شرح الترمذي - باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فكنا نتدارس في الباب الرابع من أبواب كتاب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي -رحمه الله- وقد ساق الإمام الترمذي في هذا الباب حديثاً عن ثلاثة من شيوخه الكرام هم: عن قتيبة بن سعيد ، وهناد بن السري ، وأحمد بن عبدة الضبي البصري عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبيث)، والرواية الثانية أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، ويجوز تسكين الباء في الرواية الثانية (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).

هذا الحديث قال عنه الإمام الترمذي : إنه أصح شيءٍ في هذا الباب، ثم قال: وفي الباب: عن زيد بن أرقم ، وعن علي بن أبي طالب ، وعن جابر بن عبد الله ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

وكنا نتدارس المبحث الأول حول إسناد هذا الحديث الذي ذكره الإمام الترمذي في جامعه، وانتهينا من ترجمة رجال الحديث الأول، وبدأت بعد ذلك أترجم لمن ذكرهم في إسناد حديث زيد بن أرقم ، حيث قال الترمذي : وحديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب، روى هشام الدستوائي ، وكنا نترجم لـهشام وقلنا: هو هشام بن أبي عبد الله ، ووالده اسمه سنبر أبو بكر الدستوائي ، ثقةٌ ثبتٌ، رمي بالقدر من كبار السابعة، توفي سنة أربعٍ وخمسين بعد مائة للهجرة، وأخرج حديثه أهل الكتب الستة.

بدعة القدر التي رمي بها هذا العبد الصالح هشام الدستوائي كنا نتدارسها، وقد ذكرت شيئاً من أحوالها، وكأن بعض الكرام يريد مزيداً من الكلام عليها، فأريد أن أعيد ما تقدم بشيءٍ من التفصيل، مع الإضافة إليه، وأنهي ما يتعلق ببدعة القول بالقدر في هذه الموعظة إن شاء الله، وإذا انتهينا منها نتدارس حكم رواية المبتدع بعون الله جل وعلا، سواءٌ كانت البدعة بدعة القول بالقدر، أو بدعة الإرجاء، أو بدعة التشيع، ومتى تقبل رواية المبتدع ومتى ترد؟ وهذا المبحث إذا تدارسناه في هذه الموعظة لن نعود إليه في المواعظ الآتية إن شاء الله.

إن بدعة القول بالقدر تنقسم إلى قسمين: إلى قدريةٍ غلاة، وإلى قدريةٍ معتزلة، وكل منهما ضل وخالف اعتقاد الحق فيما ذهب إليه، فأهل الحق يوقنون بأن الحي القيوم سبحانه وتعالى قدر الأمور قبل وقوعها كما علمها، فلا يقع شيءٌ في ملك الله إلا بمشيئة الله وإرادته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وينتهي سعي العباد بأسرهم إلى قول الله جل وعلا: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وتصرفات المخلوقات بأكملها تنتهي عند هاتين الآيتين، فلنا تصرفٌ وإرادة ومشيئةٌ، لكن كل ذلك مرتبط بمشيئة الله وإرادته وتقديره، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

وسيأتينا كلام الإمام الشافعي -عليه رحمة الله- في هذا، وهو أصح ما نقل إلى الشافعي وأثبت شيءٍ في الإيمان بالقدر:

ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن

فما شاء الله كان، سواءٌ شئنا أو لم نشأ، رضينا أو لم نرض، وما شئنا مقيدٌ بمشيئة ربنا جل وعلا، وسأذكر الأبيات عما قريب إن شاء الله.

إذاً: هذا هو اعتقاد أهل الحق، فالله قدر الأمور قبل وقوعها وعلمها، فلا يقع شيءٌ إلا على حسب تقديره وعلمه سبحانه وتعالى، والعباد يثابون ويعاقبون على حسب اختيارهم الذي هو مربوطٌ بتقدير ربهم جل وعلا.

والقدرية ضلوا في هذا الباب فانقسموا قسمين: قدريةً غلاة اشتطوا ضلالاً في القدر، وانحرفوا انحرافاً كبيراً، وخلاصة قولهم: أنهم ينفون تقدير الله للأشياء قبل وقوعها، كما نفوا تقدم علم الله بالأشياء قبل حدوثها، فقالوا: ما قدر الله شيئاً، ولا يعلم الله الشيء إلا بعد أن يقع، فإذا وقع الشيء علمه الله، أما قبل وقوعه فإنه لا يعلمه، مثلاً: هل سنصوم شهر رمضان أم لا؟ يقول القدري: الله لا يعلم إلا بعد أن يقع منا الصيام أو الفطر، لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، وما قدر في الأزل شيئاً، هذا قول غلاة القدرية، وهذا القول منقولٌ عنهم في شرح صحيح مسلم لشيخ الإسلام الإمام النووي في الجزء الأول صفحة ستٍ وخمسين ومائة، ونقله عنهم أئمتنا قاطبةً، انظروا أيضاً قولهم في كتاب درء تعارض العقل والنقل للإمام ابن تيمية في الجزء الثاني صفحة اثنين وثلاثين وثلاثمائة.

