اللقاء الشهري [69]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .. أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أتباعه بإحسان إنه على كل شيء قدير.

أما بعد:

فهذه هي ليلة الأحد الخامس عشر من شهر رجب عام (1420هـ) وبها يتم اللقاء التاسع والستون من اللقاءات الشهرية التي تعقد في هذا المسجد الجامع الكبير في عنيزة، في ليلة الأحد الثالث من كل شهر ما لم يكن هناك مانع.

هذا اللقاء -ولله الحمد- يحصل فيه خير كثير: اجتماع على الذكر (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) ولله تعالى ملائكة سياحون في الأرض يلتمسون حلق الذكر، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة).

فهذه اللقاءات مع أهل العلم فيها خير كثير، نحث إخواننا على الحرص عليها ومتابعتها والاستفادة منها، ونسأل الله أن يجمعنا في الدنيا على طاعته وفي الآخرة في دار كرامته.

أيها الإخوة: موضوع هذا اللقاء هو الكلام على قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:9-11].

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ..)

(يا أيها الذين آمنوا) اسمع الخطاب والنداء من أين صدر؟ صدر من عند الله عز وجل، إلى الذين آمنوا، وما أطيب هذا الوصف الذي يصفك الله به أيها المؤمن! فإذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) مكرماً لك، رافعاً لشأنك، فانتبه، ما هذا النداء؟ وماذا يريد المنادي منا؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك، فإما خيرٌ تؤمر به، وإما شرٌّ تنهى عنه].

أرعوا أسماعكم لهذا الخطاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] والنداء للصلاة يكون بالأذان المعروف، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة والناس ليس لهم دولة إسلامية، فأنشأ الدولة الإسلامية من حين هاجر، وصاروا يجتمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلوا معه، وليس ثمة نداء، فتشاوروا فيما بينهم: كيف نجمع الناس على الصلاة؟

فقال بعضهم: اضربوا ناقوساً. وقد كان النصارى يضربونه عند الصلاة في الكنيسة، والناقوس مثل الجرس الكبير.

وقال بعضهم: نجعل بوقاً ينفخ فيه ويكون له صوت عالي حتى يحضر الناس.

واقترح آخرون: أن توقد نار عظيمة يشعر بها أهل البلد ويعرفون أن الوقت قد دخل.

فهذه اقتراحات ثلاثة، كلها رفضت .. الناقوس للنصارى، والبوق لليهود، والنار للمجوس، كل هذه لم يوافقوا عليها، فهداهم الله عز وجل للحق، فرأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه في المنام أثناء المشاورات رجلاً بيده بوق، فقال له: أتبيعني هذا؟ قال: نعم، لكن ماذا تصنع به؟ قال: أنادي به للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: بلى، فأذن الأذان كله في المنام، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بأنه رأى كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لرؤيا حق -أثبتها النبي عليه الصلاة والسلام، والحق ضده الباطل- ولكن اذهب إلى بلال فإنه أندى صوتاً منك فعلمه الأذان ينادي به بالناس. فما أن سمعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا جاء مسرعاً يقول: والله يا رسول الله لقد رأيت مثل الذي رأى) إذاً: هذه رؤيا صدقها النبي صلى الله عليه وسلم وحكم بأنها حق، ثم أيدت بشهادة رجل آخر وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن ثم ثبت الأذان في السنة الثانية من الهجرة إلى يوم القيامة، ونسأل الله تعالى ألا يقطعه وألا يقطعنا من سماعه، هذا الأذان بقي إلى يومنا هذا.

في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك أذانان لصلاة الجمعة بل أذان واحد، فإذا جاء الخطيب وسلم على الناس وجلس على المنبر أذن المؤذن، ولما كثر الناس في زمن عثمان رضي الله عنه واتسعت المدينة زاد عثمان رضي الله عنه أذاناً ثالثاً .. الأذان الأول والثاني والإقامة ثلاثة، فصار يؤذن للجمعة مرتين: مرة سابقة على مجيء الإمام، ومرة عند مجيء الإمام، ولم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الثاني الذي يكون عند حضور الإمام.

