار والدفاع عن المدينة.
الرأي الثاني
وهو أخذ الأمان وفتح أبواب المدينة للتتار لتجنب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار لا يرقبون في مؤمن إلًا ولا ذمة.
وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريق من المجاهدين قرَّر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها؛ وفريق آخر من المستسلمين، وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرروا فتح أبواب المدينة، والاعتماد على أمان التتار!
وفتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيزخان إلى المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلًا في أول دخوله خديعةً لهم، وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة.
وفعلًا؛ بدأ جنكيزخان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك! وحاصر القلعة عشرة أيام، ثم فتحها قسرًا، ولمَّا دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعًا! ولم يبقَ بمدينة بخارى مجاهدون.
وهنا؛ بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها، ثم اصطفى كل ذلك لنفسه، ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا بها ما لا يتخيله عقل! وأترُك ابن كثير رحمه الله تعالى يصور لكم هذا الموقف كما جاء في كتابه البداية والنهاية فيقول:
"فقتلوا من أهلها خلقًا لا يعلمهم إلا الله، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن! ارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها، فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قُتِل، ومنهم من أُسر فعُذِّب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها!".
انتهى كلام ابن كثير...
ولا حول ولا قوة إلا بالله!
حقًا...
لا حول ولا قوة إلا بالله!
هلكت المدينة المسلمة!
هلك المجاهدون الصابرون فيها، وكذلك هلك المستسلمون المتخاذلون!
فعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» (رواه البخاري؛ باب: قصة يأجوج ومأجوج [3168-3403]، مسلم: باب: اقْتِرَابِ الْفِتَنِ وَفَتْحِ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [7416-7418]).
وكان الخبث قد كثر في هذه البلاد؛ فمن الخبث ألا يرفع المسلمون سيوفهم ليدافعوا عن دينهم وأرضهم وعِرضهم.
ومن الخبث أن يصدق المسلمون عهود الكافرين لهم.
ومن الخبث أن يُسلَّم المسلمون من رفعوا راية الجهاد فيهم إلى عدوهم.
ومن الخبث أن يتفرَّق المسلمون ويتقاتلوا فيما بينهم، ومن الخبث ألا يحتكم المسلمون إلى كتاب ربهم، وإلى سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا كله من الخبث!
وإذا كثر الخبث، لا بد أن تحدث الهلكة! وصدق الرسول الحكيم.
وهكذا؛ هلكت بخارى في سنة 616هـ!
ولكن؛ هل كانت هذه آخر المآسي؟! هل كانت آخر الكوارث؟! لقد كانت هذه أولى صفحات القصة.
كانت بداية الطوفان وبداية الإعصار، وستكون صفحات القصة القادمة أشد سوادًا وأكثر دماءً.
وسيدخل المسلمون في سنة 617 هـ، وهي -بلا شك- من أبشع وأسوأ وأظلم السنوات التي مرَّت على المسلمين عبر تاريخهم الطويل.
وهذا هو حديثنا في المقال القادم إن شاء الله.