شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلا زلنا نتدارس الباب الثالث من أبواب الطهارة الذي عنون عليه الإمام الترمذي عليه رحمة الله: باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، ثم روى حديثين في هذا الباب: الحديث الأول رواه عن أربعةٍ من شيوخه: عن قتيبة بن سعيد، وهناد بن السري ، ومحمود بن غيلان ، ومحمد بن بشار رحمهم الله أجمعين، عن علي رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، قال أبو عيسى : هذا الحديث أصح شيءٍ في هذا الباب وأحسنه.

والحديث الثاني رواه عن شيخه أبي بكر محمد بن زنجويه وعن غير واحدٍ من شيوخه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء ).

وقد انتهينا من المبحث الأول؛ من دراسة إسناد هذين الحديثين، وشرعنا في دراسة المبحث الثاني حول فقه الحديث وبيان المعنى، وقلت: حول هذين الحديثين أربعة أحكامٍ تحتاج إلى تفصيل، أولها: اشتراط الطهارة للصلاة. ثانيها: تكبيرة الإحرام للصلاة، ثالثها: التحليل والتحلل للصلاة، ويكون بالسلام. رابعها: مفتاح الجنة الصلاة.

أما الأمر الأول فقد تقدم الكلام عليه، وهو أنه يشترط للصلاة الطهارة، وقلت: هذا محل اتفاقٍ وإجماعٍ بين علمائنا فلا خلاف في ذلك، فلا يمكن أن تصلي إلا إذا تطهرت، كما أنه لا يمكن أن تصل إلى شيءٍ مخبأ قد أغلق عليه بقفل إلا إذا كان عندك مفتاح، فإذا فتحت هذا القفل وصلت إلى ذلك المخبأ المكنون، وهكذا لا يمكن أن تصلي وأن تناجي الحي القيوم بهذه الصلوات التي فرضها رب الأرض والسموات إلا بالطهارة الشرعية من ماءٍ أو تراب كما تقدم معنا.

والمسألة الثانية: التحريم، للدخول في الصلاة، وتقدم معنا أن التحريمة اشترطها للصلاة واعتبرها من أركانها وفرائضها المذاهب الأربعة وجمهور المسلمين، فلا تصح الصلاة إلا بها، وهل في ذلك خلاف؟ سيأتينا في هذه القضية -إن شاء الله- أن قلة قليلة من التابعين لم يشترطوا تكبيرة الإحرام للصلاة، ولم يجعلوها من أركانها وإنما جعلوها من السنن.

إن لفظها الذي إذا فعله الإنسان فقد أحسن وصلاته صحيحةٌ باتفاق الفقهاء: الله أكبر، أن نذكر هذا اللفظ الجليل من أسماء ربنا الكبير سبحانه وتعالى، وهو لفظ الجلالة، وأن ننعته ونخبر عنه بالوصف المذكور الله أكبر، فمن قال هذا فقد أتى بالصيغة التي تصح بها الصلاة بالاتفاق.

ومن خالف في صيغة التكبير: الله أكبر فزاد أو أنقص أو قدم أو أخر أو تصرف في هذه الصيغة، فما الحكم في ذلك؟

مذهب مالك وأحمد في صيغة تكبيرة الإحرام

للمذاهب الأربعة في ذلك ثلاثة أقوال، أولها وهو أقواها، قول أحمد ومالك أنه يشترط لصحة تكبيرة الإحرام المحافظة على هذه الصيغة، دون زيادةٍ أو نقصان، فمن زاد أو أنقص أو قدم أو أخر بطلت الصلاة، فلو قال: الله الأكبر، الله كبير، الله أكبر كبيراً، وإذا زاد: الله الجليل أكبر، أو قدم وأخر: أكبر الأكبر الله، كل هذا عند الحنابلة والمالكية لا يصح، ولا تنعقد الصلاة بهذه الصيغ بل بالصيغة الواردة الله أكبر.