وقد ادعت حادثة حديثة من الشباب: أن الأذان الأول للجمعة بدعة. سفهاء الأحلام، قالوا: إنه بدعة؛ لأنه لم يكن في عهد الرسول. سبحان الله! الرسول نعم لم يفعله إلا أنه سنَّه، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) وعثمان رضي الله عنه منهم بإجماع المسلمين، فيكون اتباع عثمان في ذلك بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والسبب الذي من أجله زاد عثمان هذا الأذان لم يكن موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقال: إنه وجد في عهده ولم يفعله، فإحداثه بعده بدعة.

ثم نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سنَّ أذاناً لغير وقت الصلاة في غير الجمعة، وذلك في رمضان، فقد كان في رمضان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذنان: أولهما بلال والثاني عبد الله بن أم مكتوم ، وكان بلال رضي الله يؤذن قبل الفجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يؤذن ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر).

إذاً: هذا أذان قبل الصلاة لغرض لا يتعلق بالصلاة وإنما يتعلق بالسحور، فكيف بأذان الجمعة الذي تعلق بنفس الصلاة حتى يأتي الناس إليها مبكرين. إذاً فالأذان الأول للجمعة مشروع والحمد لله، والمراد بالآية الكريمة: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9] المراد بها الأذان الثاني الذي يكون عند حضور الإمام، والمنادي (إذا نودي للصلاة) غير معلوم، لم يسم في الآية، لكنه معلوم بالعمل، فالمؤذن للجمعة هو المؤذن لبقية الصلوات الخمس.

تفسير قوله تعالى: (...فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...)

قال تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] (اسعوا) أي: ائتوا مبادرين، وليس المعنى: ائتوا راكضين، لا يمكن أن تأتي وأنت تركض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) إذاً: المراد بالسرعة هنا المبادرة في الحضور إلى ذكر الله، وذكر الله هو الخطبة والصلاة؛ لأن الخطبة تلي الأذان، والله عز وجل يقول: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] ولأن الخطبة فيها ذكر الله؛ ففيها حمد وثناء على الله، وشهادة له بالتوحيد، وشهادة للنبي بالرسالة، وموعظة للمؤمنين، فهي ذكر لله عز وجل.

ولهذا لا يجوز للإنسان أن يتكلم حال خطبة الجمعة؛ لأنه مأمور بأن يأتي إلى هذا الذكر، فكيف يأتي ويتلهى عنه؟ إذاً: يجب أن ننصت لهذه الخطبة وجوباً، فإن تكلم فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة كمثل الحمار يحمل أسفاراً) والأسفار هي كتب علمية يحملها الحمار، أتظنون أن الحمار ينتفع بها؟! لا أبداً، الحمار أبلد الحيوانات، لا ينتفع بالكتب التي على ظهره ولا التي أمامه، وهذا الذي يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة كمثل الحمار يحمل أسفاراً. وقد مثل الله اليهود بالحمار يحمل أسفاراً، قال تعالى: : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ [الجمعة:5] إذاً: الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب مشابهٌ لليهود، وأي مسلم يرضى أن يكون مشابهاً لليهود؟! لا أحد.

فإن تكلم وقال له آخر: اسكت، فقد لغا، أي: ضاعت عليه جمعته، ما كأنه صلى الجمعة ولا ينال أجر الجمعة حتى لو كان مغتسلاً متطيباً متقدماً إلى المسجد خاشعاً متخشعاً، إذا قال لمن يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب: اسكت، فقد ضاعت عليه الجمعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) فإن أشار إليه إشارة بيده فلا يلغو؟ لا يلغو؛ لأن اللغو رتب على القول لا على الإشارة.

وإذا قال قائل: هل هذه الآية تشمل ما إذا سمعت مؤذناً يؤذن للجمعة ولكنك تريد أن تصلي في مسجد آخر ومسجدك الذي تريده لم يؤذن فيه، فهل يجب عليك أن تسعى لما سمعت مؤذن المسجد الآخر؟ الجواب: لا، كما أنه لا يجب عليك أن تستمع لخطبته لأنك لا تريد الصلاة معه، فمثلاً: إذا قدرنا أنك تريد أن تصلي الجمعة في الجامع الكبير هنا، وسمعت مؤذناً في طرف البلد يؤذن للجمعة لحضور إمامه، هل يلزمك إذا شرع في الخطبة أن تسكت؟ لا يلزمك، حتى لو كنت تسمع سماعاً تاماً لأنك لا تريد أن تصلي معه، فلست مأموراً بأن تذهب إليه.

إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] الصلاة، والتكبير، والاستعاذة بالله، وقراءة القرآن، كل هذا من ذكر الله.

تفسير قوله تعالى: (...وَذَرُوا الْبَيْعَ...)

قال تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] (ذروا) أي: اتركوا، حتى لو كانت السلعة بين يديك تعرضها للزبون وسمعت المؤذن يقول: (الله أكبر) فدعها وامض، حتى لو قلت: بعت عليك، وسمعته يؤذن قبل أن يقول: قبلت، فعليك أن توقف البيع، فلا يجوز إيجاب ولا قبول بعد أذان الجمعة. (ذروا البيع) اتركوا البيع، والآية عامة، أي بيع، سواءٌ كان هذا البيع قليلاً أو كثيراً، حتى لو كان مسواكاً، فإذا أذن للجمعة وأنت تريد أن تشتري مسواكاً لتتسوك به في هذه الصلاة لا يجوز؛ لأنه بيع، لكن استثنى العلماء رحمهم الله ما لو كان الإنسان يحتاج إلى شراء ثوب، عنده ثوب نجس لا يمكن أن يصلي فيه، ويحتاج إلى شراء ثوب، فهنا يجوز أن يشتري ثوباً ولو بعد أذان الجمعة الثاني؛ لأنه يشتري الثوب للوصول إلى شرط من شروط الصلاة، فصار اشتغاله بشراء الثوب لمصلحة الصلاة.

واستثنى العلماء أيضاً: ما لو وجد ماءً يباع وهو على غير وضوء بعد أذان الجمعة الثاني، وهذا يوجد في المدن الكبيرة، فهل يشتريه ليتوضأ به، أم نقول: يحرم شراؤه ويتيمم ويصلي؟ الأول، نقول: هذه ضرورة، وهذه أيضاً لمصلحة الصلاة.

واستثنى العلماء ما كان للضرورة، كإنسان هالك من الظمأ، والماء يباع عند المسجد، وهو إن دخل في الصلاة شوش فكره يريد الماء فله أن يشتري ويشرب، وإلا فالأصل التحريم (ذروا البيع) هذا مع أن البيع حلال في الأصل، والدليل قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] لكن لما كان البيع قد ينشغل به الإنسان عن حضور الخطبة والصلاة صار البيع في هذه الحال حراماً.

أرأيتم لو أن رجلين يمشيان إلى الجمعة فأذن المؤذن، فقال أحدهما للآخر: يا فلان، اشترينا أرضاً فهل لك الرغبة في أن تساهم فيها؟ قال: نعم، اكتبني مساهماً، قال: إن شاء الله أكتب. هل يجوز هذا أم لا يجوز؟ معلوم أن المساهمة بيع بيع، إذاً: فهي تدخل في الآية: (وذروا البيع) إذاً: هذا حرام ويلغى العقد، وإذا انتهت الصلاة يجدد ويقول: يا فلان، أنا مساهم معكم اكتب لي سهماً.

إذاً البيع بعد نداء الجمعة الثاني محرم وباطل، ولا ينتقل فيه المبيع إلى المشتري ولا الثمن للبائع، وإذا وقع هذا قلنا للمتبايعين: هذا عقد باطل، وإذا انتهت الصلاة فتبايعا من جديد.

هل تحرم الهدية بعد نداء الجمعة الثاني؟ لو كان الإنسان -مثلاً- يمشي مع صاحبه ومعه مسواك فأهداه إلى صاحبه هدية، فإنه يجوز؛ لأنه ليس بيعاً، ثم هو يسير فقال: خذ هذا المسواك، فيأخذه ولا يلهيه.

