شرح سنن ابن ماجه المقدمة [18]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب من سئل عن علم فكتمه.

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا عمارة بن زاذان ، حدثنا علي بن الحكم ، حدثنا عطاء ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتي به يوم القيامة مُلْجَمَاً بلجام من النار) قال أبو الحسن أي: القطان : وحدثنا أبو حاتم ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا عمارة بن زاذان فذكر نحوه.

حدثنا أبو مروان العثماني محمد بن عثمان ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: والله لولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت عنه - يعني: عن النبي صلى الله عليه وسلم - شيئا أبداً، لولا قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ [البقرة:174] إلى آخر الآيتين ].

أبو الحسن القطان هو راوي السنن عن ابن ماجة .

فهذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لبيان حكم من كتم شيئاً من العلم.

الحديث الأول في سنده عمارة بن زاذان وهو ضعيف إلا أن له متابع، فيشهد له، فيكون الحديث بهذا حسناً لغيره، ويصلح للاحتجاج، ويشهد له الحديث الذي بعده.

وهذان الحديثان دليلان على أنه لا يجوز كتمان العلم، وأنه يحرم كتمانه، وفيه وعيد شديد على من كتم العلم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (من حفظ علماً فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار).

وفي الحديث الثاني يقول أبو هريرة رضي الله عنه: لولا آيتين من كتاب الله ما حدثتكم وهما قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160] فاشترط الله تعالى لتوبتهم البيان لما كتموا من العلم، ولا تصح التوبة إلا بالبيان.

عدم صحة التوبة ممن كتم العلم إلا ببيان ما كتمه

من عمل معصية ثم تاب منها لا بد أن يتوب منها لذاتها، فإذا كان مثلاً قاتلاً، فلا بد أن يتوب فيما بينه وبين الله ويسلم نفسه لأولياء القتيل؛ حتى تصح توبته، وإذا كان كاتماً فلا بد من التوبة، وتوبته أن يبين؛ ولهذا قال الله: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160].

وجاء في معنى هذه الآيات والأحاديث نصوص أخرى تدل على أنه لا يجوز الكتمان، فالله سبحانه وتعالى نعى على أهل الكتاب كونهم يكتمون العلم، قال تعالى: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:62-63].

وقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].

فهذه الآيات وهذه النصوص كلها فيها الذم لمن كتم العلم، وفيها تحريم كتمان العلم، والوعيد الشديد لمن كتم علماً.

قال الخطابي رحمه الله: إن هذه الأحاديث تشير إلى نوع من العلم، وهو العلم الضروري لا فضول العلم، فإذا كتمه كأن يكتم الإسلام والصلاة عَمَّن جاء يسأله، وقد حان وقت الصلاة مثلاً، فإنه يقع في حكم هذه النصوص وينطبق عليه هذا الوعيد وهذا الوصف.

والصواب: أنه عام في كل كتمان للعلم، سواء سئل عنه أو لم يسأل عنه، والخطابي يقول: هذا في نوع خاص، وهو العلم الضروري الذي إذا سئل عنه كتمه.

والصواب: أنه عام في كل علم يحتاجه الناس، سواء سئل عنه كما في هذا الحديث، أو لم يسأل عنه، فكل علم يحتاج إليه الناس فيكتمه؛ فعليه الوعيد إلا إذا بينه غيره، فإنه يسقط فرض الكفاية، وأدى ما عليه.

فكل علم يحتاج إليه الناس، ويكتمه الإنسان فهو آثم إلا إذا بينه غيره، فإن قام غيره بالبيان سقط عنه الفرض، أما إذا لم يبينه غيره، والناس محتاجون إليه، وعنده هذا العلم، فلا بد أن يبينه، وإلا فإنه يأثم.

ومن الآيات التي تدل على أنَّ من كتم العلم آثم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:174] وهذا فيه الوعيد، وكذلك الآية التي قبلها قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] وكذلك أخذ الميثاق على أهل الكتاب وذم الكتمان، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمران:187].

وقوله تعالى في سورة المائدة: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63]

فالآية التي قبلها في سورة المائدة: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] ثم قال: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [المائدة:63] يعني: هلا ينهاهم الربانيون والعلماء، عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63].