مذهب الشافعي في صيغة تكبيرة الإحرام

وهناك قولٌ ثانٍ ذهب إليه الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي عليه رحمة الله، فقال: إذا زاد على هذه الصيغة أو غير فيها بما يحتوي عليها ويتضمنها فلا يضر ذلك، فلو قال: الله الأكبر، الله أكبر كبيراً، أو نعت لفظ الجلالة بنعتٍ ثم أتبعه بالتكبير بشرط ألا يطول الفصل فلا حرج، فلو قال: الله عز وجل أكبر، الله سبحانه أكبر، كل هذا فيه سعة، وتنعقد الصلاة به؛ لأنه أتى بالمطلوب ألا وهو لفظ التكبير الوارد عن نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه، أما إذا طال الفصل بين لفظ الجلالة ولفظ التكبير فلا تنعقد الصلاة، ولا تصح تكبيرة الإحرام، فلو قال: الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر أكبر، ثم طال الفصل فلا تصح الصلاة.

مذهب الحنفية في صيغة تكبيرة الإحرام

وأما الحنفية فقد توسعوا غاية التوسع فقالوا: تكبيرة الإحرام شرطٌ للصلاة وركنٌ من أركانها، ولكن لا يشترط لفظة التكبير، فالتحريم يصح بكل ذكرٍ فيه ثناءٌ على الله وتعظيمٌ له، فحال لفظة التكبير كحال الخطب التي تقال عند الجمعة يثني الإنسان على ربه بما شاء، فليس ذلك كألفاظ القرآن التي لا يمكن أن نبدلها، ولا أن نغيرها، ولا أن نزيد فيها وننقص منها، وعليه لو قال عند الحنفية -كما تقدم معنا-: سبحان الله انعقدت الصلاة، أو: الرحمن أكبر انعقدت الصلاة، إلى غير ذلك من الصيغ الجائزة عندهم.

مذهب ابن حزم في صيغة تكبيرة الإحرام وتشنيعه على الأئمة

وقد شنع ابن حزم -عليه رحمة الله- على الحنفية غاية التشنيع في كتابه المحلى، ووصف قولهم بأنه تحريف وهدمٌ للإسلام، وشرائع جديدة فاسدة.

سبحان الله! هذه الأقوال من ابن حزم -كما يقال- أقوى من الصواريخ يطلقها على أئمتنا الهداة المهتدين، وليته لم يقل بمثل قولهم، حتى نقول: عاب عليهم هذا القول، ولكنه قال بما قاله الحنفية، فعلام يذمهم وهو يقول: يجوز أن تأتي بأمرين في تكبيرة الإحرام: على لفظ اسم من أسماء الله بأي وصف كان، فلا يشترط لفظ الجلالة (الله)، وأن تأتي بمعنى التكبير بأي صيغةٍ كانت، فلو قلت: الرحمن كبير انعقدت الصلاة عند ابن حزم ، يعني: ما خالف الحنفية إلا في سبحان الله ولا إله إلا الله، فلم بعد ذلك يعيب على الحنفية؟ وماذا بينه وبين الحنفية؟! ولم يشن عليهم بهذه العبارات؟ فهل هو يُخاطب اليهود أو النصارى حتى يقول: هذا تخليط وهدمٌ للإسلام، وهذه شرائع جديدةٍ فاسدة، هذا كلامٌ باطل، وكما تقدم معنا في ترجمة ابن حزم -رحمه الله وغفر له- أن لسانه وسيف الحجاج شقيقان، فلنحذر هذه البذاءة التي يتلفظ بها، ولنستغفر له.

قال ابن حزم في المحلى الجزء الثالث صفحة اثنتين وثلاثين ومائتين: يجزئ أن يقول المصلي: الله الأكبر، الله أكبر، الأكبر الله، الكبير الله، الرحمن أكبر. قال: وأي اسمٍ من أسماء الله ذكر بالتكبير فقد تحقق المراد بأنه كبر، والنبي عليه الصلاة والسلام طلب منا أن نكبر إذا أردنا أن نصلي، يقول: وكل هذا تكبيرٌ، ولا يقع التكبير على غير هذا.