بداية ظهور القدرية الغلاة

وهذا الفرقة الضالة الزائغة وجدت في زمن أواخر الصحابة الكرام، لم تكن في زمن الخلفاء الراشدين، وما ظهر القول بهذه البدعة في ذلك العصر، إنما في أواخر أيام الصحابة الكرام وجد من يقول بتلك البدعة، كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء السابع صفحة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة، وهكذا الإمام الشهرستاني في الملل والنحل في الجزء الأول صفحة اثنتين وثلاثين، قال الإمام ابن تيمية : وقد رد عليهم من كان حاضراً من الصحابة وعلى قيد الحياة، منهم: ابن عمر ، وابن عباس ، وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم أجمعين.

موقف ابن عمر من القدرية وذكره لحديث جبريل الطويل عن أبيه

أما حديث ابن عمر رضي الله عنه فإنه ثابتٌ في صحيح مسلم ، وهو أول حديثٍ في كتاب الإيمان في صحيح مسلم بعد المقدمة وهو يتكلم على بدعة هؤلاء، ويرد عليهم، وكذلك رواه الإمام الترمذي في سننه أيضاً، ورواه الإمام أبو بكر الآجري في كتابه الشريعة، ورواه الإمام ابن منده في كتاب الإيمان.

ولفظ الحديث تقدم معنا باختصار عن يحيى بن يعمر -بفتح الميم وضمها- وهو من أئمة التابعين، قال: كان أول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني ، أي: كان معبد هو أول من قال بالقدر في البصرة، وانتشرت هذه البدعة في البصرة، ثم في بلاد الشام، ولم تكن في بلاد الحجاز، يقول يحيى بن يعمر : فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، وقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ قال: فتوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وهذا أحسن ما يكون من المشية مع العالم، عن جانبيه فلا يتقدمونه، ففي ذلك إساءة أدبٍ معه، ولا يمشون وراءه ففي ذلك فتنةٌ له وذلةٌ لهم، إنما يسيرون بجنبيه فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي وهو هنا حميد بن عبد الرحمن سيترك الكلام لـيحيى بن يعمر ليسأل؛ لأنه كان أفصح منه وأبسط في الكلام فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر أناسٌ قبلنا، يعني: في جهتنا وناحيتنا في البصرة، يقرءون القرآن، ويتقصرون العلم، ويتفقرون العلم وضبط ويتقعرون في العلم، وضبط يتفقهون، ومعانيها كلها شيءٌ واحد كما قال شيخ الإسلام الإمام النووي ، أي: يبالغون في طلب خفي العلم وغالبه، ويبحثون عن مشكله، يعني: عندهم جدٌ وجلد وتنطعٌ في البحث عن خفايا العلوم، وذكر من شأنهم، أي: من جدهم واجتهادهم وعبادتهم، وذكر أنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، أي: أن الله ما قدر شيئاً، والأمر أنف، أي: مستأنف بدون سبق تقديرٍ من الله الجليل، وبلا قدر، وأن الأمر مستأنف يعمل العباد على شيءٍ يختارونه لا على شيءٍ قدر عليهم وعلمه الله جل وعلا قبل وقوعه منهم.

قال ابن عمر رضي الله عنه: إذا لقيت أولئك فأخبرهم: أني بريءٌ مني، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه -يعني في سبيل الله- ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه)، يعني على فخذي نفسه لا على فخذي نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه جلسةٌ حسنةٌ تكون بين يدي العالم يسند الركبتين بالركبتين، ثم يتأدب فيضع اليدين على الفخذين، (ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه)، ووجه العجب أن السائل جاهل فكيف يصدق؟ والتصديق هذا يكون من عالمٍ مستيقن، (قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره -وهو الركن السادس من أركان الإيمان- قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها -علاماتها ودلالاتها-، قال: أن تلد الأمة ربتها)، ووري بالتذكير ربها، ربتها وربها، يعني: مولدها، وإيضاح ذلك كما قرره النووي عليه رحمة الله في صورتين اثنتين، وما قيل بعد ذلك من أقوال أخرى فلا حقيقة لها:

الصورة الأولى: أن يكون عند الإنسان سرية أي: أمة، ثم يستولدها فتلد منه أولاداً، يكون حكمهم حكم أبيهم، فقد يتصرفون في أم الولد التي هي أم ولدٍ لأبيهم، كما يتصرف الوالد السيد، فهذا يصبح سيداً لأمه، ولذلك قال الإمام النووي : في ذلك إشارة إلى كثرة الفتوح وتعدد السراري، وإنجاب الأولاد منهم، فيحل الولد محل الوالد، وتصبح أمه كأنها مملوكةٌ عنده.

والصورة الثانية: أن يزوج الإنسان أمته لبعض الناس، فتلد ولداً، ثم بعد ذلك تباع هذه الأمة، لو قدر أن هذا الزوج مثلاً طلقها، والسيد باعها بعد ذلك قد يشتريها ولدها ولا يدري أنها أمه، وهذا يكون أيضاً بكثرة السراري والإماء.

هاتان صورتان فيهما إشارة إلى اختلال الأمور، وأنه لم يحصل هنالك ضبط للأنساب.

(وأن ترى الحفاة) -جمع حاف- الذي لا يلبس النعال في رجليه، العراة: من العري، أي: فقراء، العالة، وهذا سبب وجود الحفاء فيهم والعري، أي: فقراء لا ينتعلون، وبعد ذلك ليس عندهم ثيابٌ يلبسون لفقرهم، رعاء الشاء: وهذا أيضاً إشارة إلى أن هؤلاء الذين فيهم هذه الصفة من رعاء الشاء، والإبل، والبقر، والماشية، الذين فيهم هذه الصفات سيأتي عليهم وقت، وتتطور معهم الأشياء حتى يتخذوا بعد ذلك عمارات يتطاولون بها ويفتخرون، فهذا يقول: بنيت دورين، وذاك يقول: ثلاثة، وهذا يقول: أربعة، مع أنهم في الأصل هذا وصفهم، إشارة أيضاً إلى أن الأمور قد اختلت، والتطاول في البناء حتماً مذمومٌ ومشئوم، ولكنه عندما تطاول الناس في البنيان بالأشكال الغربية الخبيثة التي انتشرت في بلاد المسلمين تطاولوا في البنيان، نوافذ بعد ذلك على الشوارع والجيران، إذا جاء الناس بعد ذلك بواسطة النوافذ يحصل ما لا يحمد، ونسأل الله العافية، وكانت الأمور في ستر، وعملت بعد ذلك شرفات في الأدوار العليا، ويجلس النساء فيها كما هو منتشر في البلاد الهابطة، والبلاد الأخرى على طريقها، المرأة تجلس فيها من بعد العصر إلى العشاء أكثر من جلوسها في داخل حجرتها.

(قال: ثم انطلق فلبثت ملياً) أي: وقتاً طويلاً، (ثم قال لي: يا عمر ! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

الشاهد فيه: أن من أركان الإيمان: الإيمان بقدر الرحمن، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، وهذا الحديث بهذا السياق وبهذا اللفظ مع القصة في أوله عن يحيى بن يعمر في هذه الكتب المتقدمة، وأما الحديث بدون قصة يحيى بن يعمر ، أي: حديث جبريل مع نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه، وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن الساعة وأشراطها، فإنه ثابتٌ أيضاً في الصحيحين وعند النسائي وابن ماجه وأحمد برواياتٍ أخرى منها عن أبي هريرة .