عقد النكاح، رجلان يمشيان فقال أحدهما للآخر: إنه يبحث عن زوجة، فقال: عندي لك زوجة وهي ابنتي، ومعهما رجلان آخران من أجل أن يكونوا شهوداً، فقال: زوجنيها، قال: هذه أبرك ساعة، أنا ما غذوتها إلا لك وأمثالك، باسم الله زوجتك ابنتي فلانة، قال: قبلت، وهذا بعدما أذن الأذن الثاني يوم الجمعة وهما في طريقهما إلى المسجد، ثم قال للرجلين: اشهدا، تم العقد الآن، فهل يجوز هذا أم لا يجوز؟

ننظر إلى الآية، اجعلونا نمشي على ألفاظ نصوص الكتاب والسنة، قال الله: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] هل عقد النكاح بيع؟ ليس عقد بيع، إذاً على مقتضى اللفظ أن يكون عقد النكاح جائزاً؛ لأنه أمر نادر يقل جداً، متى يصادف أن اثنين يمشيان إلى المسجد وبعد الأذان يزوج أحدهما الآخر ابنته؟! هذا ما تيسر، والنادر يقول العلماء: ليس له حكم، ومن نظر إلى أن المقصود بالنهي عن البيع هو الانشغال عن حضور الخطبة والصلاة قال: النكاح قد يشغل أكثر، هذا الرجل الذي عقدنا له الزواج سوف يفكر متى الدخول؟ ومتى يصير؟ ومن أين المهر والنفقات وأثاث البيت؟ يفكر أكثر من عقد البيع، فيقول بعض العلماء الآخرين: عقد النكاح حرام ولا يصح، وإنما ذكر الله البيع لأنه الغالب، وإلا فجميع العقود مثل البيع، إلا شيئاً نعلم أنه لا يمكن أن يلحق بالبيع لقلة إشغالك كالهدية -كما مثلنا أولاً- فهذا يجوز.

تفسير قوله تعالى: (...ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ...)

قال الله عز وجل: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الجمعة:9] (ذلكم) المشار إليه السعي إلى الجمعة (خير لكم) من البيع ومن الدنيا وما فيها. والله إن طاعة واحدة تطيع الله فيها خير لك من الدنيا وما فيها؛ لأن الدنيا زائلة والطاعة باقية، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) اللهم اجعل لنا فيها موضعاً يا رب العالمين، اللهم اجعل لنا فيها موضعاً، اللهم اجعل لنا فيها موضعاً .. وموضع السوط أقل من هذه (الماسة) وليس المقصود الدنيا دنياك أنت، بل المقصود الدنيا من أولها إلى آخرها .. (ومن بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) والبيت أكبر من موضع السوط .. (ومن صلى في اليوم اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة) أربع قبل الظهر بسلامين، واثنتان بعدها، واثنتان بعد المغرب، واثنتان بعد العشاء، واثنتان قبل الفجر، إذا صليتها يوماً واحداً بنى الله لك بيتاً في الجنة، وفي اليوم الثاني بيتاً آخر، وهكذا الثالث والرابع.

إذاً: قول الله عز وجل هنا: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الجمعة:9] أي: من البيع، وإن عظم وإن كثر ربحه فمضيكم إلى ذكر الله يوم الجمعة خير من ذلك.

إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9] أي: إن كنتم من ذوي العلم والفهم فاعلموا أن هذا خيرٌ لكم. وهنا أنبه إلى أن الإنسان ينبغي له إذا قرأ : ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الجمعة:9] أن يقف، ثم يقول: إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9] لأنه لو قال: (ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون) أوهم أن يكون الشرط في الخيرية، فيكون المعنى: خير لنا إن علمنا وإلا فلا، والأمر ليس كذلك، هو خير لنا على كل حال، لكن (إن كنتم تعلمون) كأنه يقول عز وجل: اعلموا إن كنتم ذوي العلم أن هذا خير لكم. ولهذا نجد أن الإنسان إذا ترك البيع عند الجمعة ثم عاد إلى البيع بعد أذان الجمعة أن الله يبارك له في بيعه ويوسع له، والعكس بالعكس.

وإلى هنا ينتهي الكلام عن هذه الآية، وسنعود في اللقاء القادم إلى تكملة السورة إن شاء الله تعالى.

(يا أيها الذين آمنوا) اسمع الخطاب والنداء من أين صدر؟ صدر من عند الله عز وجل، إلى الذين آمنوا، وما أطيب هذا الوصف الذي يصفك الله به أيها المؤمن! فإذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) مكرماً لك، رافعاً لشأنك، فانتبه، ما هذا النداء؟ وماذا يريد المنادي منا؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك، فإما خيرٌ تؤمر به، وإما شرٌّ تنهى عنه].