ثم قال: وأما اشتراط مالك وأحمد للتحريمة بلفظ الله أكبر، فهو تخصيصٌ للتكبير بلا برهان. ثم تكلم ابن حزم بما لا يثبت فقال: وادعى بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فقل: الله أكبر)، وهذا باطل، ما عرف قط، ولو وجدناه صحيحاً لقلنا به. أقول: على رسلك فقد ثبت هذا صحيحاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ويلزمك أن تقول به، وأن ترجع عن أقوالك.

الراجح من الأقوال في صيغة تكبيرة الإحرام

إخوتي الكرام! هذه الأقوال الثلاثة معتبرة في شريعة الله المطهرة، قال بها أئمتنا الأربعة البررة، وكما قلت: يعجب الإنسان غاية العجب، ويستغرب غاية الغرابة من ذكر هذه الأقوال، لكن عندما يقف على تعليلات أئمتنا يلتمس لهم عذراً، ويرى لأقوالهم قبولاً، وأن هذه الأقوال فيها سعة، وإن كان القول الأول قول مالك وأحمد هو الراجح الذي لا نحيد عنه قيد شعرة، ولا نتركه، ولا نفرط فيه، لكن لا نقول: إن الأقوال الأخرى باطلة وضلال، أو أن من قال بها فصلاته باطلةٌ، لا نقول بهذا بتاتاً، كما سأقرر إن شاء الله.

والقول الأول هو المعتمد؛ لأنه ثبت من فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ومن تعليمه وقوله لأمته بخصوص لفظ الله أكبر، وهذا يبين المراد من التكبير في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (وتحريمها التكبير)، أي: قل: الله أكبر، و(إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، أي: قل: الله أكبر؛ لأن هذا اللفظ المجمل بينه نبينا عليه الصلاة والسلام بفعله وتعليمه لأمته، وادعاء ابن حزم بأن هذا ما ثبت قط عن النبي عليه الصلاة والسلام، أي: النطق بقوله: الله أكبر، وما علم أمته بذلك، إنما أمرنا أن نكبر إذا قمنا إلى الصلاة بأي صيغةٍ كانت، هذا الادعاء مردودٌ ومرفوض كما سيأتي.

أدلة السنة الفعلية لصحة ما ذهب إليه مالك وأحمد

أما السنة الفعلية فحديثين أذكرهما على وجه الاختصار ثم أكمل البحث إن شاء الله.

الحديث الأول: حديث أبي حميد الساعدي ، وهو في سنن ابن ماجه ، وتقدم معنا: أن الحديث رواه ابن خزيمة وصححه، وابن حبان وصححه، وأقر التصحيح الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الثاني صفحة سبع عشرة ومائتين، ولفظه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة، ورفع يديه -أي: حذو منكبيه- وقال: الله أكبر )، هذا في سنن ابن ماجه ، وصحيح ابن حبان ، وابن خزيمة ، وهو حديثٌ صحيح، هذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام، فقول ابن حزم : لم يثبت، نقول: بل كلامك غير ثابت، وفي غير محله، قوله: ( وقال: الله أكبر )، قال القرطبي في تفسيره في الجزء الأول صفحة ستٍ وسبعين ومائة: وهذا نصٌ صريح، وحديثٌ صحيح في تعيين التكبير، وقد رد ابن القطان وغيره على ابن حزم قوله: لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: الله أكبر، وما قال هذا لأحدٍ من أمته، وقالوا: هذا الحديث يرد قوله، وأنا أقول: والأحاديث الأخرى أيضاً ترد قوله، فاسمعوها.

الحديث الثاني أيضاً من فعل النبي عليه الصلاة والسلام رواه البزار في مسنده، وقال الحافظ ابن حجر : هو على شرط صحيح مسلم ، كما في الفتح في الجزء الثاني صفحة عشرة ومائتين في المكان المتقدم، وذكر الحديث في تلخيص الحبير في الجزء الأول صفحة ثلاثين ومائتين، ولفظ الحديث عن علي رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر ).