وهذا الحديث الذي نقله ابن عمر عن أبيه عمر حضره ابن عمر أيضاً بنفسه، وعندما عرض عليه مثل هذه الحادثة ذكر الحديث وأنه سمعه بأذنيه، وحضر سؤال جبريل لنبينا عليهما صلوات الله وسلامه، ولم ينقله عن والده عمر رضي الله عنهم أجمعين، والحديث بذلك رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، وهو في مجمع الزوائد في الجزء الأول صفحة أربعين، وقال عنه الإمام الهيثمي : رجاله موثقون، وفيه ما يشبه ما تقدم دون ذكر قصة يحيى بن يعمر ، فيه أنه قيل له: إننا نسافر فنلقى أناساً يقولون: لا قدر، دون أن يكون السائل كما تقدم معنا يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن، والحديث كما قلت في صفحة أربعين عن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه أتى إليه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الرحمن ! إنا نسافر فنلقى إخواناً يقولون: لا قدر، قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجلٌ حسن الوجه)، فهنا حضر بنفسه، وهناك نقل هذا عن والده، وسأذكره في نهاية هذا الحديث إن شاء الله لم نقل ذاك عن والده وهنا نقله بنفسه؟ يقول: (إذ أتاه رجلٌ حسن الوجه، طيب الريح، نقي الثوب، فقال: السلام عليك يا رسول الله! أأدنو منك؟ قال: ادنه، فدنى دنوةً، قال ذلك مراراً حتى اصطكتا ركبتاه بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان، زاد في هذه الرواية أمراً سادساً: والغسل من الجنابة، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلمٌ؟ قال: نعم، قال: صدقت، قال: فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والجنة والنار)، الجنة والنار هي اليوم الآخر بمعناها، لا زلنا ضمن الأركان الخمسة وسنذكر السادس (والقدر -هذا السادس- خيره وشره، حلوه ومره من الله تعالى)، فبدل اليوم الآخر ذكر الجنة والنار، فهما أبرز ما يكون في ذلك اليوم، نسأل الله حسن الخاتمة، (قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم، قال: صدقت، قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن تكن لا تراه فإنه يراك، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال: نعم، قال: صدقت، قال: ما رأينا رجلاً أطيب ريحاً، ولا أشد توقيراً للنبي عليه الصلاة والسلام)، وقوله للنبي عليه الصلاة والسلام: (صدقت منه)، يعني: ما رأينا من وقّر النبي عليه الصلاة والسلام في سؤاله مع حسن هيئته وفي رائحته كهذا السائل، وهو جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (عليّ بالرجل -أعيدوه- بعدما انصرف، قال: فقمنا وقمت أنا إلى طريقٍ من طرق المدينة فلم نر شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل يعلمكم مناسك دينكم، ما جاءني في صورةٍ قط إلا عرفته إلا في هذه الصورة)، أي: ما تبين لي حاله إلا في نهاية الأمر، أما في أول الأمر فما عرفت أن جبريل هو السائل، رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.

فإذا كان ابن عمر قد شهد الحديث بنفسه فلم نقله عن والده عمر رضي الله عنه؟

لم أقف على جوابٍ لأحدٍ من أئمتنا في بيان ذلك، والذي يظهر لي -والعلم عند الله- أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد أن يخبر أن والده حضر معه، لكن غاب في نهاية الحديث، ولذلك قال عمر : فلبثت ملياً، والملي: حدد بثلاثة أيامٍ كما وردت بذلك الروايات الصحيحة، ففي سنن الترمذي والنسائي : فلبثت ثلاثاً، يعني: ثلاثة أيام، ثم لقيه النبي عليه الصلاة والسلام بعد ثلاثة أيام قال: (أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، أما ابن عمر ومن معه من الصحابة علموا هذا مذاكرةً عندما قال: (عليّ بالرجل)، وبحثوا عنه فما وجدوه، فقال: هو جبريل، فـعمر رضي الله عنه انصرف في هذه الحالة.

وورد في مستخرج أبي عوانة وصحيح ابن حبان ، وكتاب الإيمان لـابن منده : قال عمر رضي الله عنه: (فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث، فقال: يا عمر ! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فكأن ابن عمر عندما ساق الحديث عن والده أراد أن يقول: بين لنا نبينا عليه الصلاة والسلام في نفس المجلس السائل، ونحن علمناه، لكن والدي تغيب فأخبر بذلك بعد ثلاث، فروايته صحيحةً وحضرها، وروايتي صحيحةً وحضرتها، وهذا فيما يبدو لي سبب روايته الحديث عن والده مع أنه حضره بنفسه، والعلم عند الله جل وعلا.

وقد تكرر مثل هذا عن ابن عمر في أحوال أناسٍ جاءوا في أواخر أيام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ينكرون القدر، فقال فيهم مثل ما تقدم معنا في صحيح مسلم ومعجم الطبراني الكبير.

