شرح سنن ابن ماجه المقدمة [15]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب فضل العلماء والحث على طلب العلم.

حدثنا بكر بن خلف أبو بشر حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ].

قال المحقق: إسناده مضطرب ومتنه صحيح، فقد اختلف فيه على الزهري فرواه النسائي في الكبرى من حديث شعيب عن الزهري.

والمتن صحيح كما ذكره في الحاشية، أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله من حديث معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وأنا قاسم والله معطي) فهو حديث عظيم، لكنه بهذا السند كما ذكر المؤلف فيه اختلاف، لكن متن الحديث أخرجه الشيخان: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وأنا قاسم والله معطي)، وهذا الحديث له منطوق وله مفهوم، فمنطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيراً، ومفهومه: أن من لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فهذا الحديث حديث عظيم فيه الحث على التفقه في الدين، والتفقه في الدين عام، وأعظم التفقه في الدين التفقه في أسماء الله وصفاته وحكمه، والتفقه في معرفة الحلال والحرام والواجب، والتفقه في شرع الله ودينه؛ حتى يعبد الإنسان ربه على بصيرة، فمن فقهه الله في الدين فقد أراد به خيراً، ومن لم يفقهه في الدين فلم يرد به خيراً؛ لأنه معرض، نسأل الله السلامة والعافية، والإعراض الكامل عن الدين ردة عن الإسلام، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3] ، فالإعراض عن دين الله وكون الإنسان لا يتعلمه ولا يعبد الله هذا ناقض من نواقض الإسلام، فمن أعرض عن دين الله، لا يتعلم دين الله، ولا يعبد الله فهو مرتد عن الإسلام، فمن أعرض عن الفقه في الدين ولم يتعلم دين الله ولم يعبد الله فهو مرتد، نسأل الله السلامة والعافية.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا مروان بن جناح عن يونس بن ميسرة بن حلبس أنه حدثه قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخير عادة، والشر لجاجة، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ].

قال في تخريجه: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وقال البوصيري : رواه ابن حبان في صحيحه من طريق هشام بن عمار وذكره بإسناده ومتنه سواء، والجملة الثانية في الصحيح من حديث معاوية من طريق الوليد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا روح بن جناح أبو سعد عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد) ].

وهذا الحديث ضعيف؛ لأن روح بن جناح هذا ضعيف جداً، حتى إن الشيخ الألباني رحمه الله قال: إنه موضوع، وقد لا يصل إلى درجة الوضع، فهو ضعيف جداً.

قال في تخريجه: إسناده ضعيف جداً بسبب روح بن جناح القرشي الدمشقي ضعفه غير واحد، واتهمه الحاكم في رواية حديث موضوع عن مجاهد ، وقال ابن عدي بعد أن ساق له أحاديث: ولـروح بن جناح غير ما ذكرت من الحديث قليل، وعامة حديثه ما ذكرت، وربما أخطأ في الأسانيد.

فهذا الحديث ضعيف جداً، لكن لا شك أن الفقيه أشد على الشيطان من آلاف العابدين؛ لأن الفقيه يتبصر في دين الله، ويعلم شرع الله، بخلاف العابد؛ فإن العابد الذي ليس عنده بصيرة يتعبد على ضلال، وقد يضل وقد يغويه الشيطان، أما الفقيه فإن الشيطان يفر منه ولا يستطيع أن يلبس عليه، بخلاف العابد فإنه قد يلبس عليه الشيطان، فيترك ما هو عليه من العبادة، ولا شك أن الفقيه أشد على الشيطان، أما هذا الحديث فهو ضعيف، لأن هذا السند ضعيف.

شرح حديث: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا عبد الله بن داود عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن داود بن جميل عن كثير بن قيس قال: كنت جالساً عند أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء! أتيتك من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ].

وهذا الحديث فيه داود بن جميل ضعيف، وشيخه كثير بن قيس ضعيف، لكن الحديث له شواهد، وهذه الجمل لها شواهد تدل عليها، وهي جمل عظيمة، وقوله: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) جاء ما يدل على أن الملائكة تتبع مجالس الذكر، وقوله: (والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر) ، وهذا صحيح دلت عليه النصوص، وهكذا قوله: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ، فهذه الجمل لها شواهد.

قال في تخريجه: إسناده ضعيف لجهالة داود بن جميل وضعف كثير بن قيس ويقال: قيس بن كثير ، ورواه أحمد والترمذي بإسقاط داود بن جميل من السند، وقال: ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة ، وليس هو عندي بمتصل، هكذا حدثنا محمود بن خداش بهذا الإسناد، وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن الوليد بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح من حديث محمود بن خداش ، ورأي محمد بن إسماعيل هذا أصح، وأخرجه أبو داود من طريق محمد بن وزير الدمشقي ، ثم قال: وهو إسناد حسن وفي الشواهد.