لم يرد في هذه الرواية رفع يديه حذو منكبيه. والكلام ليس فيها، وتمام الرواية: ( وقال: الله أكبر، ثم قرأ دعاء الاستفتاح: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحيايى ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )، هذا لفظ البزار عن علي رضي الله عنه.

أدلة السنة القولية لصحة ما ذهب إليه مالك وأحمد

وقد علم أمته أن يقولوا لفظ: الله أكبر إذا أرادوا أن يكبروا وأن يحرموا للصلاة، وسأذكر ثلاثة أحاديث -أيضاً- في ذلك، حديثين صحيحين، وحديثاً فيه شيءٌ من الضعف يتقوى بالحديثين الصحيحين، الذين لا خلاف في صحتهما.

الحديث الأول: حديث رفاعة بن رافع، رواه الطبراني وأهل السنن الأربع، وهذا لفظ رواية الطبراني في معجمه الكبير بسندٍ رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء الثاني صفحة أربعٍ ومائة، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إنه لا تتم صلاةٌ لأحدٍ من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه )، أي: يضع الماء مواضعه على أعضائه، فيقوم بالوضوء كما أمر الله جل وعلا، ( فيضع الوضوء مواضعه، ثم يقول: الله أكبر )، لا تتم الصلاة إلا إذا توضأت، وهذا مفتاح الصلاة وهو الطهور، وإذا أحرمت للصلاة فأحرم بلفظة: الله أكبر، ( ثم يقول: الله أكبر )، ولفظ السنن الأربعة: ( ثم يكبر )، أي: يقف ثم يقول: (الله أكبر)، وقلت: إن رواية الطبراني تبين المراد بالتكبير أي: يقول: الله أكبر بهذه الصيغة.

وتمام الرواية: ( لا تتم صلاة أحدٍ من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر ويحمد الله عز وجل ويثني عليه، ثم يقرأ بما شاء من القرآن، ثم يقول: الله أكبر )، أي: للركوع، ( ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائماً، ويقول: الله أكبر للسجود، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع رأسه حتى يستوي قاعداً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ويرفعه ثانيةً فيكبر، فإذا فعل ذلك تمت صلاته ).

فتكبيرة الإحرام في رواية السنن الأربع عبر عنها بلفظ: ( ثم يكبر )، وتكبيرات الانتقال يقول: ( الله أكبر )، ورواية الطبراني على العكس من ذلك، ففي تكبيرة الإحرام: ( حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يقول: الله أكبر، ويحمد الله عز وجل ويثني عليه، ثم يقرأ بما شاء من القرآن، ثم يكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله )، بدل من قوله: ( ثم يقول: الله أكبر )، في تكبيرات الانتقال في رواية الطبراني : ( ثم يكبر )، فصرح بلفظ التكبير في تكبيرة الإحرام، وأتى بالصيغة المجملة في تكبيرات الانتقال في رواية الطبراني ، ورواية السنن على العكس، أتى بالصيغة المجملة في تكبيرة الإحرام، وبالمراد من هذا الإجمال ووضحه في تكبيرات الانتقال، فالروايتان بمعنىً واحد، ولعل رفاعة بن رافع رضي الله عنه تصرف في العبارة أو بعض الرواة الذين نقلوا هذا عنه بما مآله شيءٌ واحد، فبعضهم قال: (ثم يقول: الله أكبر) بعد أن يضع الوضوء مواضعه وهي تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ ما تيسر من القرآن، ثم يكبر، وبعضهم يقول: (بعد أن يضع الوضوء مواضعه يكبر، ثم يقرأ ما تيسر من القرآن، ثم يقول: الله أكبر)، مآل الروايتين إلى شيءٍ واحد، والمقصود أنه لا بد من لفظة الله أكبر عند تكبيرة الإحرام، عملاً بهذا الحديث الصحيح.