هجر ابن عمر للقدرية وذكره لحديث فيه وعيد لهم بالمسخ والقذف في الدنيا

ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وقال: حسنٌ صحيحٌ غريب، وعند ابن ماجه في سننه أيضاً، والبغوي في شرح السنة، والهيثمي في المجمع في الجزء السابع صفحة ثلاثٍ ومائتين، ذكر رواية الإمام أحمد وصحح إسنادها، لكن هذا عجبٌ منه رحمه الله؛ لأن الحديث في سنن النسائي والترمذي وابن ماجه ، وهو اشترط أن يورد الزوائد في الكتب الستة على الكتب الستة كما تقدم معنا، يعني زوائد المسند والكتب الأخرى على ما في الصحيحين والسنن الأربع، وهذا الحديث عند الترمذي والنسائي وابن ماجه ، فلا داعي لإيداعه وإيراده في مجمع الزوائد والعلم عند الله، رواه هؤلاء الأئمة عن نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا قعوداً مع عبد الله بن عمر فأتاه رجلٌ فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لا تقرأنّ عليه مني السلام، فإني بلغني أنه تكلم بالقدر، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في أمتي مسخٌ وقذفٌ، وهو في الزنديقية والقدرية)، والحديث صحيح، والزنادقة: هم الذين ينكرون قدر الرحمن جل وعلا، ولفظ الزنادقة ينطبق على الجهمية تمام الانطباق.

وتكرر مثل هذا أيضاً عن ابن عمر ، ففي المستدرك وقال: صحيحٌ على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي ، والحديث رواه أبو داود في سننه أيضاً، وإسناد الحديث صحيح عن نافع أيضاً قال: (كتب رجلٌ إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه رسالةً من بلاد الشام وكان صديقاً له، فقال ابن عمر رضي الله عنهما مجيباً له في رسالته: بلغني أنك تكلمت في شيءٍ من القدر، فإياك أن تكتب إليّ بعد ذلك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون من أمتي أقوامٌ يكذبون بالقدر)، والحديث صحيح، ووقوع المسخ والقذف في هؤلاء أيضاً صحيح، قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان في الجزء الأول صفحة خمسٍ وأربعين وثلاثمائة: تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بوقوع المسْخ في هذه الأمة، يعني: يمسخ أفراد إلى قردة وخنازير وكلاب كما مُسخ بعض أهل الأمم السابقة ولا يحصل هذا للعموم.

قال الإمام ابن القيم : تواترت الأحاديث بذلك، وهو في بعض الأحاديث مطلق، وفي بعضها مقيدٌ في صنفين: الصنف الأول: علماء السوء الذين قلبوا حقائق دين الله، فيقلب الله خلقتهم وصورتهم، ويحولها إلى الشكل الذي يليق بهم.

والصنف الثاني: المجاهرين بالمعصية، المواظبين على الشراب والغناء، تواترت الأحاديث بوقوع المسخ في هؤلاء، والأحاديث في ذلك كثيرةٌ معروفة.

إذاً: هؤلاء هم القدرية الغلاة، وهذه البدعة وجدت في أواخر أيام الصحابة، وانقضت أيضاً وانقرضت في القرن الأول من الهجرة، فما كان لها بعد ذلك أتباعٌ ولا فروع، نعم، تحولت إلى بدعةٍ أخرى كما سيأتينا إن شاء الله.

حكم القدرية الغلاة

فمن قال بهذه البدعة وهي: أن الله لم يقدر شيئاً، ولا يعلم الشيء إلا بعد أن يقع، القائل بذلك كافرٌ كما قرر أئمتنا، وهذه المقالة بدعةٌ مكفرة، نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام النووي عليه رحمة الله كما سأذكره.

قال القاضي عياض عليه رحمة الله: هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله جل وعلا بالأشياء، ونفوا تقدير الله للأشياء قبل وقوعها، والقائل بذلك كافرٌ بلا خلاف، على أن الإمام النووي بعد أن حكى هذا قال: ويجوز أن يراد من قول ابن عمر : إن المراد من ذلك كفران النعم لا كفران المنعم، ثم استبعد هذا فقال: لكن قوله: لو أن لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه -يعني في سبيل الله- ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ظاهرٌ في تفسير القدرية؛ لأن الأعمال لا تحبط ولا يبطل ثوابها إلا إذا كان فاعلها كافراً، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، فهو ظاهرٌ في تفسير القدرية، ثم قال أيضاً: ويمكن أن يقال: إن ذلك من باب الزجر والتغليظ، ويصح أن يقال للمؤمن: إن عمله لا يقبل لمعصيته، وإن كان عمله صحيحاً من أجل زجره وتغليظ القول عليه، احتمالات أوردها هذا الإمام، ولكن المعتمد ما قرره هو ومن قبله ومن بعده من العلماء بأن القدرية هم الذين ينفون قدر الله، أي: ينفون ركناً من أركان الإيمان، وينفون تقدم علم الله بالأشياء وهؤلاء لا شك في كفرهم، وقد نقل عددٌ من أئمتنا اتفاق السلف على تكفير هؤلاء، منهم الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الثامن صفحة خمسٍ وثمانين وثلاثمائة، وكرره في المجلد الثامن في صفحة ستٍ وستين، وثلاثين، وأربعمائة، وخمسين وأربعمائة، وأشار إليه في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، في الجزء التاسع صفحة اثنتين وأربعمائة، وأشار إليه الإمام ابن القيم في: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل، في صفحة ثمانٍ وعشرين، وفي صفحة ستٍ وثمانين ومائة.

