أرشيف المقالات

سجود الظل

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
سجود الظل

لا يكاد يختلف اثنان على أن السجود هو أجلُّ وأجْلى مظاهر العبودية.
 
تَنْزل هذه الهامةُ العالية بكبريائها، وشموخها، وصَلَفِها، وعظمتها إلى مكان الأقدام، إلى الأرض التي داسَتْها أرجلُ البشر منذ خُلِق الإنسان، إلى موضع انهيار الأنَفة والكبر والعتو، إلى مكان ذلتها، وخضوعها، واستسلامها؛ ألا يدلُّ ذلك على العبودية؟!
 
إن السجود عبادة غير كل العبادات؛ فهي صورة تقديس وتأليه، وخضوع شديد للمسجود له؛ ولذا كان الملوك القدامى يشترطون على محكوميهم أن يسجدوا لهم؛ لأن هذا قمة الاستسلام والمتابعة والطاعة.
 
والشيطان يشترط على عُبَّاده ممن باعوا أرواحَهم له؛ من الكهان والسحرة - أن يسجدوا له، أو لصنم، أو نحو ذلك؛ ليعلنوا بهذه الفعلة براءتَهم من عبودية الله، وكفْرَهم به، وعبوديتهم للشيطان الرجيم.
 
وقد سمعتُ أن بعض الباحثين الأجانب قام بدراسة لهيئة السجود، واستخلصوا أن هذا الوضع من أفضل الأوضاع التي يكون فيها البدن في قمة الراحة والاستكانة، وأنه من الأوضاع الصحية لجسم الإنسان، ونحن - المسلمين - لا نحتاج لمثل هذه الدراسات الجديدة، ولكنْ لله - عزَّ وجلَّ - على خلقه بأنواعهم - آياتٌ وحجج تثبت أن دين الإسلام هو الدين الحق، وأنه ما جاء إلا لصالح البشر، وأنه كلما ترَقَّى الإنسانُ في سِلْك عبودية الله - عزَّ وجلَّ - اكتسب واستحق هذه المصلحة في بدنه وعقله وولده، وفي كل لمحة - ولو لطفت - من ملامح حياته الدنيوية.
 
ولك أن تعلم أنه ما من مخلوق فوق هذه الأرض إلا يسجد لله سبحانه، حتى الجمادات، والحيوانات، والنباتات، والأشجار، والظلال، وكل المخلوقات التي تدب فوق الأرض؛ ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [النحل: 49]، وبرغم ما في هذه الآية من عظمة وجلال، إلا أنه قد راعني وأوقفني - وكأني أقرأ الآية لأول مرة - قولُه -تعالى- في الآية السابقة عليها: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ [النحل: 48]؛ إذ إن الكلام جاء مختصًّا بسجود الظلال.
 
ومع أن سجود الظلال قد ذُكر في القرآن قبل هذه الآية في قوله -تعالى-: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [الرعد: 15]؛ لكن هنا جاءت الظلال تبعًا لمن يسجد لله - عزَّ وجلَّ - فالمخلوقات العاقلة تسجد لله، وظلالها تسجد تبعًا لها، وقلنا هنا المخلوقات العاقلة؛ لأن الآية عبرت بـ (مَن) التي تستعمل للعاقل، والبشر داخلون بالأصالة في العقلاء، ومع ذلك فإن منهم من يسجد طوعًا، وهم أولياء الله وخاصته وعباده المؤمنين، ومنهم من يسجد كرهًا، وهذا معناه الخضوع والقهر والتسخير الاضطراري، ولا يكون معناه السجود بالبدن؛ لأن السجود عبادة كريمة لا يأتيها الكافرون.
 
وقد يقول قائل هنا: فكيف يسجد كل شيء لله إذا كان الكافر لا يسجد؟! فنقول له: عما قليل يتضح المقال؛ ففي الآية الأخرى التي ذكر فيها سجود الظلال في سورة النحل، جاءت كلمة ﴿ سُجَّدًا ﴾ بالجمع، إذًا فهي تعود على جمع، ولا جمع قبلها يمكن العود عليه إلا الظلال، إذًا فالسجود هنا متعلق بها.
 
والمقصود: أن كل ما له ظل، فإن هذا الظل يسجد لله، حتى ولو كان ظل كافر.
 
والمتدبر لهذا الأمر - أمر سجود الظلال - لا بد أن ينصدع قلبه لله، أقول: المتدبر؛ لأن المتدبر هو الذي يدرك حقيقة الشيء ولبَّه، أما غير المتدبر فلا يدرك جيدًا، ومن ثم فلا يتأثر قلبه ولا يخشع أو يلين.
 
حينما يتخيل الإنسان هذه الجبال الشامخة خاضعةً وخانعةً لله سبحانه، لا تتأبى عليه أو تتكبر، كما يفعل جاهلو البشر، يلين قلبه ويذل.
 
حينما يعلم أن هذه الشمس العظيمة الجِرم، الهائلة الحجم تسجد لله - جلَّ وعلا - كما جاء في الحديث عند مسلم عن أبي ذر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال يومًا: ((أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدةً، ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعةً من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدةً، ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئًا، حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي، أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها))، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين لا ينفع نفْسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا))، حينما يعلم الإنسان ذلك يستصغر نفسه، وعبادته.
 