والتخريج في الكتاب الثاني، رواه الشيخان، البخاري ومسلم .

قوله: [ حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني حدثنا خلف بن تميم عن عبد الله بن السري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها؛ فمن كتم حديثاً فقد كتم ما أنزل الله).

وهذا الحديث ضعيف جداً، فيه حسين بن أبي السري رمي بالكذب، وفيه عبد الله بن السري أيضاً ضعيف ومنقطع؛ لأن عبد الله بن السري لم يَرْوِ عن ابن المنكدر ففيه ثلاث علل.

والحديث كما قال الألباني رحمه الله: لم ينفرد به أبو السري ، ولو انفرد به لكان موضوعاً، لكن رواه غيره، فيكون ضعيفاً جداً، والسري متهم بالكذب نسأل الله العافية، أو وضاع.

وقال البوصيري في سند هذا الحديث: هذا إسناد فيه الحسين بن أبي السري كذاب ، وعبد الله بن السري ضعيف.

وذكر المزي في الأطراف أن عبد الله بن السري لم يدرك محمد بن المنكدر .

والكتمان النهي عنه عام، ولا يتعلق بما قيد في الحديث بأنه إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فكتم العلم لا يقيد بهذه الحالة، بل هو في كل وقت منهي عنه، وكل علم للناس إليه حاجة ففي كتمانه وعيد شديد، إلا إذا بينه غيره.

قوله: [ حدثنا أحمد بن الأزهر ، حدثنا الهيثم بن جميل ، حدثني عمرو بن سليم ، حدثنا يوسف بن إبراهيم قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار) ].

وهذا الحديث ضعيف أيضاً، فيه يوسف بن إبراهيم ، لكن متن الحديث صحيح، إذْ يشهد له الحديث الأول والثاني، فمتن الحديث صحيح، وإن كان السند ضعيفاً لأجل يوسف بن إبراهيم ، وفيه تحريم الكتمان، فيحرم على من علم شيئاً أن يكتمه إذا كان للناس حاجة إليه.

قوله: [ حدثنا إسماعيل بن حبان بن وافد الثقفي أبو إسحاق الواسطي ، حدثنا عبد الله بن عاصم ، حدثنا محمد بن داب ، عن صفوان بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كتم علماً مما ينفع الله به في أمر الناس في أمر الدين، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار) ].

وهذا الحديث ضعيف أيضاً؛ لأن فيه محمد بن داب وهو ضعيف، ومتن الحديث صحيح تشهد له أحاديث سابقة، وهو أنه يحرم الكتمان.

قوله: [ حدثنا محمد بن عبد الله بن حفص بن هشام بن زيد بن أنس بن مالك ، حدثنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار) ].

هذا الحديث إسناده حسن، محمد بن عبد الله بن حفص شيخ ابن ماجة روى عنه جمع، ووثقه ابن حبان ، ولا نعلم فيه جرحاً.

وهذا الحديث يضم إلى الأحاديث السابقة، وهو يدل على تحريم الكتمان، وأنه لا يجوز، وأنه من كتم علماً فله الوعيد الشديد، وأنه يجب على الإنسان أن يبين ما عنده من العلم إذا كان الناس محتاجين إليه، وكذلك إذا سئل عنه وعنده علم فيجب عليه أن يبين ولا يكتم، فإن بينه غيره فإنه سيرتفع عنه الإثم، ويبقى الاستحباب في البيان.

ومعلومٌ أنَّ الناس يستبعدون الفتوى؛ لعلمهم أن غيرهم يكفيهم، لكن إذا تعين على الإنسان ولم يوجد غيره فيجب عليه أن يبين، إلا الشيء الذي لم يتحقق منه، والذي فيه إشكال فلا يتكلم فيه.

من عمل معصية ثم تاب منها لا بد أن يتوب منها لذاتها، فإذا كان مثلاً قاتلاً، فلا بد أن يتوب فيما بينه وبين الله ويسلم نفسه لأولياء القتيل؛ حتى تصح توبته، وإذا كان كاتماً فلا بد من التوبة، وتوبته أن يبين؛ ولهذا قال الله: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160].

وجاء في معنى هذه الآيات والأحاديث نصوص أخرى تدل على أنه لا يجوز الكتمان، فالله سبحانه وتعالى نعى على أهل الكتاب كونهم يكتمون العلم، قال تعالى: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:62-63].

وقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].

فهذه الآيات وهذه النصوص كلها فيها الذم لمن كتم العلم، وفيها تحريم كتمان العلم، والوعيد الشديد لمن كتم علماً.

قال الخطابي رحمه الله: إن هذه الأحاديث تشير إلى نوع من العلم، وهو العلم الضروري لا فضول العلم، فإذا كتمه كأن يكتم الإسلام والصلاة عَمَّن جاء يسأله، وقد حان وقت الصلاة مثلاً، فإنه يقع في حكم هذه النصوص وينطبق عليه هذا الوعيد وهذا الوصف.

والصواب: أنه عام في كل كتمان للعلم، سواء سئل عنه أو لم يسأل عنه، والخطابي يقول: هذا في نوع خاص، وهو العلم الضروري الذي إذا سئل عنه كتمه.

والصواب: أنه عام في كل علم يحتاجه الناس، سواء سئل عنه كما في هذا الحديث، أو لم يسأل عنه، فكل علم يحتاج إليه الناس فيكتمه؛ فعليه الوعيد إلا إذا بينه غيره، فإنه يسقط فرض الكفاية، وأدى ما عليه.

فكل علم يحتاج إليه الناس، ويكتمه الإنسان فهو آثم إلا إذا بينه غيره، فإن قام غيره بالبيان سقط عنه الفرض، أما إذا لم يبينه غيره، والناس محتاجون إليه، وعنده هذا العلم، فلا بد أن يبينه، وإلا فإنه يأثم.

ومن الآيات التي تدل على أنَّ من كتم العلم آثم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:174] وهذا فيه الوعيد، وكذلك الآية التي قبلها قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] وكذلك أخذ الميثاق على أهل الكتاب وذم الكتمان، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ [آل عمران:187].

وقوله تعالى في سورة المائدة: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63]

فالآية التي قبلها في سورة المائدة: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] ثم قال: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [المائدة:63] يعني: هلا ينهاهم الربانيون والعلماء، عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63].

والتخريج في الكتاب الثاني، رواه الشيخان، البخاري ومسلم .

قوله: [ حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني حدثنا خلف بن تميم عن عبد الله بن السري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها؛ فمن كتم حديثاً فقد كتم ما أنزل الله).

وهذا الحديث ضعيف جداً، فيه حسين بن أبي السري رمي بالكذب، وفيه عبد الله بن السري أيضاً ضعيف ومنقطع؛ لأن عبد الله بن السري لم يَرْوِ عن ابن المنكدر ففيه ثلاث علل.

والحديث كما قال الألباني رحمه الله: لم ينفرد به أبو السري ، ولو انفرد به لكان موضوعاً، لكن رواه غيره، فيكون ضعيفاً جداً، والسري متهم بالكذب نسأل الله العافية، أو وضاع.

وقال البوصيري في سند هذا الحديث: هذا إسناد فيه الحسين بن أبي السري كذاب ، وعبد الله بن السري ضعيف.

وذكر المزي في الأطراف أن عبد الله بن السري لم يدرك محمد بن المنكدر .

والكتمان النهي عنه عام، ولا يتعلق بما قيد في الحديث بأنه إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فكتم العلم لا يقيد بهذه الحالة، بل هو في كل وقت منهي عنه، وكل علم للناس إليه حاجة ففي كتمانه وعيد شديد، إلا إذا بينه غيره.

قوله: [ حدثنا أحمد بن الأزهر ، حدثنا الهيثم بن جميل ، حدثني عمرو بن سليم ، حدثنا يوسف بن إبراهيم قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار) ].

وهذا الحديث ضعيف أيضاً، فيه يوسف بن إبراهيم ، لكن متن الحديث صحيح، إذْ يشهد له الحديث الأول والثاني، فمتن الحديث صحيح، وإن كان السند ضعيفاً لأجل يوسف بن إبراهيم ، وفيه تحريم الكتمان، فيحرم على من علم شيئاً أن يكتمه إذا كان للناس حاجة إليه.