وهكذا الإمام السخاوي في: فتح المغيث، في الجزء الأول صفحة ستٍ وثلاثمائة، قال: البدع التي لا شك في تكفير قائلها القول: بأن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، لا شك في تكفير قائلها، وهكذا بدعة نفي علم الله جل وعلا في الجزئيات، أي: يعلم الكليات لا الجزئيات، وتتابع أئمتنا على حكاية هذا القول، انظره في تدريب الراوي في صفحة ست عشرة ومائتين، وهكذا في سنن الإمام البيهقي السنن الكبرى في الجزء العاشر صفحة ثلاثٍ ومائتين، وفي مناقب الإمام الشافعي للإمام البيهقي أيضاً في الجزء الأول صفحة ثمانٍ وستين وأربعمائة وغير ذلك.

وهذا الفرقة الضالة الزائغة وجدت في زمن أواخر الصحابة الكرام، لم تكن في زمن الخلفاء الراشدين، وما ظهر القول بهذه البدعة في ذلك العصر، إنما في أواخر أيام الصحابة الكرام وجد من يقول بتلك البدعة، كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء السابع صفحة ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة، وهكذا الإمام الشهرستاني في الملل والنحل في الجزء الأول صفحة اثنتين وثلاثين، قال الإمام ابن تيمية : وقد رد عليهم من كان حاضراً من الصحابة وعلى قيد الحياة، منهم: ابن عمر ، وابن عباس ، وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم أجمعين.

أما حديث ابن عمر رضي الله عنه فإنه ثابتٌ في صحيح مسلم ، وهو أول حديثٍ في كتاب الإيمان في صحيح مسلم بعد المقدمة وهو يتكلم على بدعة هؤلاء، ويرد عليهم، وكذلك رواه الإمام الترمذي في سننه أيضاً، ورواه الإمام أبو بكر الآجري في كتابه الشريعة، ورواه الإمام ابن منده في كتاب الإيمان.

ولفظ الحديث تقدم معنا باختصار عن يحيى بن يعمر -بفتح الميم وضمها- وهو من أئمة التابعين، قال: كان أول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني ، أي: كان معبد هو أول من قال بالقدر في البصرة، وانتشرت هذه البدعة في البصرة، ثم في بلاد الشام، ولم تكن في بلاد الحجاز، يقول يحيى بن يعمر : فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، وقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ قال: فتوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وهذا أحسن ما يكون من المشية مع العالم، عن جانبيه فلا يتقدمونه، ففي ذلك إساءة أدبٍ معه، ولا يمشون وراءه ففي ذلك فتنةٌ له وذلةٌ لهم، إنما يسيرون بجنبيه فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي وهو هنا حميد بن عبد الرحمن سيترك الكلام لـيحيى بن يعمر ليسأل؛ لأنه كان أفصح منه وأبسط في الكلام فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر أناسٌ قبلنا، يعني: في جهتنا وناحيتنا في البصرة، يقرءون القرآن، ويتقصرون العلم، ويتفقرون العلم وضبط ويتقعرون في العلم، وضبط يتفقهون، ومعانيها كلها شيءٌ واحد كما قال شيخ الإسلام الإمام النووي ، أي: يبالغون في طلب خفي العلم وغالبه، ويبحثون عن مشكله، يعني: عندهم جدٌ وجلد وتنطعٌ في البحث عن خفايا العلوم، وذكر من شأنهم، أي: من جدهم واجتهادهم وعبادتهم، وذكر أنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، أي: أن الله ما قدر شيئاً، والأمر أنف، أي: مستأنف بدون سبق تقديرٍ من الله الجليل، وبلا قدر، وأن الأمر مستأنف يعمل العباد على شيءٍ يختارونه لا على شيءٍ قدر عليهم وعلمه الله جل وعلا قبل وقوعه منهم.