والرواية الثانية رواها البيهقي في السنن في الجزء الثاني صفحة ست عشرة، ورواها البزار في مسنده، وقال الهيثمي في المجمع: إسناد البزار حسن، في الجزء الثاني صفحة أربعٍ وثلاثين ومائة في مجمع الزوائد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قال الإمام -وفي روايةٍ: إذا قال إمامكم-: الله أكبر، يقول: الله أكبر )، أي: إذا كبر الإمام فكبروا وراءه، أي: تكبيرة الإحرام وما بعدها، وهذا بيانٌ للتكبير المجمل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم المصلي، وبين أن تحريم الصلاة يكون بالتكبير، وهاتان الروايتان صحيحتان.

والرواية الثالثة رواها الطبراني في معجمه الكبير، كما في المجمع في الجزء الثاني صفحة مائة واثنتين، وفيها يحيى بن يعلى الأسلمي وهو ضعيف، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي في السنن، وهذه الرواية من رواية الحكم بن عمير الثمالي ، وضبط الاسم في نصب الراية، وفي تلخيص الحبير وفي غيره: الشَمالي أو الشِمالي، الله عليم بالضبط ما شكلوها، لكن كتبت بالشين بدل الثاء وهذا غلط، والحكم صحابي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا، فيقول: إذا قمتم إلى الصلاة فارفعوا أيديكم، ثم قولوا: الله أكبر)، وهذه الرواية تتقوى بالروايات المتقدمة والعلم عند الله جل وعلا.

قال أئمتنا: وأما ما ورد من افتتاح نبينا عليه الصلاة والسلام صلاته بالتكبير، أي: بلفظ التكبير دون أن يبين المراد منها فهو متواتر، وقد أمر أمته بأن يفتتحوا صلاتهم بالتكبير، فعله وأمره بذلك متواتر، من ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من رواية عبد الله بن عمر ، وأبي هريرة ، وأبي حميد الساعدي رضي الله عنهم أجمعين، وفيها: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه ثم يكبر )، وفي روايةٍ: ( إذا دخل في الصلاة كبر )، وفي رواية أبي هريرة : ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر )، في قصة -كما سيأتينا- حديث المسيء في صلاته، وهكذا في رواية أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، والحديث كما قلت في الصحيحين وغيرهما، وهو في الكتب الستة، فرواية عبد الله بن عمر : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكون بحذو منكبيه، ثم يكبر).

ورواية أبي حميد رضي الله عنه، قال: (أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: صل، فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعاً، ولا أقدمنا له صحبة، قال: بلى، قالوا: فأعرض، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يرجع كل عظمٍ في موضعه معتدلاً ) -كما قلت ثم يكبر- ( وإذا أردت أن تصلي فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن )، الأحاديث في ذلك متواترة، لكن بهذه الصيغة المجملة، وأما لفظة: الله أكبر فقد وردت في رواياتٍ متعددة، ذكرت منها حديثين من فعل نبينا عليه الصلاة والسلام، وثلاثة أحاديث من قول نبينا عليه الصلاة والسلام أننا إذا أردنا أن نصلي فينبغي أن نكبر ونقول: الله أكبر، إذاً: الدليل الأول الذي يرجح قول الحنابلة والمالكية هو السنة الصحيحة الصريحة.

التوقف عند صيغة التكبير الواردة

الأمر الثاني الذي يرجح هذا القول، ويعين الأخذ به والمصير إليه ما قرره أئمتنا، قال الإمام أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي: العبادات تفعل على الرسم الوارد دون نظرٍ إلى شيءٍ من المعنى، يعني: تفعل على الكيفية التي رسمها وحدها وبينها رسول الله عليه الصلاة والسلام دون ملاحظة المعنى، فلا يقاس النظير على النظير فتقول: الله كبير كقوله: الله أكبر، لا دخل للمعنى في ذلك، كأنه يريد أن يقول: هي توقيفية، وكما أنك لا تغير في ألفاظ القرآن فلا تغير هذه الألفاظ المنقولة عن نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه العبادات، كما أنك إذا قرأت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1]، لا يجوز أن تقول: هلكت أو شقيت يدا أبي لهب ، إنما تقول: تبت، وهنا كذلك تقول: الله أكبر باللفظ الوارد، وبالرسم الوارد، وبالكيفية الواردة عن نبينا عليه الصلاة والسلام دون ملاحظة المعنى، خلافاً لما قرره ابن حزم وغيره -كما تقدم معنا- من أن المراد أن تأتي باسمٍ من أسماء الله ومعه التكبير بأي لفظٍ كان، كل هذا نظرٌ إلى المعنى دون اعتبار الرسم الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام.