وهذا الحديث قال فيه كثير بن قيس : كنت جالساً عند أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء ! أتيتك من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً؛ إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ].

قوله: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً) لا شك أن من كان قصده أن يتعلم الفقه في دينه أنه قد سلك طريقاً إلى الجنة.

وقوله: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم) وهذا أيضاً كذلك له شواهد تدل عليه وهو على حقيقته، فإن الملائكة تتتبع مجالس الذكر وتحف أهل الذكر في الحلق.

وقوله: (وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ].

كل هذه الجمل جمل عظيمة، وكلها صحيحة لها شواهد.

شرح حديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هشام بن عمار حدثنا حفص بن سليمان البزاز قال: حدثنا كثير بن شنظير عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب) ].

هذا الحديث ضعيف لأجل حفص بن سليمان ضعيف جداً، لكن قوله: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) له شواهد تدل عليها، ولا شك أن قوله: (فريضة على كل مسلم) المراد: العلم الذي هو فريضة يقوم به دين الإسلام، فيجب على كل إنسان أن يتعلم ما يقوم به دينه، يتعلم كيف يعبد الله، ويتعلم أن الله أوجب عليه التوحيد، وأن الشرك محرم، ويتعلم كيف يصلي، وكيف يزكي إذا كان عنده مال، وكيف يحج، وكيف يصوم، هذا فرض على كل مسلم أن يتعلم كيف يعبد الله، فكل مسلم لا بد أن يطلب العلم حتى يعرف كيف يصلي، وكيف يزكي، وكيف يحج، وكيف يقيم دينه، وما زاد على ذلك فهو فرض كفاية.

وأما قوله: (وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الذهب واللؤلؤ والجوهر) هذا ضعيف.

شرح حديث: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ].

وهذا حديث عظيم رواه مسلم في صحيحه وغيره، وهو حديث عظيم اشتمل على هذه الجمل العظيمة: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) والجزاء من جنس العمل، (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فالجزاء من جنس العمل، يجازى الإنسان من جنس عمله.

وقوله: (من نفس عن مسلم كربة) يعني: وجده في ضائقة فنفس عليه كربة الدين ودفع عنه دينه، أو أنظره إذا كان يطلبه، أو أعطاه إذا كان معسراً، أو خلصه من شدة وقع فيها، والجزاء: (نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).

وقوله: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، من يسر على معسر بأن لم يشدد عليه في اقتضاء الدين، أو يسر عليه في بيعه وشرائه يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فإذا ستر على مسلم وأخفى فيه عيباً، أو ستره إذا كان من أصحاب العثرات التي وقع فيها، فإذا وقع في زلة نصحه وستر عليه إذا كان من ذوي الهيئات، بخلاف ما إذا كان من المستهترين أو من المجاهرين؛ فإن هذا له حكم آخر، لكن إذا كان من أهل الهيئات ووقع في زلة ثم نصحه وستر عليه ستره الله في الدنيا والآخرة.

وقوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، الجزاء من جنس العمل، فإذا أعانه في قضاء دينه، أو أعانه في حمل متاعه، أو أعانه في إصلاح سيارته، أو أعانه في بناء بيته فإن الله يكون في عونه.

وقوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).

وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة تحصل للمجتمعين أهل العلم الذين يتدارسون ويتحلقون في حلق العلم ويدرسون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، تحصل لهم هذه المزايا، نسأل الله أن يجعل مجالسنا تنزل عليها السكينة وتحفها الملائكة وتغشاها الرحمة.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ، والمعنى: من كان عمله سيئاً فإن نسبه لا يفيده ولا يرفعه ولا يلحقه بدرجة الأتقياء، فإذا كان عمله سيئاً لا ينفعه النسب، ولو كان من أولاد الأنبياء، ولو كان من الأشراف.

وقوله: (من أبطأ به عمله) أي: أخره عمله لأنه كان سيئاً فإن نسبه لا يسرع به ولا يلحقه مع الأولياء ومع المتقين، فمجرد النسب لا يكفي ولو كان من كان؛ المهم العمل.

قال في تخريجه: إسناده صحيح، وقد صرح سليمان بن مهران الأعمش بالسماع من أبي صالح عند مسلم ، وأخرجه الإمام مسلم .

وقوله: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) هذا منطوق، منطوقه: أن من تأخر به العمل لا يلحقه النسب، لكن لو كان له عمل وليس له نسب فلا يضره، فإن النسب ليس له ميزان عند الله، فالإنسان ولو لم يكن له نسب إذا كان عمله صالح فلا يضره.