قال ابن عمر رضي الله عنه: إذا لقيت أولئك فأخبرهم: أني بريءٌ مني، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه -يعني في سبيل الله- ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه)، يعني على فخذي نفسه لا على فخذي نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه جلسةٌ حسنةٌ تكون بين يدي العالم يسند الركبتين بالركبتين، ثم يتأدب فيضع اليدين على الفخذين، (ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه)، ووجه العجب أن السائل جاهل فكيف يصدق؟ والتصديق هذا يكون من عالمٍ مستيقن، (قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره -وهو الركن السادس من أركان الإيمان- قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها -علاماتها ودلالاتها-، قال: أن تلد الأمة ربتها)، ووري بالتذكير ربها، ربتها وربها، يعني: مولدها، وإيضاح ذلك كما قرره النووي عليه رحمة الله في صورتين اثنتين، وما قيل بعد ذلك من أقوال أخرى فلا حقيقة لها:

الصورة الأولى: أن يكون عند الإنسان سرية أي: أمة، ثم يستولدها فتلد منه أولاداً، يكون حكمهم حكم أبيهم، فقد يتصرفون في أم الولد التي هي أم ولدٍ لأبيهم، كما يتصرف الوالد السيد، فهذا يصبح سيداً لأمه، ولذلك قال الإمام النووي : في ذلك إشارة إلى كثرة الفتوح وتعدد السراري، وإنجاب الأولاد منهم، فيحل الولد محل الوالد، وتصبح أمه كأنها مملوكةٌ عنده.

والصورة الثانية: أن يزوج الإنسان أمته لبعض الناس، فتلد ولداً، ثم بعد ذلك تباع هذه الأمة، لو قدر أن هذا الزوج مثلاً طلقها، والسيد باعها بعد ذلك قد يشتريها ولدها ولا يدري أنها أمه، وهذا يكون أيضاً بكثرة السراري والإماء.

هاتان صورتان فيهما إشارة إلى اختلال الأمور، وأنه لم يحصل هنالك ضبط للأنساب.

(وأن ترى الحفاة) -جمع حاف- الذي لا يلبس النعال في رجليه، العراة: من العري، أي: فقراء، العالة، وهذا سبب وجود الحفاء فيهم والعري، أي: فقراء لا ينتعلون، وبعد ذلك ليس عندهم ثيابٌ يلبسون لفقرهم، رعاء الشاء: وهذا أيضاً إشارة إلى أن هؤلاء الذين فيهم هذه الصفة من رعاء الشاء، والإبل، والبقر، والماشية، الذين فيهم هذه الصفات سيأتي عليهم وقت، وتتطور معهم الأشياء حتى يتخذوا بعد ذلك عمارات يتطاولون بها ويفتخرون، فهذا يقول: بنيت دورين، وذاك يقول: ثلاثة، وهذا يقول: أربعة، مع أنهم في الأصل هذا وصفهم، إشارة أيضاً إلى أن الأمور قد اختلت، والتطاول في البناء حتماً مذمومٌ ومشئوم، ولكنه عندما تطاول الناس في البنيان بالأشكال الغربية الخبيثة التي انتشرت في بلاد المسلمين تطاولوا في البنيان، نوافذ بعد ذلك على الشوارع والجيران، إذا جاء الناس بعد ذلك بواسطة النوافذ يحصل ما لا يحمد، ونسأل الله العافية، وكانت الأمور في ستر، وعملت بعد ذلك شرفات في الأدوار العليا، ويجلس النساء فيها كما هو منتشر في البلاد الهابطة، والبلاد الأخرى على طريقها، المرأة تجلس فيها من بعد العصر إلى العشاء أكثر من جلوسها في داخل حجرتها.

(قال: ثم انطلق فلبثت ملياً) أي: وقتاً طويلاً، (ثم قال لي: يا عمر ! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

الشاهد فيه: أن من أركان الإيمان: الإيمان بقدر الرحمن، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، وهذا الحديث بهذا السياق وبهذا اللفظ مع القصة في أوله عن يحيى بن يعمر في هذه الكتب المتقدمة، وأما الحديث بدون قصة يحيى بن يعمر ، أي: حديث جبريل مع نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه، وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان وعن الساعة وأشراطها، فإنه ثابتٌ أيضاً في الصحيحين وعند النسائي وابن ماجه وأحمد برواياتٍ أخرى منها عن أبي هريرة .