أرعوا أسماعكم لهذا الخطاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] والنداء للصلاة يكون بالأذان المعروف، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة والناس ليس لهم دولة إسلامية، فأنشأ الدولة الإسلامية من حين هاجر، وصاروا يجتمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلوا معه، وليس ثمة نداء، فتشاوروا فيما بينهم: كيف نجمع الناس على الصلاة؟

فقال بعضهم: اضربوا ناقوساً. وقد كان النصارى يضربونه عند الصلاة في الكنيسة، والناقوس مثل الجرس الكبير.

وقال بعضهم: نجعل بوقاً ينفخ فيه ويكون له صوت عالي حتى يحضر الناس.

واقترح آخرون: أن توقد نار عظيمة يشعر بها أهل البلد ويعرفون أن الوقت قد دخل.

فهذه اقتراحات ثلاثة، كلها رفضت .. الناقوس للنصارى، والبوق لليهود، والنار للمجوس، كل هذه لم يوافقوا عليها، فهداهم الله عز وجل للحق، فرأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه رضي الله عنه في المنام أثناء المشاورات رجلاً بيده بوق، فقال له: أتبيعني هذا؟ قال: نعم، لكن ماذا تصنع به؟ قال: أنادي به للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: بلى، فأذن الأذان كله في المنام، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بأنه رأى كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لرؤيا حق -أثبتها النبي عليه الصلاة والسلام، والحق ضده الباطل- ولكن اذهب إلى بلال فإنه أندى صوتاً منك فعلمه الأذان ينادي به بالناس. فما أن سمعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا جاء مسرعاً يقول: والله يا رسول الله لقد رأيت مثل الذي رأى) إذاً: هذه رؤيا صدقها النبي صلى الله عليه وسلم وحكم بأنها حق، ثم أيدت بشهادة رجل آخر وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن ثم ثبت الأذان في السنة الثانية من الهجرة إلى يوم القيامة، ونسأل الله تعالى ألا يقطعه وألا يقطعنا من سماعه، هذا الأذان بقي إلى يومنا هذا.

في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك أذانان لصلاة الجمعة بل أذان واحد، فإذا جاء الخطيب وسلم على الناس وجلس على المنبر أذن المؤذن، ولما كثر الناس في زمن عثمان رضي الله عنه واتسعت المدينة زاد عثمان رضي الله عنه أذاناً ثالثاً .. الأذان الأول والثاني والإقامة ثلاثة، فصار يؤذن للجمعة مرتين: مرة سابقة على مجيء الإمام، ومرة عند مجيء الإمام، ولم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الثاني الذي يكون عند حضور الإمام.

وقد ادعت حادثة حديثة من الشباب: أن الأذان الأول للجمعة بدعة. سفهاء الأحلام، قالوا: إنه بدعة؛ لأنه لم يكن في عهد الرسول. سبحان الله! الرسول نعم لم يفعله إلا أنه سنَّه، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) وعثمان رضي الله عنه منهم بإجماع المسلمين، فيكون اتباع عثمان في ذلك بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والسبب الذي من أجله زاد عثمان هذا الأذان لم يكن موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقال: إنه وجد في عهده ولم يفعله، فإحداثه بعده بدعة.

ثم نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم سنَّ أذاناً لغير وقت الصلاة في غير الجمعة، وذلك في رمضان، فقد كان في رمضان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذنان: أولهما بلال والثاني عبد الله بن أم مكتوم ، وكان بلال رضي الله يؤذن قبل الفجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يؤذن ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر).

إذاً: هذا أذان قبل الصلاة لغرض لا يتعلق بالصلاة وإنما يتعلق بالسحور، فكيف بأذان الجمعة الذي تعلق بنفس الصلاة حتى يأتي الناس إليها مبكرين. إذاً فالأذان الأول للجمعة مشروع والحمد لله، والمراد بالآية الكريمة: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9] المراد بها الأذان الثاني الذي يكون عند حضور الإمام، والمنادي (إذا نودي للصلاة) غير معلوم، لم يسم في الآية، لكنه معلوم بالعمل، فالمؤذن للجمعة هو المؤذن لبقية الصلوات الخمس.