شرح حديث: (ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فقال: ما جاء بك؟ قلت: أنبط العلم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع) ].

وأنبط من الرباعي، يعني: أتخذ العلم؛ لأنه تعلم من العلماء.

قال في تخريجه: إسناده صحيح، عاصم عندنا ثقة كما حققناه في تعقباتنا.

وهذا الحديث شهد له الحديث السابق: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) وهذا في فضل العلم وطلب العلم.

ثم قال: وقال الترمذي : حسن صحيح، قال محمد بن إسماعيل: أحسن شيء في هذا الباب حديث صفوان بن عسال المرادي.

شرح حديث: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره) ].

قال في تخريجه: إسناده حسن؛ فـحميد بن صخر ويقال هو حميد بن زياد أبو صخر صدوق يهم في الحديث.

وقوله: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره) هذا فيه بيان أن التعلم والتعليم نوع من الجهاد، ولهذا قال سبحانه: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] .

وفيه فضل التعلم في المساجد، فالمساجد لها فضل في التعلم والتعليم.

شرح حديث: (عليكم بهذا العلم قبل أن يقبض...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عثمان بن أبي عاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بهذا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يرفع، وجمع بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام هكذا، ثم قال: العالم والمتعلم شريكان في الأجر، ولا خير في سائر الناس) ].

وهذا الحديث ضعيف، علته علي بن يزيد الألهاني والقاسم وكلاهما ضعيف، ولكن المعنى صحيح في الحث على طلب العلم قبل أن يقبض، وقبضه بموت العلماء، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، والمعنى صحيح، لكن الحديث هذا ضعيف من أجل علي بن يزيد الألهاني وكذلك القاسم.

شرح حديث: (خرج رسول الله ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد...)

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا بشر بن هلال الصواف حدثنا داود بن الزبرقان عن بكر بن خنيس عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين: إحداهما: يقرءون القرآن ويدعون الله، والأخرى: يتعلمون ويعلمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل على خير؛ هؤلاء يقرءون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلمون، وإنما بعثت معلماً فجلس معهم) ].

وهذا ضعيف من أجل داود بن الزبرقان وشيخه بكر بن خنيس ، وكذلك عبد الرحمن بن زياد كل هؤلاء ضعفاء، والذين يقرءون القرآن هم يتعلمون العلم وليسوا خارجين عن العلم، فكل من الحلقتين سواء، فالذين يقرءون القرآن والذين يتعلمون العلم هم حلقة واحدة.

قال في تخريجه: إسناده ضعيف جداً؛ داود بن الزبرقان الرقاشي البصري متروك وكذبه الأزدي ، وبكر بن خنيس ضعيف عندنا وإن قال الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق له أغلاط.

وقال في تخريج الحديث الذي قبله: إسناده ضعيف لضعف علي بن يزيد الألهاني ، قال: يحيى بن معين : علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة هي ضعاف كلها.

والعالم الذي يتقن صلاته يقدم للإمامة بالناس، ومن كان قارئاً للقرآن ويعلم صحة صلاته يقدم، وإذا كان يجهل كثيراً من أحكام الصلاة يقدم العالم، والقراء كانوا هم العلماء؛ فقد كان القارئ هو العالم وهو الفقيه، قارئ وفقيه، ثم وجد في العصور المتأخرة قراء ليسوا فقهاء.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا عبد الله بن داود عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن داود بن جميل عن كثير بن قيس قال: كنت جالساً عند أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء! أتيتك من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ].

وهذا الحديث فيه داود بن جميل ضعيف، وشيخه كثير بن قيس ضعيف، لكن الحديث له شواهد، وهذه الجمل لها شواهد تدل عليها، وهي جمل عظيمة، وقوله: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) جاء ما يدل على أن الملائكة تتبع مجالس الذكر، وقوله: (والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر) ، وهذا صحيح دلت عليه النصوص، وهكذا قوله: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ، فهذه الجمل لها شواهد.

قال في تخريجه: إسناده ضعيف لجهالة داود بن جميل وضعف كثير بن قيس ويقال: قيس بن كثير ، ورواه أحمد والترمذي بإسقاط داود بن جميل من السند، وقال: ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة ، وليس هو عندي بمتصل، هكذا حدثنا محمود بن خداش بهذا الإسناد، وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن الوليد بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح من حديث محمود بن خداش ، ورأي محمد بن إسماعيل هذا أصح، وأخرجه أبو داود من طريق محمد بن وزير الدمشقي ، ثم قال: وهو إسناد حسن وفي الشواهد.