وأنا أعجب من ابن حزم غاية العجب، حيث كان يشنع على أئمتنا في القياس، ثم جاء بعد ذلك بهذه الشعيرة التوقيفية التي هي عبادةٌ محضة، وسرح لعقله العنان ليقول بهذا القياس، الذي وصل به إلى مستوى الحنفية بعد أن شنع عليهم بعباراتٍ قاسية، حيث قال: تأتي بالتكبير بأي صيغةٍ كانت، لكن أين الرسم الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ وأين الصيغة الثابتة التي لا يجوز أن نتعداها؟ هذا كله أهمله، ونسأل الله أن يغفر لنا وله.

إذاً: الذي يرجح قول الحنابلة والمالكية أنها عبادة توقيفية، فينبغي أن نقتصر على الصفة الواحدة، ولو أراد الإنسان أن يركع على جنبه وقال: أنا أعظم الله بذلك، فإننا نقول: الصلاة باطلة، وأنت مستهزئ بالله، وهنا صيغة واردة فلم تبدلها؟

الأمر الثالث الذي يرجح قول المالكية والحنابلة، قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث الباب: ( وتحريمها التكبير )، وتعريف المسند والمسند إليه أعني: المبتدأ والخبر يفيد الحصر كما قرره علماء البلاغة، فقوله: ( وتحريمها التكبير )، كأنه يوجب الحكم لما ذكر، وينفيه ويسلبه عما لم يذكر، أي: كأنه يقول: لا تدخلوا في الصلاة إلا إذا كبرتم وقلتم: الله أكبر، وعليه فلا يتجوز ويقول بكل ثناءٍ وتعظيمٍ لله يجوز أن ندخل في الصلاة كما لو قلنا: سبحان الله، لا إله إلا الله، الله أعظم، هذا لا يجوز لأنه ما حصل المطلوب، ولا يمكن أن تدخل في الصلاة إلا بالصيغة التي بينها نبينا عليه الصلاة والسلام قوله: (تحريمها التكبير)، ذلك التكبير نقل عن نبينا عليه الصلاة والسلام من فعله ولفظه، فلا يجوز العدول عنه، والعلم عند الله جل وعلا.

فإذا قال قائل: ما دليل الحنفية عندما توسعوا هذا التوسع، والشافعي في مذهبه شيء من التوسع مع قرب من الدليل، وحاصل مذهبه: أنه لا بد من أن تحافظ على لفظ الجلالة الله الذي لا يجوز أن تغيره، والتكبير تأتي به أو بما يتضمنه، ولا مانع أن تقول: أكبر أو الأكبر، الله الأكبر، أو الله أكبر كبيراً، وإذا زدت وصفاً بعد ذلك في نعت الله ولم يطل الفصل فلا حرج؛ لأنك أتيت بالمطلوب وزدت زيادة تعظم بها الله، فلا يضر، فقول الشافعي يبقى فيه شيءٌ من القرب إلى هذا الدليل والوجاهة، أما قول الحنفية في الظاهر فهو في منتهى البعد؛ لأنهم ما اشترطوا لفظ التكبير على الإطلاق، ولا ذكر لفظ الجلالة، فلو قلت -كما تقدم معنا-: الرحمن أعظم عظيم صح هذا عندهم، فالأمر فيه سعة كبيرة عندهم، ولو قلت: لا إله إلا الله حصلت التحريمة ودخلت في الصلاة. وقالوا: دليلنا على ذلك آية من القرآن، وأما فعل النبي عليه الصلاة والسلام فهو لبيان الأكمل والأفضل، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، فكل ذكرٍ فيه تعظيمٌ لله يجوز أن تذكره، والفاء للترتيب مع التعقيب أي: تدخل في الصلاة، فإذا قلت: سبحان الله دخلت في الصلاة، ثم اقرأ دعاء الاستفتاح: وجهت وجهي، سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، ثم تقرأ الفاتحة.