قوله: [ حدثنا إسماعيل بن حبان بن وافد الثقفي أبو إسحاق الواسطي ، حدثنا عبد الله بن عاصم ، حدثنا محمد بن داب ، عن صفوان بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كتم علماً مما ينفع الله به في أمر الناس في أمر الدين، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار) ].

وهذا الحديث ضعيف أيضاً؛ لأن فيه محمد بن داب وهو ضعيف، ومتن الحديث صحيح تشهد له أحاديث سابقة، وهو أنه يحرم الكتمان.

قوله: [ حدثنا محمد بن عبد الله بن حفص بن هشام بن زيد بن أنس بن مالك ، حدثنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار) ].

هذا الحديث إسناده حسن، محمد بن عبد الله بن حفص شيخ ابن ماجة روى عنه جمع، ووثقه ابن حبان ، ولا نعلم فيه جرحاً.

وهذا الحديث يضم إلى الأحاديث السابقة، وهو يدل على تحريم الكتمان، وأنه لا يجوز، وأنه من كتم علماً فله الوعيد الشديد، وأنه يجب على الإنسان أن يبين ما عنده من العلم إذا كان الناس محتاجين إليه، وكذلك إذا سئل عنه وعنده علم فيجب عليه أن يبين ولا يكتم، فإن بينه غيره فإنه سيرتفع عنه الإثم، ويبقى الاستحباب في البيان.

ومعلومٌ أنَّ الناس يستبعدون الفتوى؛ لعلمهم أن غيرهم يكفيهم، لكن إذا تعين على الإنسان ولم يوجد غيره فيجب عليه أن يبين، إلا الشيء الذي لم يتحقق منه، والذي فيه إشكال فلا يتكلم فيه.

لقد كتب ابن ماجة رحمه الله هذه المقدمة العظيمة، وقد اشتملت على مائتين وستة وستين حديثاً، وقد بدأ بأصول الدين، ثم بعد ذلك دخل في الفروع، فبدَأَ -على عادة المؤلفين في العبادات- بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك دخل في المعاملات، لكنه بدأ بما يتعلق بالإيمان والتوحيد على طريقة المتقدمين كـالبخاري ومسلم وغيرهما، فهم يذكرون أولاً ما يتعلق بالتوحيد والعقيدة والإيمان والعلم، ثم بعد ذلك يدخلون في الفروع، ويبدءون بالصلاة، والصلاة أعظم الواجبات، وأعظم الفرائض بعد الإيمان والتوحيد، وبدأ بالطهارة لأن الطهارة شرط لصحة الصلاة.

أما المتأخرون فإنهم اصطلحوا على أن تبدأ مؤلفاتهم بالطهارة، ويجعلون للتوحيد والإيمان كتباً خاصة، ولكن صنيع المتقدمين أحسن وأولى، كما فعل ابن ماجة، حيث بدأ بالإيمان والتوحيد وأصول الدين، وبدأ البخاري بالوحي ثم الإيمان ثم العلم، ومسلم بدأ بكتاب الإيمان .. وهكذا.

ولهذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه: إن طريقة المتأخرين حصل فيها ضرر لكثير من الناس، فإن كثيراً من الناس يدرسون الفروع، وأحكام الفروع، ويبدءون بالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، ثم المعاملات، وينسون ما يتعلق بالتوحيد والإيمان؛ ولهذا ضعف كثير من الناس، فهم لا يعرفون التوحيد، وليس عندهم تحقيق، ولا يعرف أحدهم الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والأسماء والصفات؛ بسبب أنه يقرأ كتب المتأخرين، والمتأخرون يبدءون كتبهم بكتاب الطهارة والصلاة ولا يتكلمون عن التوحيد، اكتفاء بأن التوحيد والإيمان له كتب خاصة، وهذا حصل فيه ضرر لكثير من الناس، فطريقة المتقدمين أحسن، حيث يبدأ القارئ والمتعلم بما يتعلق بأصول الدين والتوحيد والإيمان، وإثبات الصفات لله عز وجل، والعلم، ثم بعد ذلك يدخل في أبواب الفروع، في الطهارة والصلاة ونحو ذلك.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [12] 2220 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [16] 2216 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [9] 2140 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [10] 2070 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [2] 2027 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [4] 1898 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [6] 1775 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [1] 1749 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [8] 1697 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [15] 1667 استماع