وهذا الحديث الذي نقله ابن عمر عن أبيه عمر حضره ابن عمر أيضاً بنفسه، وعندما عرض عليه مثل هذه الحادثة ذكر الحديث وأنه سمعه بأذنيه، وحضر سؤال جبريل لنبينا عليهما صلوات الله وسلامه، ولم ينقله عن والده عمر رضي الله عنهم أجمعين، والحديث بذلك رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، وهو في مجمع الزوائد في الجزء الأول صفحة أربعين، وقال عنه الإمام الهيثمي : رجاله موثقون، وفيه ما يشبه ما تقدم دون ذكر قصة يحيى بن يعمر ، فيه أنه قيل له: إننا نسافر فنلقى أناساً يقولون: لا قدر، دون أن يكون السائل كما تقدم معنا يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن، والحديث كما قلت في صفحة أربعين عن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه أتى إليه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الرحمن ! إنا نسافر فنلقى إخواناً يقولون: لا قدر، قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجلٌ حسن الوجه)، فهنا حضر بنفسه، وهناك نقل هذا عن والده، وسأذكره في نهاية هذا الحديث إن شاء الله لم نقل ذاك عن والده وهنا نقله بنفسه؟ يقول: (إذ أتاه رجلٌ حسن الوجه، طيب الريح، نقي الثوب، فقال: السلام عليك يا رسول الله! أأدنو منك؟ قال: ادنه، فدنى دنوةً، قال ذلك مراراً حتى اصطكتا ركبتاه بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان، زاد في هذه الرواية أمراً سادساً: والغسل من الجنابة، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلمٌ؟ قال: نعم، قال: صدقت، قال: فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والجنة والنار)، الجنة والنار هي اليوم الآخر بمعناها، لا زلنا ضمن الأركان الخمسة وسنذكر السادس (والقدر -هذا السادس- خيره وشره، حلوه ومره من الله تعالى)، فبدل اليوم الآخر ذكر الجنة والنار، فهما أبرز ما يكون في ذلك اليوم، نسأل الله حسن الخاتمة، (قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم، قال: صدقت، قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن تكن لا تراه فإنه يراك، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال: نعم، قال: صدقت، قال: ما رأينا رجلاً أطيب ريحاً، ولا أشد توقيراً للنبي عليه الصلاة والسلام)، وقوله للنبي عليه الصلاة والسلام: (صدقت منه)، يعني: ما رأينا من وقّر النبي عليه الصلاة والسلام في سؤاله مع حسن هيئته وفي رائحته كهذا السائل، وهو جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (عليّ بالرجل -أعيدوه- بعدما انصرف، قال: فقمنا وقمت أنا إلى طريقٍ من طرق المدينة فلم نر شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل يعلمكم مناسك دينكم، ما جاءني في صورةٍ قط إلا عرفته إلا في هذه الصورة)، أي: ما تبين لي حاله إلا في نهاية الأمر، أما في أول الأمر فما عرفت أن جبريل هو السائل، رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون.

فإذا كان ابن عمر قد شهد الحديث بنفسه فلم نقله عن والده عمر رضي الله عنه؟

لم أقف على جوابٍ لأحدٍ من أئمتنا في بيان ذلك، والذي يظهر لي -والعلم عند الله- أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد أن يخبر أن والده حضر معه، لكن غاب في نهاية الحديث، ولذلك قال عمر : فلبثت ملياً، والملي: حدد بثلاثة أيامٍ كما وردت بذلك الروايات الصحيحة، ففي سنن الترمذي والنسائي : فلبثت ثلاثاً، يعني: ثلاثة أيام، ثم لقيه النبي عليه الصلاة والسلام بعد ثلاثة أيام قال: (أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، أما ابن عمر ومن معه من الصحابة علموا هذا مذاكرةً عندما قال: (عليّ بالرجل)، وبحثوا عنه فما وجدوه، فقال: هو جبريل، فـعمر رضي الله عنه انصرف في هذه الحالة.

وورد في مستخرج أبي عوانة وصحيح ابن حبان ، وكتاب الإيمان لـابن منده : قال عمر رضي الله عنه: (فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث، فقال: يا عمر ! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فكأن ابن عمر عندما ساق الحديث عن والده أراد أن يقول: بين لنا نبينا عليه الصلاة والسلام في نفس المجلس السائل، ونحن علمناه، لكن والدي تغيب فأخبر بذلك بعد ثلاث، فروايته صحيحةً وحضرها، وروايتي صحيحةً وحضرتها، وهذا فيما يبدو لي سبب روايته الحديث عن والده مع أنه حضره بنفسه، والعلم عند الله جل وعلا.

وقد تكرر مثل هذا عن ابن عمر في أحوال أناسٍ جاءوا في أواخر أيام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ينكرون القدر، فقال فيهم مثل ما تقدم معنا في صحيح مسلم ومعجم الطبراني الكبير.