والحنفية لورعهم وخشيتهم من ربهم قالوا: من لم يأت بهذه الصيغة الله أكبر فصلاته ناقصة ولكنها تنعقد وتصح؛ لأن هذا هو الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهم لا ينكرون ثبوت هذه الصيغة خلافاً لـابن حزم ، ولكنهم يقولون: هذا الثبوت إنما هو للأفضلية والكمال، كما يقال في دعاء الاستفتاح للكمال، وكذلك سمع الله لمن حمده، وهكذا أمورٌ كثيرة يفعلها المصلي في الصلاة هي من أمور الهيئات والسنن، إذ الواجب علينا والذي نلزم به أن نذكر صيغةً -أي صيغة- نعظم بها ربنا عند التحريمة، وهذا القول الذي قالوه حتماً يحتمله الدليل، والمقصود أن هذا الاستنباط أخذوه من نصوص الشريعة المطهرة، وأما كونك تراه بعيداً وهم يرونه قريباً فهذا موضوعٌ آخر، وكل مجتهدٍ مأجور، وقد يكون مخطئاً فهو معذور، وقد يكون مصيباً فسعيه مشكور، فانتبه لهذا.

قوله تعالى: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:15]، هذه الآية تحتمل هذا كما قرر أئمة التفسير ما هو أكثر من قول الحنفية وأوسع، فقال جمع من المفسرين في قوله تعالى: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:15]، أي: استحضر الله وعظمته وخشيته وذكره في قلبه عند بدء صلاته ليحصل له الخشوع في صلاته.

وقال جمع آخر أيضاً قوله تعالى: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:15]: لا علاقة لهذا الذكر بالصلاة، وإنما المعنى أنه يذكر ويصلي، وهذا كقول الله في نعت الذين يوجدون في بيوت الله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:36-37]، وإذاً: ليس وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ [الأعلى:15] يعني التحريمة بأي صيغةٍ كانت، وقال جمع: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ [الأعلى:15]، أي: كبر تكبيرات العيد، فَصَلَّى [الأعلى:15] أي: صلى صلاة العيد.

والمقصود أن الآية تحتمل ما قاله الحنفية وما هو أكثر، فاستدلوا بعمومها على هذا المطلوب، وقالوا: يبقى فعل النبي عليه الصلاة والسلام لبيان الأكمل والأحسن والأفضل، ولا نزاع في ذلك عندنا.

للمذاهب الأربعة في ذلك ثلاثة أقوال، أولها وهو أقواها، قول أحمد ومالك أنه يشترط لصحة تكبيرة الإحرام المحافظة على هذه الصيغة، دون زيادةٍ أو نقصان، فمن زاد أو أنقص أو قدم أو أخر بطلت الصلاة، فلو قال: الله الأكبر، الله كبير، الله أكبر كبيراً، وإذا زاد: الله الجليل أكبر، أو قدم وأخر: أكبر الأكبر الله، كل هذا عند الحنابلة والمالكية لا يصح، ولا تنعقد الصلاة بهذه الصيغ بل بالصيغة الواردة الله أكبر.