وهذا الحديث قال فيه كثير بن قيس : كنت جالساً عند أبي الدرداء رضي الله عنه في مسجد دمشق، فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء ! أتيتك من المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً؛ إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ].

قوله: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً) لا شك أن من كان قصده أن يتعلم الفقه في دينه أنه قد سلك طريقاً إلى الجنة.

وقوله: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم) وهذا أيضاً كذلك له شواهد تدل عليه وهو على حقيقته، فإن الملائكة تتتبع مجالس الذكر وتحف أهل الذكر في الحلق.

وقوله: (وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) ].

كل هذه الجمل جمل عظيمة، وكلها صحيحة لها شواهد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هشام بن عمار حدثنا حفص بن سليمان البزاز قال: حدثنا كثير بن شنظير عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب) ].

هذا الحديث ضعيف لأجل حفص بن سليمان ضعيف جداً، لكن قوله: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) له شواهد تدل عليها، ولا شك أن قوله: (فريضة على كل مسلم) المراد: العلم الذي هو فريضة يقوم به دين الإسلام، فيجب على كل إنسان أن يتعلم ما يقوم به دينه، يتعلم كيف يعبد الله، ويتعلم أن الله أوجب عليه التوحيد، وأن الشرك محرم، ويتعلم كيف يصلي، وكيف يزكي إذا كان عنده مال، وكيف يحج، وكيف يصوم، هذا فرض على كل مسلم أن يتعلم كيف يعبد الله، فكل مسلم لا بد أن يطلب العلم حتى يعرف كيف يصلي، وكيف يزكي، وكيف يحج، وكيف يقيم دينه، وما زاد على ذلك فهو فرض كفاية.

وأما قوله: (وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الذهب واللؤلؤ والجوهر) هذا ضعيف.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ].

وهذا حديث عظيم رواه مسلم في صحيحه وغيره، وهو حديث عظيم اشتمل على هذه الجمل العظيمة: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) والجزاء من جنس العمل، (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فالجزاء من جنس العمل، يجازى الإنسان من جنس عمله.

وقوله: (من نفس عن مسلم كربة) يعني: وجده في ضائقة فنفس عليه كربة الدين ودفع عنه دينه، أو أنظره إذا كان يطلبه، أو أعطاه إذا كان معسراً، أو خلصه من شدة وقع فيها، والجزاء: (نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).

وقوله: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، من يسر على معسر بأن لم يشدد عليه في اقتضاء الدين، أو يسر عليه في بيعه وشرائه يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فإذا ستر على مسلم وأخفى فيه عيباً، أو ستره إذا كان من أصحاب العثرات التي وقع فيها، فإذا وقع في زلة نصحه وستر عليه إذا كان من ذوي الهيئات، بخلاف ما إذا كان من المستهترين أو من المجاهرين؛ فإن هذا له حكم آخر، لكن إذا كان من أهل الهيئات ووقع في زلة ثم نصحه وستر عليه ستره الله في الدنيا والآخرة.

وقوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، الجزاء من جنس العمل، فإذا أعانه في قضاء دينه، أو أعانه في حمل متاعه، أو أعانه في إصلاح سيارته، أو أعانه في بناء بيته فإن الله يكون في عونه.

وقوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).

وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة تحصل للمجتمعين أهل العلم الذين يتدارسون ويتحلقون في حلق العلم ويدرسون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، تحصل لهم هذه المزايا، نسأل الله أن يجعل مجالسنا تنزل عليها السكينة وتحفها الملائكة وتغشاها الرحمة.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) ، والمعنى: من كان عمله سيئاً فإن نسبه لا يفيده ولا يرفعه ولا يلحقه بدرجة الأتقياء، فإذا كان عمله سيئاً لا ينفعه النسب، ولو كان من أولاد الأنبياء، ولو كان من الأشراف.

وقوله: (من أبطأ به عمله) أي: أخره عمله لأنه كان سيئاً فإن نسبه لا يسرع به ولا يلحقه مع الأولياء ومع المتقين، فمجرد النسب لا يكفي ولو كان من كان؛ المهم العمل.

قال في تخريجه: إسناده صحيح، وقد صرح سليمان بن مهران الأعمش بالسماع من أبي صالح عند مسلم ، وأخرجه الإمام مسلم .

وقوله: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) هذا منطوق، منطوقه: أن من تأخر به العمل لا يلحقه النسب، لكن لو كان له عمل وليس له نسب فلا يضره، فإن النسب ليس له ميزان عند الله، فالإنسان ولو لم يكن له نسب إذا كان عمله صالح فلا يضره.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [12] 2222 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [16] 2218 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [9] 2142 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [10] 2072 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [2] 2029 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [4] 1900 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [18] 1796 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [6] 1777 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [1] 1751 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [8] 1701 استماع