وقد أوجد الله الشمس، وجعلها سببًا لوجود الظل، وأسجدها هي له، وأسجد كل الظلال له.
 
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير آية النحل:
يُخبر -تعالى- عن عظمته وجلاله، وكبريائه الذي خضع له كلُّ شيء، ودانت له الأشياءُ والمخلوقات بأسْرها: جمادُها وحيواناتها، ومكلَّفوها من الإنس والجن والملائكة، فأَخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال؛ أي: بكرةً وعشيًّا، فإنه ساجد بظله لله - تعالى.
 
قال مجاهد: إذا زالت الشمسُ، سجد كلُّ شيء لله - عزَّ وجلَّ.
 
وكذا قال قتادة، والضحاك، وغيرهم.
 
وقال مجاهد أيضًا: سجودُ كل شيء فيئُه.
 
وذكر الجبال قال: سجودها: فيئُها.
 
وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته؛ انتهى.
 
فظهر لك من كلام مجاهد - وهو من المزكَّيْن في علم التفسير، وإن لم يكن للكلام أثر مرفوع - أنَّ سجود كل شيء فيئه؛ لأنه قد يقول قائل: كيف تسجد الجمادات؟ فتبين بكلام مجاهد أنَّ امتداد هذه الظلال على الأرض، وانتشارَها هو سجود لله - عزَّ وجلَّ - واللهُ هو الذي مدَّها ونشرها - سبحانه -: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ﴾ [الفرقان: 45 - 46]، فالله - عزَّ وجلَّ - هو الذي مدها، وقبضها، فهي منقادة خاضعة له - سبحانه - في البسط والقبض، والفيء والزوال.
 
وقال الفخر الرازي عن آية النحل:
والقول الثاني في تفسير هذا السجود: أن هذه الأظلال واقعة على الأرض، ملتصقة بها على هيئة الساجد، قال أبو العلاء المعري في صفة وادٍ:






بِحَرْفٍ يُطِيلُ الْجُنْحُ فِيهِ سُجُودَهُ
وَلِلْأَرْضِ زِيُّ الرَّاهِبِ الْمُتَعَبِّدِ






 
فلما كانت الأظلال تشبه بشكلها شكلَ الساجدين، أطلق الله عليها هذا اللفظ.
 
وكان الحسن يقول: أمَّا ظلُّك فسَجَد لربك، وأما أنت فلا تسجد له؟ بئسما صنعت، وقال مجاهد: ظلُّ الكافر يصلي وهو لا يصلي، وقيل: ظلُّ كل شيء يسجد لله، سواء كان ذلك ساجدًا أم لا.
 
...
وقوله: ﴿ سُجَّدًا ﴾ حال من الظلال.
وقوله: ﴿ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾؛ أي: صاغرون، يقال: دَخَر يَدْخَر دُخُورًا؛ أي: صَغُر يَصْغُر صَغَارًا، وهو الذي يفعل ما تأمره، شاء أم أبى؛ وذلك لأن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله -تعالى- وتدبيره، وقوله: ﴿ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ حال أيضًا من الظلال.
 
فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء، فكيف جاز جمعها بالواو والنون؟
قلنا: لأنه -تعالى- لما وصفهم بالطاعة والدخور، أشبهوا العقلاء؛ انتهى.
 
وانظر إلى فهم الحسن - رحمه الله - وتدبُّرِه لهذا الأمر؛ إذ يعاتِب هذا الذي لا يسجد لله، محتجًّا عليه بخضوع وعبودية شيء شديد الالتصاق به، ألا وهو ظله.
 
وقال صاحب "المحرر الوجيز" في تفسير آية النحل:
"بعد أن نهضت براهين انفراده -تعالى- بالخلق، بما ذكر من تعداد مخلوقاته العظيمة، جاء الانتقال إلى دلالة من حال الأجسام التي على الأرض كلِّها، مُشعرةً بخضوعها لله -تعالى- خضوعًا مقارِنًا لوجودها وتقلُّبِها آنًا فَآنًا، عَلم بذلك مَن علمه، وجهله من جهله، وأنبأ عنه لسانُ الحال بالنسبة لِما لا علم له، وهو ما خلق الله عليه النظام الأرضي خلقًا ينطق لسان حاله بالعبودية لله تعالى، وذلك في أشدِّ الأَعراض مُلازَمةً للذوات، ومطابَقَةً لأشكالها، وهو الظلُّ.
 
والتفيُّؤُ: تفعُّلٌ، مِن فاء الظلُّ فيئًا؛ أي: عاد بعد أن أزالَه ضوءُ الشمس؛ انتهى.
 
وقال البقاعي في "نظم الدرر" عن آية الرعد:
(ولله)؛ أي: الملك الأعلى (يسجد)؛ أي: يخضع وينقاد ويتذلل (من في السموات والأرض) لجميع أحكامه النافذة، وأقضيته الجارية (طوعًا) والطوع: الانقياد للأمر الذي يُدْعى إليه من قبل النفس (وكرهًا)، قال الرازي - رحمه الله -: والكافر في حكم الساجد وإن أباه؛ لما به من الحاجة الداعية إلى الخضوع؛ انتهى.
 
هل علمت الآن - أخي - عِظم هذا الأمر، وجلالَه، ووَقَر في قلبك كيفُه ورَسْمُه؟
 
وما زال في الأمر سعَةٌ للمتدبرين، والمتأملين، وأولي الألباب.






وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