وهناك قولٌ ثانٍ ذهب إليه الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي عليه رحمة الله، فقال: إذا زاد على هذه الصيغة أو غير فيها بما يحتوي عليها ويتضمنها فلا يضر ذلك، فلو قال: الله الأكبر، الله أكبر كبيراً، أو نعت لفظ الجلالة بنعتٍ ثم أتبعه بالتكبير بشرط ألا يطول الفصل فلا حرج، فلو قال: الله عز وجل أكبر، الله سبحانه أكبر، كل هذا فيه سعة، وتنعقد الصلاة به؛ لأنه أتى بالمطلوب ألا وهو لفظ التكبير الوارد عن نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه، أما إذا طال الفصل بين لفظ الجلالة ولفظ التكبير فلا تنعقد الصلاة، ولا تصح تكبيرة الإحرام، فلو قال: الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر أكبر، ثم طال الفصل فلا تصح الصلاة.

وأما الحنفية فقد توسعوا غاية التوسع فقالوا: تكبيرة الإحرام شرطٌ للصلاة وركنٌ من أركانها، ولكن لا يشترط لفظة التكبير، فالتحريم يصح بكل ذكرٍ فيه ثناءٌ على الله وتعظيمٌ له، فحال لفظة التكبير كحال الخطب التي تقال عند الجمعة يثني الإنسان على ربه بما شاء، فليس ذلك كألفاظ القرآن التي لا يمكن أن نبدلها، ولا أن نغيرها، ولا أن نزيد فيها وننقص منها، وعليه لو قال عند الحنفية -كما تقدم معنا-: سبحان الله انعقدت الصلاة، أو: الرحمن أكبر انعقدت الصلاة، إلى غير ذلك من الصيغ الجائزة عندهم.

وقد شنع ابن حزم -عليه رحمة الله- على الحنفية غاية التشنيع في كتابه المحلى، ووصف قولهم بأنه تحريف وهدمٌ للإسلام، وشرائع جديدة فاسدة.

سبحان الله! هذه الأقوال من ابن حزم -كما يقال- أقوى من الصواريخ يطلقها على أئمتنا الهداة المهتدين، وليته لم يقل بمثل قولهم، حتى نقول: عاب عليهم هذا القول، ولكنه قال بما قاله الحنفية، فعلام يذمهم وهو يقول: يجوز أن تأتي بأمرين في تكبيرة الإحرام: على لفظ اسم من أسماء الله بأي وصف كان، فلا يشترط لفظ الجلالة (الله)، وأن تأتي بمعنى التكبير بأي صيغةٍ كانت، فلو قلت: الرحمن كبير انعقدت الصلاة عند ابن حزم ، يعني: ما خالف الحنفية إلا في سبحان الله ولا إله إلا الله، فلم بعد ذلك يعيب على الحنفية؟ وماذا بينه وبين الحنفية؟! ولم يشن عليهم بهذه العبارات؟ فهل هو يُخاطب اليهود أو النصارى حتى يقول: هذا تخليط وهدمٌ للإسلام، وهذه شرائع جديدةٍ فاسدة، هذا كلامٌ باطل، وكما تقدم معنا في ترجمة ابن حزم -رحمه الله وغفر له- أن لسانه وسيف الحجاج شقيقان، فلنحذر هذه البذاءة التي يتلفظ بها، ولنستغفر له.

قال ابن حزم في المحلى الجزء الثالث صفحة اثنتين وثلاثين ومائتين: يجزئ أن يقول المصلي: الله الأكبر، الله أكبر، الأكبر الله، الكبير الله، الرحمن أكبر. قال: وأي اسمٍ من أسماء الله ذكر بالتكبير فقد تحقق المراد بأنه كبر، والنبي عليه الصلاة والسلام طلب منا أن نكبر إذا أردنا أن نصلي، يقول: وكل هذا تكبيرٌ، ولا يقع التكبير على غير هذا.

ثم قال: وأما اشتراط مالك وأحمد للتحريمة بلفظ الله أكبر، فهو تخصيصٌ للتكبير بلا برهان. ثم تكلم ابن حزم بما لا يثبت فقال: وادعى بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فقل: الله أكبر)، وهذا باطل، ما عرف قط، ولو وجدناه صحيحاً لقلنا به. أقول: على رسلك فقد ثبت هذا صحيحاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ويلزمك أن تقول به، وأن ترجع عن أقوالك.